الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 51699
تحميل: 6350

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51699 / تحميل: 6350
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولكنّه كان يعطي من قصده من ذوي الحاجات ولا يخيّب رجاء لمن استعان به على مروءة.

وفاء وشجاعة:

وقد اشتهر مع الجود بصفتين من أكرم الصفات الإنسانيّة وأليقهما ببيته وشرفه، وهُما الوفاء والشّجاعة؛ فمن وفائه أنّه أبى الخروج على معاوية بعد وفاة أخيه الحسن؛ لأنّه عاهد معاوية على المسالمة، وقال لأنصاره الذين حرّضوه على خلع معاوية: إن بينه وبين الرّجل عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتّى تمضي المدة. وكان معاوية يعلم وفاءه وجوده معاً، فقال لصحبه يوماً وقد أرسل الهدايا إلى وجوه المدينة من كسي وطيب وصلات: إن شئتم أنبأناكم بما يكون من القوم أمّا الحسن فلعلّه ينيل نساءه شيئاً من الطيب ويهب ما بقي مَن حضره ولا ينتظر غائباً، وأمّا الحُسين فيبدأ بأيتام من قُتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن

وشجاعة الحُسين صفة لا تستغرب منه؛ لأنّها الشيء من معدنه كما قيل، وهي فضيلة ورثها عن الآباء وأورثها الأبناء بعده، وقد شهد الحروب في افريقية الشّمالية وطبرستان والقسطنطينية، وحضر مع أبيه وقائعه جميعاً من الجمل إلى صفّين. وليس في بني الإنسان مَن هو أشجع قلباً ممّن أقدم على ما أقدم عليه الحُسين في يوم كربلاء.

٦١

وقد تربّى للشجاعة كما تلقاها في الدم بالوراثة، فتعلّم فنون الفروسية كركوب الخيل والمصارعة والعدو من صباه، ولم تفته ألعاب الرياضة التي تتمّ بها مرانة الجسم على الحركة والنّشاط ومنها لعبة تشبه الجولف عند الأوروبيّين كانوا يسمونها المداحي ( جمع مدحاة ): وهي أحجار مثل القرصة يحفرون في الأرض حفرة ويرسلون تلك الأحجار، فمن وقع حجره في الحفيرة فهو الغالب.

* * *

أمّا عاداته في معيشته، فكان ملاكها لطف الحسّ وجمال الذوق والقصد في تناول كلّ مباح، كان يحبّ الطيب والبخور، ويأنق للزهر والريحان. وروى أنس بن مالك: أنّه كان عنده فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان فحيّته بها، فقال لها:(( أنت حرّة لوجه الله تعالى )). فسأله أنس - متعجباً -: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! قال:(( كذا أدّبنا الله قال تبارك وتعالى: ( وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا ) (١) ...وكان أحسن منها عتقها )).

وكان يميل للفكاهة ويأنس في أوقات راحته لأحاديث أشعب وأضاحيكه، ولكنّه على شيوع الترف في عصره لم يكن يقارب منه إلاّ

____________________

(١) سورة النّساء / ٨٦.

٦٢

ما كان يجمل بمثله، حتّى تحدّث المتحدثون: أنّه لا يعرف رائحة الشّراب وكانت له صلوات يؤدّيها غير الصّلوات الخمس، وأيّام من الشّهر يصوم نهارها ويقوم ليلها

وقد عاش سبعاً وخمسين سنة بالحساب الهجري، وله من الأعداء من يصدقون ويكذبون فلم يعبه أحد منهم بمعابة ولم يملك أحد منهم أن ينكر ما ذاع من فضله، حتّى حار معاوية بعيبه حين استعظم جلساؤه خطاب الحُسين له، واقترحوا عليه أن يكتب إليه بما يصغّره في نفسه، فقال: إنّه كان يجد ما يقوله في عليّ، ولكن لا يجد ما يقوله في حُسين.

تلك جملة القول في سيرة أحد الخصمين

خُلق يزيد:

ويقف خصمه أمامه موقف المقابلة والمناقضة لا موقف المقارنة والمعادلة في معظم خلائقه وعاداته وملكاته وأعماله.

فيزيد بن معاوية عريق النّسب في بني عبد مُناف ثمّ في قريش، ولكن الأصدقاء والخصوم والمادحين والقادحين متّفقون على وصف الخلائق التي اشتهر بها أبناء هذا الفرع من عبد مُناف, وأشهرها الأثرة،

٦٣

وأحمد ما يُحمد منها أنّها تنفع النّاس من طريق النّفع لأصحابها، وندر من وجوه الاُمويّين في الجاهليّة أو الإسلام من اشتهر بخصلة تجلب إلى صاحبها ضرراً أو مشقّة في سبيل نفع النّاس

وبيت أبي سفيان بيت سيادة مرعية لا مراء فيها ولكن الحقيقة التي ينبغي أنْ نذكرها في هذا المقام: إنّ معاوية بن أبي سفيان لم يكن ليرث شيئاً من هذه السّيادة التي كان قوامها كلّه وفرة المال، لأنّ أبا سفيان - على ما يظهر - قد أضاع ماله في حروب الإسلام ولم يكن له من الوفر ما يبقى على كثرة الورّاث. وروي أنّ امرأة استشارت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في التزوّج بمعاوية، فقال لها:(( إنّه صعلوك )).

كذلك ينبغي أنْ نذكر حقيقة اُخرى في هذا المقام، وهي أنّ معاوية لم يكن من كتّاب الوحي - كما أشاع خدّام دولته بعد صدر الإسلام -، ولكنّه كان يكتب للنبيعليه‌السلام في عامّة الحوائج وفي إثبات ما يُجبى من الصدقات وما يُقسّم في أربابها، ولم يُسمع عن ثقة قط أنّه كتب للنبي شيئاً من آيات القرآن الكريم.

وعُرفت لمعاوية خصال محمودة من خصال الجدّ والسّيادة؛ كالوقار والحلم والصبر والدهاء، ولكنّه على هذا كان لا يملك حلمه في فلتات تميد بالملك الرّاسخ، ومنها قتله حجر بن عدي وستة من أصحابه؛ لأنّهم كانوا

٦٤

ينكرون سبّ عليّ وشيعته، فما زال بقية حياته يندم على هذه الفعلة ويقول: ما قتلت أحّداً إلاّ وأنا أعرف فيم قتلته، ما خلا حجراً فإنّي لا أعرف بأيّ ذنب قتلته!

واُمّ يزيد هي ميسون بنت مجدل الكلبية من كرائم بني كلب المعرّقات في النّسب، وهي التي كرهت العيش مع معاوية في دمشق وقالت تتشوق إلى عيش البادية:

لـلبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني

أحبُّ إليَّ منْ لبسِ الشّفوفِ

وبـيتٌ تخفق الأرواحُ فيه

أحبُّ إليَّ منْ قصرٍ منيفِ

ومن هذه الأبيات قولها:

وخِرقٌ منْ بني عمِّي فقيرٌ

أحبُّ إليَّ منْ علجٍ عنيفِ

فأرسلها وابنها يزيد إلى باديتها، فنشأ يزيد مع اُمّه بعيداً عن أبيه.

* * *

وقد أفاد من هذه النشأة البدوية بعض أشياء تنفع الأقوياء، ولكنّها على ما هو مألوف في أعقاب السّلالات القويّة تضيرهم وتجهز على ما بقي من العزيمة فيهم

٦٥

فكان ما استفاده من بادية بني كليب بلاغة الفُصحى، وحُبّ الصيد، وركوب الخيل، ورياضة الحيوانات ولا سيّما الكلاب.

وهذه صفات في الرّجل القوي تزينه وتشحذ قواه، ولكنّها في أعقاب السّلالات أو عكارة البيت - كما يُقال بين العامّة - مدعاة إلى الإغراق في اللهو والولع بالفراغ؛ لأنّها هي عنده كلّ شيء وليست مدداً لغيرها من كبار الهمم وعظائم الهموم.

وهكذا انقلبت تلك الصفات في يزيد من المزية إلى النّقيصة فكان كلفه بالشعر الفصيح مغرياً له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، وكان ولعه بالصيد شاغلاً يحجبه عن شواغل الملك والسّياسة، وكانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين والفهادين، فكان له قرد يدعوه ( أبا قيس )، يُلبسه الحرير ويطرّز لباسه بالذهب والفضّة ويحضره مجالس الشراب، ويركبه أتاناً في السّباق ويحرص على أن يراه سابقاً مجلياً على الجياد، وفي ذلك يقول يزيد كما جاء في بعض الرّوايات:

تـمسَّك أبـا قيسٍ بفضلِ عنانها

فـليسَ عليها إنْ سقطتَ ضمانُ

ألا منْ رأى القردَ الذي سبقتْ بهِ

جـيادَ أمـير الـمؤمنين أتـانُ

٦٦

وقد يكون عبد الله بن حنظلة مُبالغاً في المذمّة حين قال فيما نُسب إليه: والله، ما خرجنا مع يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السّماء، إنّ رجلاً ينكج الاُمّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله، لو لم يكن معي أحد من النّاس، لأبليت الله فيه بلاء حسناً.

* * *

ولكن الرّوايات لم تجمع على شيء كإجماعها على إدمانه الخمر، وشغفه باللذات، وتوانيه عن العظائم وقد مات بذات الجنب وهو لما يتجاوز السّابعة والثلاثين، ولعلّها إصابة الكبد من إدمان الشراب والإفراط في اللذات. ولا يعقل أن يكون هذا كلّه اختلاقاً واختراعاً من الأعداء؛ لأنّ النّاس لم يختلقوا مثل ذلك على أبيه أو على عمرو بن العاص وهُما بغيضان أشدّ البغض إلى أعداء الاُمويّين ولأنّ الذين حاولوا ستره من خدّام دولته لم يحاولوا الثناء على مناقب فيه تحلّ عندهم محلّ مساوئه وعيوبه، كأن الاجتراء على مثل هذا الثناء من وراء الحسبان.

ولم يكن هذا التخلّف في يزيد من هزال في البنية أو سقم اعتراه كذلك السّقم الذي يعتري أحياناً بقايا السّلالات التي تهمّ بالانقراض والدثور، ولكنّه كان هزالاً في الأخلاق وسقماً في الطوية قعد به عن العظائم مع وثوق بنيانه وضخامة جثمانه واتصافه ببعض الصفات الجسدية

٦٧

التي تزيد في وجاهة الاُمراء كالوسامة وارتفاع القامة وقد اُصيب في صباه بمرض خطير - وهو الجدري - بقيت آثاره في وجهه إلى آخر عمره، ولكنّه مرض كان يشيع في البادية ولم يكن من دأبه أن يقعد بكلّ من اُصيب به عن الطموح والكفاح.

* * *

وعلى فرط ولعه بالطراد حين يكون الطراد لهواً وفراغاً، كانت همّته الوانية تفترّ به عن الطراد حين تتسابق إليه عزائم الفرسان في ميادين القتال ولو كان دفاعاً عن دينه ودُنياه.

فلمّا سيّر أبوه جيش سفيان بن عوف إلى القسطنطينية لغزو الرّوم ودفاعاً عن بلاد الإسلام - أو بلاد الدولة الاُمويّة -، تثاقل وتمارض حتّى رحل الجيش، وشاع بعد ذلك أنّه اُمتحن في طريقه ببلاء المرض والجوع، فقال يزيد:

ما أن أُبالي بما لاقتْ جُمُوعهم

بالفرقدُونةِ من حمّى ومنْ مُومِ

إذا اتكأتُ على الأنماطِ مرتفقاً

بـدَيرِ مـرّان عندي أُم كلثومِ

فأقسم أبوه حين بلغه هذان البيتان ليلحقن بالجيش؛ ليدرأ عنه عار

٦٨

النكول والشّماتة بجيش المسلمين بعد شيوع مقاله في خلواته

* * *

ومن أعجب عجائب المناقضة التي تمّت في كلّ شيء بين الحُسين ويزيد، أنّ يزيد لم يختصّ بمزية محمودة تقابل نظائرها من مزايا الحُسين، حتّى في تلك الخصال التي تأتي بها المصادفة ولا فضل فيها لأصحابها ومنها مزية السن وسابقة الميلاد فلمّا تنازعا البيعة كان الحُسين في السّابعة والخمسين مكتمل القوّة ناضج العقل وفي المعرفة بالعلم والتجربة، وكان يزيد في نحو الرّابعة والثلاثين لم يمارس من شئون الرّعاة ولا الرّعية ما ينفعه بين هؤلاء أو هؤلاء.

ومزيّة السن هذه قد يطول فيها الأخذ والرّد بين أبناء العصور الحديثة، ولكنّها كانت تقطع القول في اُمّة العرب، حيث نشأ الأسلاف والأخلاف على طاعة الشّيوخ ورعاية الأعمار وهذا على أنّ السّابعة والخمسين ليست بالسن التي تعلو بصاحبها في الكبر حتّى تسلبه مزيّة الفتوّة ومضاء العزيمة

كذلك لا يُقال أنّ الوراثة المشروعة في الممالك كان لها شأن يرجح بيزيد على الحُسين في ميزان العروبة والإسلام. فقد كان توريث معاوية ابنه على غير وصية معروفة من السّلف بدعة هرقلية كما سمّاها المسلمون

٦٩

في ذلك الزمان، ولم يكن معقولاً أنّ العرب في صدر الإسلام يوجبون طاعة يزيد لأنّه ابن معاوية وهّم لم يوجبوا طاعة آل النّبي في أمر الخلافة لأنّهم قرابة مُحمّدعليه‌السلام .

فقد شاءت عجائب التاريخ إذن أن تقيم بين ذينك الخصمين قضية تتضح فيها النزعة النفعية على نحو لم تتضحه قط في أمثالها من القضايا، وقد وجب أن ينخذل يزيد كلّ الخذلان لولا النزعة النفعية التي أعانته وهو غير صالح لأن يستعين بها بغير أعوان من بطانته وأهله، ولئن كان في تلك النزعة النفعية مسحة تشوبها من غير معدنها الوضيع لتكونن هي عصبية القبيلة من بني اُميّة، وهي هُنا نزعة مواربة تعارض الإيمان الصريح ولا تسلم من الختل والتلبيس.

* * *

لهذا شكّ بعض النّاس في إسلام ذلك الجيل من الاُمويّين، وهو شكّ لا نرتضيه من وجهة الدلائل التاريخية المتّفق عليها. فقد يخطر لنا الشكّ في صدق دين أبي سفيان؛ لأنّ أخباره في الإسلام تحتمل التأويلين، ولكن معاوية كان يؤدّي الفرائض ويتبرّك بتراث النّبي ويوصي أن تُدفن معه أظافره التي حفظها إلى يوم وفاته. وليس بيسير علينا أن نفهم كيف ينشأ معاوية الثاني على تلك التقوى وذلك الصلاح وهو ناشئ في بيت مدخول الإسلام، ويتصارح أهله أحياناً بما ينمّ على الكفر به أو التردّد فيه

٧٠

إنّما هي الأثرة، ثمّ الخرق في السّياسة، ثمّ التمادي في الخرق مع استثارة العناد والعداء. وفي تلك الأثرة ولواحقها ما ينشئ المقابلة من أحد طرفيها في هذه الخصومة، ويتمّ المناظرة في شتّى بواعثها بين ذينك الخصمين الخالدين، ونعني بهما هُنا المثالية والواقعية، وما الحُسين واليزيد إلاّ المثالان الشّاخصان منهما للعيان

* * *

٧١

٧٢

أعوان الفريقين

رجال المعسكرين:

كان الحُسين في طريقه إلى الكوفة - يوم دعاه شيعته إليها - يسأل من يلقاهم عن أحوال النّاس فينبئونه عن موقفهم بينه وبين بني اُميّة، وقلّما اختلفوا في الجواب

سأل الفرزدق وهو خارج من مكّة - والفرزدق مشهور بالتشيّع لآل البيتعليهم‌السلام - فقال له: قلوب النّاس معك وسيوفهم مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السّماء، والله يفعل ما يشاء.

وقال له مجمع بن عبيد العامري: أمّا أشراف النّاس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائزهم فهم ألب واحد عليك، وأمّا سائر النّاس بعدهم فإنّ قلوبهم تهوى إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك.

وقد أصاب الفرزدق وأصاب مجمع بن عبيد، فإنّ النّاس جميعاً كانوا بأهوائهم وأفئدتهم مع الحُسين بن عليّ ما لم تكن لهم منفعة موصولة بمُلك بني اُميّة، فهم إذن عليه بالسّيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب.

٧٣

وقد أعظمت الرّشوة للرؤساء وأعظمت لهم من بعدها الوعود والآمال، فعلموا أنّ دوام نعمتهم من دوام مُلك بني اُميّة

فأمّا الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزل عن الملك القائم، فقد كانوا ينصرون حُسيناً ولا ينصرون الاُمويّين أو كانوا يصانعون الاُمويّين ولا يبلغون بالمصانعة أن يشهروا الحرب على الحُسين.

ومن هؤلاء؛ هانئ بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، وشريك بن الأعور، وسليمان بن صرد الخزاعي، وكلاهما من ذوي الشّرف والدين.

بل كان من العاملين لبني اُميّة من يخزه ضميره إذا بلغ العداء للحُسين أشدّه، فيترك معسكر بني اُميّة ليلوذ بالمعسكر الذي كتب عليه الموت والبلاء، كما فعل الحرّ بن يزيد الرّياحي في كربلاء وقد رأى القوم يهمّون بقتل الحُسين ولا يقنعون بحصاره، فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: أمُقاتل أنت هذا الرّجل؟

فلمّا قال: نعم، ترك الجيش الأموي وذهب يقترب من الحُسين حتّى داناه، فقال له: جُعلت فداك يابن رسول الله! أنا صاحبك حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم. ووالله، لو علمت أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإنّي تائب إلى الله ممّا صنعت، فهل ترى لي من توبة؟

فقبل الحُسين توبته وجعل الرّجل يُقاتل من ساعتها حتّى قُتل،

٧٤

وآخر كلمة على لسانه فاه بها: السّلام عليك يا أبا عبد الله.

* * *

فمجمل ما يقال على التحقيق انه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلاّ وهو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام.

ولقد كان لمعاوية مشيرون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، وأضرابهم من اُولئك الدهاة الذين يسمّيهم التاريخ أنصار دول وبناة عروش وكان لهم من سمعة معاوية وذرائعه شعار يدارون به المطامع ويتحللون من التأثيم، لكن هؤلاء بادوا جميعاً في حياة معاوية، ولم يبقَ ليزيد مشير واحد ممّن نسمّيهم بأنصار الدول وبناة العروش، وإنّما بقيت له شرذمة على غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أمروا بقتله ويقبضون الأجر فرحين ...

فكان أعوان معاوية ساسة وذوي مشورة، وكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبير، وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطغمة

٧٥

من النّاس، ونعني به مثال المسخاء المشوهين اُولئك الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيّما مَن كان منهم على سواء الخلق وحسن الأحدوثة، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه وإن لم ينتفعوا بأجر أو غنيمة، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تُعرف له حدود

وشرّ هؤلاء جميعاً هُم: شمر بن ذي الجوشن، ومُسلم بن عقبة، وعبيد الله بن زياد، ويلحق بزمرتهم على مثال قريب من مثالهم عمر بن سعد بن أبي وقاص؛ فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة، وكان يصطنع المذهب الخارجي ليجعله حجة يحارب بها عليّاً وأبناءه، ولكنّه لا يتخذه حجّة ليحارب بها معاوية وأبناءه كأنّه يتّخذ الدين حجّة للحقد، ثمّ ينسى الدين والحقد في حضرة المال.

* * *

ومُسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ إنسان، وكان أعور أمغر ثائر الرّأس، كأنّما يقلع رجليه من وحل إذا مشي. وقد بلغ من ضراوته بالشرّ وهو شيخ فانٍ مريض، أنّه أباح المدينة في حرم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أيّام، واستعرض أهلها بالسّيف جزراً كما يجزر القصّاب الغنم حتّى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين

٧٦

والأنصار وذرّيّة أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كلّ من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنّه عبدٌ قنٌّ لأمير المؤمنين

وانطلق جنده في المدينة إلى جوار قبر النّبي يأخذون الأموال ويفسقون بالنّساء، حتّى بلغ القتلى في تقدير الزهري سبعمئة من وجوه النّاس وعشرة آلاف من الموالي، ثمّ كتب إلى يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر المتهلل، فقال بعد كلام طويل:

فأدخلنا الخيل عليهم فما صلّيت الظهر أصلح الله أمير المؤمنين إلاّ في مسجدهم بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم وأوقعنا بهم السّيوف وقتلنا من أشرف لنا منهم واتبعنا مدبرهم وأجهزنا على جريحهم وانتهبناها ثلاثاً كما قال أمير المؤمنين أعزّ الله نصره، وجعلت دور بني الشّهيد عثمان بن عفان في حرز وأمان، والحمد لله الذي شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنّفاق العظيم، فطالما عتوا وقديماً ما طغوا، أكتب هذا إلى أمير المؤمنين وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفاً مريضاً ما أراني إلاّ لما بي فما كنت أبالي متى متّ بعد يومي هذا

* * *

وكلّ هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة إنّما هو الحقد في طبائع المسخاء الشّائهين يوهم نفسه أنّه الحقد من ثأر عثمان أو من خروج قوم على مُلك يزيد

وكان عُبيد الله بن زياد متّهم النّسب في قريش؛ لأنّ أباه زياداً كان

٧٧

مجهول الأب، فكانوا يسمونه زياد بن أبيه، ثمّ ألحقه معاوية بأبي سفيان؛ لأنّ أبا سفيان ذكر بعد نبوغ زياد، أنّه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغياً فجاءوه بجارية تدعى سميّة، فقالت له بعد مولد زياد: أنّها حملت به في تلك الليلة. وكانت اُمّ عبيد الله جارية مجوسية تدعى مرجانة، فكانوا يعيرونه بها وينسبونه إليها.

ومن عوارض المسخ فيه - وهي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن والمهانة - إنّه كان ألكن اللسان لا يقيم نطق الحروف العربيّة، فكان إذا عاب الحروري من الخوارج، قال: هروري. فيضحك سامعوه، وأراد مرّة أن يقول: اشهروا سيوفكم. فقال: افتحوا سيوفكم فهجاه يزيد بن مفرغ قائلاً:

ويومَ فتحتَ سيفكَ من بعيدٍ

أضعتَ وكلّ أمركَ للضّياعِ

ولم يكن أهون لديه من قطع الأيدي والأرجل والأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة ولغير شبهة، ففي ذلك يقول مُسلم بن عقيل وهو صادق مؤيد بالأمثال والمثلات: ويقتل النّفس التي حرّم الله قتلها على الغضب وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئاً.

وقد كانت هذه الضراوة على أعنفها وأسوئها يوم تصدّى عبيد الله بن زياد لمنازلة الحُسين؛ لأنّه كان يومئذ في شره الشباب لم يتجاوز

٧٨

الثامنة والعشرين، وكان يزيد يبغضه ويبغض أباه؛ لأنّه كان قد نصح لمعاوية بالتمهل في الدعوة إلى بيعة يزيد، فكان عبيد الله من ثمّ حريصاً على دفع الشّبهة والغلو في إثبات الولاء للعهد الجديد

والذين لم يمسخوا في جبلتهم وتكوينهم هذا المسخ من أعوان يزيد بن معاوية، كان الطمع في المناصب والأموال واللذات قد بلغ ما يبلغه المسخ من تحويل الطبائع وطمس البصائر ومغالطة النّفوس في الحقائق

* * *

ومن هذا القبيل عمر بن سعد بن أبي وقاص، الذي أطاع عبيد الله بن زياد في وقعة كربلاء، ولم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها المشئومة، وقد كان العدول بها عن تلك النّهاية في يديه.

فقد أغرى عمر بن سعد بولاية الرّي - وهي درّة التاج في مُلك الأكاسرة الأقدمين - وكان يتطلع إليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، ويُنسب إليه أنّه قال وهو يراود نفسه على مقاتلة الحُسين:

فوالله ما أدري وإني لحائرٌ

أُفكر في أمري على خطرينِ

٧٩

أأتـركُ مـلكَ الـريّ مـنيتي

أم أرجـعُ مـأثوماً بقتلِ حُسينِ

وفي قتلِهِ النّارُ التي ليسَ دونَها

حـجابٌ وملكُ الريّ قرةُ عيني

فإن لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي ولا شك من لسان حاله؛ لأنّها تسجّل الواقع الذي لا شبهة فيه

ومن الواقع الذي لا شبهة فيه أيضاً، أنّ عمر بن سعد هذا لم يخل من غلظة في الطبع على غير ضرورة ولا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحُسين بعد مقتله على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء فصحن وقد لمحنها على الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، وهُم ممّن قاتل الحُسين وذويه

هؤلاء وأمثالهم لا يُسمون ساسة مُلك ولا تُسمى مهنتهم تدعيم سلطان، ولكنّهم يُسمون جلاّدين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة وحقد، ويطيعون ما في أيديهم من أموال ووعود وتُسمى مهمّتهم مذبحة طائشة لا يُبالي مَن يسفك فيها الدماء أي غرض يُصيب

* * *

ومنذ قضي على يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء وأمثالهم أعواناً له في

٨٠