مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب0%

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 190

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الوهاب الكاشي
تصنيف: الصفحات: 190
المشاهدات: 31900
تحميل: 5449

توضيحات:

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31900 / تحميل: 5449
الحجم الحجم الحجم
مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مأساة الحسين (عليه السلام) بين السائل والمجيب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حينئذ تقديم أحدهما على الآخر للإمامة والقيادة باطلاً عقلاً؛ لأنّه ترجيح بلا مرجح.

أمّا إذا وجد مَنْ هو أفضل من الإمام وأرفع مستوىً في العلم والقدرة والعمل، فتقديم الإمام عليه أقبح عقلاً وأشدّ بطلاناً؛ لأنّه مِنْ باب تقديم المفضول على الفاضل، أو تقديم الفاضل على الأفضل وهو فاسد.

فالله تعالى إمّا اختار علياًعليه‌السلام وأبناءه الأحد عشر المعروفين للخلافة عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولقيادة الاُمّة بعده علماً منه تعالى بأنّ هؤلاء هم أكمل الناس وأفضلهم جميعاً إيماناً وعلماً وعملاً.

وأشار تعالى في كتابه العزيز إلى أنّ ملاك الإمامة والإمارة إنّما هي في الأفضلية لا غير، فقال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) . وقال تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلاّ أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (2) . وقال تعالى:( يَرْفَعِ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) (3) . وقال تعالى:( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (4) .

وقد نصّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على هذا الملاك للسيادة والإمامة والإمرة في كلماته القصار، فقال: «أحسن إلى مَنْ شئت تكن أميرَه، واحتج إلى مَنْ شئت تكن أسيرَه، واستغن عمّن شئت تكن نظيرَه».

وقد كشف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله النقاب عن أنّ هذا الملاك متوفّر ومتحقّق فيه وفي أهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، فقال في وصيته العامّة قبيل وفاته: «أيّها الناس، لا تتقدّموهم فتهلكوا، ولا تتأخروا عنهم فتضلّوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم».

وفي بعض خطب الإمام أمير المؤمنين منعليه‌السلام نهج البلاغة قوله: «لا يُقاس بآل محمد مِنْ هذه الاُمّة أحد، ولا يسوّى بهم مَنْ جرت نعمتهم عليه أبداً؛ هم أساس الدين وعماد اليقين، بهم يلحق التالي، وإليهم يفيء الغالي، ولهم خصائص حقّ الولاية، وفيهم النبوّة والوراثة».

وقالعليه‌السلام في مقام آخر: «نحن صنايع ربّنا، والخلق بعد صنايع لنا». أي أنّ كمالهم مِنْ كمال الله سبحانه، وكلّ كمال وصلاح وفضل يوجد في الناس

____________________

(1) سورة الزّمر / 9.

(2) سورة يونس / 35.

(3) سورة الُمجادلَةِ / 11.

(4) سورة البقرة / 124.

٦١

فهو مِنْ طهرهم وفضلهم وصلاحهمعليهم‌السلام .

وبعبارة اُخرى: إنّهم تربية الله تعالى، والصالحون من الناس تربيتهم هم (صلوات الله عليهم).

فالغرض: أنّ أهل البيتعليهم‌السلام أفضل الخلق وأكملهم بعد جدّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا هم وفيما بينهم فلا تفاضل ولا امتياز لأحدهم على الآخر في هذا الأصل، أي أصل الكمال والعصمة. نعم، قد يوجد تفاضل بينهم، ولكن باعتبارات ثانوية كالاُبوّة والبنوة مثلاً.

ولعلك تقول: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا عرف واشتهر بعضهم في بعض الصفات الكمالية دون الآخرين؟ كالإمام عليعليه‌السلام مثلاً الذي عُرف بالبطولة والشجاعة، والإمام الحسنعليه‌السلام الذي عُرف بالحلم والصبر وكظم الغيظ، والإمام الحسينعليه‌السلام الذي عُرف بإباء الضيم والثورية والشدّة مع العدو، والإمام زين العابدينعليه‌السلام الذي عرف بالعبادة، والإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام اللذين عرفا بالعلم... وهكذا.

فنقول في الجواب: إنّ السبب في اشتهار هؤلاء بتلك الصفات لا يعود إلى تفوّق ذاتي، وإلى أنّ هؤلاء توفّرت فيهم هذه الصفات دون الآخرين أو أكثر من الآخرين! كلا.

فالشجاعة التي كانت في الإمام عليعليه‌السلام مثلاً مثلها تماماً كان في الحسن والسجاد والباقر والصادقعليهم‌السلام وغيرهم، وكذلك الحلم الذي كان في الحسن وإباء الضيم والثورية اللذان كانا في الحسين وهكذا، وعلى هذا القياس.

وإنّما السبب في ذلك - أي في اشتهار بعضهم ببعض الصفات الكمالية دون البعض الآخر - يعود بصورة رئيسة إلى الظروف الخاصة، والمقتضيات الزمنية التي عاشها كلّ منهم؛ فالإمام عليعليه‌السلام عاش فترة خاصة، وظروفاً معينة اقتضت منه أنْ يبرز شجاعته ويظهر بطولته؛ بسبب الحروب التي خاضها دفاعاً عن الإسلام وصيانة له مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأي واحد من

٦٢

الأئمةعليهم‌السلام لو كان في عصر الإمام عليعليه‌السلام ، وفي مثل ظروفه ومسؤولياته لأظهر من الشجاعة مثل ما أظهره الإمام عليعليه‌السلام .

وأما الحسنعليه‌السلام فبالعكس، فإنّه عاش في ظرف كانت مصلحة الإسلام تقتضي منه المسالمة والمصالحة والصبر؛ فلذلك عرف بالحلم. لكن الحسينعليه‌السلام كانت ظروفه تفرض غير ذلك، أي الاعتماد على الشدّة والثورة ورفض أي مسالمة ومصالحة مع حكّام عصره؛ لذلك عرف بالإباء والثورية وصلابة العزيمة.

وأيّ إمام آخر لو كان بمكان الحسين وفي عصره وظروفه لما كان يعمل إلاّ ما عمله الحسينعليه‌السلام ، وما قام به من الثورة والتضحية، حسب ما شرحنا ذلك في بعض الفصول السابقة.

أمّا عصر الإمام الباقر وابنه جعفر الصادقعليهما‌السلام فإنّه كان يتطلّب منهما الاعتماد على نشر العلم، وبثّ الوعي العلمي، وإرسال البعثات العلميّة، وفتح المدارس والدورات الدراسية؛ لمكافحة الدسائس الفكرية والتطرف العقائدي، والفلسفات المادية التي تسرّبت إلى المسلمين بحكم اتصالهم بالأمم والشعوب الاُخرى؛ لذلك فقد أسسا أكبر جامعة علميّة في العالم الإسلامي، حيث انتمى إليها أكثر مِنْ أربعة آلاف طالب؛ ومِنْ هنا عرفا بالعلم وكثرة الأحاديث والأخبار التي رويت عنهما، حتّى روى راو واحد عن الإمام الباقرعليه‌السلام ثلاثين ألف حديث، وهو جابر الجعفي وهكذا.

وكلّ من الأئمةعليهم‌السلام لو كان بمكانهما لعُرف بمثل ما عُرفا به، ونشر من العلم مثل ما نشر الباقر والصادقعليهما‌السلام .

والخلاصة: إنّ من الغلط الفاحش والخطأ الكبير ما يظنّه البعض مِنْ أنّ اشتهار بعض الأئمّةعليهم‌السلام ببعض الصفات كانت بسبب ذاتي، وملكات خاصة، ومواهب فطرية معينة. كلا ليس كذلك؛ فثورية الحسينعليه‌السلام ، وإباؤه للضيم، وشدّته مع الأعداء مثلاً ليست ناشئة عن حرارة دموية ومزاج عصبي خاص به، ولا مِنْ

٦٣

كبت نفسي كما يزعم الكتاب الجاهلون بحقيقة الحسينعليه‌السلام ومقامه، وحقيقة أهل البيتعليهم‌السلام .

وكذلك مسالمة الحسنعليه‌السلام وصفته السلمية وحلمه مع الأعداء، لمْ تكن أثراً لبرودة دمه وهدوء أعصابه ومزاج خاص به، حسبما يصوّره لنا بعض المتطفّلين على الكتابة عن أهل البيتعليهم‌السلام .

فالحقيقة هو أنّ كلّ ما قام به الحسن أو الحسينعليهما‌السلام وغيرهما مِنْ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام إنّما هو ناشئ ونابع عن إرادة الله وأمره، وإيعاز من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مِنْ قبل؛ خدمة لمصلحة الإسلام العليا، وتمشياً مع متطلبات الظرف والأحوال.

إنّ أهواء النفس والعواطف والغرائز والحالات الفطرية العضوية لا تأثير لها مطلقاً على تصرّفات أهل بيت العصمةعليهم‌السلام .

إنّ سيرة أهل البيتعليهم‌السلام وسلوكهم في هذه الحياة كيّفتها الحكمة والمصلحة، لا الغرائز والأمزجة وعواطف النفس الحيوانية. وكلّ حركة أو سكون أو فعل أو ترك، وكلّ وجه مِنْ أوجه النشاط قام به أحدهم كان بوحي من الله ورسوله، مطابقاً للكتاب والسنّة. هذا ما أثبتته الأحاديث الشريفة الصحيحة عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكّدته التجارب والنتائج الواقعية.

فمن الأحاديث المؤكّدة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي مخلّف فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إنْ تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض».

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام : «علي مع الحقّ والحقّ مع علي، يدور معه حيثما دار».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في دعائه له يوم الغدير: «اللّهمَّ والي مَنْ والاه، وعادي مَنْ عاداه، وانصر مَنْ نصره، واخذل مَنْ خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار».

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ الحسن والحسينعليهما‌السلام : «هما إمامان قاما أو قعدا».

وأخيراً قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَثلُ أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلّف عنها غرق وهوى».

٦٤

وهناك أخبار صحيحة ومعتبرة مفادها: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خلّف لأوصيائه الاثني عشر (صلوات الله عليهم) اثني عشر صحيفة، لكلّ إمام منه صحيفته الخاصة، وفيها تكاليفه المفروض عليه القيام بها في دور إمامته. وقد عمل كلّ منهم على ضوء ما في صحيفته مِنْ أوامر ونواهي وأحكام.

وهذا ما أشار إليه الحسينعليه‌السلام في حديث مع الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري لمّا دخل عليه وهو في مكّة المكرّمة، وقال له: يابن رسول الله، إنّي لا أرى لك إلاّ أنْ تسالم وتصالح يزيد، كما صالح أخوك الحسنعليه‌السلام معاوية مِنْ قبل؛ فإنّه كان موقفاً رشيداً. فقال له الحسينعليه‌السلام : «يا جابر، إنّ أخي فعل ما فعل بأمرٍ من الله ورسوله، وأنا أفعل ما أفعل بأمرٍ من الله ورسوله...» الخبر.

وعلى كلّ حالٍ، فلقد عُرف الحسينعليه‌السلام أكثر ما عُرف بصفة الثورية وإباء الضيم، وبلغت شهرته في هذه الصفة حدّاً كبيراً حتّى اعتبره الرأي العام قدوة الأحرار، والمثل الأعلى للثوار في العالم، وسيد أباة الضيم في التاريخ.

فهذا مثلاً العلاّمة المعتزلي عقد فصلاً في كتابه شرح نهج البلاغة، ذكر فيه المعروفين بإباء الضيم من العرب في الجاهليّة والإسلام، ثمّ يقول في الختام: وسيد أباة الضيم جميعاً، والذي علّم الناس كيف يختارون الموت مع العزّ، وتحت ظلال السيوف على الحياة مع الذل هو أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام .

هذا ولا تزال بعض كلمات الحسين مبدأً وشعاراً يعلنه ويرفعه كلّ الثوار في كلّ زمان ومكان، مثل قولهعليه‌السلام : «ألا وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً». وقولهعليه‌السلام : «ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدعي قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة». وقولهعليه‌السلام : «لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد».

وممّا يتحدّث به المؤرّخون بإعجاب مِنْ صفات الحسينعليه‌السلام هي شجاعته المدهشة التي أبداها يوم كربلاء في ذلك الموقف الرهيب.

٦٥

فقد ورد عن لسان بعض مقاتليه مِنْ جيش عمر بن سعد قوله: والله، ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل ولده وإخوته وأهل بيته أربط جأشاً، ولا أقوى جناناً من الحسينعليه‌السلام ؛ فلقد كانت الرجال تشدّ عليه مِنْ كلّ جانب، فكان يشدّ عليها فتهزم مِنْ بين يديه انهزام المعزى إذا حلّ فيها الأسد. وكانوا ينكشفون عنه يميناً وشمالاً كأنّهم الجراد المنتشر، وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً وهو وحيد، فإذا أبعدهم عن المخيم عاد إلى موقفه أمام البيوت، وهو يكثر مِنْ قوله: «لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم».

وذكر أرباب المقاتل: أنّ الحسينعليه‌السلام حمل على الجيش في ذلك اليوم عدّة حملات، قتل منهم في مجموعها ألفاً وتسعمئة وخمسين رجلاً، حتّى صاح عمر بن الحجّاج الزبيدي، وهو أحد قادة الجيش، صاح بالناس مستثيراً لهم عليه قائلاً: ويلكم! أتدرون لمَنْ تقاتلون؟! هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه حملة رجل واحد. هذا كلّه بالإضافة إلى ما كان يكابده في تلك الحال من العطش الشديد والجهد والإرهاق.

قالوا: كان العطش قد أثّر في شفتيه حتّى ذبلنا، وأثّر في لسانه حتّى صار كالخشبة اليابسة، وأثّر في عينيه حتّى صار يبصر ما بين السماء والأرض كالدخان.

وأمّا آلامه الجسدية والنفسية التي تراكمت عليه حينئذ، فإنّها تهدّ الجبال، فلقد كانعليه‌السلام يعاني أشدّ الآلام النفسية بسبب ثكل الأولاد وفقد الأخوة والأقارب والأصحاب، والشعور بالوحدة والاغتراب، ومشاهدة النساء والأطفال حيارى مدهوشين مذهولين مِنْ تراكم المصائب، وألم الضما على أبواب الخيام وداخلها إلى جنب ابنه المريض المسجى على الأرض الفاقد الوعي مِنْ شدّة السقام.

هذا وأكثر مِنْ هذا ممّا يضيق البيان عن وصفه، ويعجز اللسان عن ذكره وتفصيله، ومع ذلك كلّه فلقد كانعليه‌السلام كما وصفة السيد الحليرحمه‌الله :

٦٦

ركين وللأرضِ تحتَ الكماة

رجيف يزلزلُ ثهلانَها

أقرّ على الأرضِ من ظهرها

إذا ململَ الرعبُ أقرانَها

تزيدُ الطلاقةُ في وجههِ

إذا غيّر الخوفُ ألوانَها

وأضرمَها لعنانِ السماء

حمراءَ تلفحُ أعنانَها

ولما قضى للعُلا حقّها

وشيّدَ بالسيفِ بنيانَها

ترجّلَ للموتِ عن سابقٍ

لهُ أخلتِ الخيلُ ميدانَها

كأنّ المنيةَ كانتْ لديه

فتاةٌ تواصلُ خلصانها

جلتْها لهُ البيضُ في موقفٍ

بهِ أثكلَ السمرُ خرصانَها

فباتَ بها تحتَ ليلِ الكفاح

طروبُ النقيبةِ جذلانَها

وأصبحَ مشتجراً للرماح

تحلّي الدمامنة مرّانَها

فما أجلتِ الحربُ عن مثلهِ

صريعاً يجبّن شجعانَها

* * *

٦٧

لماذا يُوصف الحسينعليه‌السلام بسيد الشهداء؟

من المتداول على ألسنة الشيعة أنْ يصفوا الحسينعليه‌السلام بسيد الشهداء، فهل هذا صحيح ومنطقيّ؟

نقول: أجل؛ لأنّ كلمة (شهيد) مصطلح إسلامي خاص، يعني ذلك المسلم الذي يُقتل في ساحة حربٍ مع أعداء الإسلام دفاعاً عن الإسلام، بشرط أنْ تكون تلك الحرب بأمرٍ، أو إذن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الإمام أو نائبه الخاص أو العام.

وحكم هكذا قتيل أنْ لا يُغسّل ولا يُكفّن، بل يُصلّى عليه فقط ويدفن بثيابه التي قُتل فيها، ويسمّى حينئذ (شهيداً)؛ لأنّه يُبعث يوم القيامة على هيئته التي دُفن عليها، وبدمائه وجراحاته فيشاهده الناس في المحشر، ويعلمون أنّه مقتول في سبيل الله تعالى. وقيل في تسميته بالشهيد وجوه اُخرى، وما ذكرناه أقرب إلى الصواب.

وأجر الشهيد عظيم جداً عند الله سبحانه، بحيث لا يوجد عمل بعد الإيمان بالله أفضل من الشهادة في سبيله. فالشهادة كفارة لكلّ الذنوب، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

ولكن ليسوا في الفضل سواء، ولا في الأجر والمقام على مستوى واحد، بل يتفاوتون في الفضل والمقام والدرجات حسب تفاوت مواقفهم ونيّاتهم؛ فكلّما كان موقف الشهيد أشدّ حراجة، وأكثر تأثيراً وأصعب ظروفاً كان أجره أكثر ودرجته عند الله أرفع، كما أنّه كلّما كان موقف الشهيد أكثر إخلاصاً وأبعد عن آمال النصر والغنيمة والربح المادي كان فضله أكثر. فشهداء معركة بدر مثلاً أفضل مِنْ شهداء معركة أحد لهذا السبب بالذات.

٦٨

ونحن إذا علمنا أنّ موقف شهداء كربلاء يوم العاشر من المحرم فاق مواقف جميع الشهداء في العالم حراجة وشدّة، ومِنْ حيث النتائج والآثار لصالح الحقّ؛ إذ وقف بضع عشرات من الرجال والصبيان وهم عطاشى جياع، محصورين أمام عشرات الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح والمجهزين بكلّ وسائل القوة. هذا مِنْ حيث حراجة الموقف.

وأمّا مِنْ حيث خلوص النيّة، فنحن إذا تذكّرنا أنّ شهداء الطفِّ لمْ يكن عندهم أدنى أمل ولا أقل احتمال في الغلبة والنصر على العدو، ولا في غنيمة أو جائزة، أو أيّ نوع من الربح المادي مِنْ وراء ذلك الموقف، ثمّ إذا عرفنا أنّ موقفهم أحيا الدين وأبقاه، وصانه من المحو، وحفظه مِنْ خطر الزوال الكلّي على يد أعداء الله بني اُميّة كما شرحنا ذلك مفصلاً فيما سبق.

أقول: إذا علمنا بكلّ ذلك واعترفنا به، فحينئذ لا نستغرب القول بأنّ شهداء كربلاء وعلى رأسهم سيدهم الحسينعليه‌السلام هم سادات الشهداء في العالم كلّه، أي أفضلهم مقاماً، وأكثرهم أجراً عند الله ورسوله. وإنّ لقب سيد الشهداء أليق وأجدر بالحسينعليه‌السلام مِنْ كلّ شهيد آخر له فضله وأجره ومقامه العظيم عند الله تعالى أيضاً.

ولا بدّ من التنبيه إلى أنّه قد تداول بين بعض الذين كتبوا عن الحسينعليه‌السلام في عصرنا الحاضر أنّ يعطوا الحسينعليه‌السلام لقب (أبو الشهداء)؛ ولعلهم يظنون أنّ هذا اللقب أليق بمقام الحسينعليه‌السلام مِنْ لقب (سيد الشهداء)، وهو ظنّ خاطئ؛ لأنّه لا تلازم بين كون الشخص أبا الشهداء وبين كونه شهيداً بذاته أيضاً. وكثيراً ما يكون شخص أباً لشهداء، ولكنّه هو غير شهيد وغير حائز على مقام الشهادة الرفيع.

فهذا عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه) مثلاً قدّم تسعة مِنْ أبنائه وأحفاده شهداء بين يدي الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء، ولكنّه هو لم يكن شهيداً، بل مات في المدينة بعد مقتل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ببضع سنوات، فهو أبو شهداء وليس بشهيد؛ ولذا نقول: إنّ لقب (أبو الشهداء) لا يدلّ على شهادة الحسينعليه‌السلام فضلاً عن سيادته على الشهداء، وبالتالي لا يشعر بهذا الشرف الرفيع

٦٩

والمقام المنيع الذي فاز به الحسينعليه‌السلام ، بالإضافة إلى أنّهعليه‌السلام محور للشهداء مِنْ كلّ الجوانب.

فهو الشهيد ابن الشهيد أخو الشهداء وأبو الشهداء، والشهادة سمة أبنائه وآله وأحفاده، فهم كما قيل فيهم: القتل لهم عادة، وكرامتهم من الله تعالى الشهادة. ألا هلمّ فاستمع وما عشت أراك الدهر عجباً.

من المضحكات المبكيات في عصرنا الحاضر هو التلاعب والتحريف بالمفاهيم الإنسانية، ومسخ الصفات الفاضلة، ومنه: تحريف كلمة الشهيد والتلاعب بمفهوم الشهادة، ومسخ صفتها الإنسانية النبيلة، حتّى صاروا يطلقون اسم الشهيد على مجرم يُقتل بجرمه، وهدّام يُصرع تحت أنقاض هدمه وتخريبه، وانتهازي وصولي يفقد حياته القذرة في طريق أطماعه وشهواته، وعميل للعدو الكافر والمستعمر الظالم يلاقي جزاء خيانته، ومتهوّر طائش يصيبه أثر طيشه وتهوره، وهكذا.

وإذا كلّ هؤلاء أو بعضهم يُمنحون لقب الشهداء، ووسام الشهادة على صفحات الصحف والمجلات، وأبواق الدعاية ووسائل النشر!

وسلام الله تعالى على الإمام أبي الحسن علي أمير المؤمنين حيث تنبّأ بظواهر هذا العصر، فقال في خطبة لهعليه‌السلام : «سيأتي عليكم مِنْ بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحقّ، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب. وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تُلي حقّ تلاوته، ولا أنفق منه إذا حُرّف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر».

ولأجل المزيد من الإيضاح نعود إلى أصل الموضوع فنقول: إنّ للإسلام اصطلاحاً خاصاً ومفهوماً مبتكراً لكلّ مِنْ كلمة شهيد وكلمة سيد؛ أمّا المفهوم الإسلامي الخاص لكلمة شهيد هو ما ذكرنا: مِنْ أنّه عبارة عن المسلم الذي يُقتل في سبيل الدفاع عن الإسلام في ساحة القتال، بأمر من الرسول أو الإمام، أو نائبه الخاص أو العام.

٧٠

وأمّا المفهوم الإسلامي الخاص بالنسبة إلى كلمة سيّد: فهو عبارة عن الأفضلية أو الأكمليّة في الشيء؛ فسيّد العلماء مثلاً هو أكثرهم علماً وأحسنهم عملاً، وسيد الأنبياء هو أكثرهم فضلاً وأكملهم صفاتٍ، وسيد الأوصياء: هو أكثرهم جهاداً وأشدّهم عناءً، وأحرصهم على حفظ الوصيّة وصيانة الرسالة، وسيدة النساء: هي أكثرهنّ تمسّكاً بواجبات المرأة، وأشدّهنّ حرصاً على القيام بمسؤوليات المرأة أمام الله تعالى والمجتمع... وهكذا وعلى هذا القياس.

فملاك السيادة الإسلاميّة في أيّ شيء من الأشياء إنّما هو في الأكمليّة والأتمّية والأفضلية في ذلك الشيء. ولقد نصّ القرآن الكريم على تعيين هذا الملاك وهذه القاعدة للسيادة الإسلاميّة بقوله تعالى:( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقّ أَحَقّ أَن يُتّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدّي إِلاّ أَن يُهْدَى‏ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) . وإلى هذه القاعدة يشير الحديث الشريف: «اليد العليا فوق اليد السفلى». أي أنّ المستغني عن الناس بعلمه وعمله، وجهده المفيض عليهم مِنْ ثمرات علمه ومواهبه، هو سيّد على مَنْ هو محتاج فقير إلى الآخرين؛ لتكاسله وإهماله، على حدّ القول المأثور لأمير المؤمنينعليه‌السلام : «أحسن إلى مَنْ شئت تكن أميره، واحتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره، واستغن عمّنْ شئت تكن نظيره». وبهذا الملاك استدلّ الخليل بن أحمد على سيادة الإمام أمير المؤمنين على كافة الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سُئل ما دليلك على إمامة علي بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله دون سائر الصحابة؟ فقال: استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه.

والخلاصة هي: أنّ السيادة في أيّ شيء إنّما تدور مدار الكمال الذاتي في صفات ذلك الشيء. والشهداء أيضاً طبقة من الناس في العالم، قاموا بعمل التضحية بالحياة في سبيل الله تعالى فنالوا صفة الشهادة، فالحسينعليه‌السلام هو الفرد الأكمل في القيام بهذه التضحية كما قدّمنا؛ لذلك استحقّ مقام السيادة بين كافة الشهداء، وهو أمر طبيعي منطقي ليس فيه مبالغة ولا مغالاة.

هُم أفضلُ الشهداءِ والقتلى الاُلى

مُدحوا بوحيٍ في الكتاب مبين

وقال الآخر:

فماتوا وهم أزكى الأنامِ نقيبةً

وأكرم مَنْ يُبكى له في المحافلِ

ولمْ تفجع الأيام مِنْ قبل يومِهم

بأكرمِ مقتولٍ لألأم قاتلِ

____________________

(1) سورة يونس / 35.

٧١

لماذا هاجر الحسين عليه‌السلام من المدينة؟

قوله عزّ مَنْ قائل:( إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فُيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (1).

الهجرة لغة: عبارة عن ترك بلد الإقامة إلى غيره، والانتقال من الوطن لآخر.

وهي تارة تكون واجبة، واُخرى تكون مباحة، وربّما تكون محرّمة حسب اختلاف الغاية من الهجرة، والنتائج المترتّبة عليها؛ مِنْ باب أنّ المقدّمة تتبع لديها في الحكم الشرعي. فإذا كانت الهجرة لغرض طلب علم ضروري، أو أداء واجب، أو التخلّص مِن ارتكاب محرّم، فالهجرة حينئذ واجبة وتركها يوجب اللوم والعقاب، كما في الآية الكريمة السابقة؛ حيث نزلت في لوم جماعة من المسلمين الذين تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مكّة ولمْ يهاجروا إلى المدينة، فكانوا مضطهدين في مكّة مِنْ قبل قريش في أنفسهم ودينهم، بعيدين عن معرفة الأحكام والآيات التي كانت تنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، جاهلين بشرائع الإسلام وتفاصيله، فكانوا بذلك مقصّرين ومعاقبين حسب صريح الآية الكريمة السابقة.

وهذا الحكم سارِ المفعول بالنسبة إلى كلّ مسلم يعيش في بلد يُضطهد فيه، ولا يسعه القيام بواجباته ومسؤولياته، ولا يحصل فيه على حقوقه المشروعة، فإنّ الواجب عليه أنْ يهاجر إلى حيث العلم والأمان والحرية الدينية، وإلاّ فهو من الأعراب

____________________

(1) سورة النساء / 97 - 99.

٧٢

المذمومين في الكتاب والسنة؛ لأنّ الأعرابي في المصطلح الشرعي هو: كلّ مَنْ يعيش في بلد جاهلاً لا يمكنه فيه التعلّم والعمل الصالح، وقيامه بمسؤولياته الشخصية والاجتماعية....

قال تعالى:( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... ) (1).

[ وقال تعالى: ]( الأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ ) (2) .

وفي الحديث الشريف: «ستة أصناف من الناس يدخلون النار بست خصال: الأمراء بالجور، والعلماء بالحسد، والتجّار بالخيانة، والدهّاقين بالكبر، وأهل الرساتيق بالعصبية، والأعراب بالجهل».

والجهل لا يرفع المسؤوليّة عن الإنسان إلاّ إذا كان قاصراً عن المعرفة، أي عاجزاً عنها حقيقة وواقعاً، كالذين استثنوا في الآية الكريمة بقوله تعالى:( إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ من الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (3) .

الواجبُ والحرام مِنْ أقسام الهجرة:

وإذا كانت الهجرة لعكس الغرض السابق، أي لأجل القيام بعمل محرّم مِنْ ظلم أو غصب أو ما شاكل ذلك، أو أنْ يعلم بأنّ هجرته إلى ذلك البلد تفوّت عليه واجباً، ويضيّق عليه هناك في عقيدته ودينه، فالهجرة حينئذ تكون محرّمة، بل مجرّد السفر المؤقّت لأمثال هذه الغايات الفاسدة يكون حراماً، مثل: السفر للصيد لهواً، أو في ركاب ظالم وما أشبه ذلك، وهو معبّر عنه في عرف الفقهاء بسفر المعصية.

وإذا كانت الهجرة لأمر راجح مثل التجارة المباحة، والتوسّع في طلب العلم، وزيارة المشاهد المقدّسة، والحجّ المندوب، فالهجرة مستحبّة والسفر في هذه الغايات أيضاً مستحب. وإذا كانت لأمر مرجوح شرعاً تكون الهجرة مكروهة، كالانتقال من المدينة إلى القرية، ومن البلد إلى البادية، حيث لا تتوفّر فيها وسائل السعادة والراحة.

وفي النهي عن هكذا هجرة يوصي أمير المؤمنينعليه‌السلام ولده الحسنعليه‌السلام في وصيته الكبيرة قائلاً: «يا بني، واسكن الأمصار العظام».

____________________

(1) سورة الحجرات / 14.

(2) سورة التوبة / 97.

(3) سورة النساء / 98 - 99.

٧٣

أي المدن الواسعة الكبيرة؛ لأنّها أجمع للوازم الحياة السعيدة ووسائل الراحة.

وقد أكدّ الإمام الصادقعليه‌السلام ذلك في الخبر الوارد عنه، حيث يقول فيه: «لا يستغني أهل كلّ بلد عن ثلاث: فقيه ورع، وطبيب حاذق، وحاكم عادل، وإنْ عدموا ذلك فهم همج رعاع». أي لا يشعرون بالكرامة الإنسانية، ولا يتمتعون بلذّة الحياة.

فالفقيه: للتوجيه والتعليم، والحاكم: للتنفيذ وإقامة النظام، والطبيب: للوقاية والعلاج من الأمراض. وهذه النواحي الثلاثة هي دعائم الحياة السعيدة والسعادة الاجتماعية؛ العلم والصحة والأمان.

هجرةُ الأنبياء ورجال الإصلاح:

فالخلاصة أنّ الهجرة من المواضيع التي تخضع لكافة الأحكام الإسلاميّة الخمس: الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة حسب ما ينتج منها مِنْ نتائج.

وبعد هذا العرض الموجز للهجرة ككلّ نأتي إلى هجرة الأنبياء (صلّى الله عليهم أجمعين)؛ لأنّنا نجد الهجرة تكاد أنْ تكون ظاهرة ملازمة لحياتهم الرسالية، فقلّ أنْ نجد نبيّاً لمْ يهاجر مِنْ بلد إلى بلد، ولمْ ينتقل مِنْ محيط إلى آخر.

فهذا خليل الرحمن إبراهيمعليه‌السلام بُعث في العراق، ثمّ هاجر إلى مصر، ثمّ انتقل إلى الشام وفلسطين واستقر بها إلى أنْ مات، ثمّ مِنْ بعده يعقوب وأولاده، ثمّ موسى الكليم هاجر مِنْ مصر إلى مدين، ثمّ عاد إليها، ثمّ هاجر نحو الشام.

وهذا عيسىعليه‌السلام بن مريم كان لا يستقر في بلد حتّى لقّب بالمسيح، وأخيراً خاتم الأنبياء محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله هاجر مِنْ مكّة أوّلاً إلى الطائف، ثمّ هاجر إلى المدينة واستقر بها إلى أنْ قُبض. ثمّ هاجر وصيّه وخليفته عليعليه‌السلام من المدينة إلى الكوفة. فالهجرة إذاً ظاهرة مألوفة في حياة الأنبياء والمرسلين والمصلحين، فلماذا هاجر هؤلاء؟ ومِنْ أيّ قسم مِنْ أقسام الهجرة كانت هجرتهم؟

طبعاً وبدون شك أنّ هجرة الأنبياء كانت واجبة ومفروضة عليهم من الله سبحانه؛ تمشيّاً منهم مع متطلبات رسالته، حيث كانوا لا يجدون القدرة الكافية في أوطانهم على تبليغ

٧٤

رسالاتهم؛ نظراً للعراقيل والعقبات التي وضعها المعارضون في طريقهم؛ ولما كان يتهدّدهم مِنْ خطر القتل على أيدي أعدائهم قبل أداء وتبليغ دعوتهم؛ لذا كان لازماً عليهم أنْ يتركوا الأوطان إلى بلاد اُخرى يستطيعون فيها القيام بمسؤولياتهم.

سيرةُ الحسينعليه‌السلام امتداد لسيرة الأنبياء:

والحسينعليه‌السلام وإنْ لمْ يكن نبيّاً إلاّ أنّه قام بمهام الأنبياء، وصبر كما صبر اُولو العزم من الرسل. ومسؤوليته امتداد لمسؤوليّة جدّه وأبيه، حيث أُنيطت به مسؤوليّة أداء رسالة الإسلام وصيانتها مِنْ كلّ زيف وتحريف، كما صرّح هوعليه‌السلام على تحمّله لهذه المسؤوليّة بقوله في عهده لأخيه محمد بن الحنفية: «وإنّي لمْ أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ اُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي».

فهو إذاً شعر بأنّه مسؤول عن أنْ يسير بسيرة جدّه المصطفى وأبيه علي المرتضى، فهاجرعليه‌السلام من المدينة فراراً مِنْ كيد آل أبي سفيان ومؤامراتهم ضدّه، تماماً كما هاجر جدّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قبله بستّين عاماً مِنْ مكّة فراراً مِنْ كيد أبي سفيان وحزبه.

[ إنّ ] السبب في الهجرتين واحد والغاية واحدة؛ فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هاجر خوفاً من القتل المحتّم الذي كان ملاقيه لو لمْ يهاجر، وذلك على يد أربعين رجلاً مِنْ قريش بتدبير مِنْ أبي سفيان وحزبه الذين عزموا على قتل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله تلك الليلة المعبّر عنها بـ (ليلة الهجرة)، بقصد قتل الرسالة الإسلاميّة في مهدها ومنع انتشارها.

التشابهُ بين هجرة الحسينعليه‌السلام وهجرة جدّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله :

كذلك الحسينعليه‌السلام هاجر من المدينة ليلاً؛ خوفاً مِنْ أنْ يُقتل على يد أعوان وعمّال يزيد الذي أرسل أوامره المشدّدة إلى واليه على المدينة يأمره بقتل الحسينعليه‌السلام فوراً وبدون تردّد، وإرسال رأسه إليه إنْ هو لمْ يبايع؛ وذلك أيضاً لخنق صوت المعارضة في مهدها ومنعها من الانتشار.

٧٥

وكما أنّ هجرة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنتجت توسعّاً كبيراً في الرسالة المحمّدية في أنحاء الجزيرة العربية، وبلغ صداها إلى أنحاء اُخرى من العالم، وبعدها ببضع سنوات فقط انهارت زعامة أبي سفيان تماماً بفتح مكّة، كذلك كانت هجرة الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّها كسرت الحصار الذي ضربه آل أبي سفيان حول المعارضة الحسينية، فعلا صوتها وبلغ صداها إلى أنحاء العالم الإسلامي.

وما مضت عليها إلاّ بضع سنوات حتّى انهار سلطان آل أبي سفيان، وتقوّضت أركان الدولة السفيانية انهياراً كلّيّاً بموت معاوية الثاني بعد ثلاثة أشهر مِنْ موت يزيد، ثمّ قامت على أنقاضها دولة مروانية بقيادة مروان بن الحكم. وكلّ ذلك بعد هجرة الحسينعليه‌السلام بأقل مِنْ خمس سنوات.

حقاً ما أقرب الشبه وأشدّ التطابق والتقارب بين الهجرتين في العوامل والثمرات، بل وحتّى في الحالات النفسية؛ فليلة الهجرة كانت أشدّ ليلة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّت في حياته مِنْ حيث الهموم والأفكار والقلق النفسي، حتّى أنزل الله تعالى عليه سكينته وهو في الغار حسب صريح الآية الكريمة:( إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) (1).

وكذلك الحسينعليه‌السلام ، حيث يصف الواصفون أنّ ليلة هجرته من المدينة كانت أشدّ الليالي عليه في حياته؛ لما كان يعانيه تلك الليلة من الحيرة والقلق والتفكير في المستقبل والمصير؛ لذا كانعليه‌السلام يتردّد على حرم جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يناجي ربّه، ويشكو إلى جدّه ما يعانيه، ويقول في مناجاته مع الله سبحانه بعد أنْ صلّى ركعات في الحرم، ثمّ رفع طرفه نحو السماء وقال: «اللّهمَّ إنّ هذا قبر نبيّك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. اللّهمَّ إنّي اُحبّ المعروف وأنكر المنكر، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ القبر ومَنْ فيه، إلاّ اخترت لي ما هو لك رضا ولرسولك رضا».

ثمّ بكىعليه‌السلام ووضع رأسه على قبر جدّه، وقال: «يا رسول الله، أنا الحسين بن

____________________

(1) سورة التوبة / 40.

٧٦

فاطمة، فرخك وابن فرختك، وسبطك الذي خلّفتني في اُمّتك، فاشهد عليهم يا نبي الله أنّهم قد خذلوني، وضيّعوني ولمْ يحفظوني، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك».

قالوا: وغفت عينا الحسينعليه‌السلام ورأسه على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فرأى جدّه رسول الله في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يده، فضم الحسين إلى صدره وقبّله ما بين عينيه، وقال له: «حبيبي يا حسين، كأنّي أراك عن قريب مرمّلاً بدمائك، مذبوحاً بأرض كرب وبلاء، بين عصابة مِنْ اُمّتي، وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى، وظمآن لا تُروى، وهم بعد ذلك يرجون شفاعتي! لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة. حبيبي يا حسين، إنّ أباك واُمّك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك».

فبكى الحسينعليه‌السلام في منامه، وقال: «يا جدّاه، خذني معك وأدخلني في قبرك، فلا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا».

ضمّني عندك يا جداه في هذا الضريحْ

علّني يا جدّي مِنْ بلوى زماني أستريحْ

ضاقَ بي ياجدُّ مِنْ رحب الفضاكلُّ فسيحْ

فعسى طود الأسى يندكّ بين الدكّتينْ

فقال له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا بُني، لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى تُرزق الشهادة؛ لتنال ما قد كتبه الله لك من الأجر والثواب العظيم».

فانتبه الحسينعليه‌السلام وقصّ رؤياه على أهل بيته، فاشتدّ حزنهم وكثر بكاؤهم، حتّى ورد عن سكينة بنت الحسينعليها‌السلام قالت: لمْ يكن في شرق الأرض وغربها أهل بيت أشدّ خوفاً وهمّاً وغمّاً منّا آل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولله در السيّد حيدر الحلّي حيث قال:

مِنْ أينَ تخجلُ أوجهٌ اُمويّةٌ

سكبتْ بلذّاتِ الفجورِ حياءَها

ما بلَّ أوجُهها الحيا ولو انَّها

قِطعُ الصفا بلَّ الحيا مَلساءَها

قهرتْ بني الزهراءَ في سلطانِها

واستأصلتْ بصفاحِها اُمراءَها

ملكتْ عليها الأمر حتّى حرّمت

في الأرضِ مطرح جنبها وثوائها

ضاقت بها الدنيا فحيثُ توجهتْ

رأتِ الحتوفَ أمامها ووراءَها

فاستوطنتْ ظهرَ الحِمامِ وحوّلتْ

للعزّ عن ظهرِ الهوانِ وطاءَها

٧٧

لماذا حمل الحسين عليه‌السلام عياله وأطفاله في هجرته الثوريّة؟

في نهضة الحسينعليه‌السلام نقاط استفهام كثيرة لدى شبابنا اليوم؛ لأنّها نهضة فريدة مِنْ نوعها، وغريبة في مظاهرها حسب مظهرها الخارجي.

هذا ولا يسعهم تفسيرها بأعمال تهوّريّة عاطفية، وحملها على خلّوها من الحكمة والمصلحة، لا يسعهم ذلك طبعاً؛ لأنّ الذي قام بها رجل أقل ما يُقال فيه أنّه شخصية علميّة كبيرة خالدة ذو حكمة ودهاء، استطاع بحكمته وسياسته أنْ يؤثر في مجرى التاريخ الإسلامي، ويخلّد لنفسه ذكراً رفيعاً واسعاً عبر القرون والأجيال؛ هذا فضلاً عن كونه إمام معصوم من الخطأ والغلط حسب النصوص النبويّة الشريفة. فإذاً لا بد أنْ تكون هناك حكمة وراء تلك التصرّفات وهي كذلك بالفعل.

وها نحن نتعرّض لأهم تلك النقاط بالبحث والتحليل؛ لنوقف أبناء جيلنا الأعزاء على أسرار تلك الثورة المقدّسة والتضحية المثالية، رجاء أنْ يتأثروا بها ويستوحوا مبادئها وأهدافها، ويسيروا على أضوائها وهديها المبارك إنْ شاء الله تعالى.

تحدّثنا في الفصول السابقة عن أوّل حلقة في سلسلة الحركة الحسينية وهي: لماذا عارض الحسينعليه‌السلام خلافة يزيد وأعلن العصيان والخلاف على حكومة الاُمويِّين القويّة المسيطرة بكلّ وسائل القوّة والقدرة؟ أعلن ذلك بامتناعه من البيعة ليزيد بن معاوية رغم ضعفهعليه‌السلام ماديّاً وعسكريّاً إلى أقصى حدود الضعف.

وتحدّثنا أخيراً حول الحلقة الثانية في تلك السلسلة وهي: لماذا ترك الحسينعليه‌السلام مدينة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهاجر عنها، وهو أشرف إنسان فيها وأعزّ فرد على أهلها؟

٧٨

والآن نبدأ بالحديث عن ثالث نقاط الاستفهام، والسؤال حولها وهو: لماذا حمل الحسينعليه‌السلام معه النساء والعائلة والأطفال، وهو خارج في معارضة دولة ومكافحة حكومة، فعرّض تلك العقائل للأسر والسبي والتشريد وغير ذلك؟

والجواب عن هذا السؤال: هو أنّ الحسينعليه‌السلام حامل رسالة هو مسؤول عنها، وعليه أنْ يؤدّيها إلى العالم الإسلامي، وخرج من المدينة لهذه الغاية، فلو كان قد ترك العائلة في المدينة لعرّض تلك العقائل لخطر الأسر والسبي مِنْ قبل الاُمويِّين.

ومعلوم أنّ الرجل الغيور لا يسعه الصبر مهما كان وهو يرى عائلته في أسر العدو، فلا بدّ له حينئذ أنْ يستسلم للعدو لأجل إنقاذ عياله، وقد كان مِنْ صور الإرهاب في سياسة الاُمويِّين أنّه إذا هرب رجل مِنْ قبضتهم يلقون القبض على نسائه وعائلته حتّى يضطر فيسلّم نفسه إليهم، كما فعلوا بزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي لمّا هرب من الكوفة عندما طلبه زياد ليقتله، فكتب معاوية إليه: أنْ احمل إليّ زوجته.

فألقى زياد زوجته آمنة بنت رشيد (رحمها الله) وحملها أسيرة إلى معاوية، فأمر بها إلى السجن فسجنت حتّى جيء برأس زوجها عمرو إلى الشام بعد أنْ أُلقي القبض عليه في غار قرب الموصل مِنْ قبل والي معاوية عليها، وطعن بتسع طعنات، ثمّ قطع رأسه وحمل على قناة إلى معاوية في الشام.

فقال معاوية للحرسي: انطلق بهذا الرأس وضعه في حجر زوجته آمنة، واحفظ ما تقول. فلمْ تشعر وهي في السجن إلاّ ورأس زوجها عمرو في حجرها، فضمته إلى صدرها وبكت، وقالت: غيبتموه عنّي طويلاً وأهديتموه إليّ قتيلاً! فأهلاً وسهلاً بها مِنْ هدية غير قالية ولا مقلية. ثمّ قالت للحرسي: أبلغ معاوية عنّي ما أقول، وقل له: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك، وعجّل لك الويل مِنْ نقمه، وطلب منك بدمه؛ فلقد جئت شيئاً فريّاً، وقتلت بارّاً تقيّاً. فلما سمع كلامها أمر بإحضارها في المجلس فاُحضرت، وصار يشتمها ويتهدّدها.

وكما فعلوا بزوجة المختار بن أبي عبيدة الثقفي لمّا هرب مِنْ سجن ابن زياد،

٧٩

فألقى القبض على زوجته وزجها في السجن إلى أنْ اجتمع قومها عنده، وتشفعوا فيها فأطلقها.

والشواهد التاريخية على هذه السياسة اللاإنسانية عند الاُمويِّين وأتباعهم كثيرة جداً، والحسين كان يعرفها منهم تماماً، ويعلم يقيناً أنّه بمجرد أنْ يخرج من المدينة، في اليوم التالي يلقي الأمويون القبض على عقائل الرسالة، ويحملوهنّ سبايا إلى يزيد في الشام، فكيف يستطيع الحسينعليه‌السلام حينئذ أنْ يؤدّي رسالته، ويستمر في معارضته وثورته؟ حتماً كان لا يسعه ذلك ابداً.

فالسبي لا بدّ منه لتلك العقائل، سواء أخذهنّ معه أو أبقاهنّ، فلِمَ لا يأخذهنّ معه ليؤمنَ الضغط عليه مِنْ جهتهنّ، ويؤدّي رسالته بحرية واطمئنان، ويدافع عنهنّ ما دام فيه عرق ينبض؟! وهكذا كان، فإذا قُتل فلقد قضى ما عليه ويبقى ما عليهنّ.

هذا أحد وجوه الحكمة في عمله هذا. والوجه الآخر الذي لا يقلّ دلالة على بعد نظر الحسينعليه‌السلام وعمق حكمته هو: أنّ الحسينعليه‌السلام يعرف أنّه إذا قُتل لا يوجد رجل في العالم الإسلامي يمكنه أنْ يتكلّم بشيء ضدّ سياسة الأمويِّين مهما كان عظيماً؛ حيث إنّهم قطعوا الألسن وكمّوا الأفواه، فكان قتله يذهب سدى، وقد لا يعرف أحد من المسلمين ما جرى عليه؛ حيث إنّ وسائل الإعلام كلّها كانت محصورة بأيدي الدولة؛ منْ شعراء وخطباء ورواة وقصاصين.

وفعلاً كان أُناس يعيشون في الكوفة ولا يعلمون بما جرى، ومَنْ تكلّم بشيء فمصيره القتل، كما فعل بهاني بن عروة وعبد الله بن عفيف الأزدي. فأراد الحسينعليه‌السلام أنْ يحمل معه ألسنة ناطقة بعد قتله؛ لتنشر أنباء تلك التضحية في العالم الإسلامي، ومذياعاً سيّاراً يذيع تفاصيل تلك المأساة الإنسانية والجرائم الوحشية، فلمْ يجد سوى تلك المخدّرات والعقائل - اللواتي سُبينَ وسُيّرنَ بعد الحسين في ركب فظيع مؤلم يجوب الأقطار - يلقينَ الخطب في الجماهير، وينشرنَ الوعي بين المسلمين، وينبّهنَ الغافلين، ويلفتنَ أنظار المخدوعين، ويفضحنَ الدعايات المضللة، حتّى ساد الوعي وتنبّه الناس إلى فظاعة الجريمة، وانهالت الاعتراضات والانتقادات على يزيد والاُمويِّين مِنْ كلّ الفئات والجهات، وبات يزيد يخشى الانفجار والانقلاب حتّى في عاصمة دولته الشام، وصار يظهر التنصل والندم ويلقي التبعة واللوم على ابن

٨٠