الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296509
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296509 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فـداهُ بـنفسهِ للهِ حتّى

تفرّقَ من شجاعتهِ عداهُ

وجادَ لهُ على ظمأ بماءٍ

وكان رضا أخيهِ مبتغاهُ

وقال آخـر:

لا تـنـسَ للعبّاس حُسنَ مقامهِ

بـالـطفِّ عند الغارةِ العشواءِ

واسى أخـاهُ بها وجادَ بنفسهِ

في سـقي أطفالٍ له ونساءِ

ردَّ الاُلوفَ على الاُلوفِ معارضاً

حـدَّ الـسـيوفِ بجبهةٍ غرّاءِ

وقال الشيخ محسن أبو الحبّ في مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في قصيدة يحكي بها لسان حال العلقمي، ومصرع العبّاسعليه‌السلام بجنبه:

جـزى اللهُ عـنّي في المواساةِ عمّهمْ

أبا الفضل خيراً لو شهدتَ أبا الفضلِ

لـقـد كـانَ سـيـفاً صاغهُ بيمينهِ

عـليٌّ فـلمْ يحتج شباه إلى الصقلِ

إذا عُـدَّ أبـنـاءُ الـنـبـيّ مـحمدٍ

رآهُ أخـاهـم مَـنْ رآهُ بـلا فضلِ

ولـمْ أرَ ضـامٍ حـولـهُ الماءُ قبلهُ

ولـمْ يـرو منهُ وهو ذا مهجةٍ تغلي

وما خـطـبهُ إلاّ الوفاء وقلّ ما

يُرى هـكـذا خلاً وفيّاً مع الخلِّ

وسام المواسـاة

وممّا يشهد لمواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أن جاء في زيارته المعروفة المأثورة عن الإمام الصادقعليه‌السلام : ((أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي)). وهذا وسام، وأكرم به من وسام، وسم به الإمام الصادقعليه‌السلام عمّه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام .

ولم يكن الإمام الصادقعليه‌السلام هو وحده الذي منح عمّه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هذا الوسام، بل اقتدى الإمام الهاديعليه‌السلام بأبيه الإمام الصادقعليه‌السلام ووسم عمّه

٢٢١

العبّاسعليه‌السلام بهذا الوسام أيضاً؛ وذلك في الزيارة الصادرة عن الناحية المقدّسة سنة مئتين واثنين وخمسين هجريّة، حيث جاء فيها: ((السّلام على أبي الفضل العبّاس، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الواقي له، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه)).

ومن المعلوم أنّ حصول أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام على وسام المواساة من قبل إمامين همامين، معصومين مسدّدين من قبل الله تبارك وتعالى؛ لهو خير دليل على بصيرة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في دينه، ومعرفته بحقّ إمامه، وإخلاصه في مواساته له.

الوصيّة بالمواساة والوفاء بها

بل كانت مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وفاءً لما عاهد عليه أباه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وتنفيذاً لوصيّتهعليه‌السلام التي أوصاه بها ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان، وذلك في اللحظات الأخيرة التي ودّع بها أمير المؤمنينعليه‌السلام أهل بيته وذويه وأولاده وبنيه.

فلقد جاء في التاريخ، كما عن معالي السبطين وغيره: أنّه ما كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان عام أربعين هجرية، أي في الليلة الأخيرة من عمر الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أخذ الإمام يودّع أهل بيته ويوصيهم بوصاياه، فالتفت إلى ولده أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام من بين أولاده، وقرّبه من نفسه، وضمّه إلى صدره، وقال له: ((ولدي عبّاس، وستقرّ عيني بك يوم القيامة. ولدي إذا كان يوم عاشوراء ودخلت الماء وملكت المشرعة، فإيّاك أن تشرب الماء وأن تذوق منه قطرة وأخوك الحسينعليه‌السلام عطشان)).

ولذا عندما قرب أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام الماء من فمه بعد أن ملك المشرعة تذكّر عطش أخيه، وجال في ذهنه وصيّة أبيه، فرمى الماء على الماء، وملأ القربة، وخرج عطشانَ؛ مواساة ووفاءً.

٢٢٢

مواساة العبّاس عليه‌السلام للسيّدة زينب عليها‌السلام

كما أن مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام كان وفاءً منه لما عاهد عليه أباه أمير المؤمنينعليه‌السلام في حقّ أخته المبجّلة، عقيلة بني هاشم، السيّدة زينبعليها‌السلام وذلك في ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان أيضاً، أي في ليلة استشهاد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث كان الإمام قد جمع خاصته وذويه وأولاده وبنيه للوداع معهم.

فقد ورد أنّ السيّدة زينبعليه‌السلام لمّا رأت أباها أمير المؤمنينعليه‌السلام قد جمع أولاده وأهل بيته ساعة الاحتضار، وأخذ يودّعهم ويوصيهم، ويعيّن الوصيّ والإمام من بعده عليهم، تقدّمت إليه وقالت بكلّ حزن وأسى على ما كانت تراه بأبيها، وعلى ما أخبرها به من وقعت كربلاء: اُريد يا أبتاه وأنت بعدُ في الحياة أن تختار لي من إخوتي مَنْ يواسيني في رخائي وشدّتي، ويكفلني في سفري وحضري.

فقال لها أمير المؤمنينعليه‌السلام بكلّ عطف وحنان: ((هؤلاء إخوتك ورجال أهل بيتك فاختاري منهم مَنْ تريدين، فإنّهم أكفاء لما ترومين)).

فقالتعليها‌السلام وببصيرة كاملة: يا أبتاه، إنّ الحسن والحسينعليه‌السلام أئمّتي وسادتي، وعليَّ أن أخدمهما وأقوم بحمايتهما، وأن اُواسيهما واُؤثرهما على نفسي، ولكنّي اُريد من إخوتي مَنْ يخدمني ويواسيني، ويقوم بحمايتي وكفالتي.

فقالعليه‌السلام لها وهو يرقّ على حالها ومصابها بأبيها: ((اختاري منهم مَنْ شئتِ)).

فأجالت السيّدة زينبعليها‌السلام ببصرها على إخوتها حتّى إذا وقع نظرها على أخيها أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لم تتجاوزه إلى غيره، وإنّما التفتت إلى أبيها أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأشارت بيدها إلى أخيها أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقالت: يا أبتاه، اُريد أخي هذا.

٢٢٣

عندها التفت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى ولده أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأشار عليه بالدنو منه، فلما دنا منه أخذ بيده ووضع يد السيّدة زينبعليها‌السلام في يده، وقال: ((ولدي عبّاس، عليك بأختك هذه؛ فإنّها بقيّة اُمّها الزهراءعليها‌السلام ، فلا تقصّر في خدمتها ورعايتها، ولا تتوان في حفظها وحمايتها)).

فقال أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقد تحادرت دموعه على خدَيه: يا أبتاه، لأنعمنَّكَ عيناً، ولأكوننَّ عند حسن ظنّك، فإنّي سأبذل قصارى جهدي، وغاية جدّي ومجهودي في حفظها وحراستها، وأرعى حرمتها وحقّها.

وهنا أخذ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يطيل النظر إلى ولده العبّاسعليه‌السلام وإلى ابنته السيّدة زينبعليه‌السلام ، ويبكي من موقفهما وموافقتهما، وكأنّه يستعرض ما سيجري عليهما، ويتذكّر ما سيصيبهما من الشهادة والأسر في كربلاء.

فكان أبو الفضل العبّاس نِعْمَ الأخ المواسي ليس لأخيه فحسب، بل لاُخته أيضاً؛ فإنّه هو الذي واسى أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام في عطشه، فلم يشرب الماء مع الحصول عليه والوصول إليه، كما إنّه واسى في نفس الوقت أخته المكرّمة عقيلة بني هاشم السيّدة زينبعليه‌السلام عطشها وظمأها أيضاً، إضافة إلى وفائه بالعهد لهما، وتنفيذه وصيّة أبيه بالنسبة إليهما (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

أبو ذر يواسي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم عند تفسير التوبة في واقعة تبوك وغيره من الكتب الاُخرى أنّ أبا ذر تخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك ثلاثة أيّام؛ وذلك لأنّ جمله كان أعجف، وقد وقف عليه في بعض الطريق.

٢٢٤

فلمّا أبطأ عليه تركه، وأخذ متاعه وثيابه فحمله على ظهره، ولحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ماشياً، فأدركه بعد ثلاثة أيّام كاملة، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نزل في بعض منازله، فلمّا ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقالوا: يا رسول الله، إنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((كن أبا ذر)). فلمّا تأمّله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أدركوه بالماء؛ فإنّه عطشان)). فأدركوه بالماء، ووافى أبو ذر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه إداوة فيها ماء، فقال له: ((يا أبا ذر، معك ماء وعطشت؟!)).

فقال: نعم يا رسول الله بأبي أنت واُمّي! انتهيت على صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد، فقلت لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((رحمك الله يا أبا ذر، أنت المطرود عن حرمي بعدي؛ لمحبتك لأهل بيتي؛ تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك، اُولئك رفقائي في جنّة الخلد التي وعد المتّقون)).

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكر أبا ذر

نعم، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشكر أبا ذر على مواساته، ويدعو له بقوله رحمك الله يا أبا ذر، ويخبره بما يجري عليه من بعده في سبيل الله، ومحبّة رسوله وأهل بيته (صلوات الله عليهم)، ويبشّره والذين يقومون بتجهيزه بالجنّة؛ كلّ ذلك جزاءً له على مواساته، وتقديراً له على إنسانيته.

ومن المعلوم أنّ شكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا ذر إنّما هو شكر الله على لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى.

٢٢٥

وقد شكر الله تعالى مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولكن لا على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحياة، بل على لسان وصي رسوله الإمام الصادقعليه‌السلام ، وذلك في الزيارة المعروفة المأثورة عنهعليه‌السلام في حقّ عمّه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، حيث جاء فيها: ((السلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين...

إلى أن يقولعليه‌السلام : أشهد وأُشهد الله أنّك مضيت على ما مضى عليه البدريون، والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذّابون عن أحبائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره)).

وفي مكان آخر من الزيارة: ((السلام عليك يا أبا الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، إلى أن يقول: أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي)).

وعلى لسان الإمام علي بن محمّد الهاديعليه‌السلام ، وذلك حيث يقولعليه‌السلام في زيارة الناحية المقدّسة على ما مرّ: ((السلام على أبي الفضل العبّاس، المواسي أخاه بنفسه)).

بل إنّ الله تعالى قد شكر العبّاس بن عليعليه‌السلام على لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا واسطة، وذلك لمّا قد تواتر عند الفريقين من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ الإمام الحسينعليه‌السلام : ((حسين منّي، وأنا من حسين))، فتكون مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام هي مواساة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد شكر - على ما عرفت - أبا ذر على مواساته فهو لمواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام الذي كان أعظم من مواساة أبي ذر أكثر شكراً، وأكبر تقديراً.

٢٢٦

المواساة سيّد الأعمال

هذا وقد جاء فيما أوصى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاًعليه‌السلام - على ما في كتاب الخصال - أن قال له: ((يا علي، سيّد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس إلى نفسك، ومواساتك الأخ في الله (عزّ وجلّ)، وذكرك الله تبارك وتعالى على كلّ حال)).

وفي أمالي الطوسي عن الحذّاء مسندا قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ((ألا أخبرك بأشدّ ما افترض الله على خلقه؟ إنصافك الناس من أنفسهم، ومواساة الإخوان في الله (عزّ وجلّ)، وذكر الله على كلّ حالٍ، فإن عرضت له طاعة الله عمل بها، وإن عرضت له معصية تركها)).

وفي الكافي عن الحسن البزّاز قال: قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : ((ألا اُخبرك بأشدّ ما فرض الله تعالى على خلقه؟)).

قلت: بلى.

قالعليه‌السلام : ((إنصاف الناس من نفسك، ومواساتك أخاك، وذكر الله في كلّ موطن. أما إنّي لا أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، وإن كان هذا من ذاك، ولكن ذكر الله في كلّ موطن إذا هجمت على طاعة، وعلى معصية)).

الوفاء من سمات المؤمنين

كما إنّ صدق الوعد، والوفاء بالعهد هو أيضاً من الخصال الحميدة، والصفات الكريمة التي مدحها الله تعالى في كتابه، وجعلها من صفات المؤمنين وعلاماتهم، ومدح الملتزمين بها، فقال:( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْماعِيلَ أنّه كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ) .

وفي الخصال عن أبي مالك مسنداً قال: قلتُ لعلي بن الحسينعليه‌السلام : أخبرني بجميع شرايع الدين.

قالعليه‌السلام : ((قول الحقّ، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد)).

٢٢٧

وفي الخصال أيضاً عن أبي عبد اللهعليه‌السلام مسنداً قال: ((ثلاثة لم يجعل الله لأحد من الناس فيهم رخصة؛ برّ الوالدين بَرّين كانا أم فاجرين، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر)).

وفي الخصال أيضاً عن الإمام الرضا، عن أبائهعليهم‌السلام أنّه قال: ((قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَنْ عاملَ الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممّن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت اُخوّته، وحرُمَتْ غيبته)).

وفي كشف الغمّة مسنداً عن الإمام الرضا، عن آبائه، عن عليعليه‌السلام ، قال: ((سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: عِدَة المؤمنين نذر لا كفّارة له)).

وفي مشكاة الأنوار عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال: ((إنّا أهل البيت نرى ما وعدنا علينا ديناً، كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )).

وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو فرع هذا البيت الطاهر، الذي يرى ما وعده ديناً عليه، ويعلم أنّ العهد حقّ للغير في ذمّته ولا بد من الوفاء به والأداء إليه.

من وفاء أبي الفضلعليه‌السلام

ومن هنا يعلم صحة ما جاء في بعض المقاتل من أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا جاء، ووقف على مصرع أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأراد أن يحمله إلى المخيّم حيث فسطاط الشهداء أقسم عليه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بحقّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركه في مكانه؛ معتذراً عن ذلك أنّه كان قد وعد سكينة بالماء، وهو يستحي منها حيث لم يستطع على الوفاء لها.

ويعلم أيضاً صحة ما روي من أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لم يكن ليدعو يوماً

٢٢٨

أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام بكلمة أخي، ويا صنوي، ويابن والدي، وما أشبه ذلك، وإنّما كان يدعوه دائماً وأبداً بكلمة سيّدي ومولاي، ويابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما شابه ذلك؛ وفاءً منه لإمامه، وتأدباً منه مع مَنْ جعله الله تعالى أولى به من نفسه، إلاّ في مكان واحد دعا فيه أخاه بكلمة يا أخي، وهو حين هوى من على ظهر جواده إلى الأرض.

وينقل أيضاً أنّ ملكة الهند توسّلت في حاجة لها بأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ونذرت إن قضى الله لها حاجتها أن تطلي منائر الروضة العبّاسيّة المقدّسة بالذهب، فقضى الله لها حاجتها ببركة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وعزمت على أن تبرّ نذرها وتفي بعهدها، فأخذت معها ذهباً كثيراً، واصطحبت في سفرها مهندسين ماهرين بارعين، واتّجهت نحو المشاهد المشرّفة والأعتاب المقدّسة.

حتّى إذا وصلت الملكة بموكبها إلى كربلاء المقدّسة، وحاولت أن تبدأ عملية تطلية المنائر بالذهب؛ إذ قد تمّ إعداد كلّ شيء، واستعدّ المهندسون والعمّال لأن يبدؤوا عملهم في الصباح المبكّر من يوم غد، لكن في نفس الليلة التي كان من المفروض أن يبدأ عمل التذهيب في صبيحتها رأى سادن الروضة العبّاسيّة المباركة أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام في منامه، وهو يقول له ما معناه: إنّي لا أرضى بتذهيب منائر قبّتي؛ فإنّ منائر روضة سيّدي الإمام الحسينعليه‌السلام مذهبة، ويلزم الاحتفاظ بالفرق بين روضة العبد وروضة سيّده.

وفي الصباح المبكّر وقبل أن يبدأ المهندسون عملهم أقبل سادن الروضة العبّاسيّة المباركة وأخبرهم بما قاله أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأدّى رسالته إليهم، فكفّوا عن العمل، وصرفوا الذهب الذي جاءت به ملكة الهند بحساب أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في موضع آخر، وبقي إلى يومنا هذا الفرق الذي أراده أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام لمنائر روضته، فارقاً مع منائر روضة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٢٩

نعم، إنّ تأدّب أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ووفاءه لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن مقصوراً على أيّام حياته، بل بقي مستمراً حتّى بعد شهادتهعليه‌السلام .

علماً بأنّ الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فكيف بشهيد يغبطه جميع الشهداء يوم القيامة مثل أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ؟ ومعه فلا عجب إذاً من هذه القصة وأمثالها، ممّا يدلّ على وفاء أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وحسن أدبه مع أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكبير وفائه مع شيعته ومحبيه، ورواده وزائريه، والأمين له، والوافدين عليه.

٢٣٠

الخصّيصة الواحدة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام الحامي والمحامي

يُقال: حاميت عنه محاماةً، أي منعته من العدوّ، ودافعت عنه، فالحامي والمحامي هو الذي يمنع الإنسان من عدوّه ويدافع عنه، وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كان خير حامٍ ومحامٍ لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، حتّى إنّه جاء في زيارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام المأثورة عن الإمام الصادقعليه‌السلام أجمل الثناء على أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وأفضل المدح والدعاء له؛ لحمايته عن أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ونصرته له؛ وذلك حيث يقولعليه‌السلام : ((فنعم الصابر المجاهد، المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه)).

وقال السيّد جعفر الحلّي عن لسان الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو يندب أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لمّا وقف على مصرعه:

أاُخـيَّ مَـنْ يحمي بناتَ محمدٍ

إنْ صرنَ يسترحمنَ مَنْ لا يرحمُ

ما خلتُ بعدكَ أن تُشلَّ سواعدي

وتكفّ باصرتي وظهريَ يُقصمُ

وقال آخر:

أوَلستَ تسمعُ ما تقولُ سكينةٌ

عمّاه يوم الأسرِ مَنْ يحميني

إذاً فالعباسعليه‌السلام هو مَنْ شهد له الإمام الصادقعليه‌السلام والتاريخ، وأقرّ له الشعراء والأدباء بالحماية عن أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، والدفاع عنه.

٢٣١

ولا بأس بأن نذكر هنا بعض تلك المواقف التي بدت فيها حماية أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ومحاماته عن أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام جليّة واضحة.

العبّاسعليه‌السلام علي باب الوليد

لقد كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بمواقفه المحمودة، وسيرته الطيّبة قد احتلّ لنفسه في قلب أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام مكاناً مرموقاً، ومنزلة رفيعة، بحيث صار مورد اعتماده، ومحلّ ثقته، ومَنْ يعوّل عليه، ويطمئنّ إلى نجدته وحمايته.

حتّى إنّه لمّا مات معاوية وكتب يزيد إلى والي المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان بأن يأخذ الإمام الحسينعليه‌السلام بالبيعة له، وإن أبى ضرب عنقه، وأرسل برأسه إليه، أنفذ الوليد إلى الإمام الحسينعليه‌السلام في الليل واستدعاه، فعرف الإمام الحسينعليه‌السلام ما يريد، فدعا ثلاثين رجلاً من أهل بتيه ومواليه - ولا شك أنّه كان على رأسهم أخوه الوفي أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام - وأمرهم بحمل السلاح، وقال لهم: ((إنّ الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن من أن يكلّفني فيه أمراً لا أُجيب إليه، وهو غير مأمون، فكونوا معي، فإذا دخلت إليه فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عنّي)).

وكان كما قالعليه‌السلام ، فإنّ الوليد دعاه إلى بيعة يزيد فامتنع الإمام الحسينعليه‌السلام من ذلك، وقال: ((إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمور، وقاتل النفس المحرّمة، ومعلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحق بالخلافة)).

وكان مروان حاضراً، فأشار على الوليد بحبس الإمام الحسينعليه‌السلام حتّى

٢٣٢

يبايع أو يضرب عنقه، وأغلظ الوليد في كلامه لهعليه‌السلام ، فعلا صوت الإمام الحسينعليه‌السلام مع مروان والوليد، فهجم على الوليد قصره كلّ مَنْ كان مع الإمام الحسينعليه‌السلام بالباب، وقد شهروا أسلحتهم، وأحاطوا بالإمام الحسينعليه‌السلام يحمونه، ويحامون عنه، وأخرجوه إلى منزله.

ومن المعلوم أنّ الأخ الحامي، والصنو المحامي، أعني أبا الفضل العبّاس كان بلا شك هو قائد هؤلاء الثلاثين الذين دخلوا على الوليد لحماية الإمام الحسينعليه‌السلام والدفاع عنه.

موقف العبّاس عليه‌السلام ليلة عاشوراء

ثمّ إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا جمع أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر من المحرّم، وخطب فيهم خطبة أخبرهم فيها بأنّ القوم لا يطلبون سواه، وإنّهم لو أصابوه لذهلوا عن غيره أذِنَ لهم بالانصراف عنه، قائلاً: ((ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذِنْت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ، ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي، وجزاكم الله جميعاً خيراً، وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم)).

فكان أوّل مَنْ قام وأجاب وبدأ القوم بالكلام هو أخوه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّه أجاب جواب الحامي الوفي، والمحامي الناقد البصير، جواباً فتح على الآخرين كيف يجيبون إمامهم الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ حتّى يرضى الله عنهم ورسوله، وعرّفهم كيف يقفون من إمامهم الإمام الحسينعليه‌السلام موقف النصح والوفاء، والنُبل والشرف؛ لينالوا عزّ الدنيا وكرامة الآخرة.

إنّه قام فقال: لِمَ نفعل ذلك! لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك اليوم.

وقام الآخرون وقالوا ما يشبه هذا الكلام، فأجابهم الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو

٢٣٣

يشكرهم على معرفتهم وشعورهم الطيّب، ويثني على إيمانهم وإخلاصهم البالغ بقوله: ((إنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، وجزاكم الله عنّي خيراً)).

وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو أوّل مَنْ فاز بهذا الوسام وناله بكفاءة.

يوم عاشوراء وبطولة العبّاسعليه‌السلام

نعم، كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو الحامي الكفوء، والمحامي الشجاع، والمدافع الجريء الذي كان يجاهد بثبات، ويدافع بعزم وبصيرة عن أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعن أهل بيته وأُسرته، بل عن كلّ معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ إذ كان معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام آمناً بوجوده، مطمئناً إلى قيادته وحمايته، مفتخراً بنجدته وشهامته.

فقلد جاء في تاريخ الطبري وغيره: أنّ أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام بعد الحملة الأولى التي استشهد فيها خمسون منهم كان يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة، وكلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه، فكان ممّن خرج الجابريان وقاتلا حتّى قُتلا، والغفاريان فقاتلا معاً حتّى قُتلا، والحرّ الرياحي ومعه زهير بن القين يحمي ظهره، فقاتلا ساعة، وكان كلّما شدّ أحدهما واستلحم شدّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحرّ.

وكان ممّن خرج أيضاً عمر بن خالد الصيداوي وسعد مولاه، وجابر بن الحارث السلماني ومجمع بن عبد الله العائذي، فشدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلّما أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس من كلّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الإمام الحسينعليه‌السلام أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم.

والشاهد هنا هو في انتداب الإمام الحسينعليه‌السلام أخيه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لهذه المهمّة الصعبة، مهمّة استنقاذ

٢٣٤

المنقطعين، والأصعب منه هو قوّة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام على إنقاذهم من بين تلك الجموع المتكدّسة والحشود الغفيرة؛ فإنّهعليه‌السلام أنقذهم على ما بهم من جراح، وأثبت بذلك حمايته لأخيه ولمَنْ كان مع أخيه.

العبّاس عليه‌السلام واللقاء بين المعسكرين

ثمّ إنّه لمّا أراد الإمام الحسينعليه‌السلام أن يلتقي بعمر بن سعد ويتمّ الحجّة عليه، أرسل إليه عمرو بن قرظة الأنصاري يطلب منه اللقاء به ليلاً بين المعسكرين، ولمّا جنّ الليل وحان وقت اللقاء خرج كلّ منهما في عشرين فارساً حتّى إذا التقيا بين المعسكرين، وكان هذا هو اللقاء الأوّل من نوعه، أمر الإمام الحسينعليه‌السلام مَنْ معه أن يتأخر إلاّ أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام وابنه عليّاً الأكبرعليه‌السلام ، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه دريد.

عندها التفت الإمام الحسينعليه‌السلام ، وقد حفّ به أخوه الحامي له والمحامي عنه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وابنه الكمي الوفي علي الأكبرعليه‌السلام ، إلى ابن سعد وقال له: ((ويلك يا ابن سعد! أما تتّقي الله الذي إليه معادك؟ أتقاتلني وأنا ابنُ مَنْ علمت؟! ذر هؤلاء القوم وكن معي؛ فإنّه أقرب لك إلى الله تعالى)).

فقال عمر بن سعد: أخاف أن تُهدم داري.

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : ((أنا أبنيها لك)).

فقال عمر: أخاف أن تُؤخذ ضيعتي.

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : ((أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي في الحجاز)).

وفي رواية أنّهعليه‌السلام قال له: ((أُعطيك البغيبغة)). علماً بأنّها كانت ضيعة عظيمة فيها عين تتدفق كعنق البعير، وبها نخل وزرع كثير، وقد دفع معاوية فيها ألف ألف

٢٣٥

دينار (أي مليون مثقال ذهب) ليشتريها فلم يبعهاعليه‌السلام منه.

وهنا عندما انقطعت أعذار ابن سعد أبدى في جواب الإمام الحسينعليه‌السلام مقالة أبانَ فيها عن نفاقه الباطن وكفره المكتوم، مقالة تكشف عن سوء نيّته بالنسبة إلى نبيّه وآل نبيّه (صلوات الله عليهم)، وتعبّر عن عدم غيرته على نبيّه، وعلى أهل بيته وحرمه وعقائله ومخدراته.

مقالة تبدي رضاه بسبي آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وتخدير إمائه هو ونسائه، مع أنّ الله تعالى جعل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمرهم بأن يموتوا دونهم، وأن يحفظوهم بأنفسهم وأموالهم، وأهليهم وعشيرتهم.

لقد تجاهل ابن سعد كلّ أوامر الله تعالى بالنسبة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو لم يكن ممّن يجهلها، وانبرى يقول بكلّ صلافة: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم.

وهنا لمّا رأى الإمام الحسينعليه‌السلام شدّة جفاء ابن سعد، وعظيم صلافته، وتفضيل عياله على عيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعيالات أهل بيتهعليه‌السلام ، وهو ممّن يعلم بوجوب حقّهعليه‌السلام وأهل بيتهعليهم‌السلام عليه أيسَ منه ومن هدايته، وانقطع رجاؤه من إنابته وأوبته إلى الحقّ، فتركه وانصرف وهو يقول: ((ما لك! ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك. فوالله، إنّي لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً)).

فأجاب ابن سعد، وقد شغف قلبه حبّ الدنيا، وغطّى عقله وعود حكومة الري، ولو كان بثمن قتل ابن بنت نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال مستهزئاً: في الشعير كفاية عن البُرّ.

ولكنّ الاستهزاء بكلام المعصومين والناصحين، وعدم الاكتراث بنصائحهم ومواعظهم لا يجرّ على الإنسان إلاّ الندم والحسرة، ولا يعود عليه إلاّ بالضلال والخسران المبين، وكذلك كان مصير ابن سعد؛ فقد خسر الدنيا والآخرة.

٢٣٦

الراية في حماية العبّاسعليه‌السلام

ولمّا كان يوم عاشوراء وعبّأ الإمام الحسينعليه‌السلام أصحابه للقتال، أعطى الراية أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وخصّه بها من بين جميع أهل بيته وأصحابه، وإنّ هذا ليدلّ على جدارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام بحماية الراية وحفظها، وكفاءته في القيام بهذه المهمّة، مهمّة الدفاع والحماية عن معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ومحاماته لهم.

وبعد أن عبّأ الإمام الحسينعليه‌السلام أصحابه، وأعطى الراية أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، دعا براحلته فركبها، ونادى بصوت عالٍ يسمعه جلّهم، قائلاً: ((أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ، وحتّى اعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل.

وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم فاجمعوا أنفسكم وشركائكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثمّ اقضوا إليّ ولا تُنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين)).

فلمّا سمعن النساء هذا من الإمام الحسينعليه‌السلام صحنَ وبكينَ، وارتفعت أصواتهنَّ، فأرسل الإمام الحسينعليه‌السلام أخاه أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وابنه علي الأكبرعليه‌السلام ، وقال لهما: ((سكّتاهنَّ، فلعمري ليكثر بكائهنَّ)).

فأقبلا إليهنَّ وسكّتاهنَّ، ولمّا سكتنَ واصل الإمام خطبته في الناس، واستمر في موعظته لهم.

وما كان انتخاب أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لإسكات النسوة إلاّ لجدارة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام للقيام بهذه المهمّة، ومكانته المرموقة عند النسوة، وإيمانهنَّ بنجدته وحمايته، ودفاعه وذبّه عنهنَّ؛ ولذلك لما رأينه مقبلاً إليهنَّ سكتنَ اطميناناً

٢٣٧

إلى وجوده، وركوناً إلى حمايته لهنَّ ومحاماته عنهنَّ، فلمّا طلب منهنَّ السكوت حذار شماتة الأعداء، وهو بشخصه حاضر بينهنَّ، أطعنه وسكتنَ وسكنَّ.

إعداد العبّاس عليه‌السلام لكربلاء

وروي أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كان ذات يوم جالساً في مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بين أصحابه يحدّثهم، ويعظهم ويبشرهم وينذرهم، إذ جاء أعرابي وعقل راحلته على باب المسجد، ودخل ومعه صندوق، وأقبل نحو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام فسلم على الإمامعليه‌السلام ، ووضع الصندوق بين يديهعليه‌السلام ، ثمّ قبل يدي الإمامعليه‌السلام ، وقال: جئتك يا أمير المؤمنين بهدية.

فقالعليه‌السلام : ((وما هي هديتك؟)).

قال: هديتي في هذا الصندوق، ثمّ فتح الصندوق، وإذا فيه شيء ملفوف، ففلّه فإذا هو سيف عضب من السيوف الجيّدة، وله حمائل جميلة، وقدّمه للإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فأخذه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وشكره على هديته، ثمّ أخذ يقلّب السيف بيده وينظر إليه، وهو يقول لمَنْ كان معه من أصحابه: ((أيّكم يستطيع أن يؤدّي حقّ هذا السيف فيكون حقيقاً بأن أهديه له؟)).

وبينما الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يكلّم أصحابه إذ دخل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام المسجد - وهو إذ ذاك لم يبلغ الحلم ـ، وأقبل نحو أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام فسلّم عليه، ووقف بين يديه متأدّباً، وأخذ يُطيل النظر إلى السيف الذي في يد أبيه، فأجاب الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام سلام ولده، ثمّ أخذ ينظر إليه وهو يعيد مقالته ويقول: ((أيّكم يستطيع أن يؤدّي حقّ هذا السيف فيكون جديراً بأن أهديه له؟)).

فقال أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام : وما حقّ هذا السيف يا أبتاه؟

٢٣٨

فقال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ((ولدي عبّاس، حقّ هذا السيف هو أن تحمي به أخاك الإمام الحسينعليه‌السلام وتحامي عنه)).

فقال أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وبكلّ انشراح ورحابة: أنا لذلك يا أبتاه.

فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقد ابتهج بشجاعة ولده العبّاسعليه‌السلام ، وهشّ لبسالته ووفائه: ((نعم، أنت له)).

وقد أشار إليه بأن يدنو منه، فلمّا دنا منه قلّده إيّاه، فطال نجاد السيف على العبّاسعليه‌السلام فقصّره له، ثمّ جعل ينظر إليه ويطيل نظره، وهو يبكي ودموعه تتحادر على خدّيه، فقال له أصحابه: وما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ لا أبكى الله عينيك!

فقالعليه‌السلام ، وقد اختنق بعبرته: ((كأنّي بولدي هذا وقد أحاطت به الأعداء من كلّ جانب، وهو يضرب فيهم بهذا السيف يمنة ويسرة، ويحمي به أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويحامي عنه حتّى تقطع يداه في نصرته، ويقصف رأسه بعمد من الحديد في حمايته والدفاع عنه)).

ثمّ بكىعليه‌السلام ، وبكى مَنْ كان حاضراً عنده من أصحابه.

٢٣٩

الخصّيصة الثانية والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام ظهر الولاية

لـهـفي لـهُ إذ رأى العبّاس منجدلاً

عـلـى الترابِ صريعاً عافرَ البدنِ

نادى بصوتٍ يُذيبُ الصخرَ يا عضُدي

ويـا مـعـيني ويا كهفي ومؤتمني

عـبّاس قد كنتَ لي عضداً أصولُ به

وكـنـتَ لـي جُنّةً من أمنعِ الجُننِ

عـبّاس هذي جيوشُ الكفرِ قد زحفت

نـحـوي بثاراتِ يومِ الدارِ تطلبني

كـسرتَ ظـهري وقلّتْ حيلتي وبما

لاقـيتُ سُـرّتْ ذوو الأحقادِ والإحنِ

بـذلـتَ نـفسكَ دوني للعدى غرضاً

حـتّى قـضيتَ نقيَّ الثوبِ من درنِ

بـقـيـتُ بـعـدكَ بين القومِ منفرداً

اُقـلّـبُ الـطرفَ لا حامٍ فيسعدني

العبّاس عليه‌السلام عضد الإمام الحسين عليه‌السلام وظهره

لقد كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام عضداً وظهراً لأخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، كما كان أبوه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن قبله أبو طالبعليه‌السلام عضداً وظهراً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد جاء في التاريخ، وباعتراف من علماء الفريقين: أنّ عمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أعني أبا طالبعليه‌السلام ، كان ظهراً لابن أخيه في كلّ موطن وموقف وقف فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما أكثر تلك المواقف والمواطن في التاريخ.

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يرى عمّه أبا طالبعليه‌السلام ظهراً له يواصل طريقه بكلّ جدّ، ويستمر في تبليغ رسالات ربّه بكلّ صلابة.

٢٤٠