الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296666
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296666 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العبّاسعليه‌السلام بين الصّفَّين

ومن تلك المواقف الشجاعة لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في صفّين خروجه مبارزاً بين الصّفَّين وعلى وجهه نقاب، فهابه الناس وخافوا منه، فانتدب له معاوية أبا الشعثاء، فكبُر على أبي الشعثاء ذلك وأنف من الخروج إليه وقال: إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس فلا يليق بي أن أخرج إليه، ولكن سوف أبعث له أحد أولادي، وكانوا سبعة.

وكلّما خرج إليه واحد منهم قتله حتّى أتى عليهم جميعاً، فغضب أبو الشعثاء غضباً شديداً، وامتلأ على هذا الشاب غيضاً وحنقاً وقال: لأخرجنّ إليه ولأثكلنّ بقتله والديه.

ثمّ خرج يشتدّ نحوه، حتّى إذا اقترب منه حمل عليه فابتدره أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بضربة قاضية أتت عليه وألحقته بأولاده السبعة، عندها خافه جيش معاوية وهابوه، ولم يجرأ أحد منهم بعد ذلك على مقارعته وقتاله، ولا على مبارزته ومنازلته؛ ممّا اضطرّه للرجوع إلى وحدته ومقرّه.

هذا من جهة جيش معاوية؛ أمّا من جهة جيش الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فقد تعجّبوا من شجاعة هذا الشاب وشهامته، وتلهّفوا إلى معرفته والتطلّع عليه، ولذلك عندما رجع هذا الشاب إلى مقرّه أقبل إليه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يحبّذه ويستحسنه، ثمّ أزال النقاب عن وجهه فإذا هو ولده قمر بني هاشم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام .

١٦١

الخصّيصة الثالثة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام المعروف بالعبد الصالح

لعلّ أسمى المنازل وأرفع المقامات، وأرقى الأوسمة، وأرفع النياشين لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هو وسام ونيشان العبد الصالح، الذي وسمه به الإمام الصادقعليه‌السلام ، وذلك في زيارته المعروفة التي نقلها عنه أبو حمزة الثمالي، والتي جاء فيها: ((السّلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين صلّى الله عليهم وسلّم)).

فإنّ تركيب كلمة العبد مع كلمة الصالح والتعبير به عن الإمام الصادقعليه‌السلام في حقّ أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ينبئ عن عظيم إيمان أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بالله، وشدّة عبوديته له، وكبير إخلاصه وتسليمه لأمر الله، وجميل هديه وصلاحه في نفسه إذ العبودية لله تعالى هي في نفسها منزلة المعصومين من الأنبياء والأوصياء، وما مدح الله أنبياءه إلاّ بأنّهم عباده، كما لم يعتزّ الأنبياء والأولياء إلاّ بكونهم عباد الله، فإذا قرنت العبودية لله بالصلاح والهدى ازدادت نظارةً وجمالاً، وعلواً وارتفاعاً.

عباد الله الصالحون في القرآن

قال تعالى في خصوص (عباده الصالحين) مبشّراً لهم من بين الناس كلّهم بوراثة الأرض والتمكين منها، وإقامة العدل والقسط فيها:( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ

____________________

(1) سورة الأنبياء / 105.

١٦٢

مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) .

قال الإمام أبو جعفرعليه‌السلام كما في شرح الآيات الباهرة: ((هم آل محمّد صلوات الله عليهم)).

وفي تفسير قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) . قال الإمام العسكريعليه‌السلام ، عن آبائهعليهم‌السلام : ((أي اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:ومَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النبيِّين وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئك رَفِيقاً ) ).

وفي شرح الآيات الباهرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((أمّا النبيّون فأنا؛ وأمّا الصدّيقون فأخي علي؛ وأمّا الشهداء فعمّي حمزة؛ وأمّا الصالحون فابنتي فاطمة وأولادها الحسن والحسين)).

استنتاج واستنباط

فعباد الله الصالحون في الآية الأولى، كما عن الإمام أبي جعفرعليه‌السلام : ((هم آل محمّد صلوات الله عليهم)). وإذا كان كذلك فإعطاء الإمام الصادقعليه‌السلام لعمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وسام (العبد الصالح) إدخال لهعليه‌السلام في آل محمّد (صلوات الله عليهم).

كما إنّ عباد الله الصالحين في الآية الثانية حسب ما جاء تفسيرها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هم: ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة الزهراءعليها‌السلام وأولادها الإمامين الهمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ومنح الإمام الصادقعليه‌السلام عمّه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام نيشان العبد الصالح حشر لهعليه‌السلام في أولاد فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

وليس ذلك بعجيب، ألم يرو عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((القريب مَنْ قرّبته المودّة))؟ ومَنْ أكبر مودّة من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لإماميه وسيّديه سبطي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتيه الإمام الحسن والإمام الحسينعليهما‌السلام ؟

١٦٣

ألم ينقل عن فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّها كانت تدعو العبّاسعليه‌السلام ابناً لها، وتعدّه في زمرة أولادها؛ وذلك تقديراً لإخلاصهعليه‌السلام ومودّته، وشكراً له على تضحيته وحسن بلائه؟

وممّا يذكر شاهداً على ذلك قصّة ذلك الزائر المعروف بالصلاح والسّداد، والخير والتقوى الذي كان يزور الإمام الحسينعليه‌السلام في كلّ يوم مرّتين وثلاث مرّات، ولا يزور أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام إلاّ مرّة واحدة كلّ عشرة أيّام.

فإنّه بحسب نقل أحد العلماء الثقاة رأى ذات ليلة في المنام فاطمة الزهراءعليها‌السلام فتقدّم إليها وسلّم عليها، فأعرضت عنه ولم تعبأ به، فتأثّر من ذلك وأحسّ بالتقصير من نفسه، وأخذ يعتذر منها قائلاً: إنّي أعترف بالتقصير، ولكن اُريد يا سيّدتي أن تعرّفيني بتقصيري حتّى اجتنّبه ولا يتكرر عندي.

فقالتعليها‌السلام : ((إنّ تقصيرك هو الإقلال من زيارة ولدي)).

فأجاب وبكلّ انشراح قائلاً: إنّي أزوره يا سيّدتي في كلّ يوم أكثر من مرّة، وأحياناً تصل زيارتي إلى ثلاث مرّات يومياً، ولست تاركاً لزيارتهعليه‌السلام .

فقالتعليها‌السلام له: ((صحيح إنّك تزور ولدي الإمام الحسين كذلك، ولكنك لا تزور ولدي العبّاس إلاّ قليلاً)).

نعم، كان كلّ ذلك وليس هو ببعيد، فقد تواتر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في حقّ سلمان الفارسي: ((سلمان منّا أهل البيت)). وتواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله النهي عن تسمية سلمان باسم (سلمان الفارسي)، وأمر أن يسمّونه باسم (سلمان المحمدي).

وإذا كان مثل ذلك في حقّ سلمان تقديراً لولائه ومحبّته، وشكراً له على حسن فعاله وعظيم بلائه، فليس هو عن أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بغريب من عظيم بلاء أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام يوم عاشوراء، وكبير عنائه في الله تعالى، وجميل تضحيته من أجل سيّده وإمامه وأخيه الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام .

١٦٤

الإمام الكاظم عليه‌السلام ووسام العبد الصالح

وممّا يدلّ على أنّ وسام العبد الصالح لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام إدخال له في آل محمّد (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وحشر له في أولاد فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، هو منح الله تعالى الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام الذي هو من آل محمّد (صلوات الله عليهم) بنصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو أيضاً من أولاد فاطمة الزهراءعليها‌السلام من حيث النسب وسام العبد الصالح.

كما في تلك القصة المعروفة المنقولة في المناقب عن كتاب الأنوار: وهي أنّ هارون العباسي كان يحاول بشتّى الوسائل والطرق أن ينال من شخصية الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام وأن يخدش سمعته، فكان يتذرّع بكلّ الحيل والمكائد لإلقاء التهمة على الإمامعليه‌السلام ، ويسعى في الافتراء عليه حتّى يتمكّن من قتله والانتقام منه علانية.

وذات مرّة فكّر في حيلة جديدة وهي أن ينفذ إلى الإمام جارية له كانت ذات جمال ووضاءة بعنوان أنّها تخدمه في السجن؛ ليتسنّى له أن يتّهمه عبرها ويفتري عليه بواسطتها. فما أن جاء بها السجّان إلى الإمامعليه‌السلام رفض قبولها منه، وقال له: ((قُل لهارون:...بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ، إنّه لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها)).

فلمّا رجع السجّان إلى هارون وأخبره بالخبر استطار هارون غضباً وغيظاً، وقال: ارجع إليه وقل له: ليس برضاك حبسناك، ولا برضاك أخذناك، ثمّ اترك الجارية عنده وانصرف.

فعل السجّان كلّ ما أمر به هارون، وترك الجارية في السجن عند الإمامعليه‌السلام ورجع،

١٦٥

عندها قام هارون من مجلسه وأنفذ الخادم إليه ليتجسّس عن حالها ويستعلم أخبارها، ولكن ما راع الخادم إلاّ أن رأى الجارية قد وقعت على الأرض ساجدة لربّها، لا ترفع رأسها من سجدتها، وهي في سجودها تكرّر تقديس ربّها وتنزيهه، وتقول: قدوس قدوس، سبحانك سبحانك! فهرع الخادم إلى هارون ورفع إليه خبرها.

وهنا حيث رأى هارون عكس ما كان يتوقّعه من مكيدته هذه، فإنّه كان يحاول بها النيل من الإمامعليه‌السلام ، والتذرّع عبرها لإلصاق التهمة به والانتقام منه وقتله، بينما قد انقلبت مكيدته إلى منقبة للإمامعليه‌السلام ، ورفعة لشخصيته ومقامه؛ ولذا تشبّث بكيل التهمة المتعارفة لدى فراعنة كلّ زمان وهو القذف بالسحر، فالتفت إلى مَنْ كان عنده وقال: سحرها والله موسى بن جعفر بسحره.

تحوّل وانقلاب

ثمّ قال هارون: عليّ بالجارية. فاُتي بها وهي ترعد شاخصة ببصرها نحو السماء، فانتهرها هارون قائلاً: ما شأنك؟

قالت: شأني الشأن البديع؛ إنّي كنت واقفة عند العبد الصالح وهو قائم يصلّي ليله ونهاره، فلمّا انصرف عن صلاته التفتُ إليه وهو يسبّح الله ويقدّسه، وقلت: يا سيّدي، هل لك حاجة أعطيكها؟

فقال لي متسائلاً: ((وما حاجتي إليك؟)).

قلت: إنّي أُدخلت عليك لحوائجك.

فقال وقد أشار بيده إلى جانب من السجن: ((فما بال هؤلاء؟)).

قالت: التفتُ إلى جانب الإشارة ونظرت فإذا روضة مزهرة غنّاء، لا أبلغ

١٦٦

آخرها من أوّلها بنظري، ولا أوّلها من آخرها، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج، وعليها وصفاء ووصايف لم أرَ مثل وجوههم حسناً، ولا مثل لباسهم لباساً؛ عليهم الحرير الأخضر والأكاليل والدرّ والياقوت، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ومن كلّ الطعام، فخررت ساجدة لله تعالى، خاشعة لعظمته، مسلّمةً لأمره، معترفة بما أنعم به على أوليائه، وما أتحفهم به من عظيم كرامته، وكنت في حالتي هذه حتّى أقامني هذا الخادم فرأيت نفسي حيث كنت.

فغضب هارون عندما سمع ذلك منها، وازداد عليها غيظاً وحنقاً، ثمّ أخذ يحاول التنويه لِما قالته والتشويه للحقائق التي أبدتها، والتغطية على السامعين؛ لذلك قال لها وبكلِّ غلظة: يا خبيثة، لعلّك سجدت فنمت فرأيت ما قصصتيه علينا في منامك، وما ذلك إلاّ أضغاث أحلام؟!

فقالت وهي منبهرة بما رأته من الواقع، ومتأثّرة به: لا والله، ما رأيت كلّ ذلك إلاّ قبل سجودي، وإنّما سجدت لمّا رأيت ما رأيت.

عندها اغتاظ هارون من كلامها بشدّة، وقال: اقبض إليك هذه الخبيثة واحبسها حتّى لا يسمع أحد منها هذا الكلام.

قال الخادم: فأخذت الجارية وحبستها، فأقبلت الجارية في الصلاة، وكانت إذا سألت عن قصّتها وقيل لها في ذلك أجابت قائلة: هكذا رأيت العبد الصالحعليه‌السلام .

قال فسألتها عن قولها: العبد الصالح.

فقالت: إنّي لمّا عاينت من الأمر ما عاينت، ورأيت ما رأيت نادتني الجواري: يا فلانة، ابعدي عن العبد الصالح حتّى ندخل عليه، فنحن له دونك.

ثمّ قال: فما زالت كذلك حتّى ماتت قبل الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام بأيام يسيرة.

ولا يبعد أنّ هارون أمر بدسّ السمّ إليها كما أمر بدسّ السمّ إلى الإمام الكاظم موسى بن جعفرعليه‌السلام .

١٦٧

السّلام على العبّاس في الصلاة

إذاً فكما أنّ الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام الذي هو من أولاد فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وهو من آل محمّد (صلوات الله عليهم) يدعى عند الله باسم العبد الصالح، فكذلك يكون أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام عندما دعاه الإمام الصادقعليه‌السلام باسم العبد الصالح، وإذا كان كذلك شمل أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام التحية والسّلام المخصوص في تسليم الصلاة؛ حيث نقول في التسليم الثاني، أي بعد التسليم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقولنا: السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، نقول بعدها: السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

فقولنا هذا في تسليم الصلاة يشمل وبكلِّ كفاءة أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام أيضاً، فكلّ مصلِّ مسلم هو في الواقع يدعو لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ويسلّم عليه في صلاته، وذلك في كلّ يوم خمس مرّات على الأقل، وهذا حظّ عظيم لا يناله إلاّ مَنْ هو أهل له كأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

١٦٨

الخصّيصة الرابعة والعشرين

في أنّهعليه‌السلام المعروف بالعابد

قال الله تعالى:( سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ) .

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : ((أفضل طبائع العقل العبادة)).

وروى الصدوق في ثواب الأعمال عن أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بأنّه كان يبصر بين عينيه أثر السجود.

وروي أيضاً خبر ورود الرؤوس ورأس أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى الكوفة، مسنداً عن القاسم ين الأصبغ بن نباته، صاحب أمير المؤمنينعليه‌السلام وحواريّه، أنّه قال: قدم علينا رجل من بني دارم ممّن شهد قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وحضر وقعة كربلاء، وهو مسودّ الوجه، وكان قبل ذلك رجلاً جميلاً، شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك، فما هو السبب في ذلك؟!

فقال بتلكّؤ وانفعال: لقد قتلت في كربلاء رجلاً من أصحاب الإمام الحسين أبيض، بين عينيه أثر السجود، وجئت برأسه إلى ابن زياد في الكوفة، وهو يعني من الذي قتله أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام الذي كان بين عينيه من كثرة العبادة لله تعالى آثار العبادة والسجود.

قال القاسم: لقد رأيته على فرس له وقد علّق الرأس بلبانها، وهو يصيب ركبتها، فقلت عندها لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً حتّى لا تصيبه الفرس بيديها.

فقال لي أبي: يا بُني، ما أُصيب به هو أشدّ؛ لقد حدّثني قائلاً إنّه ما نام ليلة منذ أن قتل العبّاس بن عليعليه‌السلام إلاّ وأتاه في منامه، وأخذ بضبعه وقاده منطلقاً به إلى

١٦٩

جهنّم وقذف به فيها حتّى يصبح.

قال القاسم: فسمعت امرأة بذلك الذي قاله إلى أبي، وكانت جارة لذلك الرجل، فقالت مؤيدة قول أبي: إنّ الرجل ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه وصراخه.

قال القاسم: فقمت في مجموعة من شباب الحي وأتينا امرأة ذلك الرجل وسألناها عن أمر زوجها، فقالت: إنّه قد فضح نفسه، وأبدى سرّه، وقد صدقكم.

سمة العابد: الحرية والتحرر

سمةُ العبيدِ من الخضوعِ عليهمُ

لـلـهِ إنْ ضـمّتهمُ الأسـحارُ

فإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم

بـيضُ الـصوارمِ أنّهم أحرارُ

هذان البيتان من قصيدة للسيّد حيدر الحلّي يصف فيها الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وفي طليعة أصحابه هو أخوه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، كما هو واضح.

ونظم الدمستاني قصيدة أيضاً في وصف الإمام الحسينعليه‌السلام والشهداء معه، وفي مقدمة الشهداء أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقد جاء فيها:

ألا تـرى أولـيـاءَ اللهِ كـيفَ قَلَتْ

طيبَ الكرى في الدياجي منهمُ المقلُ

يدعـونَ ربَّـهـمُ في فكِّ عنقهمُ

مـن رقِّ ذنـبـهـمُ والدمعُ ينهملُ

نُـحفُ الـجسومِ فلا يُدرى إذا ركعوا

قـسـيُّ نـبـلٍ هـمُ أمْ ركّعٌ نُبْلُ

خمصُ البطونِ طوىً ذبلُ الشفاهِ ظمىً

غـمـشُ الـعيونِ بُكاً ما عبّها كحلُ

يُـقالُ مرضى وما بالقومِ من مرضٍ

وخـولـطـوا خبلاً حاشاهمُ الخبلُ

تـعـادلَ الـخوفُ فيهم والرجاء فلمْ

يُـفـرّط بـهم طَمَعٌ يوماً ولا وجلُ

إنْ يـنطقوا ذكروا أو يسكتوا شكروا

أو يغبطوا غفروا أو يقطعوا وصلوا

١٧٠

توضيـح وتبيين

نعم، لقد أجاد السيّد حيدر الحلّي في بيتيه وأبدع، وكذلك أبدع الدمستاني وأجاد، غير أنّ وصف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وسائر أصحابه في قصيدة الدمستاني اقتباس من خطبة المتّقين التي خطبها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بالتعريف بالمتقين، بينما وصف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأخيه أبي الفضل العبّاس، وسائر الشهداء في البيتين من قصيدة السيّد حيدر الحلّي تصوير لمعنى جميل ورد به الكتاب والنص الشريف، وهو أنّ العبودية لله تعالى تساوي الحريّة في كلّ ما هو سوى الله تعالى.

فالعابد هو حرّ بمعنى الكلمة؛ لأنّه بعبادته لله تعالى يستلهم الكرامة والإباء، ويستوحي الحريّة وعزّة النفس، والإنسان الحرّ لا يخضع لشيء من التهديد والتطميع، ولا يركع أمام الهوى والمغريات، ولا يكسره ما يحدق به من البلايا والرزايا وما يحيط به من المصائب والشدائد.

وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام حيث كان هو العابد الناصح، والناسك المخلص، فإنّه كان كذلك أيضاً؛ إذ هو إلى جنب عبوديته لله تعالى، وظهور آثار السجود على جبهته، وسيماء الصالحين في وجهه كان فوق التطميع والتهديد، وأرفع من الإغراء والتسويل؛ وموقفه المشرّف في كربلاء تجاه الإغراء من عرض الأمان، والوعد بالجاه والمقام هو خير دليل على ذلك.

بين الرهبانيّة والماديّة

ثمّ لا يخفى أنّه ليس في الإسلام رهبانيّة صرفة كما ابتدعها النصارى، ولا ماديّة صرفة كما اخترعها اليهود، وإنّما الإنسان دين المعنويّات والماديّات معاً،

١٧١

ودين الروح والجسم مجتمعين، ودين الدنيا والآخرة مقترنين.

والنبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الأطهار قد جمعوها معاً؛ فكانوا في وقت واحد رهباناً وساسة، وعُبّاداً وقادة، وزهّاداً وسادة.

وكان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام خير مَنْ اقتدى بهم (صلوات الله عليهم) في هذه الصفة، وانتهج نهجهم في هذه الخصلة؛ فكان راهباً في الليل، يبيت لله تعالى قائماً وراكعاً وساجداً، ويقضي ليله في عبادة ربّه حتّى بان على جبهته من شدّة عبادته لله تعالى وكثرة سجوده لربّه آثار العبادة، وصار مصداقاً لقوله تعالى:( سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ) .

وفي نفس الوقت كان أسداً في النهار، وقائداً في جيش أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحاملاً للوائه العظيم منذ بداية نهضتهعليه‌السلام وحتّى استشهاده هو في يوم عاشوراء وعلى أرض كربلاء؛ فأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو العابد المتهجّد في الليل، والأسد الباسل، والمحنّك العاقل في النهار.

هذا، وقد قال الشيخ المفيد في إرشاده في أخبار ليلة العاشر من المحرّم: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قام ليله كلّه يصلّي ويستغفر، ويدعو ويتضرّع، وقام أصحابه كذلك يصلّون ويدعون ويستغفرون.

ومن المعلوم أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام كان في طليعة أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام في كلّ خير ومكرمة؛ فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام في ليلة عاشوراء مضافاً إلى قيامه بحراسة المخيّم كان في طليعة المتعبّدين لله تعالى، والراكعين والساجدين له من بين أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام

وقال السيّد ابن طاووس في كتابه المعروف (اللهوف) مثل ما قاله الشيخ المفيد في كتابه المزبور (الإرشاد)، أنّه قال: وبات الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدويّ النحل، بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، فعبر إليهم والتحق بهم في تلك الليلة من معسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً على أثر ذلك،

١٧٢

وجاهدوا في يوم عاشوراء بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام حتّى استشهدوا.

ومن الواضح أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هو في مقدّمة الأصحاب في السبق إلى المكارم والفضائل، وفي مقدّمة مَنْ كان مع الإمام الحسينعليه‌السلام من أهل بيته أيضاً.

العابـد: هو المطيـع

ولقد ذكرنا فيما سبق أنّه جاء في زيارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام المرويّة عن الإمام الصادقعليه‌السلام بسند معتبر ما يثبت لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هذا الوسام المنيف، ويحرز له هذا النيشان الشريف؛ وذلك حيث يقولعليه‌السلام : ((السلام عليك أيّها العبد الصالح)).

فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام الذي بيده موازين السماء، ولا يمنح أحداً ما لا يستحق، قد منح عمّه العبّاسعليه‌السلام وسام العبوديّة لله تعالى، مقروناً بوصف الصدق والصلاح، وليس وساماً مجرّداً عن هذه الصفة؛ فإنّ العبوديّة المحبوبة عند الله تعالى والممدوحة عند رسوله وأوصيائه هي العبوديّة المقرونة بالصدق والصلاح.

ثمّ يفسّر الإمام الصادقعليه‌السلام معنى العبوديّة المقرونة بالصلاح التي أثبتها لعمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بقوله: ((المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (صلّى الله عليهم وسلم))؛ فإنّ العبادة الخالصة، والعبوديّة الصادقة هي الإطاعة لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرين من آل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام المثل الأعلى، والنموذج الأفضل في مضمار العبادة، ومعنى الطاعة، فهو إذاً بحقّ وجدارة العابد والمطيع.

الوحي ووسام العبوديّة

العبوديّة لله تعالى حيث تربط العبد بخالقه، وتقطعه عمّن سواه، وتفطمه عن

١٧٣

العبوديّة لغير الله من الهوى والشهوات، والطواغيت والشياطين.

هي أكبر الأوسمة، وأعلى النياشين التي يمكن لإنسان أن ينالها منحة من السماء، وهديّة من خالق الإنسان؛ ولذلك نرى أنّ الله سبحانه وتعالى منح هذا الوسام، وأهدى هذا النيشان إلى الصفوة من خلقه، والخيرة من بريته، ألا وهم الأنبياءعليه‌السلام ، وعلى رأسهم الرسول الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي خلق الله الكون لأجله، وبرء الخلق في محبّته ومحبّة أهل بيتهعليهم‌السلام ، فقال في محكم كتابه الكريم ومبرم خطابه العظيم، واصفاً معراج رسوله الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله :( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى‏ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏ الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (1) .

وقال تعالى واصفاً عبادة نبيّه الكريم، واجتماع الجنّ للإسلام على يده:( وَأَنّهُ لَمّا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ) (2) .

كما وأمرنا أن نقول في تشهّد الصلاة: (وأشهد أنّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ) مقدّمين العبوديّة على الرسالة.

وقال تعالى في حقّ سائر أنبيائه:( كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ) (3) .

وقال عزّ من قائل:( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبصَارِ ) (4) .

وقال سبحانه وتعالى:( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (5) .

وقال سبحانه وتعالى:( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إنّه أَوّابٌ ) (6) .

وقال سبحانه وتعالى:( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيّوبَ إِذْ نَادَى‏ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) (7) .

وقال تعالى على لسان عيسى بن مريمعليه‌السلام :( قَالَ إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ) (8) . وغير ذلك ممّا يدلّ على أنّ وسام العبوديّة خاصّ بالأنبياء والأوصياء ومَنْ حذا حذوهم، كأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

____________________

(1) سورة الإسراء / 1. (2) سورة الجن / 19.

(3) سورة القمر / 9. (4) سورة ص / 45.

(5) سورة ص / 17.(6) سورة ص / 30.

(7) سورة ص / 41. (8) سورة مريم / 30.

١٧٤

الخصّيصة الخامسة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام المعروف بالطيّار

الطيّار: صيغة مبالغة، من طار يطير طيراناً، ويصطلح اليوم على قائد الطائرة ومديرها، فيقال لقائد الطائرة والمحترف لسياقتها في هذا الزمان: (الطيّار).

ولكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أطلق اسم الطيّار على ابن عمّه جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، كما إنّ ابنه الإمام زين العابدينعليه‌السلام أطلق اسم الطيّار على عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فعُرِفَ على إثرهما كلّ من جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، وأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بالطيّار؛ وذلك لشبه كبير بينهما في التضحية، وكيفية الشهادة في سبيل الله، بحيث استحقّا بسببه النيل على وسام (الطيّار).

الطيّـار الأول

أمّا جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام فهو ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ورأس المهاجرين إلى الحبشة، الذين استطاعوا إدخال الإسلام إليها، وجذب النجاشي إلى الإسلام، وقصته في التاريخ مندرجة وواضحة.

وهو الذي لمّا قدم من الحبشة كان قد تمّ فتح خيبر على يد أخيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فالتزمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل يقبّل بين عينيه، ويقول: ((ما أدري بأيهما أشدّ فرحاً؟ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟)).

١٧٥

وهو الذي بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مؤتة لحرب هرقل ملك الروم، ودفع الراية إليه، واستعمل على الجيش معه زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وقال: ((إن قُتِلَ جعفر فزيد بن حارثة على الناس، وإن قُتِلَ زيد فعبد الله بن رواحة، وإن أُصيب ابن رواحة فليرتضِ المسلمون أحدهم)).

قال رجل من اليهود: إن كان محمّد نبيّاً كما يقول سيقتل هؤلاء الثلاثة؛ لأنّه ما بعث نبي سرية وقال: إن قُتِلَ فلان فبعده فلان إلاّ وقُتِلَ. وكان كذلك؛ فقد قُتِلَ هؤلاء الثلاثة، ونالوا درجة الشهادة معاً.

من أنبـاء مؤتة

قال جابر: فلمّا كان اليوم الذي وقع فيه القتال صلّى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنا الفجر، ثمّ صعد المنبر فقال وهو يرى بأمر الله ساحة الحرب: ((قد التقى إخوانكم مع المشركين)). فأقبل يحدّثنا بكرّات بعضهم على بعض إلى أن قال: ((لقد أخذ الراية جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام وتقدّم للحرب بها)).

ثمّ بكىصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ((قُطِعَتْ يده، وقد أخذ الراية بيده الاُخرى)). ثمّ قال: ((قُطِعَتْ يده الاُخرى، وقد ضمّ اللواء إلى صدره)). إلى أن أخبر بشهادته، فبكى عندها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبكى جميع مَنْ حضر من المسلمين.

ولم يكن عليعليه‌السلام حاضراً، فعند ذلك دخل عليعليه‌السلام في المسجد، فلمّا بصر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ((إنّ علياً لا يطيق أن يسمع خبر أخيه فأنصتوا واسكتوا)). فسكتوا.

فلمّا دخل عليعليه‌السلام ونظر في وجوه الناس قال متسائلاً: ((يا رسول الله، هل لك علم بأخي جعفر؟)). فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ((آجرك الله يا أبا الحسن في جعفر، لقد قُتِلَ)). فبكى أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال: ((إنّا لله وإنا إليه راجعون، الآن انقصم ظهري)).

١٧٦

في دار جعفر

ثمّ نزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المنبر وصار إلى دار جعفر، فدعا بعبد الله بن جعفر فأجلسه في حجره، فجعل يمسح على رأسه، فقالت اُمّه أسماء بنت عميس: إنّك لتمسح على رأسه كأنّه يتيم؟!

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد دمعت عيناه: ((لقد استشهد جعفر، وقد قُطِعَتْ يداه قبل أن يُقتل)). فبكت أسماء، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله لها: ((لا تبكي؛ فإنّ جبرائيل أخبرني أنّ الله تعالى قد أبدله من يديه جناحين من زمرد أخضر، فهو يطير بهما في الجنّة مع الملائكة كيف يشاء)).

فهدأت أسماء لمّا سمعت ذلك وسكنت، ثمّ قالت: يا رسول الله، لو أعلمت الناس بذلك. فعجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عقلها، فقام ورقى المنبر والحزن يعرف عليه، وقال: ((إنّ المرء كثير بأخيه وابن عمّه، ألا إنّ جعفراً قد استشهد، وجُعِلَ له جناحان يطير بهما في الجنّة)). ثمّ نزلصلى‌الله‌عليه‌وآله ودخل بيته، وقال لفاطمةعليها‌السلام بعد أن أمرها أن تتّخذ طعاماً لأسماء بنت عميس ثلاثة أيام: ((يا فاطمة، اذهبي فابكِ على ابن عمّك، فإن لم تدعي بثكل فما قلت فقد صدقتِ)).

فاجتمعت النسوة يساعدن أسماء بالبكاء على جعفر، وفاطمةعليها‌السلام تقول: ((وا عمّاه!)). فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((على مثل جعفر فلتبكِ الباكية)).

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك إذا دخل بيته كثر بكاؤه على جعفر حتّى تقطر لحيته، وهو يقول: ((اللّهمّ إنّ جعفراً قد قدم إليك إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذرّيّته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذرّيّته)).

وجعفر الطيّار هذا قد أثنى عليه بعد الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنينعليه‌السلام وسائر الأئمّة الطاهرينعليه‌السلام ؛ ففي نهج البلاغة وفي كتاب للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى معاوية جاء فيه: ((إنّ قوماً قُطِعَتْ أيديهم في سبيل الله، ولكلّ

١٧٧

فضل، حتّى إذا فُعل بواحدِنا ما فُعل بواحدهم قيل له: الطيّار في الجنّة، وذو الجناحين)).

الطيّار الثـاني

وأمّا العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فهو أخو الإمام الحسينعليه‌السلام ، وابن والده، وكافل أهل بيته، وحامل لوائه، وقائد جيشه، وكبش كتيبته، وحامي ظعنه، وساقي عطاشى حرمه، وأنفس ذخائره.

الأخ الناصح، الشقيق المدافع، والمحامي الناصر، والوفي المناجز، أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام الذي لم يستطع صبراً على البقاء بعد أن رأى أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام وحيداً فريداً، قد قُتِلَ جميع أصحابه وأهل بيته، فأقبل أوّلاً نحو القوم فوعظهم وأرشدهم، فلمّا لم يرَ أثراً فيهم أقبل نحو أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام بتواضع وتأدّب، وطلب منه الرخصة للقتال، قائلاً: هل من رخصة؟

فلم يأذن له الإمام الحسين، وقال له وهو يبكي بكاءً شديداً: ((يا أخي أنت صاحب لوائي، والعلامة من عسكري)).

فقال العبّاسعليه‌السلام بالتماس وانكسار: قد ضاق صدري من هؤلاء المنافقين، وأريد أن آخذ ثأري منهم، فأمره الإمام الحسينعليه‌السلام أن يطلب الماء للأطفال، فركب العبّاسعليه‌السلام جواده، وأخذ القربة، واتّجه نحو المشرعة، فأحاط به أربعة آلاف ورموه بالنبال، فلم يعبأ بهم ابن أمير المؤمنين؛ أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، بل حمل عليهم وكشفهم عن المشرعة وحده، ونزل إلى الفرات وملك الماء، ولواء الحمد يرفّ منشوراً بيده، ويلوح خفّاقاً على رأسه.

وروى البعض بأنّ الموكّلين بالشريعة واصلوا حملاتهم على أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ست مرّات، وكان في كلّ مرّة يحمل عليهم فيكشفهم حتّى أبعدهم في المرّة الأخيرة عن المشرعة كثيراً ودخل الماء.

١٧٨

الفرات في تصرّف العبّاس عليه‌السلام

استولى أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام استيلاءً كاملاً على الماء، ولم يجرأ أحد من اُولئك الموكّلين بالماء بعد انكشافهم على أن يذوده عنه ويصدّه عن الشرب، وعن أن يملأ القربة ماءً؛ ولذلك أقبل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام وبكلّ تؤدة واطمئنان، وبدون أيّ خوف واضطراب على اغتراف غرفة من الماء ليروّي بها عطشه، ويطفئ عبرها حرّ كبده.

لكنّه لمّا قرب الماء من فمه تذكّر عطش أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، كما وتذكّر وصيّة أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقوله له: ((بُني عبّاس، إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة فإيّاك أن تشرب الماء وأخوك الإمام الحسينعليه‌السلام عطشان))؛ لذا صبّ الماء على الماء، وهو يقول: والله، لا أذوق الماء وسيدي الإمام الحسين عطشان.

ثمّ خاطب نفسه:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبـعـدهُ لا كـنتِ وتكوني

هـذا الـحسينُ واردُ المنونِ

وتـشـربـينَ باردَ المعينِ

تاللهِ مـا هـذا فـعـالُ ديني

ولا فـعـالُ صـادقِ اليقينِ

ثمّ ملأ القربة ماءً وركب جواده، وتوجه نحو المخيّم فقطعوا عليه الطريق، فوقع فيهم يحصد رؤوسهم، ويختطف أرواحهم حتّى كشفهم عن الطريق، وهو يقول:

لا أرهـبُ الموتَ إذا الموتُ زقا

حـتّى اُوارى في المصاليتِ لقى

نفسي لسبطِ المصطفى الطهرِ وقى

إنّـي أنـا الـعبّاس أغدو بالسقا

ولا أخـاف الـشرَّ يـومَ الملتقى

١٧٩

من أساليب العدو الجبان

عرف العدوّ عجزه، وعدم قدرته على مقابلة العبّاس بن عليعليه‌السلام وجهاً لوجه، وخاف من جهة ثانية وصول الماء إلى مخيّم الإمام الحسينعليه‌السلام ، فأخذ يفكّر في صدّه بالوسائل الجبانة، ويتذرّع للتخلّص منه بما يتذرّع به الجبناء اللئام، ففكّر في نصب الكمين له والإرصاد لقتله غدراً وغيلة، وانتخب لتنفيذ هذه الخطّة الجبانة أشدّ الأعداء قساوة وأكثرهم شراسة وضراوة ألا وهو زيد بن الرقّاد الجهني؛ فكمن له زيد من وراء نخلة، وعاونه على ذلك حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السيف بشماله، وجعل يضرب فيهم ويقول:

واللهِ إنْ قـطعتمُ يـميني

إنّي اُحامي أبداً عن ديني

وعـن إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النبيِّ الطاهرِ الأمينِ

ثمّ كمن له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة فضربه على شماله فبراها، فضمّ اللواء إلى صدره، وهو يقول:

يا نفسُ لا تخشي من الكفّارِ

وأبـشري بـرحمةِ الجبّارِ

مـع الـنبيِّ السيّدِ المختارِ

قـد قطعوا ببغيهم يساري

فـأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ

الأعداء يمثّلون بالعباس عليه‌السلام

عند ذلك أمِنَ الأعداء سطوة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وبأسه، ولم يرهبوا بعد من سيفه ورمحه، ولا من ضربه وطعنه.

وهل يملكُ الموتورُ قائمَ سيفهِ

ليدفعَ عنهُ الضيمَ وهو بلا كفِّ

١٨٠