الإمام الحسين (عليه السلام) قدوة واسوة
0%
مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 65
مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الصفحات: 65
المشاهدات: 9962
تحميل: 5786
توضيحات:
مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 65
مؤلف: السيد محمد تقي المدرسي
حاجته فقال:
لم يَخِبْ الآنَ مَنْ رَجاكَ ومَنْ |
حَرَّكَ من دونِ بابِكَ الحلقَهْ |
|
أنتَ جوادٌ وأنتَ مُعتمدٌ |
أبوكَ قَدْ كانَ قاتلَ الفَسقَهْ |
|
لولا الذي كانَ مِنْ أوائِلِكُمْ |
كانتْ علينَا الجَحيمُ مُنطَبقَهْ |
وكان الحسينعليهالسلام يُصلّي آنذاك، فلمّا فرغ من صلاته لفّ على طرف رداء له أربعة آلاف دينار ذهب، وناوله قائلاً:
خُذهَا فإنِّي إليكَ مُعتذرٌ |
واعلَمْ بأنِّي عليكَ ذُو شَفَقَهْ |
|
لو كانَ في سَيرِنا الغداةَ عصاً |
كانتْ سمانَا عليكَ مُندفِقَهْ |
|
لكنَّ ريبَ الزَّمانِ ذو غِيَرٍ |
والكفُّ منِّي قليلةُ النَّفقَهْ |
فأخذ الأعرابي يبكي شوقاً، ثمّ تصعدت من أعماقه آهات حارة، وقال: كيف تبلى هذه الأيدي الكريمة؟!(١) .
عون الضعفاء:
وهذه صفة تأتي كالفرع الذي سبقها من سجيّة الكرم؛ فإنّ النّفس إذا بلغت رفعتها المأمولة حنَّت على الآخرين حنان السّحابة على الأرض، والشمس على الكواكب.
١ - وُجِد على كاهله الشريف بعد وقعة الطَّفِّ أثرٌ بليغٌ كأنّه من جُرح عدّة صوارم متقاربة، وحيث عرف الشاهدون أنّه ليس
_____________________________
(١) المعصوم الخامس لجواد فاضل، وفي المناقب ٤ / ٦٦.
من أثر جُرح عادي، سألوا علي بن الحسينعليهالسلام عن ذلك، فقال:« هذا ممّا كانَ ينقلُ الجرابَ على ظهرِهِ إلى مَنازلَ الأرامِلِ واليَتامَى والمساكين» (١) .
٢ - ويذكر بهذه المناسبة أيضاً أنّ مالاً وزّعه معاوية بين الزعماء والوجهاء، فلمّا فصلت الحمّالون، تذاكر الجالسون بحضرة معاوية أمر هؤلاء المرسَل إليهم الأموال حتّى انتهى الحديث إلى الحسينعليهالسلام ، فقال معاوية: وأمّا الحسين فيبدأ بأيتام مَن قُتلَ مع أبيه بصفيِّن، فإنْ بقي شيء نحر به الجزر وسقى به اللبن(٢) .
ومعاوية كان من ألدِّ أعداء الحسينعليهالسلام ، ولكنّه يضطرّ الآنَ إلى أنْ يعترف بكرمه وسخائه؛ حيث لا يجد دون ذلك مهرباً.
وإلى هذا المدى البعيد يبلغ الحسينعليهالسلام في الكرم، حتّى لَيقف عدوّه الكذّاب الذي لَم يترك أحداً من الزعماء الأبرياء إلاّ وكاد له بتهمةٍ، ووصمه بها وصمة حتّى إنّ عليّاً سيّد الصالحين، والحسن الزكي الأمينعليهماالسلام ، فإنّ معاوية هذا يقف على منبرٍ يشيد بهما وبسجاياهما المباركة.
٣ - وقالعليهالسلام يُرغّب النّاس في الجود:
_____________________________
(١) أعيان الشيعة ٤ / ١٣٢.
(٢) أبو الشهداء لعبّاس محمود العقّاد.
إذا جادَتْ الدُّنيا عليكَ فجُدْ بهَا |
على النَّاسِ طُرّاً قبلَ أنْ تتفلَّتِ |
|
فلا الجودُ يُفنيهَا إذا هي أقبَلَتْ |
ولا البُخلُ يُبقيهَا إذا هيَ ولَّتِ |
وفعلاً كان الحسينعليهالسلام العامل قبل أنْ يكون القائل، وسأتلو عليكم هذه القصّة.
٤ - دخلعليهالسلام على اُسامة بن زيد وهو على فراش المرض، يقول: وا غمَّاه! فقالعليهالسلام :« وما غمَّكَ يا أخي؟ ». قال: دَيني، وهو ستّون ألف درهم. فقالعليهالسلام :« هو عَليَّ ». قال: إنّي أخشى أنْ أموتَ قبل أنْ يُقضى. قال:« لَنْ تموتَ حتّى أقضيها عنكَ ». فقضاها قبل موته(١) .
الشجاع البطل:
نعتقد نحن الشيعة أنَّ الأئمّة الاثنى عشرعليهمالسلام قد بلغوا القمّة من كلِّ كمال، ولم يَدعوا مجالاً للسموّ إلاّ ولجوه، فكانوا السّابقين، بَيد أنّ الظروف التي مرّوا بها كانت تختلف في إنجاز مؤهّلاتهم بقدرها، وطبقاً لهذه الفلسفة؛ فإنّ كلّ واحد منهم اختصّ بصفة مميَّزة بين الآخرين، وإنّ ميزة الإمام الحسينعليهالسلام هي الشجاعة والبطولة بين سائر الأئمّةعليهمالسلام .
_____________________________
(١) أعيان الشيعة ٤ / ١٢٦.
وكُلّما تصوّر الإنسان واقعة كربلاء ذات المشاهد الرهيبة، التي امتزج فيها الدمع بالدَّمِ، ويلتقي بها الصبر بالمروءة، والمواساة بالفداء، لاحت بسالة أبرز أبطالها الإمام الحسينعليهالسلام في أروع وأبهى ما تكون بطولة في التاريخ. ولولا ما نعرفه في ذات الإمامعليهالسلام من كفاءاته البطوليّة التي ورثها ساعداً عن ساعد، وفؤاداً عن فؤاد، ولولا الوثائق التاريخيّة التي لا يخالجها الشكّ، ولولا ما نعتقده من أنّ القدوة الروحيّة لا بدّ أنْ تكون آية الخلق ومعجزة الإله، فلربمّا شككنا في كثير من الحقائق الثابتة التي يذهل دونها العقل والفكر والضمير.
كان الإمام الحسينعليهالسلام يوم الطَّفِّ ينزل إلى المعركة في كلِّ مُناسبة، فيكشف إسراف الخيل لتفصح عن جثمان صحابيٍّ أو هاشميٍّ يُريد بلوغَ مصرعه. ولربمّا احتدم النّزاع عنيداً شديداً بينه وبينهم وهو يحاول بلوغ مصرع مَن يريده، فكانت تعدّ كلَّ محاولة له من هذا النّوع هجمة فريدة، ومع ذلك كان يُكرّر ذلك كلَّ ساعة حتّى قُتل أصحابُه، وأبناؤه وإخوانه جميعاً.
والمصيبة ذاتها كانت ممّا ينيل من قوّة الإنسان كما تفلّ من عزيمته، والعطش والجوع يُضعفان المرء ويذهبان بكلّ طاقاته، والحَرُّ سببٌ آخر يأخذ جهداً من المرء كثيراً.
ويجتمع كلّ ذلك في شخص الحسينعليهالسلام يوم عاشوراء، ومع ذلك فإنّه يلبس درعاً منصفاً ذو واجهة أماميّة فقط، ويهجم على
الجيش الضاري، فإذا به كالصاعقة تنقضّ، فيتساقط على جانبَيه الأبطال كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.
فيقول بعض مَن حضر المشهد: إنّه ما رأيت أشجع منه، إذ يكرّ على الجيش فيفرّ أمامه فرار المعزى عن الأسد، وذلك في حين أنّه لم يكن آنذاك أفصح منه إنساناً.
وحينما نرجع بالتاريخ إلى الوراء نجد من الإمام الحسينعليهالسلام بطولات نادرة في الفتوحات الإسلاميّة، ثمّ في حروب الإمام عليعليهالسلام ، إلاّ أنّها مهما بلغت من القوّة والأصالة فإنّها لا تبلغ شجاعتهعليهالسلام يوم عاشوراء، تلك التي كانت آية رائعة في تاريخ الإنسانيّة بلا شك.
يقول العقّاد: وليس في بني الإنسان مَن هو أشجع قلباً ممَّن أقدمَ على ما أقدم عليه الحسينعليهالسلام في يوم عاشوراء(١) .
الزاهد العابد:
كان الحسينعليهالسلام يحجّ كلّ سنة، إلاّ إذا حالت دون ذلك الظروف، وكان يمشي على قدمَيه إذا حجّ، وتُقاد بجانبيه عشرات الإبل بغير راكب، فيتفقّد كلّ مسكين فقير صفرت يداه عن تهيئة راحلةٍ للحجِّ، فيسوق إليه الراحلة من الإبل التي معه.
وكان يُصلّي كلَّ ليلة ألف ركعة، حتّى سُئل نجله الإمام زين العابدينعليهالسلام :
_____________________________
(١) أبو الشهداء لعبّاس محمود العقّاد / ٤٦.
ما بال أبيك قليل الأولاد؟ فأجاب:« إنّهُ كان يُصلِّي في كلِّ ليلةٍ ألفَ ركعة، فمَتى كان يتفرغُ للنِّساء».
الصابر الحكيم:
١ - الصبر: هو استطاعة الفرد على ضبط أعصابه في أحرج موقف. ولا ريب أنّ الإمام الحسينعليهالسلام كان يوم عاشوراء في أحرج موقف وقفه إنسان أمام أعنف قوّة وأقسى حالة، ومع ذلك فقد صبر صبراً تعجَّبت ملائكة السّماء من طول استقامته، وقوّة إرادته، وامضاء عزيمته.
٢ - جنى عليه غلامٌ جناية توجب العقاب، فأمر به أنْ يُضرب، فقال: يا مولاي، ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) . قالعليهالسلام :« خَلُّوا عنه ». فقال: يا مولاي،( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) . قالعليهالسلام :« قد عفوتُ عنكَ ». قال: يا مولاي، ( وَالله يُحِبُّ الْمحْسِنِينَ ) . قالعليهالسلام :« أنتَ حُرٌّ لوجه اللهِ، ولك ضعْفُ ما كُنتُ أعطيكَ » (١) .
الفصيحُ البديه:
لقد زخرت الكتب التاريخيّة بنوادره الرائعة من كلمات فصيحة يحسدها الدرُّ في ألمع نضارته وآلق روعته، وقد جُمع
_____________________________
(١) الفصول المهمّة / ١٥٩، والمقاطع القرآنية المذكورة هي من سورة آل عمران / ١٣٤.
ذلك في كتب برأسها، إلاّ أنّي ذاكر لك الآنَ شيئاً قليلاً منها:
١ - أبعد عثمانُ الصحابيَّ الكبيرَ أبا ذر (رض)، فشيَّعه عليٌّ وابناهعليهمالسلام ، فقال الإمام الحسينعليهالسلام بالمناسبة:« يا عمَّاه، إنّ اللهَ قادرٌ أنْ يُغيّرَ ما قد ترَى، واللهُ كلُّ يومٍ في شأن، وقد منعكَ القومُ دُنياهُمْ ومنعتَهُمْ دِينَكَ، وما أغناكَ عمَّا مَنعُوكَ، وأحوجَهُمْ إلى ما منعْتَهُمْ! فاسأل اللهَ الصَّبرَ والنَّصر، واستَعنْ بهِ منَ الجشَعِ والجزَعِ؛ فإنّ الصبرَ مِنَ الدِّينِ والكرَمِ، وإنَّ الجشعَ لا يُقدِّمُ رزْقَاً، والجزَعُ لا يُؤخِّر أجلاً» (١) .
٢ - جاء إليه أعرابي، فقال: إنّي جئتك من الهرقل والجعلل، والأنيم والمهمم. فتبسّم الحسينعليهالسلام ، وقال:« يا أعرابي، لقد تكلَّمتَ بكلامٍ ما يعقلُهُ إلاّ العالِمون ». فقال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا، فهل أنت مُجيبي على قدر كلامي؟ فأذِن له الحسينُعليهالسلام في ذلك، فأنشد يقول:
هفا قلبِي إلى اللَّهوِ |
وقدْ ودَّعَ شَرْخَيْهِ |
إلى تسعة أبيات على هذا الوزن.
فأجابه الحسينعليهالسلام مثلها متشابهات، منها:
فما رسمٌ شجانِي قدْ |
مُحتْ آياتُ رَسْمَيهِ |
|
سفورٌ درَّجَتْ ذيليْـ |
ـنِ في بوغاء قاعَيْهِ |
_____________________________
(١) روضة الكافي / ٢٠٧.
ثمّ أخذ يُفسر ما غمض من كلامه، فقال:« أمّا الهرقلُ: فهو ملكُ الرُّومِ. والجعللُ: فهو قصارُ النَّخلِ. والأنيمُ: بعوضُ النَّباتِ. والمهممُ: القليبُ الغزيرُ الماءِ». وهذه كانت أوصاف الأرض التي جاء منها.
فقال الأعرابي: ما رأيت كاليوم أحسن من هذا الغلام كلاماً، وأذرب لساناً، ولا أفصح منه منطقاً(١) .
ومن روائعه المأثور قوله:« شرُّ خصالِ الملوكِ الجُبنُ عَنْ الأعداءِ، والقسوةُ على الضُّعفاءِ، والبُخلُ عَنْ الإعطاءِ» (٢) .
ومن حكمِهِ البديعة:« لا تَتكلّف ما لا تطيقُ، ولا تَتعرّض لما لا تُدركُ، ولا تَعِد بما لا تقدرْ عليهِ، ولا تُنفق إلاّ بقدَرِ ما تستفيدُ، ولا تطلب منَ الجزاءِ إلاّ بقَدَرِ ما صنعتَ، ولا تفرح إلاّ بما نلتَ مِنْ طاعةِ اللهِ، ولا تتناول إلاّ ما رأيتَ نفسَكَ له أهلاً» (٣) .
ومن بديع كلامه لما سُئل: ما الفضل؟ قال:« ملكُ اللسانِ، وبذلُ الإحسانِ ». قيل: فما النّقص؟ قال:« التكلّفُ لما لا يُعنيكَ ».
_____________________________
(١) أبو الشهداء لعبّاس محمود العقّاد، نقلاً عن كتاب مطالب السّؤول لمحمّد بن طلحة الشافعي / ٧٣.
(٢) بلاغة الإمام الحسينعليهالسلام / ١٢٨.
(٣) بلاغة الإمام الحسينعليهالسلام / ١٥٤.
الفصل الرابع: نهضته
على الطريق:
أولاً: لم تكن الخلافة في المفهوم الإسلامي حقّاً يورث، ولكنَّ السّلطة التي استبدّت بالحكم في عصر عثمان أرادت أنْ تجعلها كذلك؛ ففي المحفل الحاشد الذي ضمّ كثيراً من المسلمين بينهم عثمان والإمام عليعليهالسلام ، جاء أبو سفيان شيخ بني اُميّة والوجيه لديهم، وهم الحزب الحاكم على الأوساط السياسيّة في البلاد الإسلاميّة ذلك اليوم، جاء يتفقّد طريقه بِعَصاً يحملها وقد كُف بصره - وكان آنذاك قد شعر بانتهاء دوره في الحياة واقتراب منيَّته - فسأل أحد الجالسين: هل في الحفل مَن يُخشى منه من غير بني اُميّة؟ قال له رجل: ليس ها هنا رجلٌ غريب. فقال: تَلَقَّفوها - أي السّلطة - تَلَقُّفَ الكرة، فو الذي يحلف به أبو سفيان، لا جنَّة ولا نار.
فأصاخ إليه كلّ سمع كان في بني اُميّة، ووعى نصيحته بكلّ التفات، ولَم يعترض عليه يومئذ سوى أمير المؤمنين عليٍّعليهالسلام ، إذ وبَّخه على إعلانه الكفر وأنَّبه، فاعتذر قائلاً: لقد كنتُ مغروراً بهذا الرجل الذي نفى وجودَ أيِّ غريب في المجلس، وإلاّ لم يكنْ من الحزم أنْ اُصارح مثلك بهذا.
وانتهى الحفل وتفرّق الجمع، إلاّ أنّه كان ذا تأثير كبير في تسيير الأوضاع السياسيّة لمستقبل المسلمين.
أجل، قد أفصح قول أبي سفيان عن خطّة له مدروسة ساعده على تنفيذها الحزب الاُموي أوّلاً، ومَن ابتغى السّلطة، بل ومَن ابتغى تقويض الاُسس الإسلاميّة لأضغان قديمة وأحقاد متراكمة.
ثانياً: تلك هي رغبة السّيطرة على الحكم، ثمّ يَسهل عليهم كلّ ما يشاؤون.
وأبو سفيان - وهم معه - كانوا يستسهلون كلَّ صعب، ويستحسنون كلّ قبيح في سبيل ذلك، ماداموا لا يعتقدون بجنّة أو نار، ولا يؤمنون بنبيٍّ أو وصيٍّ، ولا يُبالون لأيّ مُقدَّس يُدحض، وأيّ شرف يُدنَّس، وأيّة سُمعةٍ تُساء؛ فإنّ أمامهم غاية يُبرّرون في سبيل الوصول إليها كلَّ واسطة، بل يعتبرون كلَّ واسطة تُؤدّي إليها أمراً مُقدَّساً ومُحرَّماً، تماماً كالفكرة الجاهليّة التي تمكّنت من أدمغتهم البالية.
وحينما نُجري مع الأحداث التي مرّت بالعالم الإسلامي من أواخر عهد عثمان حتّى قيام الدولة العباسيّة، نجد أوفق التفاسير لها هذا الذي قدّمناه لك الآن من كلام أبي سفيان، واعتقاده ومَن تابعه.
فالحروب التي رافقت عصر الإمام عليعليهالسلام ، والحُرمات
التي هُتكتْ في عصر معاوية، والغارات التي شُنّتْ في عهد يزيد، والمعارك التي شبَّتْ واُضرمتْ في عهد سائر الخلفاء الاُمويّين، كانت جميعاً جارية على هذا المبدأ، ومنفِّذة لهذه الخُطّة المدروسة.
فالحزب الاُموي لم يُفكّر إلاّ في ابتزاز الأموال وتشكيل السّلطان، واستعباد الخلق بكلّ وسيلة. ومَن أراد تفكيك الأحداث السياسيّة في هذه الحقبة الطويلة عن هذه الحقيقة الصريحة، فقد أراد تفكيك المعلول عن علَّته، والمسبِّب عن سببه.
الحقّ الموروث:
وهكذا فإنّ الحزب الاُموي شاء أنْ يجعل الخلافة حقّاً شخصيّاً وموروثاً منذ استبدّ بالحكم في عهد عثمان، إلاّ أنّ المسلمين أدركوا ذلك بوعيهم وبتنبُّه كبار صحابة رسول اللهصلىاللهعليهوآله ؛ أمثال أبي ذر الغفاري، وعمرو بن الحمق الخزاعي فأشعلوها ثورة أطاحت بآمال بني اُميّة، ونسفت أحلامهم وما بنوا عليها من صروح خياليّة.
بَيد أنّهم دبّروا الأمر بشكل آخر كما يعرفه الجميع، حيث طالبوا بدم عثمان، وهذه أوَّل آية تدلّ على أنّهم اعتبروا أنفسهم وارثين الخلافة بعد عثمان، وإلاّ فما كان يمكنهم أنْ يُطالبوا بذلك بعد أنْ يضمُّوا صوتهم إلى سائر أصوات المسلمين، ويبايعوا عليّاًعليهالسلام ، لا بل إنّهم يُريدونها كسرويّة وقيصريّة يرثها الحفيد، وتُبرَم
باسم الوليد وهو رضيع.
فما أغنى معاوية عن هذا الذي لجَّ فيه وتهالك عليه. لقد رفع في الشام قميص عثمان حيث حشد تحته خمسين ألف مقاتل خاضبي لحاهم بدموع أعينهم، ورافعيه على أطراف الرماح، قد عاهدوا الله ألاّ يُغمدوا سيوفهم حتّى يقتلوا قَتَلة عثمان، أو تلحق أرواحهم بالله.
هل كان نهج معاوية هو النّهج الصحيح الأمثل لإنزال القصاص باُولئك القتلة؟ أكان طريق القصاص أنْ يمتنع من البيعة للخليفة الجديد الذي اختاره المهاجرون والأنصار في المدينة، ثمّ دخل المسلمون في بيعته أفواجاً من كلّ الأمصار والأقطار؟ أكان طريق الثأر لعثمان أنْ يمتنع معاوية عن البيعة، ويتمرّد على الدولة في تلك الظروف المزلزلة التي لا تتطلّب شيئاً كما تتطلّب رأب الصدع وجمع الكلمة؟ أكانت آية ولائه وحبِّه لعثمان أنْ يجعل من ( قميصه ) المضمّخ بدمه رايةً يبعث تحتها كلّ غرائز الجاهليّة، ويدير تحتها أتعس حرب أهليّة تُزلزل الإسلام وتفني المسلمين(١) ؟
لم يكن الهدف الثأر لعثمان، وإلاّ فما حداه إلى أنْ يكتب إلى
_____________________________
(١) خالد محمد خالد عن كتابه في رحاب علي / ١٦٢ - ١٦٣.
كلٍّ من طلحة والزبير يدعو كلاً منهما بإمرة المؤمنين، ويدَّعي أنّهما أحقّ بها من عليٍّعليهالسلام ، وأنّه من ورائهما ظهير، قد اتّخذ لهما البيعة من أهل الشام سلفاً؟! وإنّما كان هدفه أنْ يُثير استفزازاً في العالم الإسلامي المتوتّر، ويخرج من وراء ذلك بما يريد من الظفر بالسلطة المأمولة، والحزب الاُموي من وراء القصد.
ولنترك هذا المشهد إلى مشهد آخر. فحينما نجحت مؤامرة معاوية، وساعدته الأقدار على ابتزاز السّلطة من يد أهلها، وهيّأت له كلّ أهدافه وحقّقت له جميع شهواته، فما الذي حداه إذاً إلى استخلاف يزيد هذا السكِّير المقامر من بعده؟!
لا نستطيع تفسيراً لذلك إلاّ ما قد سبق: من أنَّ القضيّة كانت أعمق ممّا نخاله؛ فإنّها ليست قضيّة استخلاف والد ولده فقط، بل هي تحويل الخلافة إلى مُلكٍ اُمويٍّ عضوض، صرّح به مروان بن الحكم في عهد عثمان إذ قال للنّاس المحتشدين حول البلاط، يطالبون بحقوقهم الشرعيّة: ما تريدون من مُلكنا؟!
إذاً هو مُلكٌ لكم تُريدون الإبقاء عليه بما اُوتيتم من قوّة وسلطان! وراحت الأحداث تباعاً كلّها تؤكّد هذا التفسير حتّى جاء أحد الموالين لبني اُميّة، فصعد المنبر في حشد يضمّ زعماء المسلمين ذلك اليوم، ومعاوية مُتصدّر وإلى جنبه يزيد،
فنظر إلى معاوية، ثمّ إلى يزيد، ثمّ هز سيفه قائلاً: أمير المؤمنين هذا ( معاوية )، فإنْ مات فهذا ( يزيد )، وإلاّ فهذا. وهزّ السّيف، فتقبّل النّاس خوفاً من آخر الثلاثة.
ومات معاوية، وكتب يزيد إلى الولاة بأخذ البيعة له، وجاء كتابه إلى المدينة، وطلب حاكم المدينة من الحسينعليهالسلام البيعة ليزيد فأبى، وكان من الطبيعي أنْ يأبى. ثمّ حشّد الحسينعليهالسلام أهله وأصحابه، وسار إلى مكّة لإعلان ثورته، لا على يزيد فقط بل على الحزب الاُموي، وعلى التوتّر الذي يسود العالم الإسلامي أيضاً، ولا شكّ أنّه سوف يربح القضيّة.
وبقيعليهالسلام في مكّة المكرمّة أيّاماً، يُعرّف النّاس مكانته السامية من الرسولصلىاللهعليهوآله ، وسابقته النّاصعة للرسالة، وقِدمه الأصيل في قضايا المسلمين.
وأرسل يزيد إلى اغتياله مئة مسلّح، فعرف الحسينعليهالسلام ذلك، فتنكَّب الطريق وقصد الخروج إلى الكوفة. لماذا؟ لأسباب نوجزها فيما يلي:
١ - إنّه، إمّا أنْ يُعلن الحرب على بني اُميّة وأنصارهم في مكّة، وهو لا يُريد ذلك؛ لأنّه يخالف قداسة البيت وحرمته أولاً؛
ولأنّه إنْ ربحها لم يفد شيئاً؛ لأنّ من ورائه دولة مُسلّحة منتشرة قواها في كلّ مكان، في حين أنّ مكّة تكفيها سريّة تتّجه من المدينة، حيث لا تزال حكومة الاُمويّين متمكِّنة هناك، فتطحنها طحناً، بينما الكوفة هي الآن أعظم قوّة إسلاميّة على الإطلاق.
أضف إلى ذلك، أنّ هناك من اُجراءِ بني اُميّة كثيرون يُلفّقون عليه من الروايات ما هو بريء منها، كما فعلوا بالنّسبة إلى أمير المؤمنين عليٍّعليهالسلام ، والحسينعليهالسلام لا يهمّه شيء كما يهمّه معرفة النّاس أنّه على حقٍّ، وأنّ مناوئيه على باطل حتّى يُتّبع نهج الحقّ الذي يُمثّله، ويترك نهج الباطل الذي يُمثّلونه. ولو أعلنها حرباً عليهم، لكانت النتيجة أنْ يُقتل بسيف هؤلاء الوافدين من قِبل السّلطة وتحت ألبستهم أسلحة الإجرام.
٢ - في مكّة ابنُ الزبير، وهو يزعم بأنّه أحقّ بالأمر من الحسينعليهالسلام ، ولا يهمّه أنْ يتّحد مع يزيد الذي يدّعي الآن أنّه من مناوئيه في سبيل القضاء على الحسينعليهالسلام ، كما صنع ذلك أبوه في معركة البصرة، حيث اصطفّ بجانب مناوئي عليٍّعليهالسلام ليحظى بالخلافة دون الإمامعليهالسلام .
٣ - الإمام الحسينعليهالسلام لم يكنْ يُريد أنْ يشتغل به، وهناك القضيّة الكبرى، حيث تحوّلت الخلافة في الشام إلى مُلك عضوض،
وهذا انحراف يُجري الخلافة من حقٍّ إلى باطل، والاُولى أشدّ وأمرّ من الثانية قطعاً.
٤ - إنّ مجرّد سفره إلى العراق في حين يتقاطر النّاس إلى مكّة من كلّ حدب وصوب - يوم الثامن من ذي الحِجّة الحرام - إعلانٌ كافٍ لهم عن هدفه، بل هو وحده كافٍ لتنبيه أهل الأمصار والأقطار النائية بما يحدث في العاصمة من حقيقة أمر الخلافة.
ثمّ سار بموكبه الحافل يقصد الكوفة، وقد أعلنت متابعة الإمامعليهالسلام وأعطت البيعة له، وتواعدت على الحرب معه، كما كانت تحارب مع أبيهعليهالسلام أهلَ الشام.
ومسلم بن عقيل ابن عمّه والٍ عليهم، نافذ الكلمة، مطاعٌ أمين، ثم اختلفت الرياح السّود على الأوساط، وكما يبيّن الإمامعليهالسلام نفسُه؛ خذلته شيعته وأنصاره، ونقضوا بيعته، وتلاشت قواه تحت ترهيب قوّة الشام وترغيبها.
وهناك سبب آخر غيّر مجرى التاريخ، وهو: التزام أنصار الحسينعليهالسلام بالحقّ حتّى في أشدّ الظروف وأعتاها، فهذا في جانب، وفي جانب آخر عدم ارتداع أهل الشام عن أيّ جريمة، وأيّ اغتيال وخدعة.
وهنا أنقل لكم قصّتين فقط، ثمّ آتي بنظرتين لهما حتّى نعرف بالمجموع اختلاف السير والاتّجاه بين الحسينعليهالسلام ، وبين
يزيد وأنصارهما:
كان مسلم بن عقيل الحاكم على الكوفة مطلق اليد، وكان عبيد الله بن زياد قد جاء إليها ليرجعها لبني اُميّة، ويُرضي رجل من زعماء الشيعة يُدعى هاني بن عروة، فعاده ابن زياد علّه يستطيع أنْ يربحه، وكان مسلم حاضراً، فأمره هاني أنْ يختفي في مخدع، فإذا جاء ابن زياد، والي يزيد وزعيم المعارضة الاُمويّة في الكوفة، ضرب عنقه وتخلّص من شرّه وشرّ يزيد من بعده.
وجاء ابن زياد، وانتظر هاني خروج مسلم ساعة بعد ساعة تستطيل دقائقها أنْ لا يفوته الوقت، ومع ذلك فلم يوافِهِ مسلم على الوعد، فأخذ يُنشد أشعاراً يُحرّضه بتلميحٍ على قتل ابن زياد، فأحسّ ابن زياد بالسّرِّ وخرج هارباً، فلمّا جاء مسلم وبَّخه هاني على استمهاله، فقال: قال رسول اللهصلىاللهعليهوآله :« المُسلمُ لا يغدُرُ ».
فقول رسول الله هو الميزان، وهو المقياس الأوّل والأخير للحركة في منطق أنصار الحسينعليهالسلام ؛ لأنّهم لا يهدفون إلى غاية سوى بلوغ مرضاة الله تعالى، ولنْ تُبلغ مرضاته بمعصيته، ولا يُطاع الله من حيث يُعصى.
وانقلبت الاُمور، وقُتل مسلم،
وجيء بخبر شهادته إلى الحسينعليهالسلام وهو في طريقه إلى الكوفة، في منزل يُدعى ( زُبالة ).
وهو إذ ذاك أحوج ما يكون إلى أنصار يؤيِّدونه وينصرونه؛ لأنّ أمامه الكوفة المخلوعة المغلوبة على أمرها، ووراءه مكّة المحتشدة فيها قوى مناوئيه من أنصار بني اُميّة وغيرهم، ومعه الآن زهاء ألف من الأنصار، أشدّ ما يكون احتياجاً إلى الإبقاء عليهم بكلِّ وسيلة. لكنّه أبَى إلاّ أنْ يُصارحهم بالموضوع، ويُبيّن لهم سقوط حكومته في الكوفة وحرج موقفه، ويجيز لهم التخلّي عنه إنْ شاؤوا.
استمعوا إلى خطبته حينما سمع بسقوط الكوفة في أيدي بني اُميّة:« أيّها النّاس، إنَّما جمعتُكُمْ على أنّ العراق لي، وقد أتانِي خَبرٌ فظيعٌ عن ابن عمِّي مسلمٍ يدلُّ على أنّ شيعَتَنا قد خذلتنا. فمَنْ منكُمْ يصبرُ على حرِّ السِّيوفِ وطعنِ الأسنّةِ فليأتِ معنا، وإلاّ فلينْصَرف عنَّا» (١) .
إنّه لا يبتغي من وراء نهضته سوى الله، وإذاً فليعمل كما يُريد الله صريحاً واضحاً فلا يخدع ولا يمكر.
_____________________________
(١) بلاغة الإمام الحسينعليهالسلام / ٦٩.