الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 51706
تحميل: 6350

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51706 / تحميل: 6350
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فلمّا أمنوا العيون بعد يوم أو يومين، سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله - شرفاً ولا وحشة - في الآباد بعد الآباد

وكان يوم المقتل في العاشر من المحرّم، فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام، فحفروا القبور على ضوئه، وصلّوا على الجثث ودفنوها، ثمّ غادروها هُناك في ذمّة التاريخ، فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متّفقين ومختلفين، ومن حقّه أن يطيف به كلّ إنسان؛ لأنّه عنوان قائم لأقدس ما يشرّف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.

فما أظلّت قبّة السّماء مكاناً لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشّهادة وذكرى الشُهداء

١٦١

١٦٢

جزيرة كربلاء:

موطن الرّأس

اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحُسينعليه‌السلام ، وتعددت أيما تعدد في موطن الرأس الشّريف، فمنها: أنّ الرأس قد اُعيد بعد فترة إلى كربلاء فدُفن مع الجسد فيها، ومنها: أنّه اُرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص وإلي يزيد على المدينة، فدفنه بالبقيع عند قبر اُمّه فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، ومنها: أنّه وجد بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته، فدُفن بدمشق عند باب الفراديس، ومنها: أنّه كان قد طيف به في البلاد حتّى وصل إلى عسقلان، فدفنه أميرها هُناك وبقي بها حتّى استولى عليها الافرنج في الحروب الصليبية فبذل لهم الصالح طلائع - وزير الفاطميين بمصر - ثلاثين ألف درهم على أن ينقله إلى القاهرة حيث دُفن بمشهده المشهور.

قال الشّعراني في طبقات

١٦٣

الأولياء: إنّ الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس الشّريف ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحُسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف.

وقال السائح الهروي في الإشارات إلى أماكن الزيارات: وبها - أي عسقلان - مشهد الحُسينرضي‌الله‌عنه ، كان رأسه بها، فلمّا أخذتها الفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمئة.

وفي رحلة ابن بطوطة: أنّه سافر إلى عسقلان وبه المشهد الشهير حيث كان رأس الحُسين بن عليعليه‌السلام ، قبل أن يُنقل إلى القاهرة.

وذكر سبط بن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة: أنّ الرأس بمسجد الرّقة على الفُرات، وأنّه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثنّه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان. وكانوا بالرّقة، فدفنوه في بعض دورهم، ثمّ دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سوره هُناك.

فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستّة في ست مُدن هي: المدينة، وكربلاء، والرّقة، ودمشق، وعسقلان، والقاهرة، وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشّام وبيت المقدس والديار المصرية، وتكاد

١٦٤

تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كلّه من وراء تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دُفن فيها رأس الحُسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء.

وللتاريخ اختلافات كثيرة نسميها بالاختلافات اللفظية أو العرضية؛ لأنّ نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، ومنها الاختلاف على مدفن رأس الحُسينعليه‌السلام . فأيّاً كان الموضع الذي دُفن به ذلك الرأس الشّريف، فهو في كلّ موضع أهل للتعظيم والتشريف.

وإنّما أصبح الحُسين - بكرامة الشّهادة وكرامة البطولة وكرامة الاُسرة النّبويّة - معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره، وأنّ هذا المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرّقة، وفي كربلاء، وفي المدينة، وفي غير تلك الأماكن سواء.

وقاحة ابن زياد:

فالمتواتر الموافق لسير الاُمور أنّهم حملوا الرؤوس والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد أن يُطاف بها في أحياء الكوفة ثمّ تُرسل إلى يزيد. وكانت فعلة يدارونها بالتوقّح فيها على سنّة المأخوذ الذي لا يملك

١٦٥

مداراة ما فعل. فبات خولّي بن يزيد ليلته بالرأس في بيته، وهو يمني نفسه بغنى الدهر كما قال، فأقسمت امرأة له حضرمية: لا يجمع رأسها ورأسه بيت وفيه رأس ابن رسول الله.

ثمّ غدا إلى قصر ابن زياد وكان عنده زيد بن أرقم - من أصحاب رسول الله - فرآه ينكث ثنايا الرأس حين وضع أمامه في أجانة، فصاح به مغضباً: ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبّلهما وبكى.

فهزئ به ابن زياد وقال له: لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك. فخرج زيد وهو يُنادي في النّاس، غير حافل بشيء: أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم قتلتم ابن فاطمة وآثرتم ابن مرجانة، فهو يقتل شراركم ويستعبد خياركم.

واُدخلت السّيدة زينب بنت عليّ (رضي الله عنها)، وعليها أرذل ثيابها، ومعها عيال الحُسين وإماؤها، فجلست ناحية لا تتكلم ولا تنظر إلى ما أمامها، فسأل ابن زياد: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

١٦٦

فلم تجبه، فأعاد سؤاله ثلاثاً وهي لا تجيبه، ثمّ أجابت عنها إحدى الإماء: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فاجترأ ابن زياد قائلاً: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم.

وقد كانت زينب (رضي الله عنها) حقّاً جديرة بنسبها الشّريف في تلك الرحلة الفاجعة التي تهدّ عزائم الرجال كانت كأشجع وأرفع ما تكون حفيدة مُحمّد وبنت عليّ وأخت الحُسين، وكُتب لها أن تحفظ بشجاعتها وتضحيتها بقية العقب الحُسيني من الذكور ولولاها لانقرض من يوم كربلاء فلم تمهل ابن زياد أن ثارت به قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يُفضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.

فقال ابن زياد: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعُصاة. فغلبها الحزن والغيظ من هذا التشفّي الذي لا ناصر لها منه، وقالت: لقد قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي واجتثثت

١٦٧

أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

فتهاتف ابن زياد ساخراً وقال: هذه سجّاعة لعمري، لقد كان أبوها سجّاعاً شاعراً. فقالت زينب: إنّ لي عن السّجاعة لشغلاً ما للمرأة والسّجاعة!

عليّ زين العابدينعليه‌السلام

ثمّ نظر ابن زياد إلى غلام عليل هزيل مع السيّدة زينب فسأله: مَن أنت؟ قال:(( عليّ بن الحُسين )) . قال: أو لم يقتل الله عليّ بن الحُسين؟ قال:(( كان لي أخ يُسمى عليّاً قتله النّاس )) .

فأعاد ابن زياد قوله: الله قتله. فقال عليّ:(( ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا (١) .وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) (٢) )).

فأخذت زياداً عزّة الإثم وانتهره قائلاً: وبك جرأة لجوابي؟!

____________________

(١) سورة الزمر / ٤٢.

(٢) سورة آل عمران / ١٤٥.

١٦٨

وصاح الخبيث الأثيم بجنده: اذهبوا به فاضربوا عُنقه.

فجاشت بعمّة الغلام قوّة لا يردّها سلطان، ولا يرهبها سلاح؛ لأنّها قوّة مَن هان لديه الموت وهانت عليه الحياة، فاعتنقت الغلام اعتناق مَن اعتزم ألاّ يفارقه إلاّ وهو جثة هامدة، وأقسمت لئن قتلته لتقتلني معه، فارتدّ ابن زياد مشدوهاً وهو يقول متعجباً: يا للرحم! إنّي لأظنها ودّت أنّي قتلتها معه. ثمّ قال: دعوه لما به كأنّه حسب أنّ العلّة قاضية عليه.

وعليّ هذا هو زين العابدين جدّ كلّ منتسب إلى الحُسينعليهما‌السلام ، وكان كما قال ابن سعد في الطبقات: ثقة كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً. وكما قال يحيى بن سعيد: أفضل هاشمي رأيته في المدينة ولولا استماتة عمّته - كما ترى - لقد كادت تذهب بهذه البقية الباقية كلمة على شفتي ابن زياد

الرّأس عند يزيد:

ولما قضى الخبيث نهمة كيده من الطواف برأس الحُسين في الكوفة وأرباضها، أنفذه ورؤوس أصحابه إلى دمشق مرفوعة على الرّماح، ثمّ أرسل النّساء والصبيان على الأقتاب، وفي الكرب عليّ زين العابدين مغلول إلى عنقه يقوده شمر بن ذي الجوشن ومحضر بن ثعلبة فتلاحق

١٦٩

الركبان في الطريق ودخلا الشّام معاً إلى يزيد.

وتكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند يزيد ولا نستغرب أن يتكرر بعضه حتّى يظنّ أنّه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين؛ لأنّ المناسبة في هذا المقام تستوحي ضرباً واحداً من التعقيب وضرباً واحداً من الحوار

فارتاع مَن بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم، وقال يحيى بن الحكم - وهو من الاُمويّين -:

لـهامٌ بـجنبِ الـطفِّ أدنـى قرابةً

من ابنِ زياد الوغلِ ذي الحسبِ الوغلِ

سُـميّةُ أمـسى نـسلُها عدد الحصى

وبـنتُ رسـول الله ليستْ بذي نسلِ

فأسكته يزيد وقال وهو يشير إلى الرأس وينكث ثناياه بقضيب في يده: أتدرون من أين اُتي هذا؟ إنّه قال: أبي عليّ خير من أبيه، واُمّي فاطمة خير من اُمّه، وجدّي رسول الله خير من جدّه، وأنا خير منه وأحقّ بهذا الأمر

فأمّا أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله وعلم النّاس أيّهما حُكم له؛ وأمّا اُمّه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من اُمّي؛ وأمّا جدّه فلَعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا ندّاً، ولكنّه اُتي من قبل فقهه ولم يقرأ:( قُلْ اللَّهُمَّ

١٧٠

مَالِكَ الملْكِ تُؤْتِي الملْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الملْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (١) .

وهو كلام يُنسب مثله إلى معاوية في ردّه على حجج عليّ في الخلافة ولعلّ يزيد قد استعاره من كلام أبيه وزاد عليه.

ونظر بعض أهل الشّام إلى السيّدة فاطمة بنت الحُسين - وكانت جارية وضيئة - فقال ليزيد: هَب لي هذه. فأرعدت وأخذت بثياب عمّتها فكان لعمّتها في الذود عنها موقف كموقفها بقصر الكوفة، ذياداً عن أخيها زين العابدين، وصاحت بالرجل: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له. فتغيّظ يزيد وقال: كذبت، إنّ ذلك لي، ولو شئت لفعلت. قالت: كلاّ والله، ما جعل الله لك ذلك، إلاّ أنْ تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فاشتدّ غيظ يزيد وصاح بها: إيّاي تستقبلين بهذا؟! إنّما خرج من الدين أبوك وأخوك. قالت: بدين الله ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وأبوك وجدّك. فلم يجد جواباً غير أن يقول: بل كذبت يا عدوة الله. فقالت: أنت أمير تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك.

فأطرق وسكت

____________________

(١) سورة آل عمران / ٢٦.

١٧١

واُدخل عليّ بن الحُسين مغلولاً، فأمر يزيد بفكّ غلّه وقال له: إيه يابن الحُسين أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سُلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

قال عليّ:(( ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) )). فتلا يزيد الآية:( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (٢) . ثمّ زوى وجهه وترك خطابه.

وكان لقاء نساء يزيد خيراً من لقائه؛ فواسين السيّدة زينب والسيّدة فاطمة ومن معهما، وجعلن يسألنهن عمّا سلبنه بكربلاء فيرددن إليهن مثله وزيادة عليه. وأحبّ يزيد أن يستدرك بعض ما فاته، فلجأ إلى النعمان بن بشير واليه الذي عزله من الكوفة لرفقه بدعاة الحُسين وأمره أن يُسيّر آل الحُسين إلى المدينة ويُجهّزهم بما يصلحهم.

وقيل: إنّه ودّع زين العابدين، وقال له: لعن الله ابن مرجانة أما والله، لو أنّي صاحب أبيك ما سألني خصلة أبداً إلاّ أعطيته إيّاها، ولدفعت الحتف عنه بكلّ ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكنّ الله قضى ما رأيت. يا بُني، كاتبني من المدينة، وأنّه إليَّ كلّ حاجة تكون لك.

____________________

(١) سورة الحديد / ٢٢ - ٢٣.

(٢) سورة الشّورى / ٣٠.

١٧٢

تبعة يزيد:

والنّاس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب وأهواء، يرجع كلّ منهم إلى مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.

فمنهم مَن يرى أنّه بريء من التبعة كلّ البراءة، ومنهم مَن يرى أنّه أقرّ فعلة ابن زياد ثمّ ندم عليها، ومنهم مَن يقول أنّه قد أمر بكلّ ما اقترفه ابن زياد وتوقّع حدوثه ولم يمنعه وهو مستطيع أن يمنعه لو شاء.

والثابت الذي لا جدال فيه، إن يزيداً لم يعاقب أحداً من ولاته كبر أو صغر على شيء ممّا اقترفوه في فاجعة كربلاء، وأنّ سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة اُولئك الولاة على وتيرة واحدة ممّا حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة - دار النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -، وتحكيم مسلم بن عقبة في رجالها ونسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكره وقلبه، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث على نقيض تدبيره وشعوره.

وما زال يزيد وأخلافه يأمرون النّاس بلعن عليّ والحُسين وآلهما على المنابر في أرجاء الدولة الإسلاميّة، ويستفتون مَن يفتيهم بإهدار دمهم وصواب عقابهم بما أصابهم. ومَن تجب لعنته على المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.

ومَن أفرط في سوء الظن، رجح عنده أنّ عبيد الله بن زياد كان على

١٧٣

إذن مستور بكلّ ما صنع، ويملي لهم في هذا الظن، أنّ استئصال ذرّيّة الحُسين من الذكور خطة تهمّ يزيد لوراثة الملك في بيته وعقبه، ويفيده أن يقدم عليها مستتراً من وراء ولاته ثمّ ينصل منها ويلقي بتبعتها عليهم، ولو لم يكن ذلك لكان عجيباً أنْ توكل حياة الحُسين وأبنائه وآله إلى والي الكوفة بغير توجيه من سيده ومولاه فقد كان الزمن الذي انقضى منذ خروج الحُسين من مكّة إلى نزوله بالطفّ على الفُرات، كافياً لبلوغ الخبر إلى يزيد ورجوع الرّسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة وغيره من الولاة، فإن لم يكن الأمر تدبيراً متّفقاً عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء والشناعة، وهي مساءة التهاون الذي لا تستقيم على مثله شئون دولة.

وقد روى ابن شريح اليشكري: أنّ عبيد الله صارحه بعد موت يزيد فقال: أمّا قتلي الحُسين، فإنّه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله. وهو كلام متّهم لا تقوم به حجّة على غائب قضى نحبه

ويبدو لنا أنّ الظنّ بتهاون يزيد هُنا أقرب إلى الظنّ بإيعازه وتدبيره؛ لأنّه جرى عليه طوال حكمه وألقى حبل ولاته على غاربهم وهو لاهٍ بصيده وعبثه، وأنّه ربما ارتاح في سريرته بادئ الأمر إلى فعلة ابن زياد وأعوانه، ولكنّه ما عتم أن رأى بوادر العواقب توشك أنْ تطبق عليه بالوبال من كلّ جانب، حتّى تيقّظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد إلى المحاسنة والاستدراك جهد ما استطاع، ولم يكن في

١٧٤

يقظته على هذا معتصماً بالحكمة والسّداد.

ولقد رأى البوادر منه غير بعيد، ولما تنقض ساعة على ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة ملكه فنعى ابن الحكم فعلة ابن زياد، وناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن ورأين، وبكى ابنه الورع الصالح معاوية، فكان يقول إذا سُئل: نبكي على بني اُميّة لا على الماضين من بني هاشم. ومهما تكن غفلة يزيد، فما أحد قط يلمح تلك البوادر ثمّ يجهل أنّها ضربة هوجاء لن تذهب بغير جريرة، ولن تهون جريرتها في الحاضر القريب ولا في الآتي البعيد.

والواقع أنّها قد استتبعت بعدها جرائر شتّى لا جريرة واحدة، وما تنقضي جرائرها إلى اليوم فلم تنقض سنتان حتّى كانت المدينة في ثورة حنق جارف يقتلع السدود ويخترق الحدود؛ لأنّهم حملوا إليها خبر الحُسين محمل التشهير والشماتة، وضحك واليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النّبي، فكان يتمثّل قول عمرو بن معد يكرب:

عجّتْ نساءُ بني زيادٍ عجّةً

كعجيجِ نسوتِنا غداةَ الأرنبِ

١٧٥

وكانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة وتنشد:

مـاذا تـقولونَ إنْ قال النّبيُّ لكُمْ

مـاذا فـعلتُمْ وأنـتم آخـر الاُممِ

بـعترتي وبـأهلي بـعد مُفتَقدي

مـنهُمْ أسارى ومنهمْ ضُرّجوا بدمِ

ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكُمْ

أنْ تخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فكان الاُمويّون يجيبون بمثل تلك الشماتة، ويقولون كما قال عمرو بن سعيد: ناعية كناعية عثمان.

ولا موضع للشماتة هُنا بالحُسين؛ لأنّه قد اُصيب على باب عثمان وهو يذود عنه ويجتهد في سقيه وسقي آل بيته ولكنّها شماتة هوجاء لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول.

ثورة المدينة:

وللقدر المتاح لجّت بالولاة الاُمويّين رغبتهم في تلفيق المظاهرات الحجازية، فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن اللاعج والأسى الدفين، وجعلوا همهم كلّه أنْ يكرهوا القوم على نسيان خطب الحُسين واصطناع الولاء المغتصب ليزيد، فحملوا إلى دمشق وفداً من أشراف

١٧٦

المدينة لم يلبثوا أنْ عادوا إليها منكرين لحكم يزيد مجمعين على خلع بيعته، وراحوا يقولون لأهل المدينة: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب.

وقال رئيسهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري - وهو ثقة عند القوم لصلاحه وزهده -: لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء - وكان له ثمانية بنين - لجاهدت بهم، وقد أعطاني وما قبلت عطاءه إلاّ لأتقوّى به.

والتهبت نار الثورة بالألم المكظوم والدعوة الموصولة، فأخرج المدنيون والي يزيد وجميع مَن بالمدينة من الاُمويّين ومواليهم، وأعلنوا خلعهم للبيعة وصدق ابن حنظلة النيّة، فكان يقدّم بنيه واحداً بعد واحد حتّى قُتلوا جميعاً وقُتل بعدهم؛ أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد وولاته.

وبدا في ثورة المدينة أنّ يزيد لم يستفد كثيراً ولا قليلاً من عبرة كربلاء؛ لأنّه سلّط على أهلها رجلاً لا يقلّ في لؤمه وغلّه وسوء دخلته، وولعه بالشر والتعذيب، وعبثه بالتقتيل والتمثيل، عن عبيد الله بن زياد، وهو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيّام إنْ لم يبادروا إلى طاعته، وكان شرطه

١٧٧

الذي سامهم إيّاه بعد اقتحام المدينة وانقضاء الأيّام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم: إنّهم يبايعون أمير المؤمنين على أنّهم خول له، يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء.

وإذا كان شيء أثقل على النّفوس من هذا الشّرط، وأقبح في الظلم من استباحة الأرواح والأعراض في جوار قبر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور على الغل والضغينة مثل مُسلم بن عقبة، كأنّه يلقي على النّاس وزر؛ مرض النفس ومرض الجسد ومرض الدم الذي أبلاه، ولم يبل ما في طويته من رجس ومكيدة، فاستعرض أهل المدينة بالسّيف جزراً كما يجزر القصاب الغنم، حتّى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار.

وأوقع - كما قال ابن كثير - من المفاسد العظيمة في المدينة النّبويّة ما لا يحد ولا يوصف ولم يكفه أن يسفك الدماء ويهتك الأعراض حتّى يلتذّ بإثارة الآمال والمخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم على السيف، فلمّا جاؤوه بمعقل بن سنان - صاحب رسول الله - هشّ له وتلقّاه بما يطمعه، ثمّ سأله: أعطشت يا معقل؟ حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودنا به أمير المؤمنين. فلمّا شربها قال له: أما والله، لا تبولها من مثانتك أبداً وأمر بضرب عنقه.

ويروي ابن قتيبة: أنّ عدد مَن قُتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه

١٧٨

ألف وسبعمئة، وسائرهم من النّاس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

وحادث واحد من حوادث التمثيل والاستباحة يدلّ على سائر الحوادث من أمثاله دخل رجل من جند مُسلم بن عقبة على امرأة نفساء من نساء الأنصار ومعها صبي لها، فقال: هل من مال؟ قالت: لا والله، ما تركوا لنا شيئاً. قال: والله، لتخرجنّ إليَّ شيئاً أو لأقتلنّك وصبيك هذا. فقالت له: ويحك! إنّه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله. فأخذ برجلِ الصبي والثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض.

وهو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها اُولئك الألوف من النّسوة والأطفال، والآباء والاُمّهات وقد مات هذا السّفاح وهو في طريقه إلى مكّة يهمّ بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة فدُفن في الطريق وتعقّبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنبشوا قبره وأحرقوه.

جريرة العدل:

ولم تنقض سنوات أربع على يوم كربلاء حتّى كان يزيد قد قضى نحبه، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكلّ مَن مدّ يداً إلى الحُسين وذويه

١٧٩

فسلط الله على قاتلي الحُسين كفؤاً لهم في النقمة والنكال، يفلّ حديدهم بحديده ويكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوابين من طلاب ثأر الحُسين، فأهاب بأهل الكوفة أن يكفّروا عن تقصيرهم في نصرته، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، وهو دفين مذال القبر في العراء

فلم ينجُ عبيد الله بن زياد، ولا عمرو بن سعد، ولا شمر بن ذي الجوشن، ولا الحصين بن نمير، ولا خولّي بن يزيد، ولا أحد ممّن اُحصيت عليهم ضربة أو كلمة، أو مدّوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء.

وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزّق وهدم الدور وتعقّب الهاربين، وجوزي كلّ قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله؛ فقُتل عبيد الله واُحرق، وقُتل شمر بن ذي الجوشن واُلقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات، وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة فكان بلاؤهم بالمختار عدلاً لا رحمة فيه، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.

ولحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية في مدى سنوات معدودات

١٨٠