الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296676
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296676 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فتكاثروا عليه من كلّ جانب ينتقمون منه ويمثّلون به، وأتته السهام كالمطر، فأصاب القربة سهم وأُريق ماؤها، وجاء سهم فأصاب صدره، وسهم آخر أصاب عينه، وحمل عليه رجل فقطع رجله اليمنى، ثمّ حمل عليه آخر فقطع رجله اليسرى، ثمّ حمل عليه ثالث فضربه بعمد من حديد على رأسه ففلق هامته، وهوىعليه‌السلام عندها من على ظهر جواده إلى الأرض، وهو ينادي: يا أخاه! أدرك أخاك.

فأتاه الإمام الحسينعليه‌السلام ، فلمّا رآه بتلك الحالة انحنى عليه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: ((وا أخاه! وا عبّاساه! الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي))، ثمّ أنشأ يقول:

تـعـدّيتم يـا شرَّ قومٍ ببغيكمْ

وخـالـفتمُ ديـنَ النبيِّ محمدِ

أما كانَ خيرُ الرسلِ أوصاكم بنا

أما نحنُ من نجلِ النبيِّ المسدّدِ

أمـا كانت الزهراء اُمّيَ دونكمْ

أمـا كان من خيرِ البريّةِ أحمدِ

لُـعنتم وأُخـزيتم بما قد جنيتمُ

فـسوفَ تُـلاقوا حرَّ نارٍ توقدِ

وفي رواية أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا جاء إلى مصرع أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ورآه بتلك الحالة جلس عنده، وأخذ رأسه ووضعه في حجره، وأخرج السهم من عينه، ثمّ مسح الدم والتراب عن عينيه، وكانعليه‌السلام به رمق فتح عينيه في وجه أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وبكى، فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام بلوعة ورحمة: ((ما يبكيك يا أخي يا أبا الفضل العبّاس؟)).

فقالعليه‌السلام بصوت منقطع ضعيف: وكيف لا أبكي، وقد جئتني ورفعت رأسي عن التراب وجعلته في حجرك، ولكن بعد ساعة مَنْ يأتي إليك ليرفع رأسك عن التراب ويضعه في حجره، ويمسح الدم والتراب عن وجهك؟

وبينا هو يكلّمه وإذا به يشهق شهقة وفارقت الدنيا روحه الطيّبة، عندها بكى الإمام الحسينعليه‌السلام ونادى: ((وا أخاه! وا عبّاساه!)).

١٨١

العبّاس عليه‌السلام وإصابة السهم عينه

نُقِلَ عن المرحوم آية الله السيّد محمّد إبراهيم القزويني أنّه يؤم الناس في صلاة الجماعة في صحن الروضة المقدّسة لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وكان يرق المنبر بعد انقضاء صلاة الجماعة، الخطيب الشهير، والواعظ المعروف آنذاك سماحة الشيخ محمّد علي الخراساني، وفي ليلة من الليالي تعرّض سماحة الشيخ الخراساني في منبره لطريقة استشهاد أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وتذكّر بالخصوص إصابة السهم عينه الكريمة، فبكى المرحوم آية الله السيّد القزويني على إثر حكاية سماحة الشيخ الخراساني هذا المصاب بكاءً شديداً، وتأثّر من ذلك تأثّراً كبيراً.

فلمّا نزل سماحة الشيخ الخراساني من المنبر قال له آية الله السيّد القزويني: شيخنا، أرجو من سماحتكم أن لا تذكروا في منبركم مثل هذه المصائب العظيمة، والرزايا المفجعة والمشجية التي يظنّ أنّه لا سند قوي لها، ولا أصل ثابت يمدها ظاهراً.

ولكن المرحوم آية الله السيّد القزويني نفسه التقى سماحة الشيخ الخراساني في اليوم التالي وأخذ يعتذر من سماحة الشيخ، ويطلب عفوه من اعتراضه عليه يوم أمس، فلمّا سأله سماحة الشيخ الخراساني عن سبب الاعتذار أجاب قائلاً: لقد رأيت البارحة في منامي أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام فتشرّفت بخدمته، وفزت بلقائه، وسعدت بتنبيههعليه‌السلام إيّاي؛ فإنّهعليه‌السلام التفت إليّ مشيراً إلى ما جرى بيني وبينك بالأمس، وقال مخاطباً إيّاي: أيّها السيّد، كيف اعترضت على الشيخ الخراساني في ما ذكره من المصاب مع أنّك لم تكن حاضراً واقعة كربلاء، ولم تكن شاهداً ما جرى عليَّ يوم عاشوراء؟

اعلم أيّها السيّد إنّهم لمّا قطعوا يديّ

١٨٢

غدراً وغيلة، وظلماً وعدواناً، رشقوني بالسهام كرشق المطر، ورموني بالنبال رمي النار الشرر، فأصاب عيني سهم منها ونبت في حدقتها، فحاولت إخراجه وإزاحته من عيني، وحيث أنّه لا يد لي حركت رأسي بشدّة ليقع السهم منها، ولكن كلّما حركت رأسي لم يخرج السهم وإنّما وقعت العمامة من رأسي، عندها رفعت ركبتي وقربت رأسي حتّى أخرج السهم بركبتي، فإذا بي اُجابه بضربة عمد من حديد على رأسي أدّت بي إلى أن أهوى من على ظهر جوادي إلى الأرض.

قال السيّد: عندها بكيت واشتدّ بكائي، وعلى إثره انتبهت من نومي نادماً حزيناً، وعلمت أنّي كنت مشتبهاً في اعتراضي، مخطئاً في انتقادي، وأنا الآن استغفر الله وأتوب إليه ممّا صدر منّي.

الإمام الحسين عليه‌السلام بعد مقتل العبّاس عليه‌السلام

ثمّ إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قام من عند مصرع أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ورجع إلى المخيّم منكسراً كئيباً حزيناً باكياً، وهو يكفكف دموعه بكمّه، ويكتم آثار الحزن عن وجهه؛ كي لا تراه النساء، ولا تعرف ما اعتراه، وقد تدافعت الرجال على مخيّمه، فنادى بصوت عالٍ يسمعه الجميع، ويعيه الكلّ، قائلاً: ((أما من مغيثٍ يُغيثنا! أما من مجيرٍ يُجيرنا! أما من طالبِ حقٍّ يُنصرنا! أما من خائفٍ من النارِ فيذبّ عنّا)).

فأتته ابنته سكينه وأخذت بعنان جواده، وقالت متسائلة: يا أبة، أين عمّي العبّاس، أراه قد أبطأ علينا بالماء؟! فقال لها، وقد تمالك نفسه: ((بُنيّة، استرجعي واصبري؛ فإنّ عمّك العبّاس قد قُتِلَ)).

فسمعته السيّدة زينبعليه‌السلام فلم تملك نفسها حتّى صرخت، ونادت: وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! فبكت النسوة، وبكى الإمام الحسينعليه‌السلام معهنَّ، ونادى مواسياً لهن: ((وا ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل!)).

١٨٣

نـادى وقـد ملأ البواديَ صيحةً

صمّ الـصخورِ لهولها تتألمُ

أأخـيّ مَـنْ يحمي بناتَ محمدٍ

إذ صرنَ يسترحمنَ مَنْ لا يرحمُ

ما خلتُ بعدكَ أنْ تُشلَّ سواعدي

وتكفَّ باصرتي وظهريَ يُقصمُ

هـذا حسامُكَ مَنْ يذلُّ بهِ العِدى

ولواكَ هـذا مَـنْ بهِ يتقدّمُ

هـوّنتَ يابنَ أبي مصارعَ فتيتي

والـجرحُ يسكنُهُ الذي هو أألمُ

فـأكـبَّ مـنـحنيّاً عليه ودمعُهُ

صـبـغَ البسيطَ كأنّما هو عندمُ

قـد رامَ يـلثمُهُ فلمْ يرَ موضعاً

لـمْ يُـدمِهِ عضُّ السلاحِ فيُلثمُ

بين الطيّارَين: العبّاس وجعفر عليهما‌السلام

نعم، لقد شارك أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في شهادته عمّه جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، وشابهه من حيث قطع يمينه وشماله قبل قتله، ولكن زاد ابن الأخ على عمّه أن قطع العدو الحاقد رجلي أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ورضخوا هامته بعمد من حديد، وقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً؛ ولذلك كان الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجّادعليه‌السلام كلّما تذكّر عمّه العبّاس بكى وتذكّر به عمّه جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام وبكى عليه أيضاً.

وذات مرّة - كما في أمالي الصدوق عن أبي حمزة الثمالي - وقع نظرهعليه‌السلام على عبيد الله بن العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاستعبر ثمّ قال: ((ما من يوم أشدّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من يومٍ قُتِلَ فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قُتِلَ فيه ابن عمّه جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولا يوم كيوم الحسين؛ ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنّهم من هذه الاُمّة، كلّ يتقرّب إلى الله بدمه، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون حتّى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً)).

ثمّ قال: ((رحم الله عمّي العبّاس؛ فلقد آثر وأبلى

١٨٤

وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطِعَتْ يداه، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالبعليه‌السلام . وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)).

ومن المعلوم إنّ كلمة (جميع) في قول الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ((يغبطه بها جميع الشهداء)) عامّة وشاملة، فتشمل غير المعصومين عامّة حتّى مثل حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب؛ فإنّهم جميعاً يغبطون العبّاس بن عليعليه‌السلام على منزلته ومقامه عند الله في القيامة؛ وما ذلك إلاّ لعظيم بلائه، وشديد محنته، وكبير رزيته؛ حيث إنّ جيش بني اُميّة في كربلاء نكّلوا به، ومثّلوا بجسمه وهو حيّ؛ وذلك حنقاً منهم عليه، وحقداً وغيظاً منهم له، وانتقاماً من شجاعته وشهامته.

فإنّهم من قساوتهم وضراوتهم لم يكتفوا باغتياله والغدر به بقطع يمينه ويساره، وإنّما قطعوا رجله اليمنى، وبتروا رجله اليسرى، ورضخوا هامته، وقطّعوه إرباً إرباً بعد أن رشقوه بالسهام حتّى صار جلده كالقنفذ من كثرة النبال التي نبتت في جسمه.

من أدلّة قساوة بني أميّة

ويدلّ على قساوة جيش بني اُميّة، وأنّهم نكّلوا بالعباسعليه‌السلام ، ومثّلوا به وهو حيّ، وقطّعوه إرباً إرباً وهو بعد به رمق، اُمور كثيرة نشير إلى واحدة منها، وهي كالتالي:

جاء في التاريخ أنّ مرقد أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أصابه ذات مرّة خسف، واحتيج إلى التعمير والترميم، وكان ذلك في زمان العلاّمة السيّد محمّد مهدي بحر العلوم، المتوفّى أوائل القرن الثالث عشر الهجري القمري، والذي كان هو واحد من

١٨٥

كبار علماء الشيعة، وكان كثيراً ما يتشرّف بزيارة الإمام المهدي صاحب العصر والزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وله المقام المرموق عند أهل البيت وشيعتهم، فأخبروا العلاّمة بذلك، فانتدب العلاّمة أحد المعماريين الماهرين لترميم المرقد الشريف، وجاء معه إلى روضة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ونزلا معاً في السرداب الذي يقع فيه القبر الطاهر.

فلمّا وقع عين المعمار على القبر المبارك ورآه من حيث الحجم والمساحة أقل من الحجم والمساحة المتعارفة لبقيّة قبور الناس المتوسطين في الطول والقامة، بينما يلزم أن يكون قبر العبّاسعليه‌السلام مع ما اشتهر عن العبّاسعليه‌السلام من طول القامة، ورشادة الهيكل والهندام أن يكون في الحجم والمساحة أكبر وأطول من بقيّة القبور المتعارفة، فتولّد في ذهن المعمار سؤال حول هذا الموضوع الذي أثار تعجّبه وحيرته، فالتفت إلى العلاّمة السيّد بحر العلوم، وقال له: أتأذن لي يا سيّدي في السؤال عن موضوع بدر إلى ذهني، وأشغل بالي منذ رأيت قبر العبّاس بن عليعليه‌السلام ؟

فقال له العلاّمة وبكلّ رحابة: نعم، تفضّل واطرح سؤالك.

فقال المعمار، والتعجّب ظاهر على ملامح وجهه ونبرات صوته: إنّ كلّ ما سمعناه وقرأناه عن أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هو أنّه كان رشيداً، طويل القامة، بحيث إنّه إذا ركب الفرس المطهّم بقيت رجلاه تخطّان في الأرض خطّاً، وهذا لا يتلائم مع صغر القبر وقصر مساحته طولاً، وإنّما يستدعي امتداد مساحة القبر في الطول بصورة أكثر من القبور المتعارفة!

ثمّ أضاف قائلاً: فما هو - يا سيّدنا - حلّ ما سمعناه وقرأناه، وهذا الذي نراه بأمّ أعيننا؟!

طرح المعمار سؤاله على العلاّمة وبقي ينتظر الجواب على ذلك، لكنّه فوجئ حيث إنّه لم يسمع من العلاّمة جواباً سوى رجعات صوت بكائه، وزفرات حنينه وأنينه، فندم المعمار من سؤاله، وأخذ يعتذر من العلاّمة على إزعاجه وإبكائه، فأجابه العلاّمة بعد بكاء طويل: إنّما سمعته وقرأته عن رشادة أبي الفضل العبّاس، وطول قامته صحيح، غير أنّ

١٨٦

جيش بني اُميّة القساة نكّلوا بالعباسعليه‌السلام ومثّلوا به، وبتروا يديه ورجليه، وقطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً، وسؤالك هذا عن صغر قبره ذكّرني بما جرى عليهعليه‌السلام من المصائب والبلايا، ونبّهني على عظيم مصاب الإمام زين العابدينعليه‌السلام الذي جمع بيديه الشريفتين أشلاء عمّه العبّاسعليه‌السلام ، ودفنه بنفسه الكريمة في هذا القبر الذي شقّه له بيديه، فلم أتمالك نفسي، وأخذتني العبرة وأجهشت بالبكاء.

مع بني أسـد

نعم، إنّ صغر قبر أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام مع ما روي من رشادة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام يذكّرنا بدناءة بني اُميّة وخسّتهم؛ حيث قطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً، ويشير إلى عظيم محنة العبّاسعليه‌السلام وجليل رزئه، كما يوحى بثقل المصاب وشديد وطأته على الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، الذي جاء إلى دفن الأجساد الطاهرة؛ دفن أبيه، وأعمامه، وإخوته، وأهل بيته، وأصحاب أبيه، وذلك بعد ثلاثة أيّام من شهادتهم، حيث إنّ جيش بني اُميّة رحلوا من كربلاء، ولم يدفنوا أبدان الشهداء، ولم يسمحوا لأحدٍ بدفنها.

فلمّا كان اليوم الثالث وأمِنَ الناس شرّ بني اُميّة وابن زياد أقبل بنو أسد رجالاً ونساءً ليدفنوا أجساد الشهداء، فلم يعرفوا الأبدان لمَنْ هي؛ لأنّ بني اُميّة كانوا قد احتزّوا الرؤوس من الأبدان وأخذوها معهم هديّة إلى الكوفة، ومنها إلى الشام إلى الطاغية يزيد بن معاوية.

وبينا هم كذلك إذ أقبل عليهم عن طريق الإعجاز الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فأخذعليه‌السلام يعرّفهم بالشهداء واحداً واحداً، وقام بنو أسد يساعدونهعليه‌السلام على دفنها، وذلك بعد أن ارتفع صوتهم بالبكاء والعويل، وسالت دموعهم على خدودهم كلّ مسيل، ونشرت النسوة الأسديّات الشعور ولطمن الخدود.

١٨٧

طوبى لأرض كربلاء

ثمّ مشى الإمام زين العابدينعليه‌السلام إلى جسد أبيه فاعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر ورفع قليلاً من التراب، فبان قبر محفور، وضريح مشقوق، فبسط كفيه تحت ظهره، وقال: ((بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم)). وأنزله وحده، ولم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: ((إنّ معي مَنْ يعينني)).

ولمّا أقرّه في لحده وضع خدّه على منحره المقدّس، وقال: ((طوبى لأرض ضمّت جسدك الطاهر! فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة. أمّا الليل فمسهّد، والحزن سرمد، ويختار الله لك دارك التي أنت بها مقيم، وعليك السلام يابن رسول الله ورحمة الله)).

ثمّ كتب على تراب القبر بسبابته: ((هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي قتلوه عطشانَ غريباً)).

عند جسد العبّاس

ثمّ إنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام التفت إلى بني أسد، وقال: ((انظروا هل بقي أحد؟)).

فقالوا: نعم، بقي بطل مطروح حول المسنّاة، فإنّ هناك على مقربة من العلقمي جسداً آخر لم يُدفن بعد، وهو جسد موذّر، ومقطّع بالسيوف إرباً إرباً، بحيث كلّما حملنا جانباً منه سقط الآخر.

فبكىعليه‌السلام لمّا سمع قولهم، وقال بأنين وزفير: ((أتعرفون يا بني أسد جسد مَنْ هذا؟! إنّه جسد عمّي العبّاسعليه‌السلام )).

ثمّ مشى إليه، فلمّا وقع نظره عليه ألقى بنفسه على جسده يلثم نحره الطاهر، وهو يقول:

١٨٨

((على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب، ورحمة الله وبركاته)). وشقّ له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه، وقال لبني أسد: ((إنّ معي مَنْ يعينني)).

المعصوم لا يلي أمره إلاّ المعصوم

لقد انتخب الإمام زين العابدينعليه‌السلام لمواراة أجساد الشهداء اليوم الثالث من مقتل أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام ومَنْ معه، وجاء بطريق المعجزة في ذلك اليوم إلى كربلاء؛ لأنّهعليه‌السلام كان في تلك الأيّام بحسب الظاهر مسجوناً مع بقيّة الأسرى في سجن ابن زياد في الكوفة.

وإنّما انتخب اليوم الثالث وجاء فيه إلى كربلاء لعلمه بمجيء بني أسد نساءً ورجالاً إلى مصارع الشهداء في هذا اليوم، وهم يحاولون مواراة الأجساد الطاهرة ودفنها، فيكونون خير أعوان له على هذه المهمّة العظيمة، وأحسن شهود يشهدون هذا الواجب الشرعي المفروض.

وبالفعل فقد استعان الإمام زين العابدينعليه‌السلام في دفن الشهداء الأبرار ومواراة أجسادهم الطاهرة ببني أسد، ما عدا جسد أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام وجثمان عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ حيث قالعليه‌السلام لبني أسد: ((إنّ معي مَنْ يعينني)). وانفرد هو بتجهيزهما، وقام وحده بمواراتهما.

وهذا من الإمام زين العابدين بالنسبة إلى أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام واضح لا غبار عليه؛ وذلك لأنّ المعصوم لا يواريه إلاّ المعصوم، فالإمام الحسينعليه‌السلام معصوم، والإمام السجّادعليه‌السلام معصوم مثله فيلي أمره منفرداً، ويقوم بتجهيزه ومواراته لوحده.

ولكن هذا بالنسبة إلى عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقيامه بتجهيزه لوحده، وانفراده بمواراة جسده الطاهر مع أنّه ليس من المعصومين، ينبئ عن

١٨٩

عظيم مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وعلوّ رتبته عند الله تعالى، ورفيع منزلته، وعلوّ شأنه عند أهل البيتعليهم‌السلام حتّى أنّه جعله في مصاف المعصومين، وفي مستوى أهل البيتعليهم‌السلام الطاهرين المطهرين.

وأنعم بأبي الفضل العبّاس فإنّه أهل لذلك؛ فلقد أثبت من خلال سيرته الطيّبة، وسلوكه الجميل، ومواقفه الإنسانيّة المشرّفة جدارته لهذا المقام المنيف، وأهليّته لهذه المنزلة الرفيعة، ألا وهي ولاية الإمام المعصوم أمره، وتولّيه تجهيزه ومواراته، وانفراده بكلّ ذلك، قائلاً لبني أسد: ((إنّ معي مَنْ يعينني)).

كما إنّه يدلّ على تأهيله لذلك من ذي قبل مشاركته أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام في تغسيل أخيه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ؛ فإنّ الإمام الحسنعليه‌السلام معصوم، ولا يغسله إلاّ معصوم وهو الإمام الحسينعليه‌السلام ، فمشاركة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ومشاطرته أخاه في هذه المهمّة العظيمة خير دليل على مكانة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ومقامه الشامخ عند رسول الله والأئمّة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين).

ولعلّه لأجل ذلك كلّه قال مرجع عصره وفقيه دهره الشيخ محمّد طه نجف في كتابه (الإتقان): العبّاس ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، أبو الفضل هو أجلّ من أن يُذكر في هذا المقام، بل المناسب أن يُذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين (عليه وعليهم أفضل الصلاة والسّلام).

١٩٠

الخصّيصة السادسة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام المعروف بالشهيد

الشهيد: هو المقتول في سبيل الله.

والشهيد: هو الحي، أي هو عند ربّه حيّ يرزق.

وقيل: سمّي الشهيد شهيداً؛ لأنّ الله وملائكته شهود له في الجنّة، والشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الاُمّة، وأفضلهم مَنْ قُتِلَ في سبيل الله، مُيّزوا عن الخلق بالفضل، وبيّن الله أنّهم( أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِه ) .

وقيل: سمّي الشهيد شهيداً؛ لأنّه حيّ لم يمت، كأنّه شاهد، أي حاضر.

وقيل: لأنّ ملائكة الرحمة تشهده.

وقيل: لقيامه بشهادة الحقّ في أمر الله حتّى قُتِلَ.

وقيل: لأنّه يشهد ما أعد الله له من الكرامة بالقتل.

وقيل غير ذلك.

السماء ووسام الشهيد

وكيف كان فإنّ مَنْ عُرِفَ من قبل السماء بالشهيد، وتزيّن بوسام سماوي رفيع المستوى باسم الشهيد، وتوفّق لحمل نيشان الشهادة من بين الشهداء جميعاً هم اثنان:

١٩١

أحدهما: من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام المعصومين، وهو سيّد الشهداء وأبو الأحرار، سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته، وسيّد شباب أهل الجنّة، الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّه هو الذي عُرِفَ من بين الأئمّة الأطهار من أهل البيتعليهم‌السلام بالإمام الشهيد، مع أنّ الأئمّة الأطهار من أهل البيتعليهم‌السلام ، بل المعصومين الأربعة عشرعليهم‌السلام ما عدا الإمام الثاني عشر الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى ظهوره) كلّهم استشهدوا في سبيل الله تعالى، كما في الخبر المأثور: ((ما منّا إلاّ مقتول ومسموم)).

فكلّهمعليهم‌السلام شهداء إلاّ أنّ الذي أُطلق عليه اسم الشهيد من بينهم هو الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ فقد روي أنّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال له: ((أنت شهيد هذه الاُمّة)).

ثانيهما: من ذوي أهل البيتعليه‌السلام ، وخاصّة الأئمّة الأطهار، وحامّة المعصومين الأربعة عشرعليهم‌السلام ، وتالي تلوهم، والمحلّق في مصافهم وأجوائهم، وهو حامل لواء الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكبش كتيبته، المواسي له بنفسه، والمضحي من أجله، بطل العلقمي، أبو الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

فلقد مرّ أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام كان كلّما تذكّر عمّه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قال في حقّه: ((... وإنّ للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة)).

ومرّ أيضاً من الإمام زين العابدينعليه‌السلام عندما جاء لمواراة جسد عمّه الطاهر أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بكى وألقى بنفسه عليه، وأخذ يلثم نحره الشريف وهو يقول: ((على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السّلام من شهيد محتسب، ورحمة الله وبركاته)).

فإطلاق (الشهيد) من الإمام زين العابدينعليه‌السلام على عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هو وسام سماوي رفيع المستوى وسم به عمّه؛ لأنّ المعصومعليه‌السلام هو الذي بيده معايير السماء، وموازين الوحي، وقد فوّض إليه تعالى جعل الحكم على المواضيع، وإعطاء الحقّ لذي الحقوق، ومنح الأوسمة السماوية لمستحقيها.

وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو مَنْ استحقّ وسام (الشهيد) مُنحةً

١٩٢

من السماء لعظيم بلائه في الله، وشدّة إخلاصه لله، وكبير ولائه لأولياء الله، فمنحهعليه‌السلام وسام الشهيد؛ وذلك ليس مجرّداً، وإنّما مقروناً بكلمة (محتسب)، أي الشهيد الذي نوى بشهادته وجه الله تعالى، ورجا ثوابه وأجره، كما إنّه ليس مجرّد الشهيد المحتسب، بل الشهيد المحتسب الذي يغبطه على منزلته، وعلوّ درجته يوم القيامة جميع الشهداء.

العبّاس عليه‌السلام الشهيد المظلوم

وكذلك كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّ مواقفه المشرّفة في كربلاء، وفي يوم عاشوراء وغيرها لهي خير دليل على ما قاله الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حقّ عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأجلى برهان على جدارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بنيل هذا الوسام المنيف، وسام (الشهيد المحتسب).

كما وقد وسمه الإمام الصادقعليه‌السلام بهذا الوسام العظيم أيضاً، وذلك حين خاطبه بزيارته المعروفة بقوله: ((أشهد أنّك قُتِلْتَ مظلوماً)).

وقد مرّ تفسير الشهيد: بأنّه المقتول في سبيل الله، والإمام الصادقعليه‌السلام يشهد لعمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بأنّه المقتول في سبيل الله، فأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إذن بشهادة الإمام الصادقعليه‌السلام هو شهيد، وليس مجرّد شهيد فحسب، بل هو شهيد مظلوم؛ لأنّه كما مرّ لم يأذن له أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام في البراز إلى الميدان ومقاتلة الأعداء، وإنّما أذن له في الاستسقاء، وطلب الماء للأطفال فقط.

ومعلوم إنّ الذي مهمّته طلب الماء والاستسقاء ليس كالذي يهمّه القتال ومنازلة الأبطال؛ فإنّ مَنْ يهمّه القتال يتفرّغ له، بينما مَنْ يهمّه الاستسقاء وطلب الماء يتفرّغ للاستسقاء دون القتال، فلم يكن أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في كربلاء مقاتلاً حتّى يشف صدره من

١٩٣

الأعداء، ويذهب غيظ قلبه بالانتقام منهم، بل كان سقّاءً، وقُتل من أجل الاستسقاء، فقتل مظلوماً.

أضف إلى ذلك: أنّ الأعداء من دناءتهم وخستهم لم يبارزوه وجهاً لوجه، وإنّما اغتالوه في كمين لهم، فقتلوه غيلة وغدراً، ومن قساوتهم وغلظتهم لم يكتفوا بقتله بضربة وضربتين، وإنّما قطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً بعد أن بتروا يديه، وأبانوا رجليه، وأصابوا عينيه، وخسفوا رأسه، وقتلوه مظلوماً، فصدق عليه أنّه الشهيد المظلوم، كما شهد له الإمام الصادقعليه‌السلام بذلك.

الفارس إذا سقط من فرسه

وجاء في كتاب (مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ) للمقرّم: أنّ العالم الفاضل، والخطيب البارع الشيخ كاظم السبتيرحمه‌الله قال لي ذات مرّة: أتاني بعض العلماء الثقاة وقال: إنّي رسول من قبل العبّاسعليه‌السلام إليك، فقد رأيتهعليه‌السلام في المنام يعتب عليك، ويقول: إنّ الشيخ كاظم السبتي لم يذكر مصيبتي، ولم يتعرّض لها.

فقلت له: يا سيّدي، ما زلت أسمعه يذكر مصائبك ويندبك بها!

فقالعليه‌السلام : أعني هذه المصيبة فإنّه لم يذكرها ولم يتعرّض لها؛ قل له يذكر هذه المصيبة للناس، ويقول لهم: إنّ الفارس إذا سقط من فرسه يتلقّى الأرض بيديه، فإذا كانت السهام في صدره ويداه مقطوعتان فبماذا يتلقّى الأرض؟

وهذا أيضاً ممّا يدلّ على شدّة مظلوميّة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وكبير مصيبته وعظم رزيّته.

والمظلوم إضافة إلى وجوب نصرته وإعانته على ظالميه، يستحب البكاء عليه وله - على ما في فقه الزهراءعليه‌السلام ـ، كما ويستحبّ مشاركة المفجوعين به في بكائهم له؛ وذلك لتضمّنه تأييداً للمظلوم ونصرة له.

١٩٤

وقد بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ وحنّ لبكاء عمّته صفية على أخيها حمزة، وأنينها له وحنينها عليه.

وفي فضل زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام ورد: أنّ فاطمةعليها‌السلام إذا نظرت إليهم، ومعها ألف نبي، وألف صدّيق، وألف شهيد، ومن الكرّوبيّين ألف ألف يسعدونها بالبكاء، وإنّها تشهق شهقة فلا يبقى في السماوات ملك إلاّ بكى رحمة لصوتها...

مقام الشهيد وأجر الشهادة

وهنا إشارة إلى بعض ما لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وسائر الشهداء عامّة من الفضل عند الله تبارك وتعالى، قال تعالى:( إِنّ اللّهَ يُحِبّ الّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ) .

وقال سبحانه وتعالى:( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِن خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أشرف الموت قتل الشهادة)).

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((فوق كلّ برٍّ برٌّ، حتّى يُقتل الرجل في سبيل الله (عزّ وجلّ) فليس فوقه برّ)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((إنّ أوّل مَنْ قاتل في سبيل الله إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، حيث أسرت الروم لوطاًعليه‌السلام ، فنفر إبراهيمعليه‌السلام واستنقذه من أيديهم)).

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمع في جوف الليل من خشية الله)).

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((وأجود الناس مَنْ جاد بنفسه وماله في سبيل الله)).

١٩٥

وعن علي (صلوات الله عليه) أنّه قال: ((أوّل مَنْ جاهد في سبيل الله إبراهيمعليه‌السلام ، أغارت الروم على ناحية فيها لوطعليه‌السلام فأسروه، فبلغ ذلك إبراهيمعليه‌السلام فنفر فاستنقذه من أيديهم، وهو أوّل مَنْ عمل الرايات عليه أفضل السلام)).

وفي تذهيب الشيخ الطوسي مسنداً عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، عن آبائهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((للشهيد سبع خصال من الله:

الأولى: أوّل قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب.

الثانية: يقع رأسه في حجر زوجته من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه وتقولان مرحباً بك، ويقول هو مثل ذلك لهما.

الثالثة: يُكسى من كسوة الجنّة.

الرابعة: تبتدره خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه.

الخامسة: أن يرى منزله.

السادسة: يُقال لروحه اسرح في الجنّة حيث شئت.

السابعة: أن ينظر إلى وجه الله، وإنّها راحة لكلّ نبي وشهيد)).

١٩٦

الخصّيصة السابعة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام الصدّيـق

الصدّيق: هو الدائم التصديق، ويكون الذي يُصدّق قوله بالعمل، وقيل: الصدّيق هو المبالغ في الصدق، وقيل: كلّ مَنْ صدّق بكلّ أمر الله لا يتخالجه في شيء منه شك، وصدّق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو صدّيق، وهو قول الله (عزّ وجلّ):( هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَاءُ عِندَ رَبّهِمْ ) .

هذا معنى الصدّيق من حيث اللغة وعلماء العربية.

وأمّا مَنْ هو الصدّيق من حيث الاصطلاح القرآني، والسنّة النبويّة، وأحاديث أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فهو على ما يلي:

قال الله تعالى:( وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ اُولئك هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَاءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) .

وقال سبحانه:( ومَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النبيِّين وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئك رَفِيقاً ) .

وفي الخصال مسنداً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((الصدّيقون ثلاثة: علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وحبيب النجّار، ومؤمن آل فرعون)).

وفي عيون الأخبار مسنداً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((لكلّ اُمّة صدّيق وفاروق، وصدّيق هذه الاُمّة وفاروقها علي بن أبي طالبعليه‌السلام )).

١٩٧

وفي روضة الكافي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال في خطبته المعروفة بخطبة الوسيلة: ((وإنّي النبأ العظيم، والصدّيق الأكبر)).

وفي شرح الآيات الباهرة مسنداً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال في كلام طويل: ((والميّت من شيعتنا صدّيق شهيد، صدّق بأمرنا، وأحبّ فينا، وأبغض فينا، يريد بذلك وجه الله؛ مؤمن بالله وبرسله، قال الله تعالى:( وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ اُولئك هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشّهَدَاءُ عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) )).

وفي محاسن البرقي مسنداً عن الإمام الحسينعليه‌السلام أنّه قال: ((ما من شيعنا إلاّ صدّيق شهيد)).

وفي مزار ابن قولويه، في زيارة عن الإمام الصادقعليه‌السلام بسند معتبر يعلّمنا أن نزور فيها عمّه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، يقول فيها: ((السلام عليك أيّها الولي الصالح الناصح الصدّيق)).

وفي زيارة اُخرى يقول: ((أشهد لك بالتسليم والتصديق)).

العبّاس عليه‌السلام هو الصديق لغة واصطلاحاً

فأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الصدّيق من حيث اللغة؛ لأنّهعليه‌السلام كان هو الدائم التصديق لله ولرسوله، ولإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو الذي كان عمله يصدّق قوله، وهو أيضاً كان المبالغ في الصدق، وأنّه كان الذي لم يختلج في قلبه شك في كلّ ما أمر الله به.

وهو الصدّيق من حيث الاصطلاح أيضاً؛ لأنّهعليه‌السلام كان النموذج الأفضل والمصداق الأمثل بعد الأئمّة الأطهارعليه‌السلام لمَنْ آمن بالله ورسوله، وأطاع الله

١٩٨

ورسوله، كما كان هوعليه‌السلام أيضاً في مقدّمة الشيعة وطليعتهم، والسباق في متابعة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ومشايعتهم؛ لأنّ الشيعي هو مَنْ شايع عليّاًعليه‌السلام ، والأئمّة من بنيه الذين سمّاهم القرآن أهل البيتعليهم‌السلام ، والتزم متابعتهم، والسير على هداهم.

وكيف لا يكون أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كذلك وهو ابن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخو الإمامين الهمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وقد تلقّى تربيته الأخلاقيّة والعلميّة الراقية في أحضانهم ومدرستهم، ونال شهادته الثقافيّة والإنسانيّة العالية على أيديهم وبتأييدهم؟

إذاً فأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الصدّيق بالمعنى العام الذي جاء بالصدق في اللغة والإصلاح؛ وذلك على ما عرفت.

وهو أيضاً الصدّيق بالمعنى الخاصّ للصدّيق، فقد شهد الإمام الصادقعليه‌السلام - كما في الزيارة المأثور عنه - بالصدق في خصوص أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ حيث يقول مخاطباً إيّاه: ((السلام عليك أيّها الولي الصالح، الناصح الصدّيق)).

وفي زيارته الاُخرى قالعليه‌السلام : ((أشهد لك بالتسليم والتصديق))، ويقول في مكان آخر من الزيارة وهو يخاطبه أيضاً: ((السلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين (صلّى الله عليهم وسلّم))).

ففي الزيارة الأولى شهادة صريحة بكون أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الصدّيق، كما إنّ في الفقرة الأوّلى من الزيارة الثانية شهادة خاصة لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بالتسليم والتصديق، فهو الصدّيق لغة؛ لمكان لفظ التصديق.

وفي الفقرة الثانية من الزيارة شهادة خاصّة لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بالإطاعة لله ولرسوله ولأوصيائهعليهم‌السلام ، فهو الصدّيق اصطلاحاً أيضاً؛ لأنّ الصدّيق كما مرّ في اصطلاح القرآن، والسنّة النبويّة، وأحاديث أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو المطيع لله ولرسوله ولأوصيائهعليه‌السلام .

١٩٩

الحائزون على وسام الصدّيق

نعم، وسام الصدّيق بالخصوص منح لشخصين من هذه الأمّة هما كالتالي:

1 - الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : فقد سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالصدّيق، ومنحه هذا الوسام العظيم، وذلك على ما عرف في تفسير قوله تعالى:( وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ اُولئك هُمُ الصّدّيقُونَ ) .

وقوله سبحانه وتعالى:( ومَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النبيِّين وَالصّدّيقِينَ ) ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((الصدّيقون ثلاثة: علي بن أبي طالب، وحبيب النجار، ومؤمن آل فرعون)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((لكلّ اُمّة صدّيق وفاروق، وصديق هذه الاُمّة وفاروقها علي بن أبي طالبعليه‌السلام )).

وقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في خطبة الوسيلة: ((وإنّي النبأ العظيم والصدّيق الأكبر)).

فالفائز الأوّل على وسام الصدّيق، بل وسام الصدّيق الأكبر هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

2 - أبو الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ حيث قد شهد له الإمام الصادقعليه‌السلام على ما عرفت في زيارتهعليه‌السلام بالتسليم والتصديق، ومنحه هذا الوسام الرفيع، وأعطاه هذا النيشان المنيع، أعني وسام (الصدّيق) ونيشانه، فيكون على هذا أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الفائز الثاني الذي حاز على وسام الصدّيق ونيشانه، فهو إذاً الصدّيق حقّاً.

٢٠٠