الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 51698
تحميل: 6350

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51698 / تحميل: 6350
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحُسَينعليه‌السلام أبو الشّهداء

عبّاس محمود العقّاد

منشورات الشّريف الرّضي

١

٢

حقوق الطبع محفوظة للناشر

الطبعة الثّانية

٣

٤

مقدّمة النّاشر:

سيرة أبو الشُهداء الحُسين بن عليّعليه‌السلام ، سيرة مجيدة، أفاض كثير من المؤلّفين والكتّاب والاُدباء في الكتابة عنها، ولكنّا لا نعتقد أنّ أحداً منهم قد أوفاها حقّها كما أوفاها عبّاس محمود العقّاد في هذا الكتاب الذي نفخر بتقديمه اليوم إلى الملايين من القرّاء في العالمين العربي والإسلامي.

لم يكن الصراع بين الإمام الشّهيد ويزيد بن معاوية صراعاً بين رجلين انتهى باستشهاد أحدهما وفوز الآخر بما خيّل له ولأنصاره أنّهم قد فازوا به، بل كان صراعاً بين خلقين خالدين، وجولة من جولات هذين الخلقين اللذين تجاولا أحقاباً ولا يزالان يتجاولان. كان صراعاً بين الخير والشرّ، بين الكرم واللؤم، بل بين أشرف ما في الإنسان وأوضع ما يمكن أن تبتلى به النّفس البشرية.

كان أبو الشُهداءعليه‌السلام يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق بالإسلام وبأهله، وبالاُمّة الإسلاميّة قاطبة في حاضرها ومستقبلها، وكان للعقيدة الدينية في وجدانه قدسيتها، وللإيمان العميق بالله وبالحقّ في نفسه رسوخه وقوّته فكان اعتراضه على هذا الزيف الذي لم تشهد الاُمّة زيفاً مثله من قبل، وكانت غضبته على الانحراف والاستهتار بقيم الدين ممثّلة كلّها في ولاية يزيد بن معاوية بن أبي سفيان،

٥

فكانت حركته، وسلكت طريقها الذي لا بدّ لها أن تسلكه، وما كان لها قط من مسلك سواه وكانت الحرب حرب بين قلّة لبّت داعي المروءة والأريحية والحقّ لا تعتزّ إلاّ بإيمانها بالله وبنصره، وتتفانى في نصرة الإمام الشّهيد وتأبى إلاّ أن تستشهد دونه؛ ابتغاء مرضاة الله، وآلاف مدججة بالعتاد والسّلاح لم يؤلّف بينها إلاّ الطمع في رضا سلطان، أو في غنيمة تصيبها حتّى ولو كانت غنيمة النّجاة من غضب زبانية يزيد وانتقامهم ممّن لا يحارب ويقتل، بل ممّن لا يمعن في الإجرام والوحشية والتنكيل بآل البيت الكرام

وغلبت كثرة الباطل قلّة الحقّ، واستشهد الحُسينعليه‌السلام ؛ ليصبح بكرامة الشّهادة وكرامة البطولة وكرامة الاُسرة النّبويّة الشّريفة، معنى كريماً يحضره كلّ مُسلم في صدره، بل وكلّ إنسان يعرف قدر الشّهادة في سبيل الحقّ، وقيمة بذل الحياة في سبيل ما هو أدوم من الحياة.

النّاشر

٦

مقدّمة المؤلّف:

يسرّني أن اُقدّم إلى حضرات القرّاء هذه الطبعة من كتاب أبي الشّهداء، ويعظم رجائي أن يصل إلى أيد كثيرة غير التي وصل اليها في طبعاته السّابقة، وأن يتحقق له من عموم الرّسالة بهذه المثابة ما يتمنّاه كلّ مؤلّف لكلّ كتاب يريد به رسالة من الرسالات.

ليس من عادتي أن أطّلع في كتبي بعد الفراغ من طبعها، ويتفق أن تمضي السّنوات دون أن ألقي عليها نظرة لغير مراجعة عاجلة، فإذا حدث بعد ذلك أن أنظر فيها لتقديمها إلى طبعة جديدة، أمكنني أن أشعر بها شعور القارئ الذي يطّلع عليها لأوّل مرّة، بعد أن شعرت بها شعور المؤلّف الذي امتلأ بها وأدارها في نفسه عدّة مرّات، وقد استغرب منها أموراً كالتي يستغربها القرّاء الذين يحكمون على موضوعاتها حُكم الأجانب الغُرباء

عجباً! إنّ مشكلة الحياة الكبرى لم تتغيّر منذ ألف وثلاثمئة سنة، ولم تزل الحرب على أشدّها بين خدّام أنفسهم وخدّام العقائد والأمثلة العُليا، ولم يزل الشُهداء يصلونها ناراً حامية من عبيد البطون والأكباد، ولم يزل داؤنا العياء كما قال أبو العلاء

كان هذا شعوري بكتاب ( أبي الشُهداء ) حين قرأته من جديد لتقديمه إلى هذه الطبعة.

٧

مسكينة هذه الإنسانيّة لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشُهداء، بل لعلّ العطش الشّديد يزداد كلّما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية، ونسيان المصلحة الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة، أو لعلّ العطش الشديد إلى دماء الشُهداء يزداد في هذا الزمن خاصّة دون سائر الأزمنة الغابرة؛ لأنّه الزمن الذي وجدت فيه الوحدة الإنسانيّة وجوداً مادّياً فعليّاً، وأصبح لِزاماً لها أن توجد في الضمير وفي الروح كما وجدت في الخريطة الجغرافية وفي برامج السُفن والطائرات.

الوحدة الإنسانيّة اليوم حقيقة واقعية عملية، ولكنّها حقيقة واقعية عملية في كلّ شيء إلاّ في ضمير الإنسان وروح الإنسان. حقيقة واقعية في اشتباك المصالح التجارية، وفي اتصال الأخبار بين كلّ ناحية من الكرة الأرضية وناحية اُخرى حقيقة واقعية في أعصاب الكرة الأرضية إذا صحّ هذا التعبير، فلا يضطرب عصب من أعصابها في أقصى المشرق حتّى تتداعى له سائر الأعصاب في أقصى المغرب وفي أقصى الشّمال والجنوب.

حقيقة واقعية في كلّ شيء إلاّ في ضمير الإنسان وفي روح الإنسان، وهذا هو المهمّ والأهمّ إذا اُريدت للإنسانيّة وحدة صحيحة صالحة جديرة بالدوام ولن توجد هذه الوحدة إلاّ إذا وجد الشُهداء في سبيلها.

فأنعم بمقدم أبي الشُهداء من جديد إلى ضمائر فريق كبير من بني الإنسان، لعلّهم يقدّمون رسالته خطوة واحدة أو خطوات في سبيل اليقين والعمل الخالص لوجه الحقّ والكمال.

نتفاءل أو لا نتفاءل نتساءم أو لا نتساءم

ليست هذه في المسألة، وإنّما المسألة هي أنّ طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا تتحقق مصلحة الإنسانيّة إلاّ إذا عمل لها كلّ فرد

٨

من أفرادها، وهانت الشّهادة من أجلها على خدّامها، وتقدّم الصفوف مَن يقدم على الاستشهاد ومن ورائه مَن يؤمن بالشّهادة والشُهداء.

لا عظة ولا نصيحة، ولكنّها حقيقة تقرّر كما تقرّر الحقائق الرياضية. فلا بقاء للإنسانيّة بغير العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينس الفرد مصلحته، بل حياته في سبيلها لا بقاء للإنسانيّة بغير الاستشهاد

وفي هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كلّ زاوية من زوايا الأرض، نلتفت نحن أبناء العربية إلى ذكرى شهيدها الأكبر فنحني الرّؤوس؛ إجلالاً لأبي الشُهداء

عبّاس محمود العقّاد

٩

١٠

مزاجان تاريخيان:

طبائع النّاس

يتناوب طبائع النّاس مزاجان متقابلان: مزاج يعمل أعماله للأريحية والنّخوة، ومزاج يعمل أعماله للمنفعة والغنيمة.

والمزاجان لا ينفصلان كُلّ الانفصال

فقد تقترن الأريحية بالمنفعة، وتقترن المنفعة بالأريحية، ولكنّهما إذا اصطدما - ولا سيما في الأعمال الكبيرة - لم يعسر عليك أن تفصل المزاجين وتعزل المعسكرين، فهذا للأريحية حتّى يجبّ المنفعة ويخفيها، وهذا للمنفعة حتّى يجبّ الأريحية ويخفيها أو كذلك يتراءيان.

وأصحاب المطالب الكبرى في التاريخ يعتمدون على هذا المزاج كما يعتمدون على ذاك فمنهم من يتوسّل إلى النّاس بما فيهم من الجشع والخسّة وقرب المأخذ وسهولة المسعى، ومنهم من يتوسّل إلى النّاس بما فيهم من طموح إلى النُبل والنجدة وركوب المخاطر ونسيان الصغائر في سبيل العظائم

١١

ولكلّ منهما سبيله إلى النّفوس وأمله في النّجاح على حسب الأوقات والبيئات إلاّ أنّ الأريحية أخلد من المنفعة بسنّة من سنن الخلق التي لا تتبدل مع الأوقات والبيئات؛ لأنّ منفعة الإنسان وجدت لفرد من الأفراد أمّا الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان منفعته فقد وجدت للاُمّة كلّها أو للنوع الإنساني كلّه، ومن ثمّ يُكتب لها الدوام إذا اصطدمت بمنافع هذا الفرد أو ذاك

ولقد يبدو من ظواهر الاُمور أنّ الأمر على خلاف ما نقول؛ لأنّ الحريص على منفعته يبلغها ويمضي قُدماً إليها، فينال المنفعة التي لا ينالها صاحب الأريحية؛ لأنّه يتركها إذا اصطدمت بما هو أجلّ منها. وهذا صحيح مشهود لا مراء فيه، ولكن النجاح في الحركات التاريخية لن يُسمّى نجاحاً إذا هو لم يتجاوز حياة فرد أو طائفة من الأفراد. فإذا قيل أنّ حركة من الحركات التاريخية قد نجحت، فمغزى ذلك بداهة أنّ الأفراد القائمين بها يذهبون وهي الباقية بعد ذهابهم

ومن هُنا يصحّ أن يُقال إنّ الأريحية أبقى وأنجح إذا هي اصطدمت بالمنفعة الفردية؛ لأنّ ذهاب الفرد هُنا أمر مفروغ منه بعد كلّ حساب، سواء أكان حساب الأريحيين أم حساب النّفعيين.

وأصحاب الأريحية إذن أبعد نظراً من دهاة الطامعين والنهازين

١٢

للفرص والمغانم العاجلة؛ لأنّهم خلقوا بفطرتهم على حساب أعمار تتجاوز حساب عمرهم القصير، فهم - شعروا أو لم يشعروا - بعيدو النظر إلى عواقب الاُمور، وإن خُيّل إلى اُناس أنّهم طائشون متهجّمون.

* * *

أمّا موقف المؤرّخين في العطف على حركات التاريخ فهو على ما نرى موقف مزاج من هذين المزاجين، وليس بموقف سبيل من سبل البحث أو مذهب من مذاهب التفكير فالذين يجنحون بمزاجهم إلى المنفعة يفهمون أعذار المنتفعين وينكرون ملامتهم على ناقديهم والذين يجنحون بمزاجهم إلى الأريحية يفهمون دوافع النخوة ويحسبونها عذراً لأصحابها أقوى من غواية المنافع والأرزاق.

إلاّ أنّ الصواب هُنا ظاهر جدّ الظهور لِمن يريد أن يراه الصواب: أنّ العطف على جانب المنفعة عبث لا معنى له ولا حكمة فيه، وأنّ العطف على جانب الأريحية واجب يخشى على النّاس من تركه وإهماله؛ إذ كان تركه مناقضاً لصميم الفطرة التي من أجلها فُطر النّاس على الإعجاب بكلّ ما يستحقّ الإعجاب.

فليس يخشى على النّاس يوماً أن ينسوا منافعهم ويقصروا في خدمة

١٣

أنفسهم، سواء عطف عليها المؤرّخون أو أعرضوا عنها ساخرين منكرين.

ولكنّهم يخسرون الأريحية إذا فقدوها وفقدوها الإعجاب بها والتطلّع إليها، وهي التي خُلقت ليعجب بها النّاس؛ لأنّ حرص الإنسان على منفعته لا يغنيهم في حياتهم العامّة أو في حياتهم الباقية، أو الأريحية التي يتجاوز بها الإنسان نفسه في سبيل معنى من المعاني أو مثل عال من الأمثلة العُليا، فهي الخليقة النّافعة للنوع الإنساني بأسره، وإنّ جاز اختلافهم في كلّ معنى وفي كلّ مثل عال

صراع بين الأريحيّة والمنفعة:

في ماضي الشّرق وحاضره كثير من الحركات التاريخية التي وقع الصدام فيها بين الأريحية والمنفعة على أكثر من غرض واحد

ولكنّنا لا نحسبنا مهتدين إلى نموذج لهذا الصدام أوضح في المبادئ وأهدى إلى النتائج وأبين عن خصائص المزاجين معاً من النموذج الذي عرضه لنا التاريخ في النزاع بين الطالبيّين والاُمويّين، ولا سيّما النزاع بينهما على عهد الحُسين بن عليّ، ويزيد بن معاوية.

قُلنا في كتابنا ( عبقرية الإمام ) ما فحواه: إنّ الكفاح بين عليّ ومعاوية لم يكن كفاحاً بين رجلين أو بين عقلين وحيلتين ولكنّه كان على الحقيقة كفاحاً بين الإمامة الدينية والدولة الدنيوية، وإنّ الأيّام كانت أيّام دولة دنيوية، فغلب الداعون إلى هذه الدولة من حزب معاوية، ولم يغلب الداعون إلى الإمامة من حزب الإمام.

١٤

ولو حاول معاوية ما حاوله عليّ لأخفق وما أفلح، ولو أراد عليّ أن يسلك غير مسلكه لما أفاده ذلك شيئاً عند محبّيه ولا عند مبغضيه. فإذا جاز لأحد أن يشكّ في هذا الرّأي، وأن يرجع بنجاح معاوية إلى شيء من مزاياه الشّخصية فذلك غير جائز في الخلاف بين الحُسين ويزيد.

وكلّ ما يجوز هُنا أن يُقال: إنّ أنصار الدولة الدنيوية غلبوا أنصار الإمامة على سنّة الخلفاء الرّاشدين؛ لأن مطالب الإمامة غير مطالب الزمان.

ما من أحد قط يزعم أنّ الصراع هُنا كان صراعاً بين رجلين أو بين عقلين وحيلتين، وإنّما هو الصراع بين الإمامة والملك الدنيوي، أو بين الأريحية والمنفعة في جولتهما الأولى، ولم يكن ليزيد قط فضل كبير أو صغير بما قد بلغه من الفوز والغلبة

* * *

بل لا يمكن أن يتعلل أحد هُنا بما يتعلل به أنصار المنافع عامّة من تقريره للنظام وحفظه للأمن العام فإنّ يزيد لم يكن له فضل قط في قيام الدولة كما قامت على عهده وبعد عهده، وإنّما كانت الدولة تتماسك برغبة الراغبين في بقائها لا بقدرة الأمير المشرف عليها. وقد حدث بعد موت يزيد أن بويع ابنه معاوية الثاني بالشّام - وكان من الزاهدين في الحكم - فنادى النّاس إلى صلاة جامعة، وقال لهم: أمّا بعد، فإنّي قد ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستّة مثل ستّة الشّورى فلم أجدهم،

١٥

فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم. ثمّ آوى إلى بيته، ومضت شئون الدولة على حالها حتّى مات بعد ثلاثة أشهر، وله مع هذا منافس قويّ كعبد الله بن الزُّبير بالحجاز.

فلا وجه للمفاضلة بين الحُسين بن عليّ ويزيد بن معاوية ورأي معاوية وأعوانه في هذا أسبق من رأي الطالبيّين وخصوم الاُمويّين، فقد ترددوا كثيراً قبل الجهر باختيار يزيد لولاية العهد وبيعة الخلافة بعد أبيه، ولم يستحسنوا ذلك قبل إزجائهم النّصح إلى يزيد غير مرّة بالإقلاع عن عيوبه وملاهيه. ولما أنكر بعض أولياء معاوية جرأة الحُسين عليه في الخطاب، وأشاروا عليه أن يكتب له كتاباً يصغّر إليه نفسه قال: وما عسيت أن أعيب حُسيناً، والله ما أرى للعيب فيه موضعاً.

وثمّ تعلّة اُخرى يتعلّل بها المفاضلون بين عليّ ومعاوية، ولا موضع لها في المفاضلة بين ولديهما الحُسين ويزيد، وتلك ما يزعمونه من غلبة معاوية على عليّ بحجته في الإقناع ونشاطه أو نشاط أصحابه في الدعوة السّياسية

فهذه التعلّة إنّ صلحت لتعليل نجاح معاوية، فما هي بصالحة لتعليل نجاح يزيد؛ لأنّ الذين انخدعوا أو تخادعوا للصيحة التي صاح بها معاوية في المطالبة بدم عثمان، كانوا يردّدون هذه الصيحة ويساعدهم على ترديدها حقد الثأر المزعوم وسورة العصبية المهتاجة، ثمّ يساعدهم على ترديدها

١٦

في مبدأ الأمر أنّ معاوية لم يكن مجاهراً بطلب الخلافه ولا متعرّضاً لمزاحمة أحد على البيعة، وإنّما كان يتشبّث بمقتل عثمان والمطالبة بدمه، ولا يزيد في دعواه على ادعاء ولاية الدم وصلة القرابة.

* * *

ولكن الصائحين بهذه الصيحة مع معاوية قد عاشوا حتّى رأوا بأعينهم مبلغ الغيرة على تراث عثمان، وعلموا أنّ الملك هو الغرض المقصود من وراء تلك الفتن والأرزاء، وأنّ معاوية لا يقنع بأن يملك لنفسه حتّى يورث الملك ولده من بعده، وليس هو من أهل الرّأي ولا هو من أهل السّلاح ولا هو ممّن تتفق عليه آراء هؤلاء، لكنّه فتى عربيد يقضي ليله ونهاره بين الخمور والطنابير، ولا يفرغ من مجالس النّساء والنُدمان إلاّ ليهرع إلى الصيد فيقضي فيه الأسبوع بعد الأسبوع بين الأديرة والبوادي والآجام، لا يُبالي خلال ذلك تمهيداً لملك ولا تدريباً على حكم ولا استطلاعاً لأحوال الرّعية الذين سيتولاهم بعد أبيه، ثقة بما صار إليه من التمهيد والتوطيد وما سوف يصير.

فكلّ خلاف جاز في المفاضلة بين عليّ ومعاوية غير جائز في المفاضلة بين الحُسين ويزيد وإنّما الموقف الحاسم بينهما، موقف الأريحية الصراح في مواجهة المنفعة الصراح. وقد بلغ كلاهما من موقفه أقصى طرفيه وأبعد غايتيه، فانتصر الحُسين بأشرف ما في النّفس الإنسانيّة من غيرة

١٧

على الحقّ وكراهة للنفاق والمداراة، وانتصر يزيد بأرذل ما في النّفس الإنسانيّة من جشع ومراء، وخنوع لصغار المتع والأهواء.

أقام الحسينعليه‌السلام ليلته الأخيرة بكربلاء وهو لا ينتظر من عاقبته غير الموت العاجل بعد سويعات، فأذن لأصحابه أن يتفرّقوا عنه تحت الليل إن كانوا يستحيون أن يفارقوه في ضوء النّهار، فأبوا إلاّ أن يموتوا دونه، وقال له مسلم بن عوسجة الأسدي: أنحن نتخلّى عنك ولم نعذر إلى الله في أداء حقكّ؟! أما والله، لا أفارقك حتّى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما بقي قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاحي لقذفتهم بالحجارة دونك حتّى أموت معك. وقد برّ بقسمه وبقي ومات

ودنا منه حبيب بن مظاهر وهو يجود بنفسه، فقال له: لولا أنّي أعلم إنّي في أثرك لاحق بك لأحببت أن توصيني حتّى أحفظك بما أنت له أهل. فقال - وكان آخر ما قال -: اُوصيك بهذا رحمك الله، أن تموت دونه. وأومأ بيده نحو الحُسينعليه‌السلام .

* * *

وقُتل الحُسينعليه‌السلام وذهب الأمل في دولته ودولة الطالبيّين من بعده إلى أجل بعيد، ولكنّه كان يشتم بالكلمة العوراء فيهون على الرجل من أصحاب الأريحية أن يموت ولا يصرّ على سماع تلك الكلمة أو يترك الجواب عليها

١٨

فلمّا نُعي الحُسين في الكوفة، نادى واليها ابن زياد إلى الصلاة الجامعة، وصعد إلى المنبر وخطب القوم، فقال: الحمد لله الذي أظهر الحقّ وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذّاب ابن الكذّاب الحُسين بن عليّ وشيعته.

فما أتمّها حتّى وثب له من جانب المسجد شيخ ضرير هو عبد الله بن عفيف الأزدي، الذي ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل وذهبت عينه الاُخرى يوم صفّين، فصاح بالوالي غداة يوم انتصاره وزهوه: يابن مرجانة، أتقتل أبناء النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟! إنّما الكذّاب أنت وأبوك والذي ولاّك وأبوه.

فما طلع عليه الصباح إلاّ وهو مصلوب

إلى هذا الاُفق الأعلى من الأريحية والنخوة ارتفعت بالنّفس الإنسانيّة نصرة الحسينعليه‌السلام . وإلى الأغوار المرذولة من الخسّة والأثرة هبطت بالنفس الإنسانيّة نصرة يزيد وحسبك من خسّة ناصريه، أنّهم كانوا يجزون بالحطام وهتك الأعراض على غزو المدينة النّبويّة واستباحة ذمارها فيسرعون إلى الجزاء يسرعون إليه وليسوا هُم بكافرين بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الدفين في تلك المدينة، فيكون لهم عذر الإقدام على أمر لا يعتقدون فيه التحريم

بل حسبك من خسّة ناصريه أنّهم كانوا يرعدون من مواجهة الحُسين

١٩

بالضرب في كربلاء؛ لاعتقادهم بكرامته وحقّه، ثمّ ينتزعون لباسه ولباس نسائه فيما انتزعوه من أسلاب ولو أنّهم كانوا يكفرون بدينه وبرسالة جدّه، لكانوا في شرعة المروءة أقلّ خسّة من ذلك.

* * *

وتتقابل وسائل النجاح في المزاجين ما تتقابل المقاصد والغايات فكان شعار معاوية وأشياعه: إنّ لله جنوداً من العسل. وهو يعني العسل الذي يداف بالسم؛ ليخلي طريق النّجاح من كلّ معترض فيها ولو كان من الأصدقاء. فكثرت روايات المؤرّخين عن مقتل الحسن بن عليّ والأشتر النخعي بهؤلاء الجنود

وأعجب منها ما قيل عن مقتل عبد الرّحمن بن خالد، وقد كان نصيراً لمعاوية في حروب الشّام فإنّه مات مسموماً على ما اشتهر من الرّوايات؛ لأنّه رُشّح للخلافة بعد معاوية دون يزيداً وعلم ذلك أقرباء عبد الرّحمن بن خالد، فقتلوا طبيب معاوية ( ابن أثال ) الذي اتهموه بسمّه في الدواء.

ولو استباح الحُسينعليه‌السلام وشيعته هذه الوسائل مرّة واحدة، لكانوا وشيكين أن يبلغوه مقصدهم من قريب؛ فقد كان هانئ بن عروة شيخ كندة من أنصار الحُسين وأبيه، وكانت كندة كلّها تطيعه وتلبّيه، حتّى قيل: إنّه إذا صرخ لبّاه منهم ألف سيف. فزاره عبيد الله بن زياد - والي يزيد على الكوفة - ليعوده في بعض مرضه ويتألّفه ويستميله إليه.

٢٠