الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296692
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296692 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الخصّيصة الثامنة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام الفـادي

روي عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام أنّه قال في حقّ عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام كلاماً جاء فيه: ((رحم الله عمّي العبّاس؛ فلقد آثر، وأبلى، وفدى أخاه بنفسه)).

والكلام هنا في تفدية العبّاسعليه‌السلام أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام بنفسه؛ حيث منه عُرفعليه‌السلام بالفادي، علماً بأنّ الفادي من حيث المعنى الغوي هو مَنْ يقدّم ماله ويقدّم نفسه ودمه فداءً لغيره حتّى يخلّصه به، ويقيه عبره من الأسر والقتل، فكأنّه يشتري بذلك حياة غيره، ويخلّصه من الخطر المحدق به.

الفداء العظيم

قال الله تعالى في قصة إبراهيم الخليلعليه‌السلام عندما أمره بذبح ابنه إسماعيل الذبيحعليه‌السلام ، ثمّ عفا عن ذلك:( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ؛ فلقد جاء في عيون الأخبار مسنداً عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال: ((لمّا أمر الله تعالى إبراهيم أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيمعليه‌السلام أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، وأنّه لم يُؤمر بذبح الكبش مكانه؛ ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب.

٢٠١

فأوحى الله (عزّ وجلّ) إليه: يا إبراهيم، مَنْ أحبّ خلقي إليك؟

قال: يا ربّ، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟

قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي.

قال: فولده أحبّ إليك أو ولدك؟

قال: بل ولده.

قال: فذبحُ ولده ظلماً على أيدي أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال يا إبراهيم، إنّ طائفة تزعم أنّها من اُمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ستقتل الحسينعليه‌السلام ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يُذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيم لذلك وتوجّع قلبه، وأقبل يبكي، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم، قد قبلت جزعك على ولدك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسينعليه‌السلام وقتله، وأوجبت لك أرفع درجات الثواب على المصائب. وذلك قول الله (عزّ وجلّ):( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) .

فالفادي هنا في هذه القصة هو إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، والفداء هو الكبش الذي أتى به جبرائيلعليه‌السلام من الجنّة، والمُفدّى هو إسماعيل الذبيح، فكون إبراهيم الخليلعليه‌السلام قد اشترى حياة ابنه إسماعيل الذبيحعليه‌السلام بتفدية الكبش عنه)).

ولكن في قصّة كربلاء كان الفادي هو أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، والفداء هو نفسه الزكيّة، ودمه الشريف، والمُفدّى هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، فيكون أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قد اشترى حياة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام بتفدية نفسه، وبذل دمه عنه.

٢٠٢

العبّاس عليه‌السلام يشبه أباه

ولقد أشبه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في تفدية أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام بنفسه أباه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ حيث فدى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أخاه وابن عمّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، وذلك في ليلة المبيت.

فقد روى الشيخ الطوسي في أماليه مسنداً عن الإمام زين العابدين علي بن الحسينعليه‌السلام في قول الله (عزّ وجلّ):( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) أنّه قال: ((نزلت في عليعليه‌السلام حين بات على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )).

وفي شرح الآيات الباهرة وغيره من كتب التفسير: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أراد الهجرة خلّف عليّاًعليه‌السلام لقضاء ديونه، وردّ الودائع التي كانت عنده، وأمره ليلة خروجه إلى الغار وقد أحاط المشركون في الدار أن ينام على فراشه، قائلاً: ((أُخبرك يا عليّ، إنّ الله يمتحن أوليائه على قدر إيمانهم ومنازلهم في دينه، فأشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل. وقد امتحنك يابن العمّ وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيمعليه‌السلام والذبيح إسماعيلعليه‌السلام ، فصبراً صبراً؛ فإنّ رحمة الله قريب من المحسنين)).

ثمّ ضمّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صدره وبكى وجداً به، وبكى عليّعليه‌السلام جشعاً لفراق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ أوصاه بوصاياه، وأمره في ذلك بالصبر حتّى صلّى العشائين، ثمّ خرجصلى‌الله‌عليه‌وآله في فحمة العشاء الآخرة والرصد من قريش قد أطافوا بداره.

نام عليعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله موطّناً نفسه على القتل، فأوحى الله تعالى إلى جبرائيل وميكائيل: ((إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بحياته؟)).

فاختار كلّ منهما الحياة، فأوحى الله (عزّ وجلّ) إليهما: ((أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ آخيت بينه وبين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره

٢٠٣

بالحياة؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه)).

فنزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجيله، وجبرائيل يقول: بخٍ بخٍ! مَنْ مثلك يا عليّ بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة!

فأنزل الله (عزّ وجلّ) على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام :( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ ) .

الفادي بزعم المسيحيِّين

يزعم المسيحيون أنّ الفادي هو المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام ، فإنّهم يقولون (الفادي) لقب السيّد المسيح الذي فدى البشر بدمه الكريم، ثمّ يرتّبون على زعمهم هذا غفران كلّ ما يرتكبونه من ذنوب وخطايا، ويبرّرون به جميع جرائمهم وجناياتهم بحجّة أنّ المسيح كفّرها عنهم، وهذا غير تامّ من وجوه:

1 - إنّ المسيحعليه‌السلام لم يصلب ولم يُقتل، وإنّما رفعه الله تعالى إليه، كما في القرآن الكريم:( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلكِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاّ اتّبَاعَ الظّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

وفي تفسير مجمع البيان عن ابن عبّاس أنّه قال: لمّا مسخ الله تعالى الذين سبّوا عيسى واُمّه بدعائه، بلغ ذلك يهوذا وهو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه، فجمع اليهود فاتّفقوا على قتله، فبعث الله تعالى جبرائيل يمنعه منهم ويعينه عليهم، وذلك معنى قوله تعالى:( وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .

فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه فيقول لهم: يا معشر اليهود، إنّ الله تعالى يبغضكم. فساروا إليه ليقتلوه، فأدخله جبرائيل في خوخة البيت الداخل لها روزنة في سقفها، فرفعه جبرائيل إلى السماء، فبعث يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه

٢٠٤

اسمه (طيطانوس) ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم فظنوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه وصلبوه.

وقيل: أُلقي عليه شبه وجه عيسى ولم يلقَ عليه شبه جسده، فقال بعض القوم: إنّ الوجه وجه عيسى، والجسد جسد طيطانوس! وقال بعضهم: إن كان هذا طيطانوس فأين عيسى؟! وإن كان هذا عيسى فأين طيطانوس؟! فاشتبه الأمر عليهم.

ومع هذا الترديد والتشكيك من الذين تولّوا القتل والصلب لا يثبت كون المقتول والمصلوب هو عيسىعليه‌السلام وإن تواتروا وأجمعوا عليه، وهو واضح لا غبار عليه.

فالقصّة إذاً من أساسها متزلزلة ومشكوكة، فلا يعتمد عليها؛ إذ لا أساس رصين لها رأساً.

2 - إنّ المسيحعليه‌السلام بعد إخبار الله تعالى بعدم قتله لم يكن فادياً، وإذا كان كذلك لم يصدق عليه لقب (الفادي) فبطل مزاعم المسيحيّين.

3 - إنّ (الفادي) على زعم المسيحيّين بالمعنى الذي يصوّرونه للسيّد المسيحعليه‌السلام هو إسفاف بالسيّد المسيحعليه‌السلام ، وهبوط به من مستواه الرفيع، ومقامه المنيع الذي هو هداية البشر إلى مستوى تكفير خطايا البشر، الذي يكون هو خير مبرّر لارتكاب البشر كلّ ما يشتهيه من جرائم وجنايات، وما يهواه من خطايا وذنوب والذي من جملتها، بل ومن أكبرها وأعظمها جناية هو الإسفاف بالسيّد المسيحعليه‌السلام إلى مستوى تكفير خطايا البشر وتبريرها.

الفادي لدى المسلمين

بينما (الفادي) عند المسلمين هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ حيث فدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه، ثمّ من بعده ابنه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام الذي فدى أخاه

٢٠٥

الإمام الحسينعليه‌السلام بنفسه.

وما كان فداء (الفادي) الأوّل إلاّ لخلاص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الأعداء، وبقائه سالماً قادراً على تبليغ رسالات الله، وهداية الناس إلى الله تعالى وإلى دينه الحنيف. كما إنّه لم يكن فداء (الفادي) الثاني إلاّ وقاءً لابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي فدى دين الله بنفسه، وقدّم دمه لإنقاذه وإبقائه، والحفاظ على أتعاب جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فأيقض به عقول البشر وضمائرهم، وأرهف عبره شعورهم وعواطفهم؛ ليدلّهم على الله، ويهديهم إلى دينه القويم، وسراطه المستقيم، وذلك كما قال فيه الإمام الصادقعليه‌السلام عند زيارته: ((وبذل مهجته فيك؛ ليستنقذ عبادك من الجهالة وحَيرة الضلالة)).

المقارنة بين الفاديين

ومن المعلوم أنّ هناك فرقاً كبيراً وواضحاً بين أن يكون (الفادي) مكفّراً لذنوب البشر بدمه الكريم كما يزعمه المسيحيّون بالنسبة إلى السيّد المسيحعليه‌السلام ، وبين أن يكون (الفادي) مضيئاً لدرب التائهين من البشر، وهادياً لهم إلى الطريق القويم، ودالاً إيّاهم على الصراط المستقيم، ومنقذاً لهم من ظلمات الجهل والجهالة إلى نور العلم والثقافة، ومن حيرة الباطل والضلالة إلى مرفأ الحقّ والهداية.

وذلك على ما يعتقده المسلمون بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وابنه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّ (الفادي) بالمعنى الأوّل الذي يزعمه المسيحيّون بالنسبة إلى السيّد المسيحعليه‌السلام ، إضافة إلى أنّه إسفاف بالسيّد المسيحعليه‌السلام من مستواه الرفيع إلى هوّة الحضيض، هو ترويج للظلم والجرم، والذنوب والخطايا، وتشجيع للجناة والظالمين، والعصاة والمذنبين، وتبرير لأعمالهم

٢٠٦

السيئة وأفعالهم القبيحة.

أليس مَنْ يعلم بأنّ سيّئاته وقبائحه مكفّرة يتمادى في ظلمه وجوره، وينغمر في السيئات والقبائح، بينما (الفادي) بالمعنى الثاني الذي يعتقده المسلمون بالنسبة إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وابنه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّه إضافة إلى إعطاء الإمام وابنه ما يستحقّانه من المقام الذي خصّهما الله تعالى به، هو ترويج للعدل والإحسان، والمثل والقيم، وتشجيع للمحسنين والمقسطين، والمؤثرين والمواسين، وترغيب في الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة؟!

أليس مَنْ يرى إمامه ويرى ابن إمامه يفدي نفسه للهدى والحقّ، ويبذل دمه لنصرة دين الله، ويضحّي بكلّ ما لديه لأجل هداية الناس إلى نور العلم والعدل، والخير والتقوى، يرغب في الخير والتقوى، ويضّحي من أجل تعميم القسط والعدل، وتعزيز المثل والقيم؟!

٢٠٧

الخصّيصة التاسعة والعشرون

في أنّهعليه‌السلام المؤثِـر

المؤثِر: من الإيثار، وهو تقديم الغير وتقديمه على النفس، وفي التنزيل قال الله تعالى على لسان إخوة يوسف:( لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا ) ، أي فضّلك وقدّمك.

وآثرت فلاناً على نفسي، أي قدّمته وفضّلته، وآثرتك إيثاراً، أي قدّمتك وفضّلتك تفضيلاً، وهو مقابل الاستئثار. يُقال: استأثر بالشيء على غيره، أي خصّ به نفسه واستبدّ به، ورجل آثُر وآثِر، أي يستأثر على أصحابه ويفضّل نفسه عليهم في نصيبه، والاستئثار هو الانفراد بالشيء.

وبعبارة اُخرى: الإيثار هو تقديم الغير على النفس، المعبّر عنه بالرؤية الاجتماعية ومحبّة الآخرين، بينما الاستئثار هو تقديم النفس على الغير، المعبّر عنه بالأنانية والاستبداد الفردي.

بين الأنانية وحبّ النفس

أمّا الأثر والاستئثار، المسمّى بالأنانية: فهو من الصفات الرديئة، والخصال الذميمة النابعة من حبّ النفس المفرط، وعبادة الذات المذموم، فإنّ حبّ النفس - بما هو هو - غريزة أصيلة في الإنسان، وصفة عريقة فيه، وقد أودعها الله تعالى فيه؛ لأن إليها يعود نشاط العمران على ظهر المعمورة، وإليها

٢٠٨

يرجع السير الحثيث، والاتّساع المستمر في دائرة الحياة من التقدّم العلمي، والتطوّر الصناعي، والاختراعات والاكتشافات التي طوّرت الحياة، كما أنّها أيضاً السبب لطلب الآخرة وإحرازها، والزحزحة عن النار، والفوز بالجنّة.

إذاً فغريزة حبّ النفس بما هي من لوازم سعادة الإنسان، وتقدّم الحياة وتطوّرها، وإنّما الخطر يكمن وراء تضخّم هذه الغريزة وتجبّرها، وخروجها عن حدّ الاعتدال الذي أراده الله تعالى لها إلى ما حرّمه تعالى عنها من الأنانية، وعبادة الذّات التي قد تصل أحياناً إلى ادّعاء الربوبيّة، كفرعون الذي كان يقول:( أَنَا رَبّكُمُ الأَعْلَى ) ، وكيزيد الذي كان ينشد:... فلا خبر جاء ولا وحي نزل.

فإنّ عبادة الذّات والعيش في إفرازاتها حتّى لو كانت تلك الإفرازات حريراً، كالتي تفرزها دودة القز، منتهية إلى الاختناق الروحي، ومؤدّية إلى الموت المعنوي؛ فإنّ الأناني ميّت في الناس حتّى وإن بلغ في الدنيا قمّة الملك والسلطان، وإنّ الأنانيّين في كلّ زمان فتنة ساحقة، ولعنة ماحقة تحترق في سعيرها المُثُل والقِيَم، وتذوب في جحيمها الفضائل والمكارم، وتتبخّر في مرضاتها مصالح الآخرين أفراداً وجماعات.

وقد وصف الله تعالى الفارّين من معركة أُحد، والتاركين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحده بين الأعداء وصفاً يكشف عن داء الأنانية المتغلغل في نفوسهم، وعن مرض عبادة الذّات المتعرّق في قلوبهم، حيث يقول تعالى:( وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) .

الأنانيّون وخطرهم على الدين والمجتمع

والأنانيّون عندما يسلّطون أفكارهم الضيّقة على الدين الإسلامي الحنيف يمسخون نصوصه، ويحرّفون اُصوله، ويفهمونه ثواباً بلا عمل، وثمرة بلا غرس،

٢٠٩

وعقاباً على الآخرين وحدهم، ونكالاً على الناس سواهم، دون أن يمسهم منه لفح ويصيبهم منه أذى؛ وذلك لأنّ الأنانيّين محصورون في حدود أنفسهم وإثرتهم، ومقصورون على رؤية مصالحهم الفرديّة ومنافعهم الذاتيّة، لا يفهمون من القرآن إلاّ ما يشتهون، ومن الإسلام إلاّ ما يلبّي أهواءهم ومصالحهم.

وإنّ هذا لخطر كبير يهدّد كيان الاُمّة، وينذر بفناء الدين والدنيا معاً؛ ممّا يؤكّد على معالجة الإثرة منذ الطفولة المبكّرة حتّى تنبت الناشئة وهي تنظر إلى نفسها وإلى غيرها بنظرة معتدلة، ورؤية متّزنة، لا جنف فيها ولا قصور.

ومن هنا يظهر سرّ التأكيد الشديد في الإسلام على تعديل هذه الغريزة، ويعلم سبب الاهتمام الكبير من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على تأطيرها وتحجيمها، وتزكيتها وتهذيبها؛ ففي نهج البلاغة يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في وصيّة له لابنه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام : ((يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك؛ فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وقل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يُقال لك)).

وجاء في ما كتبه لعامله محمّد بن أبي بكر: ((أحبّ لعامّة رعيتك ما تحبّ لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك؛ فأنّ ذلك أوجب وأصلح للرعيّة)).

فالإسلام يحذّر الناس من الأنانيّة، ويدعوهم إلى الاعتدال، بل إلى الإيثار، وتقديم الآخرين على أنفسهم. وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو أوّل ممتثل لما يدعو إليه الإسلام بعد الأئمّة المعصومينعليه‌السلام في كلّ مجال، وخاصّة في مجال الإيثار وترك الإثرة.

٢١٠

الإيثار في القرآن والحديث

هذا بالنسبة إلى الاستئثار، وأمّا بالنسبة إلى الإيثار: فهو من الصفات الحسنة، والخصال الطيّبة، ومن مكارم الأخلاق، ومعالي الآداب؛ فإنّ الإنسان قد يجود بشيء وهو غني عنه، فهذا هو الجود الممدوح، وقد يجود بشيء هو محتاج إليه، وهذا أفضل من الأوّل وهو الإيثار. ولا يتحلّى بالإيثار إلاّ الأوحدي من الناس، كما إنّه لا يتّصف به إلاّ ذو حظ عظيم.

وقد زخر الكتاب، وكذلك فاضت السنّة النبويّة، وأحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بمدح الإيثار، والتأكيد عليه، والثناء على مَنْ تحلّى به، واتّخذه خُلقاً له، ووعدت على ذلك الثواب الكبير، والأجر الجزيل. قال الله تبارك وتعالى:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) .

نؤثر به ضيفنا

جاء في تفسير الآيات الباهرة في تفسير الآية المباركة مسنداً: أنّ رجلاً جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا إليه الجوع، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلاّ الماء. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((مَنْ لهذا الرجل الليلة؟)).

فقال علي بن أبي طالبعليه‌السلام : ((أنا يا رسول الله)). وأتى فاطمةعليها‌السلام فقال لها: ((أعندك يا بنت رسول شيء؟)).

فقالت: ((ما عندنا إلاّ قوت الصبية، ولكنّنا نؤثر به ضيفنا)).

فقال عليعليه‌السلام : ((يابنة محمّد، نوّمي الصبية، وأطفئي السراج)).

فلمّا أصبح غدا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنزلت هذه الآية:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) .

٢١١

جبرئيل أنبأني بذلك

وقال في شرح هذه الآيات الباهرة مسنداً أيضاً: بينا عليّعليه‌السلام عند فاطمةعليها‌السلام إذ قالت: ((اذهب إلى أبي فابغنا منه شيئاً)). فقالعليه‌السلام : ((نعم)).

فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطاه ديناراً، وقال: ((يا علي، اذهب فابتع به لأهلك طعاماً)).

فخرج من عنده فلقيه المقداد بن الأسود وقاما ما شاء الله أن يقوما وذكر له حاجته، فأعطاه الدينار وانطلق إلى المسجد فوضع رأسه فنام، فانتظره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يأتِ، فخرج يدور في المسجد فإذا بعليٍّعليه‌السلام نائم في المسجد، فحرّكه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقعد، فقال: ((يا علي، ما صنعت؟)).

فقال: ((يا رسول الله، خرجت من عندك فلقيني المقداد بن الأسود، فذكر لي ما شاء أن يذكر فأعطيته الدينار)).

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أما إنّ جبرائيل قد أنبأني بذلك، وقد أنزل الله فيك كتاباً:وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )).

أنت يعسوب المؤمنين

وفي شرح الآيات الباهرة أيضاً عن أبي جعفرعليه‌السلام مسنداً قال: ((اُوتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمال وحُلل، وأصحابه حوله جلوس فقسّمه عليهم حتّى لم يبقَ منه حلّة ولا دينار، فلمّا فرغ منه جاء رجل من فقراء المهاجرين كان غائباً، فلمّا رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أيّكم يعطي هذا نفسه ويؤثره على نفسه؟

فسمعه عليعليه‌السلام فقال: نصيبي. فأعطاه إيّاه، فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأعطاه الرجل، ثمّ قال: يا عليّ، إنّ الله جعلك سبّاقاً للخير، سخّاءً بنفسك عن المال؛ أنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الظَلَمة، والظَلَمة هم الذين يحسدونك ويبغون عليك، ويمنعونك حقّك بعدي)).

٢١٢

أبشر يـا علي

وفي الآيات الباهرة أيضاً مسنداً عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ((إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لجالس ذات يوم وأصحابه جلوس حوله، فجاء عليّعليه‌السلام وعليه سمل ثوب منخرق عن بعض جسده، فجلس قريباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فنظر إليه ساعة ثمّ قرأ:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) .

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام : أما إنّك رأس الذين نزلت فيهم هذه الآية، وسيّدهم وإمامهم.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام : أين خلعتك التي كسوتكها يا علي؟

فقال: يا رسول الله، إنّ بعض أصحابك أتاني يشكو عريه وعري أهل بيته فرحمته، وآثرته بها على نفسي، وعرفت أنّ الله تعالى سيكسوني خيراً منها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : صدقت، أما إنّ جبرائيل قد أتاني يحدّثني أنّ الله اتّخذ لك مكانها في الجنّة حلة خضراء من استبرق، وضيقها من ياقوت وزبرجد، فنعم الجواز جواز ربّك بسخاوة نفسك، وصبرك على سملتك هذه المنخرقة! فأبشر يا علي.

فانصرف عليعليه‌السلام فرحاً مستبشراً بما أخبره به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )).

نعم، هناك روايات كثيرة في فضل الإيثار، ومدح المؤثرين، منها قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أيّما امرئ اشتهى شهوة فردّ شهوته، وآثر على نفسه - أي آثر الله على نفسه - غفر له)).

وسُئل الإمام الصادقعليه‌السلام : أيّ الصدقة أفضل؟ فقالعليه‌السلام : ((جُهد المُقِلّ، أما سمعت قول الله (عزّ وجلّ):وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ )).

٢١٣

سيّد المؤثرين وإمامهم

فسيّد المؤثرين وإمامهم بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المعصومين هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثمّ إنّ سيّد المؤثرين وإمامهم بعد المعصومينعليه‌السلام هو أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، كما قال في حقّه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وذلك في قوله المعروف: ((رحم الله عمّي العبّاس فلقد آثر))، أي آثر الله، وآثر دين الله، وآثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يمثّله الإمام الحسينعليه‌السلام على نفسه وإخوته، وكلّ ما يملكه من غالٍ ورخيص.

وكما قال في حقّه الإمام الصادقعليه‌السلام ، وذلك في زيارته المأثورة عنه، حيث جاء فيها: ((أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود)). أي أعطى أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كلّ ما في وسعه، وغاية ما يملكه من جدّ وجهد؛ من بذل نفسه وإخوته، وكلّ طاقاته وإمكاناته ليشتري به صيانة دين الله، وسلامة حياة إمامه الممثّل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين الناس في الأرض، والامتداد الحقيقي لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الأنام الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولو كان ذلك في مقابل بقائهعليه‌السلام حيّاً بلحظات قليلة.

نماذج من إيثار أبي الفضل العبّاس عليه‌السلام

نعم، لقد آثر أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام على نفسه منذ أيّامه الأولى، فكان لا يجلس بين يدي أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام إلاّ بعد أن يأذن لهعليه‌السلام بالجلوس، ثمّ إذا جلس بعد الإذن له جلس جلسة العبد بين يدي مولاه، والرّق أمام سيّده.

وكان من إيثار أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أنّه كان يدعو أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام

٢١٤

دائماً بمثل كلمة سيّدي، ومولاي، ويابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أشبه ذلك. ولم يعهد منه أن يدعو أخاه بكلمة أخي وصنوي، وما أشبه ذلك أبداً، إلاّ في موضع واحد، وهو حين مصرعهعليه‌السلام .

وكان من إيثار أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أيضاً: أنّه إذا حصل على شيء آثر به أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام وقدّمه على نفسه، فقد قُدّم له ذات مرّة وهو في سنيّه الأولى عنقود من العنب الشهي، فأخذه واتّجه به نحو باب الدار مسرعاً، فسألوه عمّا يريد، فأجاب: اُريد أن اُقدّم هذا العنقود من العنب الشهي إلى سيّدي ومولاي الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكذلك فعل.

ومن إيثار أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أيضاً: خروجه مع الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة يحميه بنفسه، ويقي أهل بيته بدمه، ويحمل لواءه بيده، ويذب عنه طول سفرته، بدءاً بالمدينة المنوّرة ومروراً بمكة المكرّمة، ومنازل الطريق بين الحجاز والعراق، وانتهاءً بكربلاء على ما كان في السفر في ذلك الزمان من مشاقّ ومتاعب بصورة عامّة، وما كان في تلك السفرة من تهديدات ومخاوف بصورة خاصّة؛ فلقد كانت التحرّكات المشبوهة لبني اُميّة تغطّي المنطقة، والرصد الاُموي بجواسيسه وعيونه يعقّب قافلة الإمام الحسينعليه‌السلام ويراقبه من كثب.

وقد أشار الإمام الحسينعليه‌السلام عند خروجه إلى ذلك؛ فإنّه لمّا خرج من المدينة قرأ قوله تعالى:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَبُ ) .

من قِمَم الإيثـار

ولقد ارتقى أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قُلّة الإيثار، وبلغ قمّته، وذلك حينما وصل موكب الإمام الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء، وخاصّة في الأيام الأخيرة التي كانت

٢١٥

تقترب من يوم عاشوراء، وبالذّات في الأيام التي منع بنو اُميّة فيها الماء، وحرّموه على موكب الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام يؤثر أطفال أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام بحصّته من الماء.

وعلى الأخص في اليوم الذي ورد فيه كزمان إلى كربلاء ومعه أمان من عبيد الله بن زياد للعبّاسعليه‌السلام وإخوته، وكزمان هذا كان مولى لعبد الله بن أبي المحلّ بن حزام، وكانت أم البنين عمّته؛ فإنّ ابن أبي المحلّ هذا كان قد قدم إلى ابن زياد وتوسّط من نفسه إلى أبناء عمّته عنده، وأخذ لهم منه الأمان، وبعث به مع مولى له إليهم، فلمّا قدم كزمان برسالة الأمان إلى كربلاء قدّمها إلى أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقال: هذا أمان من ابن زياد بعثه إليكم خالكم عبد الله.

فقالوا له: أبلغ خالنا السلام، وقل له: لا حاجة لنا في أمان ابن زياد؛ فإنّ أمان الله خير من أمان ابن سميّة.

وعلى الخصوص في يوم تاسوعاء، وذلك حين ورد الشمر إلى كربلاء ومعه أيضاً أمان من ابن زياد للعبّاسعليه‌السلام وإخوته، وكذلك كان معه ما فيه تطميع لهم بإمارة الجيش، وإغراء لهم برتب عسكريّة، وأوسمة ونياشين قياديّة رفيعة المستوى، وغير ذلك من مغريات، فأقبل حتّى وقف على عسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ونادى: أين بنو أُختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟

فأعرضوا عنه ولم يجيبوه، فقال لهم الإمام الحسينعليه‌السلام : ((أجيبوه ولو كان فاسقاً)).

فقاموا إليه وقالوا له: وما تريد يا شمر؟

فقال الشمر مراوغاً مكايداً لهم: يا بني اُختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. ثمّ وعدهم ومنّاهم، وطمّعهم وأغراهم.

فقال العبّاسعليه‌السلام وبكلّ صلابة وقوّة؛ ليقطع عليه مكره وخداعه، ويردّ عليه كيده ونفاقه: لعنك الله ولعن أمانك! أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟!

٢١٦

فعرف الشمر فشله في مراوغته، وخيبته في نفاقه، فلم يتكلّم معهم بشيء، ورجع خائباً مغضباً.

العبّاسعليه‌السلام يؤثر إمامه على ولديه

وخصوصاً إيثار أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في يوم عاشوراء، وذلك في موارد عديدة، منها: تقديم ولديه محمّد وعبد الله بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإيثاره عليهما وفدائهما له؛ فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لمّا رأى أنّه لا يملك شيئاً يؤثر به أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام ويقدّمه فداءً له، سوى نفسه وولدَيه وإخوته، حاول أوّلاً أن يؤثر بولدَيه ويقدّمهما فداء لله بين يدي أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ وذلك لأنّ للأولاد في قلب الإنسان من المحبّة والعلقة ما لم يكن لأحد غيرهم.

فالأولاد أعزّ شيء على قلب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأغلى شيء عنده، وفي الحديث الشريف: ((أولادنا أكبادنا)). وفي حكمة الشعر والنظم: أولادُنا أكبادُنا تمشي على الأرضِ

ومعلوم أنّ فقد الأولاد والإصابة بهم من أعظم المصائب، وأشد الفجائع على قلب الأب، وكلّما كان المصاب أكبر والفجيعة أعظم، وخاصة إذا كان في سبيل الله ونصرة الحقّ كان الأجر أكبر والثواب أعظم؛ ولذلك قدّرت الروايات، وعدت لفقد الأولاد والمصاب بهم من الأجر ما لم تقدّره في فقد أحد والمصاب به.

وأراد أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أن ينال هذا الثواب العظيم، ويحصل على هذا الأجر الكبير قبل أن يفوز هو بالشهادة، فقدّم ولده وفلذة كبده محمداً على نقل بعض، وولديه محمداً وعبد الله على نقل بعض آخر؛ فداء بين يدي أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وواسى في هذه المصيبة الكبرى، والفجيعة العظمى، وهي مصيبة فقد الأولاد أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأخته السيّدة زينبعليها‌السلام في كتمان هذه المصيبة، وعدم الإعلان بها.

فإنّ السيّدة زينبعليها‌السلام لمّا قدّمت

٢١٧

ولديها وفلذتي كبدها عوناً ومحمداً فداءً بين يدي أخيها الإمام الحسينعليه‌السلام ، احتسبتهما لله، فلم تحضر مصرعهما، ولم تجهر بالبكاء عليهما، ولم تذكرهما في شيء من مراثيها، ولم تنوّه باسمهما، ولم تتطرّق لشيء يخصهما، ويذكّر بشهادتهما؛ كلّ ذلك تجلّداً منها وصبراً وتفانياً ومواساة؛ كي لا تمنّ على أخيها الإمام الحسينعليه‌السلام بهما، ولا يمس أخاها الضرّ من أجلهما.

وكذلك كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بالنسبة إلى شهادة ولديه بين يدي أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ حيث شاطر أخته السيّدة زينبعليها‌السلام في ذلك.

إيثار العبّاسعليه‌السلام إمامه على إخوته

ومنها: تقديم إخوته الثلاثة لاُمّه وأبيه بين يدي الإمام الحسينعليه‌السلام وإيثاره عليهم؛ فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لمّا رأى كثرة القتلى من أهله قال لإخوته من اُمّه وأبيه، وهم: عبد الله، وعثمان، وجعفر: تقدّموا يا بني اُمّي حتّى أراكم نصحتم لله ولرسوله.

والتفت إلى عبد الله، وكان أكبر من عثمان وجعفر، وقال: تقدّم يا أخي حتّى أراك قتيلاً وأحتسبك. فكان أوّل مَنْ قُتِلَ من إخوته.

وفي الأخبار الطوال: أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام قال لإخوته: تقدّموا بنفسي أنتم! وحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه. فتقدّموا جميعاً وقتلوا.

وكم كان صعباً على قلب أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام العطوف، الذي زقّ العاطفة من أبيه معدن العاطفة والحنان، وإمام الرأفة والرحمة، الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يرى مصارع إخوته من أُمّه وأبيه ويقف على أجسادهم المضرّجة بالدماء، وأشلائهم المقطّعة بالسيوف!

ولكن الذي كان يهوّن الخطب ويسهّل المصاب عليه، هو أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام كان يرى أنّ من واجبه الديني والأخلاقي أن يؤثر أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام على نفسه وعلى إخوته.

وعلى كلّ، ما كان يحوطه برعايته من غال ورخيص، فإنّ الله تعالى قد جعل رسوله الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله أولى

٢١٨

بالمؤمنين من أنفسهم، وجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله عليّاًعليه‌السلام ، والأئمّة الأحد عشر بنيهعليهم‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وعلى المؤمنين أن يقدّموهم على أنفسهم وأهليهم، وأن يؤثروهم على أولادهم وإخوتهم، وذويهم وعشيرتهم، وكذلك فعل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ولا يبعد أن يكون قد أوصاه أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام بذلك، وأوكل أمر إخوته من اُمّه وأبيه إليه ليحتسبهم؛ تحريضاً وتأكيداً.

العبّاسعليه‌السلام والإيثار الأخير

ومنها: أنّه لمّا رأى مصارع إخوته وذويه، ونظر إلى كثرة القتلى منهم، ضاق صدره وسئم الحياة، فجاء إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام يطلب منه الإجازة ويستأذنه للبراز، يريد منه السماح والإذن في الانتقام من الأعداء، فلم يأذن له الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم يرخّصه بذلك، وطلب منه أن يستقي للأطفال والرضعان ماءً.

فآثر أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إرادة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام على إرادته، وقدّم طلب إمامه على طلبه، فترك النزال والقتال، وراح يستقي للنساء والأطفال، مستقبلاً مصاعب هذه المهمّة برحابة صدر وسعة باع.

ولولا الختل وغدر الأعداء لأنجز أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام مهمّته هذه بنجاح، كما أنجز التي كانت قبلها بنجاح أيضاً، ولما استطاع العدوّ أن يحول بينه وبين إيصال الماء إلى الخيام؛ فإنّ العدوّ الجبان كان قد كمن له في هذه المرّة من وراء النخلة، واغتاله جبناً ولؤماً حتّى استشهد (سلام الله عليه) دون أن يوصل الماء إلى المخيّم، مؤثراً أخاه على نفسه، وباذلاً دمه في نصرته، كما قال فيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ((رحم الله عمّي العبّاس! فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه)).

٢١٩

الخصّيصة الثلاثون

في أنّهعليه‌السلام المواسي

أحـقُّ الناسِ أن يُبكى عليه

فتىً أبكى الحسينَ بكربلاءِ

أخـوهُ وابـنُ والـدهِ عليٍّ

أبو الفضلِ المضرّج بالدماءِ

ومَـنْ واساهُ لا يثنيهِ شيءٌ

وجـادَ لـهُ على ظمأ بماءِ

وقال آخر:

لـم يـذق الـفـراتَ اُسوةً به

مـيـمّماً بـمـائِهِ نحو الخِبا

لم يـرَ فـي الدينِ يبلّ غلّة

وصـنـوهُ فيهِ الظما قد ألهبا

والمرتضى أوصى إليه في ابنه

وصـيّة صدّتهُ عن أن يشربا

لـذاك قـد أسـنـدهُ لـديـنهِ

وعـن يـقينٍ فيه لن يضطربا

هذا مـن الشرعِ يرى فعلته

ومـن صراطِ أحمدٍ ما ارتكبا

ومـثـلـهُ الحسينُ لمّا ملك الـ

مـاءَ وقـيـلَ رحـله قد نُهبا

أمَّ الـخـيـام نـاقـضاً لمائهِ

إذ عظُمَ الأمرُ بهِ واعصوصبا

فكـانَ لـلـعبّاس فيه اُسوةٌ

إذ فاضَ شهماً غيرَ مفلول الشبا

وقال الشيخ جعفر بن نما الحلّي، وهو يصف مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام :

حـقيقٌ بالبكاءِ عليهِ حزناً

أبو الفضلِ الذي واسى أخاهُ

وجـاهدَ كـلّ كـفّارٍ ظلومٍ

وقـابلَ مـن ضلالهمُ هداهُ

٢٢٠