الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 51697
تحميل: 6350

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51697 / تحميل: 6350
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقيل: إنّ هانئاً عرض على مُسلم بن عقيل بن أبي طالب أن يقتل عبيد الله بن زياد وهو عنده، وقيل: إنّ الذي عرض ذلك رجل من صحبة هانئ المقرّبين، فأبى مُسلم ما عرضه هذا وذاك، وهو يؤمئذ طلبة ذلك الوالي، وجنوده قد تعقّبوه وأهدروا دمه، وأجزلوا الوعود لمن يسلّمه أو يدلّ عليه، وقال: إنّا أهل بيت نكره الغدر. ولو أنّه بطش بابن زياد، لقد بطش يومئذ بأكبر أنصار يزيد

وليقل مَن شاء أنّ قتل ابن زياد كان صواباً راجحاً وأنّ التحرّج من قتله كان خطأ فادحاً من وجهة السّياسة أو من وجهة الأخلاق، فالذي لا يشكّ فيه أنّه إن كان صواباً فهو صواب سهل يستطيعه كثيرون، وإن كان خطأ فهو الخطأ الصعب الذي لا يستطيعه إلاّ القليلون

* * *

كذلك يقول من يقول: إنّ الأريحية التي سمت إليها طبائع أنصار الحسينعليه‌السلام ، إنّما هي أريحية الإيمان الذي يعتقد صاحبه أنّه يموت في نصرة الحُسين فيذهب لساعته إلى جنّات النّعيم فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون المنفعة وحدها باعث الإنسان إلى جميع أعماله، حتّى ما صدر منها عن عقيدة وإيمان، وينسون أنّ المنفعة وحدها لن تفسّر لنا حتّى الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرّائها الفرد طوعاً أو كرهاً في

٢١

خدمة نوعه، بل ينسون أنّ أنصار يزيد لا يكرهون جنّات النّعيم ولا يكفرون بها، فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحُسينعليه‌السلام ؟.. إنّهم لم يطلبوها؛ لأنّهم منقادون لغواية اُخرى، ولأنّهم لا يملكون عزيمة الإيمان ونخوة العقيدة، ولا تلك القوّة الخلقية التي يتغلبون بها على رهبة الموت ويقطعون بها وساوس التعلّق بالعيش والخنوع للمتعة القريبة. فلولا اختلاف الطبائع لظهر شغف النّاس جميعاً بجنّات النّعيم على نحو واحد، ومضى النّاس على سنّة واحدة في الأريحية والفداء، ومرجع الأمر إذن في آخر المطاف إلى فرق واضح بين طبائع الأريحيين وطبائع النفعيين.

وكذلك يقول من يقول: إنّ الأريحية في نفوس أنصار الحُسين كانت أريحية أفراد معدودين ثبتوا معه ولم يخذلوه إلى يومه الأخير وينسى هؤلاء إنّ الارتفاع ليقاس بالقمّة الواحدة كما يُقاس بالقمم الكثيرة، وأنّ الغور ليسبر في مكان واحد كما يسبر في كلّ مكان، وإنّما تكون الندرة هُنا أدلّ على جلالة المرتقى الذي تطيقه النّفس الواحدة أو الأنفس المعدودات، ولا تطيقه نفوس الأكثرين

* * *

فمدار الخلاف إذن في هذه الجولة التاريخية، إنّما هو الفارق الخالد بين مزاجين بارزين كائناً ما كان تفسير المفسّرين للعقائد الروحية والمطامع السّياسية، ولم يتلاق هذان المزاجان على تناحر وتناجز كما

٢٢

تلاقيا عامّة في النزاع بين الطالبيّين والاُمويّين، وخاصّة في النزاع بين الحُسين ويزيد.

فحياة الحُسين رضي الله عنه صفحة، لا صفحة تماثلها في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين، وبيان ما لكلّ منهما من عدّة للنجاح في كفاح الحياة، سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النّظر على الأمد القريب.

٢٣

٢٤

الخصومة:

أسباب التنافس

قبل أن يقف الحُسين ويزيد متناجزين، كانت الحوادث قد جمعت لهما أسباب التنافس والخصومة منذ أجيال، وكان هذا التنافس بينهما يرجع إلى كلّ سبب يوجب النفرة بين رجلين من العصبية، إلى الترات الموروثة، إلى السّياسة، إلى العاطفة الشّخصية، إلى اختلاف الخليقة والنشأة والتفكير

تنافس هاشم واُميّة على الزعامة قبل أن يولد معاوية فخرج اُميّة ناقماً إلى الشّام وبقي هاشم منفرداً بزعامة بني عبد مُناف في مكّة. فكان هذا أوّل انقسام وتقسيم بين الاُمويّين والهاشميين، هؤلاء يعتصمون بالشّام وهؤلاء يعتصمون بالحجاز

ثمّ علا نجم أبي سفيان بن حرب بن اُميّة في الحجاز، فأصبحت له زعامة مرموقة إلى جانب الزعامة الهاشمية. فلمّا ظهرت الدعوة المحمّدية أخذته الغيرة على زعامته، فكان في طليعة المحاربين للدعوة الجديدة. وندرت غزوة من الغزوات لم تكن فيها لأبي سفيان أصبع ظاهرة في تأليب القبائل وجمع الأموال. وشاءت المصادفات زمناً من الأزمان أن

٢٥

يظلّ وحده على زعامة قُريش في حربها للنبي (عليه الصّلاة والسّلام). فمات الوليد بن المغيرة زعيم مخزوم، ودان زُعماء تيم وبني عدن وغيرهم من البطون القرشية الصغيرة بالإسلام، وبقي أبو سفيان وحده على رأس الزعامة الجاهليّة والزعامة الاُمويّة في منازلة النّبي ومَن معه من المهاجرين والأنصار، وبلغ من تغلغل العداء في هذه الاُسرة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ أبا لهب عمّه كان أوحد أعمامه في الكيد له والتأليب عليه، وإنّما جاءه هذا من بنائه باُمّ جميل بنت حرب، اُخت أبي سفيان التي وصفها القرآن بأنّها (حمّالة الحطب)؛ كناية عن السّعي في الشرّ وتأريث نار البغضاء

ثمّ فُتحت مكّة، فوقف أبو سفيان ينظر إلى جيش المسلمين ويقول للعبّاس بن عبد المطلّب: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك اليوم عظيماً! فلمّا قال العبّاس: إنّها النّبوّة. قال: نعم إذن

وقد أسلم أبو سفيان وابنه معاوية عند فتح مكّة، وكان إسلام بيته أعسر إسلام عُرف بعد فتحها، فكانت زوجه هند بنت عتبة تصيح في القوم بعد إسلامه: اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه قبح من طليعة قوم هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم؟

* * *

وظلّ أبو سفيان إلى ما بعد إسلامه زمناً يحسب غلبة الإسلام غلبة عليه، فنظر إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة وهو بالمسجد نظرة الحائر المتعجّب وهو

٢٦

يقول لنفسه: ليت شعري بأي شيء غلبني! فلم يخف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله معنى هذه النّظرة، وأقبل عليه حتّى ضرب يده بين كتفيه وقال له:(( بالله غلبتك يا أبا سفيان )).

وكان في غزوة حنين يشهد هزيمة المسلمين الأولى فيقول: ما أراهم يقفون دون البحر! وقيل: إنّه كان في حروب الشّام يهتف كلّما تقدّم الرّوم: إيه بني الأصفر! فإذا تراجعوا عاد فقال: ويل لنبي الأصفر!.

* * *

وقد تألّفه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما استطاع قبل فتح مكّة وبعد فتحها، فتزوّج بنته اُمّ حبيبة قبل الفتح وجعل بيته بعد الفتح حرماً:(( مَن دخله فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن )). وأقامه على رأس المؤلّفة قلوبهم الذين يزاد لهم في العطاء؛ عسى أن يذهب ما في نفوسهم من الكراهة لغلبة الإسلام

ومع هذا كان المسلمون يوجسون منه، فلا ينظرون إليه ولا يُقاعدونه حتّى برم بذلك، وأحبّ أن يمسح ما بصدورهم من قبله فتوسّل إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه وأن يأمره فيقاتل الكفّار كما كان يُقاتل المسلمين.

ثمّ قبض النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجم الخلاف على مبايعة الخليفة بعده بين المهاجرين والأنصار وبين بعض الصحابة من جهة اُخرى فاشرأبّ

٢٧

أبو سفيان إلى هذه الفتنة، وخُيّل إليه أنّه مصيب بين فتوقها ثغرة ينفذ منها إلى السّيادة على قُريش، ثمّ السّيادة من هذا الطريق على الاُمّة الإسلاميّة بأسرها فدخل على عليّعليه‌السلام والعبّاس؛ يثيرهما ويعرض عليهما المعونة بما في وسعه من خيل ورجل، فنادى بهما: يا علي، وأنت يا عبّاس، ما بال هذا الأمر في أذلّ قبيلة من قُريش وأقلّها؟ والله، لو شئت لأملأنّها عليه - على أبي بكر - خيلاً ورجالاً، وآخذنّها عليه من أقطارها.

* * *

وهو لا ريب لم يغضب لأنّ الخلافة قد فاتت بني هاشم، ولا كان سرّه أن تصير الخلافة إليهم فتستقرّ فيهم قراراً لا طاقة له بتحويله لكنّه أراد خلافاً يفتح الباب لزعامة اُمويّة يملك بها زمام قُريش والدولة لعربية جمعاء

فلم يخف مقصده هذا على عليّ رضي الله عنه، وقال:(( لا والله، لا اُريد أن تملأها عليه خيلاً ورجالاً، ولولا أنّنا رأينا أبا بكر لذلك أهلاً ما خلّيناه وإيّاه )). ثمّ أنبه قائلاً:(( يا أبا سفيان، إنّ المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض، وإنّ المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم )).

وانقضت خلافة أبي بكر وخلافة عمر والاُمور تجري في مجراها الذي يأخذ على المطامع سبيلها، ويخيف أصحاب الفتن أن يبرزوا بها من جحورها

٢٨

حتّى قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الاُمويّون أيما انتصار؛ لأنّه رأس من رؤوسهم وابن عمّ قريب لزعماء بيوتهم، وأصبحت الدولة الإسلاميّة اُمويّة لا يطمع في خيراتها ولا ولاياتها إلاّ مَن كان من اُميّة أو من حزبها. فمروان بن الحكم وزير الخليفة الأكبر يغدق العطاء على الأقرباء ويحبسها عن سائر النّاس، ومعاوية بن أبي سفيان - والي الشّام - يجتذب إليه الأقرباء والأولياء ومن يرجى منهم العون ويخشى منهم الخلاف.

فلمّا قُتل عثمانرضي‌الله‌عنه كان المنتفعون بمناصب الدولة وأموالها جميعاً من الاُمويّين أو من صنائعهم المقرّبين، ومال السلطان إلى جانب اُميّة على كلّ جانب آخر من القرشيين وغير القرشيين.

* * *

لا جرم كان الصراع بعد ذلك صراعاً معروف النّهاية من مطلع البداية، فقتل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام غيلة وخلصت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان

ثمّ بايع اُناس من أهل العراق وفارس الحسن بن عليّ، فلم يستقم له أمرهم وضاق صدره بجدالهم ومحالهم، وكان رجلاً سكّيتاً يكره المنازعة ويجنح إلى العزلة، فصالح معاوية على شروط وفّى له معاوية بالمعجل منها والتوى عليها بمؤجّلها. وزاد على ذلك كما تواتر في شتّى الروايات أنّه أغرى امرأته جعدة بنت الأشعث بسمّه، ووعدها أن يزوّجها

٢٩

يزيد ويعطيها مئة ألف درهم، فوفّى بوعد المال ولم يف بوعد الزواج.

وقد أوصى الحسنرضي‌الله‌عنه أن يُدفن عند قبر جدّه إلاّ أن تخاف فتنة، فلمّا توفّي أرادوا دفنه حيث أوصى، فقام مروان بن الحكم وجمع بني اُميّة وزمرتهم ومنعوا مشيعيه فأنكر الحُسين عليهم منع سبط النّبي أن يُدفن إلى جوار جدّه، فقيل له: إنّ أخاك قال إذا خفتم الفتنة ففي مقابر المسلمين سعة، وهذه فتنة فسكت على مضض.

أهداف معاوية:

وقد كان معاوية ولا ريب ينوي أن يجعلها دولة اُمويّة متعاقبة في ذرّيّته من بعده، منذ تصدّى للخلافة وخلا له المجال من أقوى منافسيه، إلاّ أنّه كان يتردّد ويتكتّم ولا يفضي بنيته إلى أقرب المقرّبين إليه، ثمّ كبرت سنّه وخاف أن يُعجل عن قصده، فمهّد لبيعة ابنه يزيد بعض التمهيد وتوصّل إلى ذلك بما طاب له من وسيلة فلبّاه أهل الشّام وكتب بيعته إلى الآفاق.

ثمّ همّه أمر الحجاز، فكتب إلى مروان بن الحكم - عامله - أن يجمع من قبله لأخذ البيعة منهم ليزيد، فأبى مروان وأغرى رؤوس قريش بالإباء؛ لأنّه كان يتطلّع إلى الخلافة بعد معاوية ويحسبه أقدر عليها من يزيد، لما اشتهر به من نقص وعبث فعزله معاوية وولّى سعيد ابن العاص مكانه، فلم يجبه أحد إلى ما أراد. فكتب معاوية إلى عبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن الزُّبير، وعبد الله بن جعفر، والحُسين بن عليّعليه‌السلام ،

٣٠

وأمر عامله سعيداً أن يوصل كتبه إليهم ويبعث إليه بجواباتها، وقال لسعيد: فهمت ما ذكرت من إبطاء النّاس، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتباً فسلّمها إليهم ولتشدّ عزيمتك وتحسن نيتك، وعليك بالرّفق. وانظر حُسيناً خاصّة فلا يناله منك مكروه؛ فإنّ له قرابة وحقّاً عظيماً لا ينكره مُسلم ولا مُسلمة وهو ليث عرين، ولست آمنك إن ساورته ألاّ تقوى عليه.

* * *

فأعيت سعيد بن العاص كلّ حيلة في إقناع وجهاء النّاس وعامّتهم بهذه البيعة البغيضة، وخفّ معاوية إلى مكّة ومعه الجند وحقائب الأموال، ودعا بأولئك النّفر فقال لهم: قد علمتم سيرتي فيكم وصلتي لأرحامكم، يزيد أخوكم وابن عمّكم، وأردت أن تقدّموا يزيد باسم الخلافة وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمّرون وتجبون المال وتقسّمونه.

فأجاب عبد الله بن الزُّبير، وخيّره بين أن يصنع كما صنع رسول الله إذ لم يستخلف أحداً، أو كما صنع أبو بكر؛ إذ عهد إلى رجل ليس من بني أبيه، أو كما صنع عمر؛ إذ جعل الأمر شورى في ستّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه.

فقال معاوية مغضباً: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. والتفت إلى الآخرين يسألهم قائلاً: فأنتم فوافقوا ابن الزُّبير.

٣١

فقال متوعداً: اُعذر مَن أنذر إنّي كنت أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس فأحمل ذلك وأصفح، وأنّي قائم بمقالة فأقسم بالله لئن ردّ عليَّ أحدكم كلمة في مقامي هذا، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه، فلا يبقين رجل إلاّ على نفسه.

ثمّ أمر صاحب حرسه أن يقيم على رأس كلّ منهم رجلين مع كلّ واحد منهما سيف، وقال له: إن ذهب رجل منهم يردّ على كلمة بتصديق أو تكذيب، فليضرباه بسيفهما. ثمّ خرج بهم إلى المسجد ورقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: هؤلاء الرّهط سادة المسلمين وخيارهم، لا يُبرم أمر دونهم ولا يقضى إلاّ على مشورتهم، وإنّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوه على اسم الله.

فبايع النّاس وهكذا كانت البيعة ليزيد في الحجاز

* * *

ومات معاوية وهو يعلم أنّ بيعة كهذه لا تجوز ولا تؤمن عقباها فأوصى ابنه أنّه لا يخاف إلاّ هؤلاء من قريش: الحُسين بن عليّ، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزُّبير. قال: فأمّا عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك. وأمّا الحُسين

٣٢

بن عليّ فلا أظنّ أهل العراق تاركيه حتّى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإنّ له رحماً ماسّة وحقّاً عظيماً.

أمّا ابن الزُّبير فإنّه خب ضب، فإذا أمكنته فرصة وثب فإن هو فعلها فقدرت عليه، فقطعه إرباً إلاّ أن يلتمس منك صلحاً، فإن فعل فاقبل واحقن دماء قومك ما استطعت

خلافة يزيد:

وآل الأمر على هذا النحو إلى يزيد في سنة ستين للهجرة، وهو بين الرابعة والثلاثين والخامسة والثلاثين، ولكنّه دون أنداده في تجارب الأيّام، وليس حوله من المشيرين والنُصحاء أمثال المغيرة، وزياد، وعمرو بن العاص، وغيرهم من القروم الذين كانوا حول أبيه فتهيّب ما هو مقدم عليه، وكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، أن خُذ حُسيناً، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزُّبير، بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتّى يبايعوا، والسّلام.

فبعث الوليد إلى مروان بن الحكم يستشيره وكان مروان يريد الخلافة لنفسه، ولكنّه علم بعد موت معاوية وقيام يزيد أنّ الأمر اليوم أمر بني اُميّة، فإن خرج منهم فقد خرج منهم أجمعين. فنصح للوليد نصيحة ذات وجهين: ظاهرها الشدّة في الدعوة ليزيد، وباطنها السعي إلى الخلاص من يزيد ومنافسيه. فقال: أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة، أمّا ابن عمر فلا أراه يرى القتال، ولكن

٣٣

عليك بالحُسين وعبد الله بن الزُّبير، فإن بايعا وإلاّ فاضرب أعناقهما

وضرب عنق الحُسين وابن الزُّبير معناه الخلاص من أعظم المنافسين ليزيد ثمّ الخلاص من يزيد نفسه بإثارة النفوس وإيغار الصدور عليه.

* * *

وقد ذهب رسول الوليد إلى الحُسين وابن الزُّبير، فوجدهما في المسجد فعلم الحُسين ما يُراد منه، وجمع طائفة من مواليه يحملون السّلاح، وقال لهم وهو يدخل بيت الوليد:(( إنّ دعوتكم أو سمعتم صوتي قد علا فاقتحموا عليّ بأجمعكم، وإلاّ فلا تبرحوا حتّى أخرج إليكم )).

فلمّا عرضوا عليه البيعة ليزيد، قال:(( أمّا البيعة، فإنّ مثلي لا يعطي بيعته سرّاً، ولا أراك تقنع بها منّي سرّاً )). قال الوليد: أجل. قال الحُسين:(( فإذا خرجت إلى النّاس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا معهم فكان الأمر واحداً )).

ثمّ انصرف ومروان غاضب صامت لا يتكلّم وما هو إلاّ أن توارى الحُسين حتّى صاح بالوليد: عصيتني والله، لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه.

فأنكر الوليد لجاجته وقال له: أتشير عليّ بقتل الحُسين؟! والله، إنّ

٣٤

الذي يحاسب بدم الحُسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله.

* * *

وهكذا انتهت المنافسة بين بني اُميّة وبني هاشم إلى مفترق طرق لا سبيل فيه إلى توفيق، ولم تنقطع قط سلسلة هذه المنافسة منذ أجيال وإن غلبها الإسلام في عهد النّبوّة، وفي عهد الصدّيق والفاروق.

وكفى بالإسلام فضلاً في هذا المجال أنّه غلب العصبية بالعقيدة، فجعلها تابعة لها غير قادرة على الجهر بمخالفتها، ولكن العصبية المكبوحة عصبية موجودة غير معدومة

* * *

وكثيراً ما يفلت المكبوح من عنانه، وإن طالت به الرياضة والانقياد.

فاتفق كثيراً في مساجلات شتّى بين كبار الصحابة، أن بدرت إلى اللسان بوادر العصبية والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاضر، فلمّا أشار عمر بقتل أبي سفيان - على خلاف رأي العبّاس في استبقائه وتألّفه - قال العبّاس: مهلاً يا عمر! فو الله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قُلت مثل هذا ولكنّك قد عرفت أنّه من رجال عبد مُناف.

ولما توثّب أسيد بن حضير لضرب أعناق المفترين على السيّدة عائشة، ثار به سعد بن عبادة وصاح به: كذبت لعمر الله، ما تضرب أعناقهم.

٣٥

أما والله، ما قلت هذه المقالة إلاّ أنّك قد عرفت أنّهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك - الأوس - ما قُلت هذا

وقد مات الفاروق وهو يوصي عليّاً فيقول: اتقِ الله يا عليّ إن وليت شيئاً، فلا تحملن بني هاشم على رقاب المسلمين ثمّ يلتفت إلى عثمان فيقول له: اتقِ الله إن وليت شيئاً، فلا تحملن بني اُميّة على رقاب المسلمين

* * *

ومن عجائب الحيل التي تحاول بها الغرائز الإنسانيّة أن تبقي وجودها وتمضي لطيّتها، أنّ بني اُميّة انتفعوا من حرب الإسلام للعصبية في تعزيز عصبيتهم، فجعلوها حجّة على بني هاشم أنّ النّبوّة لا تحصر الأمر فيهم وأنّ الأنبياء لا يورثون وإذا نهضت هذه الحجّة على بني هاشم، فبنو اُميّة أقوى المنتفعين بها من بطون عبد مُناف.

وقد أوجبت الضرورة قبول المجاملة في هذه المنافسات فترة من الزمن على عهد معاوية بن أبي سفيان، فكان يلطّف القول إلى أبناء عليّ ويواليهم بالهدايا والمجاملات، ولكنّه كان مضطرّاً إلى مجاملة آل عليّ ومضطرّاً إلى تنقّص عليّ والغض من دعواه، فكان بذلك مضطرّاً إلى النقيضين في آن.

إنّه ملك وبايع بالملك ليزيد وهو يعلم أنّه غالب بالسلاح والمال، مغلوب بالسمعة والشعور. فكان النّاس يفضّلون عليّاً عليه وهو لا يملك

٣٦

أن يفاضله بقرابة النّبي، ولا بالسّابقة إلى الإسلام، ولا بالعراقة في قُريش. فتجنب النّسب والسّابقة، وعمد إلى شخص عليّ في منازعات الخلافة، فاتهمه بتفرقة الكلمة بين المسلمين، وأمر بلعنه على المنابر عسى أن يضعف من تلك المكانة التي هو مغلوب بها ويستبقي الدولة التي هو بها غالب ولجّ في ذلك حتّى قتل اُناساً لم يطيعوه في لعن عليّ واتهامه، وأبى أن يُجيب الحسن بن عليّ إلى شرطه الذي أراد به أن يرفع اللعن عن أبيه وكان معاوية على حصافته يجهل أنّه قد أضاع سمعة وشعوراً من حيث حارب عليّاً في مقام السُمعة والشعور

وإنّ مجاملة كهذه التي تحيى الرّجل وتغضّ من قدر أبيه لهي أضعف مجاملة بين متلاقيين، فضلاً عن خصمين متنافسين قد آل بهما التنافس بعد أجيال إلى مفترق الطريق.

زواج الحُسينعليه‌السلام :

وكأنّما كانت هذه المنافسة المؤصّلة الجذور لا تكفي قصاص التاريخ، فأضاف إليها اُناس من ثقاتهم قصّة منافسة اُخرى هي وحدها كافية للنفرة بين قلبين متآلفين؛ وهي قصّة زواج الحُسينرضي‌الله‌عنه اُرينب بنت إسحاق التي كان يهواها يزيد هوى أدنفه وأعياه.

وكانت زينب هذه - على ما قيل - أشهر فتيات زمانها بالجمال، وكانت زوجة لعبد الله بن سلام القرشي والي العراق من قبل معاوية، فمرض يزيد بحبّها وأخفى سرّه عن أهله حتّى استخرجه منه بعض

٣٧

خصيان القصر الذين يعينونه على شهواته فلمّا علم أبوه سرّ مرضه، أرسل في طلب عبد الله بن سلام واستدعى إليه أبا هريرة وأبا الدرداء، فقال لهما: إنّ له ابنة يريد زواجها ولم يرض لها خليلاً غير ابن سلام؛ لدينه وفضله وشرفه، ورغبة معاوية في تكريمه وتقريبه.

فخدع ابن سلام بما بلغه وفاتح معاوية في خطبة ابنته، فوكّل معاوية الأمر إلى أبي هريرة ليبلّغها ويستمع جوابها. فكان جوابها المتفق عليه بينها وبين أبيها أنّها لا تكره ما اختاروه، ولكنّها تخشى الضرّ وتشفق أن يسوقها إلى ما يغضب الله. فطلّق ابن سلام زوجته واستنجز معاوية وعده فإذا هو يلويه به ويقول بلسان ابنته إنّها توجس من رجل يطلّق زوجته وهي ابنة عمّه وأجمل نساء عصره

* * *

وقيل: إنّ الحُسين سمع بهذه المكيدة، فسأل أبا هريرة أن يذكره عند زينب خاطباً فصدع أبو هريرة بأمره وقال لزينب: إنّك لا تعدمين طلاباً خيراً من عبد الله بن سلام.قالت: مَن؟ قال: يزيد بن معاوية والحُسين بن عليّ، وهُما معروفان لديك بأحسن ما تبتغينه في الرّجال.

واستشارته في اختيار أيّهما، فقال: لا أختار فم أحد على فم قبّله رسول الله، تضعين شفتيك في موضع شفتيه.

فقالت: لا أختار على الحُسين بن عليّ أحداً وهو ريحانة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد شباب أهل الجنّة.

٣٨

فقال معاوية متغيظاً:

أنعمي اُمَّ خالدِ

رُبَّ سَاعٍ لِقاعِدِ

ولم يلبث الحُسينعليه‌السلام أن ردّها إلى زوجها، قائلاً:(( ما أدخلتها في بيتي وتحت نكاحي رغبة في مالها ولا جمالها، ولكن أردت إحلالها لبعلها )).

* * *

فإن صحّت هذه القصّة وهي متواترة في تواريخ الثقات، فقد تمّ بها ما نقص من النفرة والخصومة بين الرّجلين، وكان قيام يزيد على الخلافة يوم فصل في هذه الخصومة، لا يقبل الإرجاء، وكان بينهما كما أسلفنا مفترق طريق

٣٩

٤٠