موسوعة الإمام علي عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ الجزء ٣
0%
مؤلف: محمد الريشهري
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311
مؤلف: محمد الريشهري
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 311
موسوعة الإمام علي ّ بن أبي طالب (عليه السلام)
في الكتاب والسنّة والتاريخ
محمّد الريشهري
بمساعدة
محمد كاظم الطباطبائي - محمود الطباطبائي
المجلّد الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
القسم الرابع
الإمام عليّ بعد النبيّ إلى بيعة الناس
وفيه فصول:
الفصل الأوّل: قصّة السقيفة
الفصل الثاني: عهد عمر بن الخطاب
الفصل الثالث: مبادئ خلافة عثمان
الفصل الرابع: مبادئ الثورة على عثمان
الفصل الخامس: الثورة على عثمان
الفصل الأول
قصّة السقيفة
1 / 1
إنكار موت النبيّ
924 - سنن الدارمي عن عكرمة: توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم الإثنين، فحُبس بقيّة يومه وليلته والغد حتى دفن ليلة الأربعاء، وقالوا: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يمُت، ولكن عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى، فقام عمر فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يمُت، ولكن عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى، واللهِ لا يموت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم، فلم يزَل عمر يتكلّم حتى أُزبد شدقاه ممّا يوعد ويقول.
فقام العبّاس فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد مات، وإنّه لبشر، وإنّه يأسُنُ (1) كما يأسن البشر. أي قومِ فادفنوا صاحبكم؛ فإنّه أكرم على الله من أنْ يُميته إماتتين،
____________________
(1) أي يتغيّر (النهاية: 1 / 50).
أيُميت أحدَكم إماتة ويميته إماتتين وهو أكرم على الله من ذلك؟!
أي قوم فادفنوا صاحبكم؛ فإنْ يكُ كما تقولون فليس بعزيزٍ على الله أنْ يبحث عنه التراب. إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واللهِ ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، فأحلّ الحلال وحرّم الحرام، ونكح وطلّق، وحارب وسالَم.
ما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمدُر (1) حوضها بيده بأنصبَ ولا أدأَب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان فيكم أي قومِ، فادفنوا صاحبكم (2) .
925 - الطبقات الكبرى عن عائشة: لمّا توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، استأذن عمر والمغيرة بن شعبة، فدخلا عليه فكشفا الثوب عن وجهه فقال عمر: واغشيا! ما أشدّ غشي رسول الله (صلّى الله عليه وآله). ثمّ قاما، فلمّا انتهيا إلى الباب قال المغيرة: يا عمر، مات والله رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! فقال عمر: كذِبت! ما مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولكنّك رجل تحوشك فتنة، ولنْ يموت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يُفني المنافقين.
ثمّ جاء أبو بكر وعمر يخطب الناس فقال له أبو بكر: اسكت! فسكت، فصعد أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قرأ: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (3) ، ثمّ قرأ: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (4) ، حتى فرغ من الآية، ثمّ قال: مَن كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً قد مات، ومَن كان
____________________
(1) مدَرَهُ: أي طيّنه وأصلحه بالمَدَر؛ وهو الطين المتماسك؛ لئلاّ يخرج منه الماء (النهاية: 4 / 309).
(2) سنن الدارمي: 1 / 42 / 83، الطبقات الكبرى: 2 / 266، أنساب الأشراف: 2 / 243 عن ابن عبّاس وكلاهما نحوه، كنز العمّال: 7 / 244 / 18773.
(3) الزمر: 30.
(4) آل عمران: 144.
يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت!
قال: فقال عمر: هذا في كتاب الله؟ قال: نعم! فقال: أيّها الناس! هذا أبو بكر وذو شيبة المسلمين فبايِعوه! فبايعه الناس (1) .
926 - تاريخ اليعقوبي - في ذكر وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) -: خرج عمر فقال: والله ما مات رسول الله ولا يموت، وإنّما تغيّب كما غاب موسى بن عمران أربعين ليلة ثمّ يعود، والله ليقطعنّ أيدي قوم وأرجلهم.
وقال أبو بكر: بل قد نعاه الله إلينا فقال: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) . فقال عمر: والله لكأنّي ما قرأتها قطّ! ثمّ قال:
لعَمْري لقد أيقنتُ أنّك ميتٌ |
ولكنّما أبدى الذي قلتُه الجزَعْ (2) |
927 - صحيح البخاري عن عائشة: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مات وأبو بكر بالسُّنْح (3) - يعني بالعالية - فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله)! قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلاّ ذاك، وليبعثنّه الله، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم.
فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقبّله، قال: بأبي أنت واُمّي، طبتَ حيّاً وميّتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً. ثمّ خرج فقال: أيّها الحالف على رِسْلِكَ، فلمّا تكلّم أبو بكر جلَس عمر، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه،
____________________
(1) الطبقات الكبرى: 2 / 267، مسند ابن حنبل: 10 / 44 / 25899، البداية والنهاية: 5 / 241 كلاهما نحوه، كنز العمّال: 7 / 232 / 18755.
(2) تاريخ اليعقوبي: 2 / 114؛ السيرة النبويّة لابن هشام: 4 / 305 عن أبي هريرة، شرح نهج البلاغة: 1 / 178 وج 2 / 43 كلّها نحوه وليس فيها (بيت الشعر).
(3) السُّنْح: موضع قرب المدينة المنوّرة - على ساكنها أفضلُ الصلاة والسلام - كان به مسكن أبي بكر (تاج العروس: 4 / 96).
وقال:
ألا مَن كان يعبد محمّداً (صلّى الله عليه وآله) فإنّ محمّداً قد مات، ومَن كان يعبد الله فإنّ الله حيٌّ لا يموت.
وقال: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) . وقال: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) . فنشجَ الناس يبكون (1) .
928 - دلائل النبوّة عن عروة - في ذكر وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) -: قام عمر بن الخطّاب يخطب الناس ويوعِد مَن قال: (قد مات) بالقتل والقطع ويقول: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في غَشيته لو قد قام قطع وقتل، وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن اُمّ مكتوم قائم في مؤخّر المسجد يقرأ: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) إلى قوله: ( وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) ، والناس في المسجد قد ملؤه ويبكون ويموجون لا يسمعون، فخَرج عبّاس بن عبد المطّلب على الناس فقال: يا أيّها الناس، هل عند أحد منكم مِن عهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في وفاته فليحدّثنا؟ قالوا: لا. قال: هل عندك يا عمر مِن عِلم؟ قال: لا. قال العبّاس:
أشهد أيّها الناس أنّ أحداً لا يشهد على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لعهدٍ عهده إليه في وفاته، والله الذي لا إله إلاّ هو، لقد ذاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الموت.
وأقبل أبو بكر من السُّنْح على دابّته حتى نزل بباب المسجد، ثمّ أقبل مكروباً حزيناً، فاستأذن في بيت ابنته عائشة، فأذنت له، فدخل ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد توفّي على الفراش والنسوة حوله، فخمّرن وجوههنّ واستترن من أبي بكر إلاّ ما كان
____________________
(1) صحيح البخاري: 3 / 1341 / 3467، سنن ابن ماجة: 1 / 520 / 1627، مسند ابن حنبل: 10 / 45 / 25899، الطبقات الكبرى: 2 / 268، تاريخ الطبري: 3 / 200 كلاهما عن أبي هريرة، الكامل في التاريخ: 2 / 9، شرح نهج البلاغة: 2 / 40، البداية والنهاية: 5 / 242 كلّها نحوه.
من عائشة، فكشف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فحنا عليه يقبّله ويبكي ويقول: ليس ما يقول ابن الخطّاب شيء، توفّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والذي نفسي بيده، رحمةُ الله عليك يا رسول الله! ما أطيبك حيّاً وما أطيبك ميّتاً! ثمّ غشّاه بالثوب، ثمّ خرج سريعاً إلى المسجد يتوطّأ رقاب الناس، حتى أتى المنبر، وجلس عمر حين رأى أبا بكر مُقبلاً إليه، فقام أبو بكر إلى جانب المنبر ثمّ نادى الناس فجلسوا وأنصتوا، فتشهّد أبو بكر بما علمه من التشهّد وقال:
إنّ الله تبارك وتعالى نعى نبيّكم إلى نفسه وهو حيّ بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم؛ فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلاّ الله عزّ وجلّ، قال الله تبارك وتعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) إلى قوله ( وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) فقال عمر: هذه الآية في القرآن؟! والله ما علمت أنّ هذه الآية اُنزلت قبل اليوم!! (1)
929 - صحيح البخاري عن أنس بن مالك: أنّه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك الغدُ من يومِ توفّي النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فتشهّد وأبو بكر صامت لا يتكلّم، قال: كنت أرجو أنْ يعيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يدبُرنا - يريد بذلك أنْ يكون آخرهم - فإنْ يكُ محمّد (صلّى الله عليه وآله) قد مات فإنّ الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمّداً (صلّى الله عليه وآله)، وإنّ أبا بكر صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ثاني اثنين؛ فإنّه أولى المسلمين بأُموركم، فقوموا فبايعوه، وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة، وكانت بيعة العامّة على المنبر (2) .
____________________
(1) دلائل النبوّة للبيهقي: 7 / 217، البداية والنهاية: 5 / 242 و243، كنز العمّال: 7 / 245 / 18775.
(2) صحيح البخاري: 6 / 2639 / 6793، صحيح ابن حبّان: 15 / 297 / 6875؛ الطرائف: 453 نحوه.
930 - صحيح ابن حبّان عن أنس بن مالك: أنّه سمع عمر بن الخطّاب من الغد حين بُويع أبو بكر في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، واستوى أبو بكر على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قام عمر فتشهّد قبل أبي بكر ثمّ قال:
أمّا بعد، فإنّي قلتُ لكم أمس مقالةً لم تكن كما قلت، وإنّي والله ما وجدتها في كتابٍ أنزله الله، ولا في عهدٍ عهِدهُ إليّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولكنّي كنت أرجو أنْ يعيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتى يَدبُرنا - يقول: حتى يكون آخرنا - فاختار الله جلّ وعلا لرسوله (صلّى الله عليه وآله)، الذي عنده على الذي عندكم، وهذا كتاب الله هدى اللهُ به رسوله (صلّى الله عليه وآله)، فخذوا به تهتدوا بما هدى الله به رسوله (صلّى الله عليه وآله) (1) .
____________________
(1) صحيح ابن حبّان: 14 / 589 / 6620، الطبقات الكبرى: 2 / 271، المصنّف لعبد الرزّاق: 5 / 437 / 9756 نحوه.
نظرة تحليلية في سبب إنكار موت النبيّ
ودّع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الحياة إلى الرفيق الأعلى.
واهتزّت المدينة، وعلاها هياج وضجيج، وانتشر خبر وفاته بسرعة، فأقضّ المضاجع، وملأ القلوب غمّاً وهمّاً وحزناً. والجميع كانوا يبكون وينحبون، ويُعوِلون على فقد نبيّهم وسيّدهم وكان الشخص الوحيد الذي كذّب خبر الوفاة بشدّة كما أسلفنا، وهدّد على نشره، وحاول أنْ يحول دون ذلك هو عُمر بن الخطّاب. وتكلّم معه العبّاس عمّ النبيّ فلم يقتنع.
وحين نظر المغيرة بن شعبة إلى وجه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أقسم أنّه ميّت، لكنّ عمر قذفه بالكذِب واتّهمه بإثارة الفتنة.
وكان أبو بكر في (السُّنْح) خارج المدينة، فأخبروه بوفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فجاء إلى المدينة ورأى عمر يتحدّث إلى الناس ويهدّدهم بألاّ يصدّقوا ذلك ولا ينشروه.
وعندما رأى عمر أبا بكر جلس (1) . وذهب أبو بكر إلى الجنازة، وكشف عن
____________________
(1) كنز العمّال: 7 / 246 / 18775.
الوجه الشريف، وخطب خطبةً قصيرةً ضمّنها قوله تعالى: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (1) فهدأ عمر وسكن، وصدّق بالوفاة وقال بعد سماعه الآية: (أيقنتُ بوفاته؛ وكأنّي لم أسمع هذه الآية) (2) !
أترى أنّ عمر كان لا يعلم حقّاً أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد مات؟!
ذهب البعض إلى ذلك وقال: كان لا يعلم حقّاً. بعبارة أُخرى: كان يعتقد أنّه لا يموت، بل هو خالد (3) . ويتبيّن من هذا أنّ القائلين به غير واعين لِلُّعَب السياسيّة وتهيئة الأجواء!
وذهب البعض الآخر إلى أنّه كان يعلم جيّداً أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فارق الحياة، ولنْ يكون بعدها بين ظهرانيّ المسلمين، لكنّ التفكير بالمصلحة، والتخطيط للمستقبل جعلاه يتّخذ هذا الموقف ليمهّد الأرضيّة من أجل التحرّك لإزالة منافسيه السياسيّين من الساحة. وتبنّى ابنُ أبي الحديد هذا الرأي، وذهب إلى أنّه فعل ذلك منعاً لفتنة قد يثيرها الأنصار أو غيرهم حول الإمامة. كتب ابن أبي الحديد قائلاً:
(و نحن نقول: إنّ عمر أجلّ قدراً من أنْ يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة، ولكنّه لمّا علم أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد مات، خاف من وقوع فتنة في الإمامة وتقلّب أقوام عليها، إمّا مِن الأنصار أو غيرهم... فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأنْ أظهر ما أظهره من كون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يمُت... إلى أنْ جاء أبو بكر - وكان
____________________
(1) آل عمران: 144.
(2)
(3) و (2) شرح نهج البلاغة: 12 / 195.
غائباً بالسُّنْح، وهو منزل بعيد عن المدينة - فلمّا اجتمع بأبي بكر قويَ به جأشه، واشتدّ به أزره، وعظُم طاعة الناس له وميلهم إليه، فسكت حينئذٍ عن تلك الدعوى التي كان ادّعاها)(1) .
نظراً إلى القرائن التاريخيّة، ومواقف هذين الرجُلين، وسكوت عمر المطلق بعد وصول أبي بكر وكان قد أثار ما أثار من الضجيج واللغط، كلّ أولئك لا يَدَع مجالاً للشّك في أنّ موقف عمر كان تحرّكاً سياسيّاً للتمهيد من أجل الشيء الذي امتنع بسببه من الذهاب مع جيش أُسامة، مخالفاً لنصٍّ نبويٍّ صريح، وأمرٍ رساليٍّ أكيد. وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) نفسه يتحدّث عن نهاية حياته، وأبلغ الجميع بذلك.
وكان عمر قبل هذا الوقت وحين منع من كتابة الوصيّة يردّد شعار (حسبنا كتاب الله)، أي: إنّ كلمة (حسبنا..) تتحقّق بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ويمكن القول مبدئيّاً إنّ نصّ القرآن الكريم على وفاته وعدم خلوده (صلّى الله عليه وآله) يدلّ على أنّ نفي وفاته لم يكن عقيدةً راسخةً يتبنّاها المؤمنون قطّ، وأوضح من ذلك كلّه كلام عمر نفسه عندما نصب أبا بكر في الخلافة وأجلسه على عرشها، فقد صرّح بخطأ مقاله ووهنه قائلاً: (أمّا بعد، فإنّي قلتُ لكم أمس مقالةً لم تكن كما قلت. وإنّي والله ما وجدتها في كتابٍ أنزله الله، ولا في عهدٍ عهده إليّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولكنّي كنتُ أرجو أنْ يعيش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - فقال كلمة يريد - حتى يكون آخرنا، فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم، فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله) (2) .
إنّ هذا كلّه يدلّ على أنّه كان يمهّد الأرضيّة للقبض على السلطة، ويهيّئ
____________________
(1) شرح نهج البلاغة: 2 / 42.
(2) الطبقات الكبرى: 2 / 271.
الأمور لخلافة أبي بكر حتى يتسنّى له أنْ يحكم بعده. وما أبلغ كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال له:
(أحلب حَلْباً لك شَطْره (1) ) .
1 / 2
ما جرى في السقيفة
931 - تاريخ الطبري عن عبد الله بن عبد الرحمان بن أبي عمرة الأنصاري: إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لما قُبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة (2) ، فقالوا: نولّي هذا الأمر بعد محمّد (صلّى الله عليه وآله) سعد بن عبادة، وأخرَجوا سعداً إليهم وهو مريض.
فلمّا اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمّه: إنّي لا أقدر لشكواي أنْ اُسمِع القوم كلّهم كلامي، ولكن تَلَقَّ منّي قولي فأسمِعهموه. فكان يتكلّم ويحفظ الرجل قوله، فيرفع صوته فيُسمِع أصحابه، فقال - بعد أنْ حمد الله وأثنى عليه -:
يا معشر الأنصار! لكم سابقة في الدِّين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب؛ إنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمان وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ رجالٌ قليل، وكان ما كانوا يقدرون على أنْ يمنعوا رسول الله ولا أنْ يُعِزّوا دينه، ولا أنْ يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عُمُّوا به، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه،
____________________
(1) راجع: الهجوم على بيت فاطمة بنت رسول الله.
(2) سقِيفة بني ساعدة: بالمدينة، وهي ظلّة كانوا يجلسون تحتها، فيها بويع أبو بكر (معجم البلدان: 3 / 228).
والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه منكم، وأثقله على عدوّه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيدُ المقادةَ صاغراً داخراً، حتى أثخن الله عزّ وجلّ لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفّاه الله وهو عنكم راض وبكم قرير عين، استبِدّوا بهذا الأمر؛ فإنّه لكم دون الناس.
فأجابوه بأجمعهم: أنْ قد وُفِّقت في الرأي، وأصبت في القول، ولنْ نعدو ما رأيت، ونولِّيك هذا الأمر؛ فإنّك فينا مَقْنَعٌ ولصالح المؤمنين رضى.
ثمّ إنّهم ترادّوا الكلام بينهم، فقالوا: فإنْ أبَت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأوّلون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلامَ تنازعوننا هذا الأمر بعده؟ فقالت طائفة منهم: فإنّا نقول إذاً: منّا أمير ومنكم أمير، ولنْ نرضى بدون هذا الأمر أبداً. فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أوّل الوهن!
وأتى عمرَ الخبرُ، فأقبل إلى منزل النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فأرسل إلى أبي بكر، وأبو بكر في الدار وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) دائب في جهاز رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأرسل إلى أبي بكر أنْ اخرج إليّ، فأرسل إليه: إنّي مشتغل، فأرسل إليه أنّه قد حدَث أمر لابدّ لك من حضوره، فخرج إليه فقال: أ ما علمت أنّ الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أنْ يولّوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة مَن يقول: منّا أمير ومن قريش أمير؟
فمَضَيا مسرعَين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة بن الجرّاح، فتماشوا إليهم ثلاثتهم، فلَقيهم عاصم بن عدِيّ وعويم بن ساعدة، فقالا لهم: ارجعوا؛ فإنّه لا يكون ما تريدون، فقالوا: لا نفعل. فجاؤوا وهم مجتمعون.
فقال عمر بن الخطاب: أتيناهم - وقد كنت زوّرت كلاماً أردت أنْ أقوم به فيهم - فلمّا أنْ دفعتُ إليهم ذهبتُ لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: رُوَيداً حتى أتكلّم، ثمّ انطق بعد بما أحببت. فنطق، فقال عمر: فما شيء كنت أردت أنْ أقوله إلاّ وقد أتى به أو زاد عليه.
فقال عبد الله بن عبد الرحمان: فبدأ أبو بكر فحمِد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ الله بعث محمّداً رسولا إلى خلقه، وشهيداً على اُمّته؛ ليعبدوا الله ويوحّدوه، وهم يعبدون من دونه آلهةً شتّى، ويزعمون أنّها لهم عنده شافعة، ولهم نافعة، وإنّما هي من حجرٍ منحوت، وخشبٍ منجور، ثمّ قرأ: ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ) (1) وقالوا: ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ ) (2) فعظم على العرب أنْ يتركوا دين آبائهم، فخصّ الله المهاجرين الأوّلين من قومه بتصديقه والإيمان به والمؤاساة له، والصبر معه على شدّة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إيّاهم، وكلّ الناس لهم مخالف زارٍ عليهم، فلم يستوحشوا لقلّة عددهم وشنف (3) الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أوّل مَن عبَد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالم.
وأنتم يا معشر الأنصار! مَن لا يُنكَر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأوّلين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن
____________________
(1) يونس: 18.
(2) الزمر: 3.
(3) يقال: شَنِفَ له شَنَفاً؛ إذا أبغضه (النهاية: 2 / 505).
الأُمَراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة ولا نقضي دونكم الأُمور.
فقام الحُباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار! أملكوا عليكم أمركم؛ فإنّ الناس في فيئكم وفي ظلّكم، ولنْ يجترئ مجترئ على خلافكم، ولنْ يصدر الناس إلاّ عن رأيكم، أنتم أهل العزّ والثروة، وأُولو العدد والمنعة والتجربة [ و] (1) ذوو البأس والنجدة، وإنّما ينظر الناس إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، فإنْ أبى هؤلاء إلاّ ما سمِعتم، فمنّا أمير ومنهم أمير.
فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أنْ يؤمّروكم ونبيّها من غيركم، ولكنّ العرب لا تمتنع أنْ تولّي أمرها مَن كانت النبوّة فيهم ووَليّ اُمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى مِن العرب الحجّة الظاهرة والسلطان المبين. مَن ذا ينازعنا سلطان محمّد وإمارته - ونحن أولياؤه وعشيرته - إلاّ مُدلٍ بباطل، أو متجانفٍ لإثم، ومتورِّط في هلَكَة....
فقال أبو بكر: هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا. فقالا: لا والله لا نتولّى هذا الأمر عليك؛ فإنّك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمَن ذا ينبغي له أنْ يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك، اُبسُط يدَك نبايعك.
فلمّا ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحُباب بن المنذر: يا بشير بن سعد! عَقّتك عَقاقِ، ما أحوجك إلى ما صنعت، أ نَفِسْتَ على ابن عمّك الإمارة؟! فقال: لا والله، ولكنّي كرهتُ أنْ أُنازِع قوماً حقّاً جعله الله لهم.
____________________
(1) هذه الزيادة من الكامل في التاريخ.
ولمّا رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد، وما تدعو إليه قريش، وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض - وفيهم اُسيد بن حُضير وكان أحد النقباء (1) -: والله لئن وليَتْها الخزرج عليكم مرّة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً، فقوموا فبايعوا أبا بكر. فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا له من أمرهم (2) .
932 - صحيح البخاري عن عائشة: اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطّاب وأبو عبيدة بن الجرّاح، فذهب عمر يتكلّم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلاّ أنّي قد هيّأت كلاماً قد أعجبني، خشيت أنْ لا يبلغه أبو بكر.
ثمّ تكلّم أبو بكر فتكلّم أبلغَ الناس، فقال في كلامه: نحن الأُمراء وأنتم الوزراء، فقال حُباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منّا أمير، ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنّا الأُمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساباً، فبايِعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجرّاح، فقال عمر: بل نبايعك أنت؛ فأنت
____________________
(1) النقباء: جمع نقيب؛ وهو كالعريف على القوم المقدّم عليهم، الذي يتعرّف أخبارهم، وينقّب عن أحوالهم؛ أي يفتِّش. وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد جعل ليلةَ العقبة كلَّ واحد من الجماعة الذين بايعوه بها نقيباً على قومه وجماعته، ليأخذوا (عليهم الإسلام)، ويعرّفونهم شرائطه. وكانوا أثنى عشر نقيباً كلّهم من الأنصار (النهاية: 5 / 101).
(2) تاريخ الطبري: 3 / 218، الكامل في التاريخ: 2 / 12 و13 عن أبي عمرة الأنصاري، الإمامة والسياسة: 1 / 21 نحوه.