الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 51704
تحميل: 6350

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51704 / تحميل: 6350
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الطرفين لقصارى ما يبلغه الكرم وقصارى ما يبلغه اللؤم، وقد بلغت في ذلك أقصى مدى الطرفين.

* * *

ومن المتعذر بعد وقوف هاتين القوّتين موقف المراقبة والمناجزة، أنْ نتقصّى أوائل القتال ونتّبع ترتيب الحوادث واحدة بعد واحدة على حسب وقوعها؛ فإنّ الأقوال في سرد حوادث كربلاء لا تتفق على ترتيب واحد، سواء كان هذا الترتيب في رواية أنصار الحُسين أو رواية أنصار يزيد.

إلاّ أنّ الترتيب الطبيعي يستبين للعقل من سبب الوقوف في ذلك المكان، وهو منع الحُسين أن ينصرف إلى سبيله وأن يرد الماء حتّى يكرهه العطش إلى التسليم، وكان الموقف كما وصفه أبو العلاء بعد ذلك بأربعة قرون:

منعَ الفتَى هينا فَجَرّ عظائِماً

وحُمِي نميرُ الماءِ فانبعثَ الدمُ

ولم يمتنع طريق الماء في بادئ الأمر دفعة واحدة؛ لأنّ حراس المورد من جماعة عمر بن سعد، لم يكونوا على جزم بما يصنعون في مواجهة

١٤١

الحُسين وصحبه فلمّا اندفع بعض أصحاب الحُسين إلى الماء بالقرب والأداوي، مانعهم القوم هنيهة، ثمّ أخلوا لهم سبيل النهر خوفاً وحيرة، فشربوا وملؤوا قربهم وأداواهم بما يغنيهم عن الاستقاء إلى حين.

والظاهر أنّ الشرّ كلّه كان في حضور شمر بن ذي الجوشن على تلك السّاحة، متربّصاً كلّ التربّص بمن يتوانى في حصار الحُسين ومضايقته فيعزله ويعرضه لسوء الجزاء، ثمّ يطمع من وراء ذلك أن يتولّى قيادة الجيش وإمارة الرّي بعد عزل عمر بن سعد بن أبي وقاص فبطل التردد شيئاً فشيئاً، وتعذّر على الحُسين وأصحابه بعد الهجمة الأولى أن يصلوا إلى الماء.

ولبثوا أيّاماً وليس في معسكرهم ذو حياة من رجل أو امرأة أو طفل أو حيوان إلاّ وهو يتلظّى على قطرة ماء فلا ينالها، ومنهم الطفل العليل والشّيخ المكدود والحيوان الأعجم، وصياح هؤلاء الظماء من حرقة الظمأ يتوالى على مسمع الحُسين ليل نهار، وهو لا يملك لهم غير الوصاية بالصبر وحسن المؤاساة.

وفي ذلك المأزق الفاجع نضحت طبائع اللؤم في معسكر ابن زياد بشرّ ما تنضح به طبيعة لئيمة في البنية الآدمية فاقترفوا من خسّة الأذى ما تنزّه عنه الوحوش الضاريات، وجعلوا يتلهون ويتفكهون بما تقشعر منه الجلود وتندى له الوجوه، ونكاد نمسك عن تسطيره أسفاً وامتعاضاً لولا أن القليل منه جزء لا ينفصل من هذه الفاجعة، وبيان لما يلي من وقعها في النّفوس وتسلسل تراثها إلى أمد بعيد

١٤٢

مآثم مخزية:

فمن هذه المآثم المخزية: إنّ الحُسين برح به العطش فلم يباله، ولكنّه رأى ولده عبد الله يتلوّى من ألمه وعطشه، وقد بحّ صوته من البكاء، فحمله على يديه يهمّ أن يسقيه ويقول للقوم: اتّقوا الله في الطفل إنْ لم تتقوا الله فينا. فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه، ورمى الطفل بسهم وهو يصيح ليسمعه العسكران: خُذ، اسقه هذا. فنفذ السّهم إلى أحشائه.

وكانوا يصيحون بالحُسين متهاتفين: ألا ترى إلى الفُرات كأنّه بطون الحيات؟ والله، لا تذوقه حتّى تموت ومَن معك عطشاً.

ولما اشتدّ عطش الحُسين دنا من الفُرات ليشرب، فرماه حصين بن نمير بسهم وقع في فمه، فانتزعه الحُسين وجعل يتلقّى الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمى به إلى السّماء وقد شخص ببصره إليها وهو يقول:(( إنْ تكن حبست عنّا النّصر من السّماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين )).

وقد كان منع الماء - قبل الترامي بالسّهام - نذيراً كافياً بالحرب، يبيح الحُسين أنْ يصيب منهم من يتعرّض للإصابة، ولكنّه رأى شمر بن ذي الجوشن - أبغض مبغضيه المؤلّبين عليه - يدنو من بيوته ويجول حولها؛ ليعرف منفّذ الهجوم عليها، فأبى على صاحبه مسلم بن

١٤٣

عوسجة أن يرميه بسهم وقد أمكنه أن يصميه وهو من أسدّ الرماة؛ لأنّه كره أن يبدأهم بعداء

* * *

وكأنّه لمح منهم ضعف النيّة وسوء الدخلة في الدفاع عن مولاهم، وعلم أنّهم لا يخلصون في حبّه، ولا يؤمنون بحقّه، وأنّهم يخدمونه للرغبة أو الرهبة ولا يخدمونه للحقّ والذمّة فطمع أن يقرع ضمائرهم وينبّه غفلة قلوبهم، ورمى بآخر سهم من سهام الدعوة قبل أنْ يرمي بسهم واحد من سهام القتال.

فخرج لهم يوماً بزي جدّه عليه السّلام مُتقلّداً سيفه لابساً عمامته ورداءه، وأراهم أنّه سيخطبهم، فكان أوّل ما صنعوه دليلاً على صدق فراسته فيهم، لأنّ رؤساءهم ومؤلّبيهم أشفقوا أن يتركوا له آذان القوم فينفذ إلى قلوبهم ويلمس مواقع الإقناع من ألبابهم؛ فضجّوا بالصياح والجلبة، وأكثروا من العجيج والحركة؛ ليحجبوا كلامه عن أسماعهم، ويتّقوا أثر موعظته فيهم، وهو بتلك الهيئة التي تغضي عنها الأبصار وتعنو لها الجباه

ولكنّه صابرهم حتّى ملّوا، وملّ اُخوانهم ضجيجهم هذا الذي يكشفون به عن عجزهم وخوفهم، ولا يوجب الثقة بدعواهم عند إخوانهم فهدؤوا بعد لحظات، وسمعوه بعد الحمد والصلاة:(( انسبوني مَن أنا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حُرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم؟ أوَ لم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ ويحَكم! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته، أو مال لكم استهلكته؟ )).

١٤٤

ثمّ نادى بأسماء أنصاره الذين استدعوه إلى الكوفة ثمّ خرجوا لحربه في جيش ابن زياد، فقال:(( يا شيث بن ربعي، يا حجّار بن أبحر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، يا عمر بن الحجّاج، ألم تكتبوا إلي أنْ قد أينعت الثمار واخضرت الجنبات، وإنّما تقدم على جُندٍ لكَ مُجنَّد؟ )).

فزلزلت الأرض تحت أقدامهم بهذه الكلمات، وبلغ بها المقنع ممّن فيه مطمع لإقناع، وتحوّلت إلى صفّه فئة تعلم أنّها تتحوّل إلى صفّ لن تجد فيه غير الموت العاجل، واستطابت هذا الموت ولم تستطب البقاء مع ابن زياد؛ لاغتنام الغنيمة وانتظار الجزاء من المناصب والأموال.

* * *

ولم تكن كلمة الحُسين كلّ ما شهره عسكره من سلاح الدعوة قبل الاحتكام إلى السّيف فقد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السّيوف والرّماح حيث تصيب، فركب فرسه وتعرّض لهم قائلاً: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتّى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السّيف، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة وكنّا نحن اُمّة وأنتم اُمّة

إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّيّة نبيّه مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله لينظر ما نحن وأنتم عاملون، وإنّا ندعوكم إلى نصر الحُسين وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوءاً؛ يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان

١٤٥

بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حجر بن عديّ وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه.

فوجم منهم مَن وجم، وتوقّح منهم مَن توقّح على ديدن المريب المكابر إذا خلع العذار ولم يأنف من العار، وتوعدوه وتوعدوا الحُسين معه أن يقتلوهم أو يسلموهم صاغرين إلى عبيد الله بن زياد.

تخاذل وضعف:

ولا يظهر من عدد الفريقين ساعة القتال أنّ المتحولين إلى معسكر الحُسين كانوا كثيرين أو متلاحقين، ولكن بداءة التحوّل كانت ممّا يخيف ويزعج؛ لأنّها اشتملت على قائد كبير من قوّاد ابن زياد، هو الحرّ بن يزيد الذي أرسلوه في أوّل الأمر ليحلئ الحُسين عن دخول الكوفة، وقد كان يحسب أنّ عمله ينتهي إلى هذه المراقبة ولا يعدوها إلى القتال وسفك الدم

فلمّا تبيّن نيّة القتال، أقبل يدنو نحو عسكر الحُسين قليلاً قليلاً، وتأخذه رعدة وينتابه ألم شديد حتّى راب أمره صاحبه المهاجر بن أوس فقال له: والله، إنّ أمرك لمريب! ما رأيت منك قط مثل ما أراه الآن! ولو قيل مَن أشجع أهل الكوفة؟ ما عدوتك.

فباح له الرّجل بما في نفسه وقال له:

١٤٦

إنّي أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار، ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت أو حُرّقت ثمّ ضرب فرسه، ولحق بالحُسين وهو يعتذر قائلاً: لو علمت أنّهم ينتهون إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مؤاسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك.

ولن يخلو معسكر ابن زياد من مئات كالحر بن يزيد يؤمنون إيمانه ويودون لو يلحقون به إلى معسكر الحُسين، ويزعجهم أنْ يتحوّل أمامهم إلى المعسكر وهُم ناظرون إليه؛ لأنّه يبكتهم ويكشف مغالطتهم بينهم وبين أنفسهم ويحضّهم على الاقتداء به والتدبّر في أسباب ندمه، لا لأنّه ينتقص عددهم أو ينذر بالهزيمة في ميدان القتال؛ فكلّهم - ولا ريب - يشعر بشعوره ويعتقد في فضل الحُسين على يزيد مثل اعتقاده، وبعيد على العقل أن يصدّق في هؤلاء الشراذم أنّهم قد أطاعوا يزيد لأنّه صاحب بيعة حاصلة، وأنّهم قد تأدّبوا بأدب الدولة أدباً يغلب شعور الجماعة وإيمان المرء بحقّ الشّريعة وحُرمة البيت النّبوي، ويهون عليه قتل سبط النّبي في هذا السّبيل؛ وكيف وأنّ منهم لمِن بايع الحُسين على البُعد ودعاه إليه ليقود (الجند المجنّد) إلى قتال يزيد؟

فكلامهم في البيعة الحاصلة لغط يلوكونه بألسنتهم ولا يستر ما في طويتهم، وليس أثقل على أمثال هؤلاء من عبء المغالطة، كلّما تلجلج في مكانه وحرّكته القدوة التي

١٤٧

يريدونها ولا يقوون عليها، كتلك القدوة الماثلة بصاحبهم الحرّ بن يزيد.

لا جرم كان أعظم الجيشين قلقاً وأشدّهما حيرة، وأعجلهما إلى طلب الخلاص من هذا المأزق الثقيل، هو أكبر الفئتين وأقوى العسكرين

شجاعة جُند الحُسين:

كان هُناك عسكران؛ أحدهما صغير يلحّ عليه العطش والضيق، ولكنّه كان مطمئناً إلى حقّه يلقى الموت في سبيله، ويزيده العطش والضيق طمأنينة إلى هذا المصير والعسكر الآخر أكبر العسكرين ولكنّه كان يخون نفسه في ضمير كلّ فرد من أفراده، وتملكه الحيرة بين ندم وخوف وتبكيت ومغالطة واضطراب، يحزّ في الأعصاب ويقذف المرء إلى الخلاص كيفما كان الخلاص.

وطال القلق على دخيلة عمر بن سعد فأطلقه سهماً في الفضاء كأنّه كان متشبّثاً بصدره فاستراح منه بانطلاقه، فزحف إلى مقربة من معسكر الحُسين، وتناول سهماً فرماه عن قوسه إلى المعسكر وهو يصيح: اشهدوا لي عند الأمير إنّني أوّل مَن رمى الحُسين ثمّ تتابعت السّهام فبطلت حجّة السلم وذهب كلّ تأويل في نية القوم،

١٤٨

وقال الحُسين وهو ينظر إلى السّهام وينظر إلى أصحابه:(( قوموا يا كرام، فهذه رُسل القوم إليكم )). وبذلك بدأ القتال.

وقد تأهّب الحُسين لهذه المنازلة المنتظرة، وإن كان على انتظاره إيّاها قد تريّث حتّى يبدؤوه بالعدوان من جانبهم، وحتّى يجب عليه الدفاع وجوباً لا خلاف فيه، فاختار له رابية يحتمي بها من ورائه، ووسع وهدتها حتّى أصبحت خندقاً لا يسهل عبوره فأوقد فيه النّار ليمنع عليهم الالتفاف به من خلفه، وهُم في كثرتهم التي ترجع عدّة صحبه ستّين ضعفاً قادرون على مهاجمته من جميع نواحيه.

وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، وهُم نيف وأربعة آلاف، يكثر فيهم الفرسان وراكبو الإبل، ويحملون صنوفاً مختلفة من السّلاح. ومع هذا التفاوت البعيد في عدّة الفريقين، كان العسكر القليل كفؤاً للعسكر الكثير لو جرى القتال على سنّة المبارزة التي كانت دعوة مجابة في ذلك العصر إذا اختارها أحد الفريقين؛ فإنّ آل عليّ جميعاً كانوا من أشهر العرب - بل من أشهر العرب والعجم - بالقوّة البدنية والصبر على الجراح، والاضطلاح بعناء الحرب

١٤٩

ساعات بعد ساعات، ومنهم مَن كان يلوي الحديد فلا يقيمه غيره، ومنهم مُحمّد بن الحنفيّة الذي صرع جبابرة القوّة البدنية بين العرب والعجم في زمانه، ومن أشهر هؤلاء الجبابرة رجل كان في أرض الرّوم يفخر به أهلها، فأرسله ملكهم إلى معاوية يعجز به العرب عن مصارعته واتقاء باسه، فجلس مُحمّد بن الحنفيّة وطلب من ذلك الجبّار الرومي أن يقيمه، فكان كأنّما يحرّك جبلاً لصلابة أعضائه وشدّة أسره، فلمّا أقرّ الرّجل بعجزه، رفعه مُحمّد فوق رأسه ثمّ جلد به الأرض مرّات.

والحُسين رضي الله عنه قد كان هو ومَن معه من شباب آل عليّ ممّن ورث هذه القوّة البدنية كما ورثوا ثبات الجأش وحمية الفؤاد، وكانوا كفؤاً لمبارزة الأنداد واحداً بعد واحد حتّى يفرغ جيش عبيد الله من فرسانه القادرين على المبارزة، ولا يبقى منهم غير الهمل يتبددون في منازلة الشّجعان، كما تتبدد السّائمة المذعورة بالعراء

وكان مع الحُسين نخبة من فُرسان العرب كلّهم لهم شهرة بالشّجاعة والبأس وسداد الرمي بالسهم ومضاء الضرب بالسيف، ولن تكون صُحبة الحُسين غير ذلك بداهة وتقديراً لا يتوقفان على الشهرة الذائعة والوصف المتواتر؛ لأنّ مزاملة الحُسين في مثل تلك الرحلة هي وحدها آية على الشّجاعة في ملاقاة الموت وكرم النحيزة في مُلاقاة الفتنة والإغراء فإذا جرى القتال كلّه مبارزة بين أمثال هؤلاء ومَن يبرزون لهم من جيش عبيد الله، فهم كفء للمنازلة وليس أملهم في الغلب بضعيف.

١٥٠

وقد بدأ القتال بهجوم الخيل من قبس جيش ابن زياد، فأشرع أصحاب الحُسين لها رماحهم وجثوا على الركب ينتظرونها، فلم تقم الخيل للرماح وأوشكت أن تجفل مولّية بفرسانها

فعدل الفريقان إلى المبارزة، فلم يتعرّض لها أحد من جيش ابن زياد إلاّ فشل أو نكص على عقبيه، فخشي رؤوس الجيش عقبى هذه المبارزة التي لا أمل لهم في الغلبة بها، وصاح عمر بن الحجاج برفاقه: أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وقوماً مستميتين. لا يبرز إليهم منكم أحد؛ فإنّهم قليل، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فاستصوب عمر بن سعد مقاله، ونهى النّاس عن المبارزة.

فلمّا برز عابس بن أبي شبيب الشّاكري بعد ذلك، وتحدّاهم للمبارزة، تحاموه لشجاعته، ووقفوا بعيداً منه، فقال لهم عمر: ارموه بالحجارة. فرموه من كلّ جانب، فاستمات وألقى بدرعه ومغفره وحمل على مَن يليه، فهزمهم وثبت لجموعهم حتّى مات.

وعجزت خيل القوم مع كثرتها عن مقاومة خيل الحُسين، وهي

١٥١

تنكشف كلّ ساعة عن فارس قتيل فبعث عروة بن قيس مقدم الفرسان في جيش ابن زياد يقول لعمر بن سعد: ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدّة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرّجال والرماة. فبعث إليه بخمسمئة من الرّماة وعلى رأسهم الحُسين بن نمير، فرشقوا أصحاب الحُسين بالنبل حتّى عقروا الخيل وجرحوا الفُرسان والرّجال.

وكان أبو الشّعثاء يزيد بن زياد الكندي ممّن عدل إلى جيش الحُسين وهو من أشهر رُماة زمانه، فلمّا تكاثر عليهم رمي النبال والسهام، جثا بين يدي الحُسين وأرسل مئة سهم لم يكد يخيب منها خمسة أسهم، وقاتل حتّى مات.

وكان الذين عدلوا إلى عسكر الحُسين أشدّ أنصاره عزمة في القتال وهجمة على الموت، ومنهم الحرّ بن يزيد - الذي تقدّم ذكره - فجاهد ما استطاع؛ ليقنع أصحابه الأوّلين بالكفّ عن حرب الحُسين أو بالعدول إلى صفّه وقام على فرسه يخطب أهل الكوفة ويزجرهم، فسكتوا هنيهة ثمّ رشقوه بالنبل فعقروا فرسه وجرحوه، فما زال يطلب الموت ويتحرّى من صفوفهم أكثفها جمعاً وأقتلها نبلاً حتّى سقط مثخناً بالجراح وهو يُنادي الحُسين: السّلام عليكم يا أبا عبد الله.

ولم يكن من أصحاب الحُسين إلاّ مَن يطلب الموت ويتحرّى مواقعه وأهدافه، فكان نافع بن هلال البجلي يكتب اسمه على أفواق نبله ويرسلها فيقتل بها ويجرح، وقلّما يخطئ مرماه، فأحاطوا به وضربوه

١٥٢

على ذراعيه حتّى كُسرتا، ثمّ أسروه والدم يسيل من وجهه ويديه، فحسبوه يلين للوعيد ويجزع من التمثيل به، فأسمعهم ما يكرهون وراح يستزيد غيظهم ويقول لهم: لقد قتلت منكم اثني عشر رجلاً سوى مَن جرحت، ولو بقيت لي عضد وساعد لزدت.

مصرع الحُسينعليه‌السلام :

واستهدف الحُسين رضي الله عنه لأقواس القوم وسيوفهم، فجعل أنصاره يحمونه بأنفسهم ولا يقاتلون إلاّ بين يديه، وكلّما سقط منهم صريع، أسرع إلى مكانه من يخلفه ليلقى حتفه على أثره.

فضاقت الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، وسوّل لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوّضوا الأخبية التي أووا إليها النساء والأطفال؛ ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته، ثمّ أخذوا في إحراقها، وأصحاب الحُسين يصدّونهم ويدافعونهم، فرأى رضي الله عنه أنّ اشتغال أصحابه بمنعهم يصرفهم عن الاشتغال بقتالهم، فقال لهم:(( دعوهم يحرقونها؛ فإنّهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها )).

وظلّ على حضور ذهنه وثبات جأشه في تلك المحنة المتراكبة التي تعصف بالصبر وتطيش بالألباب وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم والدم، ولا ينهض به إلاّ أولو العزم من أندر من يلد آدم وحواء.

١٥٣

فإنّه رضي الله عنه كان يقاسي جهد العطش والجوع والسهر ونزف الجراح ومتابعة القتال، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم، ويدبّر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ويتّقون به تلك المكائد، ثمّ هو يحمل بلاءه وبلاءهم ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة كلّما فجع بشهيد من شهدائهم.

ولا يزال كلّما أصيب عزيز من اُولئك الأعزاء حمله إلى جانب إخوانه وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه، وينسون في حشرجة الصدور ما هُم فيه، فيطلبون الماء ويحزّ طلبهم في قلبه كلّما أعياه الجواب، ويرجع إلى ذخيرة بأسه فيستمدّ من هذه الآلام الكاوية عزماً يناهض به الموت ويعرض به عن الحياة ويقول في أثر كلّ صريع:(( لا خير في العيش من بعدك )) . ويهدف صدره لكل ّما يلقاه

وإنّه لفي هذا كلّه، وبعضه يهدّ الكواهل ويقصم الأصلاب إذا بالرّماح والسّيوف تنوشه من كلّ جانب، وإذا بالقتل يتعدّى الرّجال المقاتلين إلى الأطفال والصبيان من عترته وآل بيته، وسقط كلّ مَن معه واحداً بعد واحد فلم يبق حوله غير ثلاثة يناضلون دونه ويتلقون الضرب عنه، وهو يسبقهم ويأذن لِمَن شاء منهم أن ينجو بنفسه وقد دنت الخاتمة ووضح المصير.

وكان غلام من آل الحُسين - هو عبد الله بن الحسن أخيه - ينظر من الأخبية، فرأى رُجلاً يضرب عمّه بالسيف؛ ليصيبه حين أخطأ زميله، فهرول الغلام إلى عمّه وصاح في براءة بالرجل:

١٥٤

يابن الخبيثة! أتقتل عمّي؟ فتعمّده الرجل بالسيف يريد قتله، فتلقّى الغلام ضربته بيده، فانقطعت وتعلّقت بجلدها، فاعتنقه عمّه وجعل يواسيه وهو مشغول بدفاع مَن يليه.

ثمّ سقط الثلاثة الذين بقوا معه، فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه. وكان يحمل على الذين عن يمينه فيتفرّقون، ويشدّ على الخيل راجلاً ويشقّ الصفوف وحيداً، ويهابه القريبون فيبتعدون، ويهمّ المتقدمون بالإجهاز عليه ثمّ ينكصون؛ لأنّهم تحرّجوا من قتله، وأحبّ كلّ منهم أن يكفيه غيره مغبّة وزره، فغضب شمر بن ذي الجوشن وأمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، وصاح بمن حوله: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم اُمّهاتكم!

فاندفعوا إليه تحت عيني شمر؛ مخافة من وشايته وعقابه وضربه زرعة بن شريك التميمي على يده اليسرى فقطعها، وضربه غيره على عاتقه فخرّ على وجهه، ثمّ جعل يقوم ويكبو وهُم يطعنونه بالرّماح ويضربونه بالسّيف حتّى سكن حراكه، ووجدت بعد موته رضوان الله عليه ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير إصابة النّبل والسّهام، وأحصاها بعضهم في ثيابه فإذا هي مئة وعشرون.

١٥٥

ونزل خولّي بن يزيد الأصبحي ليحتزّ رأسه، فملكته رعدة في يديه وجسده، فنحاه شمر وهو يقول له:

ـ فتّ الله في عضدك!

واحتزّ الرّأس وأبى إلاّ أن يسلّمه إليه في رعدته؛ سخرية به وتمادياً في الشرّ، وتحدّياً به لِمَن عسى أن ينعاه عليه، وقضى الله على هذا الخبيث الوضر أن يصف نفسه بفعله وصفاً لا يطرقه الشّك والاتهام، فكان ضغنه هذا كلّه ضغناً لا معنى له ولا باعث إليه إلاّ أنّه من اُولئك الذين يخزيهم اللؤم فيسلّيهم بعض السّلوى أن يؤلموا به الكرام، ويجعلوه تحدّياً مكشوفاً كأنّه معرض للزهو والفخار، وهُم يعلمون أنّه لا يفخر به ولا يزهى، ولكنّهم يبلغون به مأربهم إذا آلموا به من يحسّ فيهم الضعة والعار

وبقيت ذروة من الحمية يرتفع إليها مرتفع وبقيت وهدة من الخسّة ينحدر إليها منحدرون كثيرون فلم يكن في عسكر الحُسين كلّه إلاّ رمق واحد من الحياة باق في رجل طعين مثخن بالجراح، تركوه ولم يجهزوا عليه لظنّهم أنّه قد مات؛ ذلك الرّجل الكريم هو سويد بن أبي المطاع أصدق الأنصار وأنبل الأبطال

١٥٦

فأبى الله لهذا الرّمق الضعيف أن يُفارق الدُنيا بغير مكرمة يتمّ بها مكرمات يومه، وتشتمل عليها النّفوس الكثيرات فإذا هي حسبها من شرف مجد وثناء.

* * *

تنادى القوم بمصرع الحُسين، فبلغت صيحتهم مسمعه الذي أثقله النزع وأوشك أن يجهل ما يسمع، فلم يخطر له أن يسكن لينجو وقد ذهب الأمل وحمّ الختام، ولم يخطر له أنّه ضعيف منزوف يعجّل به القوم قبل أن ينال من القوم أهون منال، ولم يحسب حساب شيء في تلك اللحظة العصيبة إلاّ أن يجاهد في القوم بما استطاع، بالغاً ما بلغ من ضعف هذا المستطاع

فالتمس سيفه فإذا هُم قد سلبوه، ونظر إلى شيء يجاهد به فلم تقع يده إلاّ على مدية صغيرة لا غناء بها مع السّيوف والرّماح ولكنّه قنع بها وغالب الوهن والموت، ثمّ وثب على قدميه من بين الموتى وثبة المستيئس الذي لا يفرّ من شيء ولا يُبالي مَن يُصيب وما يُصاب، فتولاّهم الذعر وشلّت أيديهم التي كانت خليقة أن تمتدّ إليه، وانطلق هو يثخن فيهم قتلاً وجرحاً حتّى أفاقوا له من ذعرهم ومن شغلهم بضجتهم وغنيمتهم، فلم يقووا عليه حتّى تعاون على قتله رجلان، فكان هذا حقّاً هو الكرم والمجد في عسكر الحُسين إلى الرّمق الأخير.

١٥٧

خسّة ووحشية:

وكان حقّاً لا مجازاً ما توخّيناه حين قُلنا إنّها طرفان متناقضان، وأنّها حرب بين أشرف ما في الإنسان وأوضع ما في الإنسان.

فبينما كان الرجل في عسكر الحُسين ينهض من بين الموتى ولا يضن بالرمق الأخير في سبيل إيمانه، إذا بالآخرين يقترفون أسوأ المآثم في رأيهم - قبل رأي غيرهم - من أجل غنيمة هينة لا تسمن ولا تغني من جوع، فلو كان كلّ ما في عسكر الحُسين ذهباً ودرّاً لما أغنى عنهم شيئاً وهُم قرابة أربعة آلاف

ولكنّهم ما استيقنوا بالعاقبة - قبل أن يُسلم الحُسين نفسه الأخير - حتّى كان همّهم إلى الأسلاب التي يطلبونها حيث وجدوها، فأهرعوا إلى النّساء من بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينازعونهن الحلي والثياب التي على أجسادهن، لا يزعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين أو مروءة، وانقلبوا إلى جثّة الحُسين يتخطفون ما عليها من كساء تخللته الطعون حتّى أوشكوا أن يتركوها على الأرض عارية لولا سراويل لبسها رحمه الله ممزّقة، وتعمّد تمزيقها؛ ليتركوها على جسده ولا يسلبوها.

ثمّ ندبوا عشرة من الفرسان يوطئون جثّته الخيل كما أمرهم ابن زياد، فوطئوها مقبلين ومدبرين حتّى رضّوا صدره وظهره.

وقد يُساق الغنم هُنا معذرة للأثم بالغاً ما بلغ هذا من العظم، وبالغاً ما بلغ ذلك من التفاهة، لكنّهم في الحقيقة قد ولعوا بالشرّ للشرّ من غير ما طمع في مغنم كبير أو صغير، فحرّموا الريّ على الطفل الظامئ

١٥٨

العليل وأرسلوا إلى أحشائه السهام بديلاً من الماء، وقتلوا مَن لا غرض في قتله وروعوا مَن لا مكرمة في ترويعه فربما خرج الطفل من الأخبية ناظراً وجلاً لا يفقه ما يجري حوله، فينقضّ الفارس الرامح فوق فرسه ويطعنه الطعنة القاضية بمرأى من الاُمّ والاُخت، والعمّة والقريبة، ولم تكن في الذي حدث من هذا القبيل مبالغة يزعمونها كما زعم اُجراء الذمم بعد ذلك عن حوادث كربلاء وجرائر كربلاء، فقد قُتل فعلاً في كربلاء كلّ كبير وصغير من سلالة عليّ رضي الله عنه، ولم ينج من ذكورهم غير الصبي عليّ زين العابدين، وفي ذلك يقول سراقة الباهلي:

عينُ جودي بعبرةٍ وعويلِ

واندُبي ما ندبتِ آلَ الرسولِ

سـبعةٌ منهمُ لِصُلبِ عليٍّ

قـد اُبـيدوا وسبعةٌ لعقيلِ

وما نجا عليّ زين العابدين إلاّ باُعجوبة من أعاجيب المقادير؛ لأنّه كان مريضاً على حجور النساء يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد، فلمّا همّ شمر بن ذي الجوشن بقتله، نهاه عمر بن سعد عنه إمّا حياء من قرابة الرحم أمام النساء - وقد كان له نسب يجتمع به في عبد مُناف - وأمّا توقّعاً لموته من السقم المضني الذي كان يعانيه، فنجا بهذه الاُعجوبة في لحظة عابرة، وحُفظ به نسل الحُسين من بعده، ولولا ذلك لباد.

١٥٩

ثمّ قطعوا الرّؤوس ورفعوها أمامهم على الحراب، وتركوا الجثث مُلقاة على الأرض لا يدفنونها ولا يصلّون عليها كما صلّوا على جثث قتلاهم ومرّوا بالنّساء حواسر من طريقها فولولن باكيات، وصاحت زينب رضي الله عنها: يا مُحمّداه! هذا الحُسين بالعراء، وبناتك سبايا، وذرّيّتك مقتّلة تسفي عليها الصبا فوجم القوم مبهوتين وغلبت دموعهم قلوبهم، فبكى العدو كما بكى الصديق.

* * *

لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة على انتقال النّبي مُحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله من هذه الدُنيا إلى حظيرة الخلود، مُحمّد الذي برّ بدينهم ودُنياهم فلم يُنقل من الدُنيا حتّى نقلهم من الظُلمة إلى النور، ومن حياة التيه في الصحراء إلى حياة عامرة يسودون بها اُمم العالمين.

ثمّ هذه خمسون سنة لم تنقضِ بعد، وإذا هُم في موكب جهير يجوب الصحراء إلى مدينة بعد مدينة، سباياه بنات مُحمّد حواسر على المطايا، وأعلامه رؤوس أبنائه على الحراب، وهُم داخلون به دخول الظافرين.

وبقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء تسفي عليها الصبا، فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء

١٦٠