الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء0%

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 210

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: عباس محمود العقاد
الناشر: منشورات الشريف الرضي
تصنيف: الصفحات: 210
المشاهدات: 51722
تحميل: 6350

توضيحات:

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 210 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51722 / تحميل: 6350
الحجم الحجم الحجم
الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

الحسين (عليه السلام) أبو الشهداء

مؤلف:
الناشر: منشورات الشريف الرضي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ملكه، قضي عليه من ساعتها أن يكون علاجه لمسألة الحُسين علاج الجلاّدين الذين لا يعرفون غير سفك الدماء والذين يسفكون كلّ دم أجروا عليه وهكذا كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته، فهو جلاّد مبذول السّيف والسّوط في سبيل المال

وكان للحُسين أعوان إذا بلغ أحّدهم حدّه في معونته فهو شهيد يبذل الدُنيا كُلّها في سبيل الروح وهي إذن حرب جلاّدين وشُهداء

٨١

٨٢

خروج الحُسينعليه‌السلام

الحُسين في مكّة:

عمل يزيد بوصية أبيه، فلم يكن له همّ منذ قيامه على الملك إلاّ أن يظفر ببيعة الحُسين وعبد الله بن الزُّبير في مقدّمة النّفر الذين أنكروا العهد له في حياة معاوية

وكان الوليد بن عقبة بن أبي سفيان والي معاوية يومئذ على المدينة، فلمّا جاءه كتاب يزيد بنعي أبيه، وأن يأخذ اُولئك النفر بالبيعة - أخذاً شديداً ليس فيه رخصة - دعا إليه بمروان بن الحكم، فأشار بمشورته التي جمعت بين الإخلاص وسوء النيّة وفحواها: أن يبعث إلى الحُسين وابن الزُّبير؛ فإن بايعا وإلاّ ضرب عنقيهما.

وحدث بين الحُسين والوليد ما تقدمت الإشارة إليه في محضر مروان، إذ عاد الحُسين إلى بيته وقد عوّل على ترك المدينة إلى مكّة كما تركها ابن الزُّبير من قبله فخرج منها لليلتين بقيتا من شهر رجب سنة ستين للهجرة، ومعه جلّ أهل بيته وإخوته وبنو أخيه، ولزم في مسيره إلى مكّة الطريق الأعظم فلم يتنكبه كما فعل ابن الزُّبير؛ مخافة الطلب من ورائه

٨٣

فصحّت في الرجلين فراسة معاوية في هذا الأمر الصغير، كما صحّت في غيره من كبار الاُمور

وانصرف النّاس في مكّة إلى الحُسين عن كلّ مطالب بالخلافة غيره ومنهم ابن الزُّبير. فكان ابن الزُّبير يطوف بالكعبة كلّ يوم ويتردد عليه في صباحه ومسائه؛ يتعرّف رأيه وما نمى إليه من آراء النّاس في الحجاز والعراق وسائر الأقطار الإسلاميّة.

فلبث الحُسين في مكّة أربعة أشهر على هذه الحال، يتلقّى بين آونة وآونة دعوات المسلمين إلى الظهور وطلب البيعة، ولا سيّما أهل الكوفة وما جاورها فقد كتبوا إليه يقولون: إنّ هُنالك مئة ألف ينصرونك. وألحّوا في الكتابة يستعجلونه الظهور.

وتردد الحُسين طوال هذه الأشهر فيما يفعل بهذه الدعوات المتتابعات، فبدا له أن يتمهّل حتّى يتبين جلية القوم ويستطلع طلعهم من قريب وآثر أن يرسل إليهم ابن عمّه مُسلم بن عقيل بن أبي طالب؛ يُمهد له طريق البيعة إن رأى فيها محلاًّ لتمهيد، وكتب إلى رؤساء أهل الكوفة قبل ذلك كتاباً يقول فيه:(( أمّا بعد، فقد أتتني كتبكم وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مُسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم

٨٤

فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إنشاء الله؛ فلَعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله، والسّلام )) .

* * *

ثمّ بلغ الحُسين أنّ مسلماً قد نزل الكوفة، فاجتمع على بيعته للحُسين اثنا عشر ألفاً، وقيل ثمانية عشر ألفاً، فرأى أن يُبادر إليه قبل أن يتفرّق هذا الشمل ويطول عليهم عهد الانتظار والمراجعة، فظهر عزمه هذا لمشيريه من خاصّته وأهل بيته، فاختلفوا في مشورتهم عليه بين موافق ومثبط وناصح بالمسير إلى جهة غير جهة العراق.

كان أخوه مُحمّد بن الحنفيّة يرى - وهو بعد في المدينة - أن يبعث رسله إلى الأمصار ويدعوهم إلى مبايعته قبل قتال يزيد، فإن أجمعوا على بيعته فذاك، وإن اجتمع رأيهم على غيره لم ينقض الله بذلك دينه ولا عقله

وكان عبد الله بن الزُّبير يقول له: إن شئت أن تقيم بالحجاز آزرناك ونصحنا لك وبايعناك، وإن لم تشأ البيعة بالحجاز توليني أنا البيعة فتطاع ولا تعصى.

ويزعم كثير من المؤرّخين: أنّ ابن الزُّبير كان متّهم النّصيحة للحُسين،

٨٥

ومن هؤلاء المؤرّخين أبو الفرج الأصبهاني، قال: إنّ عبد الله بن الزُّبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحُسين بالحجاز ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق طمعاً في الوثوب بالحجاز لأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بعد خروج الحُسين، فلقيه وقال له: على أي شيء عزمت يا أبا عبد الله؟

فأخبره برأيه في إتيان الكوفة وأعلمه بما كتب به مُسلم بن عقيل، فقال الزُّبير: فما يحبسك؟.. فو الله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلومت في شيء.

* * *

ولعلّ أنصح النّاس له في هذه المسألة كان عبد الله بن عبّاس؛ لما بينهما من القرابة وما عرف به ابن عبّاس من الدهاء سأله: إنّ النّاس أرجفوا أنّك سائر إلى العراق، فما أنت صانع؟ قال:(( قد أجمعت السير في أحد يوميّ هذين )).

فأعاذه ابن عبّاس بالله من ذلك، وقال له: إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا، فلينفوا عدوهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلاّ أن تخرج

٨٦

فسر إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً ولأبيك بها شيعة.

فقال له الحُسين:(( يابن عم، إنّي أعلم أنّك ناصح مشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير )).

قال ابن عبّاس: إن كنت لا بدّ فاعلاً، فلا تخرج أحداً من ولدك ولا حرمك ولا نسائك، فخليق أن تقتل وهم ينظرون إليك كما قُتل ابن عفان.

السفر إلى العراق:

وخرج في الثامن من ذي الحجّة لا ينتظر العيد بمكّة؛ لأنّ أخبار البيعة بالكوفة حفّزته إلى التعجيل بالسفر قبل فوات الأوان وكان مُسلم بن عقيل قد نزل بالكوفة، فأقبل عليه النّاس ألوفاً ألوفا يبايعون الحُسين على يديه وبلغوا ثمانية عشر ألفاً في تقدير ابن كثير، وثلاثين ألفاً في تقدير ابن قتيبة.

وهال الأمر النّعمان بن بشير - والي الكوفة - فحار فيما يصنع بمُسلم وأتباعه وهُم يزدادون يوماً بعد يوم، فصعد المنبر وخطب النّاس مُعلناً

٨٧

أنّه لا يُقاتل إلاّ مَن قاتله ولا يثب إلاّ على مَن وثب عليه

* * *

وتسابق أنصار بني اُميّة إلى يزيد ينقلون إليه ما يجري بالكوفة، فأشار عليه سرجون الرّومي مولى أبيه أن يعزل النّعمان ويولي الكوفة عبيد الله بن زياد، مضمومة إلى البصرة التي كان يتولاها في ذلك الحين.

وقدم عبيد الله إلى الكوفة فكان أوّل ما عمل بها أن جمع إليه عرفاء المدينة - أي مشايخ أحيائها -، فأمرهم أن يكتبوا له أسماء الغرباء ومَن في أحيائهم من طلبة أمير المؤمنين والحرورية وأهل الريب، وأنذرهم: أيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إليه، صُلب على باب داره، واُلغيت تلك العرافة من العطاء.

والتمس وجوه المدينة من شيعة الحُسين يترضاهم ويستخرج خفاياهم، فسأل عمّن تخلّف منهم عن لقائه وعلى رأسهم هانئ بن عروة، فقيل له إنّه مريض لا يبرح داره وكان يتعلّل بالمرض تجنباً للقائه والسّلام عليه.

فذهب عبيد الله إليه يعوده ويتلطف إليه، وجاء في بعض الرّوايات: إنّه قد اُشير على مُسلم بن عقيل بقتله وهو في بيت هانئ، فأبى أن يغتاله وهو آمن في بيت مريض يعوده

٨٨

وقال ابن كثير ما فحواه: إنّهم أشاروا على مُسلم بن عقيل بقتله وهو في دار شُريك بن الأعور، وقد علم شُريك أنّ عبيد الله سيعوده فبعت إلى هانئ بن عروة يقول له: إبعث مُسلم بن عقيل يكون في داري ليقتل عبيد الله إذا جاء يعودني فتحيّن مُسلم عن قتله، وسأله شُريك: ما منعك أن تقتله؟ قال: بلغني حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :(( إنّ الإيمان قيدُ الفتك، لا يفتك مؤمن )). وكرهت أن أقتله في بيتك.

قال شُريك: أما لو قتلته لجلست في الثغر لا يستعدي به أحد، ولكفيتك أمر البصرة، ولكنت تقتله ظالماً فاجراً ثمّ مات شُريك بعد ثلاثة أيّام.

* * *

وتضطرب الأقاويل في وقائع هذه الأيّام لتلاحقها وكثرتها وكثرة رواتها والعاملين فيها ولكن الشّائع من تلك الأقاويل يُنبئنا عن عنت شديد لقيه عبيد الله بن زياد في مغالبة مُسلم وشيعته، وأنّه هرب مرّة من المسجد؛ لأنّ النّاس بصروا بمُسلم مقبلاً فتصايحوا بعبيد الله فاعتصم بقصره وأغلق عليه أبوابه

واجتمع إلى مُسلم أربعة آلاف من حزبه، فأمر مَن ينادي في النّاس بشعار الشّيعة: يا منصور أمت. ثمّ تقدّم إلى قصر الإمارة في تعبئة كتعبئة الجيش.

ولم يكن في القصر إلاّ ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون من أهل

٨٩

الكوفة، فخامر اليأس عبيد الله وظنّ أنّه هالك قبل أن يدركه الغوث من مولاه. ولكنّه تحيّل بما في وسع المستميت من حيلة، هي على أيّة حال أجدى له من التسليم، فأنفذ أنصاره إلى كلّ صوب في المدينة يعدون ويتوعدون

وانطلق هؤلاء الأنصار يرجفون بقرب وصول المدد الزاخر من يزيد، وينذرون النّاس بقطع العطاء وأخذ البريء بالمذنب والغائب بالشّاهد ويبذلون المال لِمن يُرشى بالمال، والوعد لِمن يقنع بالوعد إلى حين.

مقتل مُسلم بن عقيل

وتوسّلوا بكلّ وسيلة تبلغ بهم ما أرادوا من تخذيل النّاس عن مُسلم بن عقيل، حتّى كانوا يرسلون الزوجة وراء زوجها والاُمّ وراء ولدها والأخ وراء أخيه، فيتعلقون بهم حتّى يقفلوا إلى دورهم أو يدخلوا بهم في زمرة عبيد الله

فلمّا غربت شمس ذلك اليوم، نظر مُسلم حوله فإذا هو في خمسمائة من اُولئك الآلاف الأربعة ثمّ صلّى المغرب فلم يكن وراءه في الصلاة غير ثلاثين تسلّلوا من حوله تحت الظلام، وبقي وحيداً في المسجد لا يجد معه من يدلّه على منزل يأوي إليه.

وتسمّع عبيد الله من القصر حين سكنت الجلبة، وسأل أصحابه أن يشرفوا ليروا من بقي من تلك الجموع فلم يروا أحداً ولم يسمعوا

٩٠

صوتاً، فخُيل إليهم أنّها مكيدة حرب وأنّ القوم رابضون تحت الظلال، فأدلى بالقناديل والمشاعل حتّى اطمأنّ إلى خلو المسجد وتفرّق مُسلم وأتباعه، فدعا إلى الصلاة الجامعة وأمر المنادين في إرجاء الكوفة: ألا برئت الذمّة من رجل من الشّرطة والعرفاء والمناكب، رؤوس العرفاء والمقاتلة، صلّى العشاء إلاّ في المسجد.

* * *

وأقام الحرّاس خلفه وهو يُصلّي بمن أجابوه وقد امتلأ بهم المسجد، فخطبهم بعد الفراغ من صلاته قائلاً: برئت ذمّة الله من رجل وجدنا ابن عقيل في داره.

وصاح في رئيس شرطته: يا حُصين بن نُمير، ثكلتك اُمّك إن ضاع باب سكّة من سكك الكوفة وخرج هذا الرّجل ولم تأتني به! وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أفواه السّكك وأصبح غداً فاستبرئ الدور وجسّ خلالها حتّى تأتيني بهذا الرّجل

وما هي إلاّ سويعات حتّى جيء بابن عقيل وقد دافع الشرط عن نفسه ما استطاع، ووصل إلى القصر جريحاً مُجهداً ظمآن فأهوى إلى قلّة عند الباب فيها ماء بارد، فقال له أحد أصحاب عبيد الله: أتراها ما أبردها! والله، لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الجحيم في نار جهنّم.

٩١

وأنكر عمر بن حريث هذه الفظاعة من الرّجل، فجاءه بقلّة عليها منديل ومعها قدح فصبّ منها في القدح وأدناه منه، فإذا هو ينفث الدم في القدح كلّما رفعه للشرب منه حتّى امتلأ وسقطت فيه ثنيتاه، فحمد الله وقال: لو كان لي من الرّزق المقسوم لشربته.

وأدخلوه على عبيد الله فنظر إلى جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فناشده القرابة ليسمعن منه وصية ينفذها بعد موته، فأبى أن يصغي إليه ثمّ أذن له عبيد الله فقام معه، فقال مُسلم: إنّ عليَّ بالكوفة دَيناً استدنته سبعمائة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عنّي، وابعث إلى الحُسين من يردّه؛ فإنّي قد كتبت إليه اُعلمه أنّ النّاس معه، ولا أراه إلاّ مُقبلاً.

فعاد عمر إلى عبيد الله فأفشى له السرّ الذي ناجاه به وأوصاه أن يكتمه، ثمّ دعا عبيد الله بالحرسي الذي قاومه مُسلم وضربه على رأسه، واسمه بكير بن حمران، فأسلم مُسلماً إليه وقال: لتكن أنت الذي تضرب عُنقه.

وصعدوا به إلى أعلى القصر فأشرفوا به على الجموع المحيطة به وضربوا عنقه، فسقط رأسه إلى الرحبة واُلقيت جثّته إلى النّاس، ثمّ اُرسل برأسه إلى يزيد مع رؤوس سراة في المدينة كان مُسلم يأوي إليهم أوّل مقدمه

٩٢

إليها، ومنهم هانئ بن عروة الذي تقدّمت الإشارة إليه.

طلائع الفشل:

كان مقتل مُسلم بن عقيل في التاسع من ذي الحجّة ليلة العيد، وكان خروج الحُسين من مكّة قبل ذلك بيوم واحد، فلم يسمع بمقتله إلاّ وهو في آخر الطريق

ولما شارف العراق أحبّ أن يستوثق مرّة اُخرى قبل دخوله، فكتب إلى أهل الكوفة كتاباً مع قيس بن سهر الصيداوي يخبرهم بمقدمه ويحضّهم على الجدّ والتساند، فوافى قيس القادسية وقد رصد فيها شرط عبيد الله فاعتقلوه وأشخصوه إليه فأمره عبيد الله أن يصعد القصر فيسبّ الكذّاب بن الكذّاب الحُسين بن عليّ وينهى النّاس أن يطيعوه.

فصعد قيس وقال: أيّها النّاس، إنّ هذا الحُسين بن عليّ خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه، والعنوا عبيد الله بن زياد وأباه فما كان منهم إلاّ أن قذفوا به من حالق فمات.

وحدث مثل هذا مع عبد الله بن يقطر فأبى أن يلعن الحُسين ولعن عبيد الله بن زياد، فألقوا به من شرفات القصر إلى الأرض فاندكّت عظامه ولم يمت، فذبحوه.

٩٣

وجعل الحُسين كلّما سأل قادماً من العراق أنبأه بمقتل رسول من رُسله أو داعية من دُعاته، فأشار عليه بعض صحبه بالرّجوع، وقال له غيرهم: ما أنت مثل مُسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان النّاس إليك أسرع ووثب بنو عقيل فأقسموا لا يبرحون حتّى يدركوا ثأرهم أو يذوقوا ما ذاق مُسلم.

ولم يرَ الحُسين - بعد ذلك - أن يصحب معه أحّداً إلاّ على بصيرة من أمره وما هو لاقيه إن تقدّم ولم ينصرف لشأنه فخطب الرّهط الذين صحبوه وقال لهم:(( وقد خذلنا شيعتنا فمَن أحبّ منكم أن ينصرف فلينصرف، ليس عليهم منّا ذمام )). فتفرّقوا إلاّ أهل بيته وقليلاً ممّن تبعوه في الطريق.

الحُسينعليه‌السلام والحُرُّ بنُ يزيد:

والتقى الرّكب عند جبل ذي حسم بطلائع جيش عبيد الله يقودها الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي في ألف فارس، اُمروا بأن لا يدعوا الحُسين حتّى يقدموا به على عبيد الله في الكوفة، فأمر الحُسين مؤذّنه بالآذان لصلاة الظهر، وخطب أصحابه وأصحاب الحرّ بن يزيد فقال:

٩٤

(( أيّها النّاس، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم ورسلكم: أن أقدم علينا فليس لنا إمام؛ لعلّ الله يجمعنا بك على الهُدى والحقّ، فقد جئتكم فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم لقدومي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه )). فلم يجبه أحد، فقال للمؤذّن:(( أقم الصلاة )).

وسأل الحرّ:(( أتريد أن تُصلّي أنت بأصحابك واُصلّي بأصحابي؟ )). فقال الحرّ: بل نُصلّي جميعاً بصلاتك

* * *

ثمّ تياسر الحُسين إلى طريق العذيب فبلغها وفرسان عبيد الله يلازمونه ويصرّون على أخذه إلى أميرهم، وصدّه عن وجهته حيثما اتجه غير وجهتهم، فأقبل عليهم يعظهم وهُم يصغون إليه فقال:(( أيّها النّاس، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَن رأى

٩٥

سُلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله، مُخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشّيطان وتركوا طاعة الرّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالغيّ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ من غيري

وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنّكم لا تسلمونني ولا تخذلونني، فإن بقيتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحُسين بن عليّ، وابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسي مع أنفسكم وأهلي من أهلكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي، فلَعمري ما هي لكم بنكير، والمغرور من أغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم ومَن نكث فإنّما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم، والسّلام )).

فأنصت الحرّ بن يزيد وأصحابه ثمّ توجّه إليه يحذّره العاقبة وينبّئه: لئن قاتلت لتقتلن. فصاح به الحُسين:(( أبالموت تخوفني؟! ما أدري ما أقول لك، ولكنّي أقول كما قال

٩٦

أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله، فخوّفه ابن عمه وأنذره أنّه لمقتول فأنشد :

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا مـا نـوى خـيراً وجاهدَ مُسلما

وآسـى الـرّجالَ الصالحينَ بنفسهِ

وخـالفَ مـثبوراً وفـارقَ مجرما

فـإن عشتُ لم أندمْ وإنْ متُّ لم أُلم

كـفى بِـكَ ذلاّ أنْ تـعيشَ وتُرغما

* * *

ثمّ سار الركبان ينظر بعضهما إلى بعض كلّما مال الحُسين نحو البادية، أسرع الحرّ بن يزيد فردّه نحو الكوفة حتّى نزلا بنينوى، فإذا راكب مُقبل عليه بالسّلاح، يحيّي الحرّ ولا يحيّي الحُسين، ثمّ أسلم الحرّ كتاباً من عبيد الله يقول فيه: أمّا بعد، فجعجع بالحُسين حتّى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء وقد أمرت رسولي أن يلزمك فلا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسّلام.

فلمّا بدا من الحرّ بن يزيد أنّه يُريد أن ينفّذ أمر عبيد الله بن زياد

٩٧

ويخشى رقيبه الذي أمر ألاّ يفارقه حتّى ينفذ أمره، قال أحد أصحاب الحُسين - زهير بن القين -: إنّه لا يكون - والله - بعد ما ترون إلاّ ما هو أشدّ منه. يابن رسول الله، إنّ قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا بعدهم، فلَعمري، ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به، فهلمّ نناجز هؤلاء.

فأعرض الحُسين عن مشورته وقال:(( إنّي أكره أن أبدأهم بقتال )).

عمر بن سعد:

وكان الديلم قد ثاروا على يزيد بن معاوية واستولوا على دستبي بأرض همذان، فجمع لهم عبيد الله بن زياد جيشاً عدّته أربعة آلاف فارس بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص، الذي يذكّر الديلم اسم أبيه - سعد - فاتح بلادهم، وقد وعد بولاية الرّي بعد قمع الثورة الديلميّة، فلمّا قدم الحُسين إلى العراق قال عبيد الله لعمر: نفرغ من الحُسين ثمّ تسير إلى عملك.

فاستعفاه، وعلم عبيد الله موطن هواه فقال له: نعم نعفيك على أن ترد إلينا عهدنا فاستمهله حتّى يراجع نصحاءه فنصح له ابن اُخته ابن المغيرة

٩٨

ابن شعبة - وهو من أكبر أعوان معاوية - ألاّ يقبل مُقاتلة الحُسين، وقال له: والله، لأن تخرج من دنياك ومالك وسُلطان الأرض لو كان لك، خير من أن تلقى الله بدم الحُسين.

* * *

وبات ليلته يقلّب وجوه رأيه، حتّى إذا أصبح ذهب إلى ابن زياد، فاقترح عليه أن يبعث إلى الحُسين من أشراف الكوفة من ليس يغنى في الحرب عنهم فأبى ابن زياد إلاّ أن يسير إلى الحُسين أو ينزل عن ولاية الرّي فسار على مضض وجنوده متثاقلون متحرّجون، إلاّ زعانف المرتزقة الذين ليس لهم من خلاق.

وكان جنود الجيش يتسللون منه ويتخلّفون بالكوفة فندب عبيد الله رجلاً من أعوانه - هو سعد بن عبد الرحمن المنقري - ليطوف بها ويأتيه بمن تخلّف عن المسير لقتال الحُسين، وضرب عنق رجل جيء به، وقيل: إنّه من المتخلفين، فأسرع بقيتهم إلى المسير.

وقد أدرك الجيش الحُسين وهو بكربلاء على نحو من خمسة وعشرين ميلاً إلى الشمال الغربي من الكوفة، نزل بها في الثاني من المحرّم سنة إحدى وستّين.

٩٩

وخلا الجو في الكوفة لرجلين اثنين يسابق كلاهما صاحبه في اللؤم وسوء الطوية، وينفردان بتصريف الأمر في قضية الحُسين دون مراجعة من ذي سلطان وهُما عبيد الله بن زياد، وشمر بن ذي الجوشن.

عبيد الله المغموز النّسب الذي لا يشغله شيء كما يشغله التشفّي لنسبه المغموز من رجل هو بلا مراء أعرق العرب نسباً في الجاهليّة والإسلام فليس أشهى إليه من فرصة ينزل فيها ذلك الرّجل على حُكمه ويشعره فيها بذله ورغمه

شمر بن ذي الجوشن:

وشمر بن ذي الجوشن الأبرص الكريه الذي يمضه من الحُسين ما يمض كلّ لئيم مشنوء من كلّ كريم محبوب وسيم، وكان كلاهما يفهم لؤم صاحبه ويعطيه فيه حقّه وعذره، فهما في هذه الخلّة متناصحان متفاهمان

ولم يكن أيسر من حل قضية الحُسين على وجه يُرضي يزيد ويمهّد له الولاء في قلوب المسلمين ولو إلى حين؛ لولا ذلك الضغن الممتزج بالخليقة الذي هو كسكر المخمور لا موضع معه لرأي مصيب، ولا لتفكير في عاقبة بعيدة أو قريبة فالحُسين في أيديهم ليس أيسر عليهم من اعتقاله وإبقائه بأعينهم في مكان ينال فيه الكرامة ولا يتحفّز لثورة.

١٠٠