الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296677
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296677 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأرض وغربها، واجتهدوا بكلّ حيلة في إطفاء نوره والتحريض عليه، ووضعوا المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمّن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتّى حظروا أن يسمّى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلاّ رفعة وسموّاً.

وكان كالمسك كلّما سُتر انتشر عَرفُه، وكلّما كُتم تضوّع نَشرُه، وكالشمس لا تُستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة.

ثمّ أضاف: وما أقول في رجل تُعزى إليه كلّ فضيلة، وتنتهي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل، وينبوعها وأبو عُذرها، وسابق مضمارها ومجلّي حلبتها، كلّ مَنْ بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى...

نعم، مَنْ كان هذا والده وأبوه فحقّ له أن يرث منه الشرف والسموّ، والرفعة والعلو، وأن يستلهم منه الأخلاق والآداب، والمحاسن والمكارم، والفضائل والمناقب، فهنيئاً لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام حسبه الوضّاء، ونسبه الناصع المبارك.

٢١

الخصّيصة الثانية

الرحم الطاهر

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((الجنّة تحت أقدام الأُمّهات)). وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((تزوّجوا في الحجر الصالح فإنّ العرق دسّاس)). وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((اختاروا لنطفكم)). وعن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام أنّه قال: ((إنما المرأة قلادة، فانظر ما تتقلّد)).

ومن ثمّ قال الإمام أمير المؤمنين لأخيه عقيل، وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: ((انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها، فتلد لي غلاماً فارساً)).

وفي خبر: ((لكي أُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي الحسين، ويواسيه في طفِّ كربلاء)).

فقال له عقيل: تزوّج يا أمير المؤمنين اُمّ البنين الوحيديّة الكلابيّة؛ فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوّجها عليعليه‌السلام .

وكان اسم اُمّ البنين فاطمة الوحيديّة الكلابيّة، واُمّها ثمامة بنت سهيل بن عامر، وكانت ثمامة هذه أديبة أريبة، وعاقلة لبيبة، فأدّبت ابنتها اُمّ البنين بآداب العرب، وعلّمتها ما ينبغي للبنت الرشيدة تعلّمها من الأخلاق والآداب الحميدة.

وأبوها أبو المحل واسمه حرام، وفي بعض النسخ حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، من شجعان العرب وفرسانهم، ودُعيت اُمّ البنين بالوحيديّة والكلابيّة نسبةً إلى الوحيد بن كعب وكلاب بن ربيعة.

وكان أهلها من سادات العرب وأشرافهم، وزعمائهم وأبطالهم المشهورين.

٢٢

لماذا التشاور مع عقيل؟

وهنا سؤال يفرض نفسه ليقول: أليس الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام باب مدينة علم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والعارف بأهل زمانه، بل والأعرف بهم من كلّ أحد، فكيف يسأل بأمر الزواج من مثل أخيه عقيل؟

والجواب: صحيح أنّهعليه‌السلام أعلم الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالاُمور، وأعرف الناس بأنساب الناس، ولكنهعليه‌السلام فعل ذلك لاُمور لا تخلو عن حكمة، ولعلّ من أهمّها ما يلي:

1 - أنّهعليه‌السلام أراد أن يعلّمنا بذلك كيف نبني أمورنا؛ صغيرها وكبيرها، اجتماعيّها وشخصيّها، اقتصاديّها وسياسيّها، على التحاور والتشاور، ونسير فيها على علم ومعرفة، ونشارك الناس في عقولهم وتجاربهم، فنتجنّب بذلك مفاسد الأنانية والاستبداد بالرأي، وما يتبعها من مساوئ ومهالك، وخاصة في مثل أمر الزواج الذي هو أهمّ لبنة في تكوين الاُسرة، وإنجاب الذرّية والأولاد، وبناء المجتمع الصالح.

2 - لعلّه أرادعليه‌السلام بذلك التجاهر والإعلان عن هذه السنّة المباركة التي سنّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي سنّة الزواج، حيث ورد الأمر بإعلانها والإشهاد عليها.

3 - لعلّه كان المرسوم في ذلك الزمان والمعتاد في تلك الأيام وهو استنابة الآخرين في أمر الزواج، وعدم الإقدام من الزوج شخصيّاً عليه.

4 - لعلّهعليه‌السلام أراد بذلك تعليم الأمّة إرجاع الاُمور إلى الخبراء من أهل الفنِّ، وبيان أهمّية التخصّص، ومكانة المتخصّصين في المجتمع الإسلامي.

ففي كلّ أمر يرى الإسلام الرجوع فيه إلى أهل فنّه وخبرته؛ ففي أمر الزواج إلى العارف

٢٣

بالأنساب، وفي العمران إلى المهندس العالم بالعمارة، وفي التجارة إلى الخبير في أمرها، وفي الدين إلى المرجع الديني، وفي الحكومة والقيادة إلى مَنْ اختاره الله حاكماً وقائداً من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام زمن حضورهم، وشورى المراجع الفقهاء زمن غيبتهمعليهم‌السلام وهكذا.

5 - لعلّه أراد بذلكعليه‌السلام إظهار شخصية عقيل، وإثبات تخصّصه في مجال الأنساب؛ حتّى يكون مَنْ يمدحه عقيل في نسبه - من أمثال حزام واُمّ البنين - مرفوع الرأس بين الناس ومعتمداً، ومَنْ يذمّه عقيل في نسبه - من أمثال معاوية وهند - سنداً لخزيهم في الناس ومستنداً.

6 - لعلّهعليه‌السلام أراد الإخبار عن قضية كربلاء، والإشارة إلى فاجعة عاشوراء من شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومظلوميّة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وجناية بني اُميّة في حقّ أهل بيت نبيّهم، وقتل ذرّيته وسبي حريمه، حتّى لا يجعل مجالاً لأحد أن يدّعي بعد ذلك عدم علم الإمام الحسينعليه‌السلام بشهادته من نهضته الإصلاحية، وأنه خرج يطلب الحكومة والسلطان - والعياذ بالله - ليؤكّد للناس أنّهعليه‌السلام إنما يخرج ليُحيي بشهادته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينقذ بذلك الإسلام والأمّة الإسلاميّة.

الاُمّ المباركة

نعم، كانت اُمّ البنين كما أرادها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وبشهادة عقيل من أصل كريم وفرع قويم، ومن خيرة النساء الفاضلات والمعتقدات بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وكانت مخلصة في ولائها لهم، ممحّضة في مودّتهم ومحبّتهم حتّى حضت عندهم بالجاه الوجيه، والمحلّ الرفيع، والمقام المنيع.

٢٤

ولقد زارتها السيّدة زينب الكبرىعليها‌السلام - على ما نقل من مجموعة الشهيد الأوّل - بعد وصولها إلى المدينة، أي عند عودتها من سفرة كربلاء المفجعة؛ وذلك لتعزّيها بأولادها الأربعة الذين استشهدوا بين يدي إمامهم الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، كما كانت تزورها أيّام العيد أيضاً، وهذا ممّا يدلّ على علوّ مقام هذه الاُمّ المباركة اُمّ البنين، وسموّ منزلتها عند أهل البيتعليهم‌السلام .

كيف لا وقد كانت اُمّ البنين بمنزلة الاُمّ للسّيدة زينبعليها‌السلام وأختها اُمّ كلثوم، وشقيقيها الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ؛ فإنّها حينما جاءت إلى بيت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام عاملت أبناء الزهراءعليها‌السلام معاملة الاُمّ الحنون، وكانت لهم كما تكون الاُمّ العطوفة لأولادها بل وأكثر.

فإنّها كانت ترى نفسها فخورة بخدمتهمعليهم‌السلام ؛ ولذا كانت تقدّمهم على أولادها وتعتني بهم أكثر ممّا تعتني بأبنائها، وترى القيام بشأنهم واجباً عليها وفريضة كتبها الله في ذمّتها، فإنّهم قربى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين أوجب الله تعالى على العباد مودّتهم ومحبّتهم وتبجيلهم وإكرامهم.

حتى روي أنّها لمّا زفّت إلى بيت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام صادفت الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام مريضين فأخذت تمرضهما، وتقوم برعايتهما وتلاطفهما في القول، وتطيّب لهما في الكلام، حتّى عوفيا من مرضهما، وبرئا من علّتهما.

ثمّ إنّها - على ما قيل - طلبت من الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أن يعهد إلى أهل بيته بأن لا يَدعوها أحد بعد ذلك باسمها فاطمة؛ مخافة أن يتذكّر أبناء الزهراءعليها‌السلام اُمّهم، فيتجدّد لهم حزنهم ويعود لهم مصابهم، ويتذكّروا غصصهم وأشجانهم، وإنّما أرادت منهعليه‌السلام أن يدعوها بكنيتها اُمّ البنين، وكذلك فعلعليه‌السلام .

٢٥

مقام اُمّ البنين عند الله

ثمّ إنّه على إثر إخلاص السيّدة اُمّ البنين في ودّها ومحبّتها بالنسبة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيته الطيّبين، وما قدّمته من عناية ورعاية لأبناء الزهراءعليها‌السلام ، وما عرفته لهم من الحقوق التي فرضها الله تعالى لهم على عباده من السمع والطاعة، والتبجيل والتكريم، خصّها الله تعالى بمقام شامخ، وجعلها باباً من أبواب الحوائج، كما خصّ ولدها العبّاسعليه‌السلام بذلك أيضاً، حيث جعله باباً للحوائج، وملجأً في المهمّات والمصاعب.

فما رجاها طالب حاجة، أو قصدها صاحب هَمّ وغَمّ، ونذر لله تعالى أن يهدي لروحها شيئاً من الدعاء والصلاة، والبرّ والخيرات إلاّ وقضى الله تعالى له حاجته، وفرّج عنه همّه وغمّه؛ كلّ ذلك إكراماً من الله تعالى للسّيدة اُمّ البنين (سلام الله عليها)، مقابل إخلاصها ووفائها.

اُمّ البنين وإرهاصات الولادة

قيل: إنّ والد اُمّ البنين حزام بن خالد بن ربيعة كان في سفر له مع جماعة من قومه فرأى ذات ليلة في منامه أنّه جالس في أرض خصبة، وقد انعزل في ناحية وفي يده درّة يقبّلها وهو متعجّب من صفائها وتلألئها، وإذا بفارس قد أقبل إليه من صدر البريّة وقال له بعد السّلام والتحية، وهو يشير إلى الدرّة: بكم تبيع هذه؟

فقال له حزام: إنّي لم أعرف قيمتها، ولكن أنت بكم تشتريها؟

فقال الفارس: إنّي أيضاً لم أعرف قيمتها، ولكن اقترح عليك أن تهديها إلى مَنْ هو جدير بأن يهدى إليه، وحقيق بأن يتحف بها، وأنا أضمن لك عنده شيئاً هو أغلا من الدراهم والدنانير.

٢٦

فقال له حزام: وما هو ذلك الشيء الأغلى من الدراهم والدنانير؟

قال الفارس: أضمن لك الحظوة عنده، والزلفى لديه، والشرف والسؤدد أبد الآبدين.

فقال حزام: أو تضمن لي ذلك؟

فقال الفارس وبكلِّ صلابة: نعم، أضمن لك ذلك.

فقال حزام: وتكون أنت الواسطة والكفيل أيضاً في ذلك؟

قال الفارس وبكلَِّ قوّة: نعم، وأكون أنا الواسطة والكفيل لو فوّضتني أمرها وخوّلتني فيها. فأعطاه حزام إيّاها وفوّضه في أمرها.

فلمّا انتبه حزام من نومه قصّ رؤياه على مَنْ كان معه من قومه، فقال له أحدهم: إن صدقت رؤياك فإنك ترزق بنتاً، ويخطبها منك أحد العظماء، وتنال عنده بسببها الشرف والسؤدد.

فلمّا رجع حزام من سفره وكانت زوجته ثمامة حاملاً بفاطمة اُمّ البنين رآها قد وضعت بها، فبشّروه بذلك، فتهلّل وجهه فرحاً، وسرّ سروراً كبيراً، وقال في نفسه: قد صدقت الرؤيا. فلمّا قيل له: ما نسمّيها؟ أجاب: سمّوها فاطمة، وكنّوها اُمّ البنين.

ثمّ نشأت الوليدة نشأة صالحة في أحضان اُمّها ثمامة وعلى يدي أبيها حزام، وتأدّبت في بيت الوالدين بآداب العرب، وأخلاق الصالحين الأبرار، وشيم النبلاء الأحرار، حتّى بلغت مبلغاً لائقاً تأهّلت به للزواج وتمكنت من إدارة الشؤون البيتيّة والعائلية، وذلك بعد أن ارتفعت إلى مستوىً عالٍ من الأدب والكمال، بحيث استطاعت عبره لأن تكون زوجة لأشرف خلق الله تعالى بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واُمّاً لذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٧

عقيل يخطب للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

نعم، لمّا طرح الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على أخيه عقيل أمر الزواج، وطلب مشورته فيه اقترح عليه عقيل أن يتزوج بفاطمة الوحيديّة الكلابيّة، ذات الاُسرة العريقة والمنزلة الرفيعة، والأصالة والنجابة والشجاعة والشهامة. وما أن وافق الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على اقتراح أخيه وقَبِل منه مشورته إلاّ وأخذ عقيل يهيّئ مقدمات هذا الزواج المبارك، ويعدّ له مستلزماته، فقام بخطبة فاطمة الكلابيّة من أبيها حزام.

كان مسكن حزام حينئذ خارج المدينة فقصده عقيل بكل رجاء وأمل، ونزل بكل عزّ وشرف على حزام في مضيفه هناك، فرحّب به حزام ونحر له واستضافه بكل حفاوة، وأكرمه غاية الإكرام، وكانت العادة حينئذ جارية على أنهم كانوا لا يسألون الضيف عن حاجته إلاّ بعد ثلاثة أيام من استضافته، فلمّا صار اليوم الرابع أقبل حزام وجلس إلى جانب عقيل وقال له بكل احترام وتبجيل: هل لك يا أخي من حاجة فتُقضى، أو ملمّة فتُمضى من مال أو رجال وعدد أو عدّة، فإنا نحن رهن إشارتكم، ومن المؤتمرين بأوامركم؟

فأجابه عقيل شاكراً عواطفه وشعوره الطيّب قائلاً: جئتك بالشرف الشامخ والمجد الباذخ.

فقال حزام مستفسراً: وما هو ذلك يابن عمّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال عقيل: جئتك خاطباً.

فقال حزام وبكلِّ حرارة: مَنْ ولمَن؟

فأجابه عقيل بكامل الصدق والصراحة: جئتك لأخطب ابنتك الحرّة

٢٨

فاطمة اُمّ البنين إلى يعسوب الدين وقائد الغرّ المحجّلين، وإمام المتّقين، وسيّد الوصيِّين الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن عبد مناف (صلوات الله عليهم أجمعين).

عندها هشّ حزام وبشّ، والتفت إلى عقيل وهو لا يتمالك نفسه فرحاً وسروراً وقال: على الرحب والسعة، والإقبال والدعة؛ فلقد جئتنا بخير الدنيا والآخرة، وجلبت لنا الشرف الرفيع والمجد المنيع، ونحن نتشرّف بهذه المصاهرة ونفتخر بهذه الوصلة، فمَنْ مثل علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ووصي رسول ربّ العالمين، وحجّة الله على الخلق أجمعين، إمام الإنس والجن، قسيم النار والجنة؟

ولكن يابن عمّ رسول الله، أين نحن منه؟ وأين ابنتنا من جنابه؟ فبالإضافة إلى أننا اُناس عاديّون نحن أُناس قرويّون، وإنّ ابنتنا من أهل القرى والبادية، وهل تصلح قرويّة ريفيّة لإمام مكّي مدني؟!

وما أن أتمّ حزام كلامه حتّى ابتدره عقيل قائلاً: اعلم يا أبا المحل - وأبو المحل كنية حزام - بأنّ أخي الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يعلم كلّ ما قلته، ولا يخفى عليه شيء ممّا بيّنته، وأنه مع ذلك يرغب في مصاهرتكم ويحبّ أن يتزوج منكم، وقد رضي بأن تكون ابنتكم زوجةً له، وربّة بيته، واُمّاً حنوناً لأولاده.

عندها قال حزام: إذاً يابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمهلني حتّى أستشير أُمّها في ذلك، وأسألها عن صلاحيّة ابنتها وأهليّتها للزواج؛ فإنّ الاُمّ أعلم بحال ابنتها من الأب، وأعرف منه بأخلاق ابنتها وآدابها، حتّى إذا أشارت عليّ بالقبول عرضت على ابنتي فاطمة أمر زواجها، لأعرف موافقتها ورضاها بذلك.

٢٩

حزام يستشير ثمامة

فقال له عقيل: لك ذلك يا أخا بني هوازن.

لمّا أذن عقيل لحزام بالاستشارة قام حزام وأقبل إلى البيت، وعندما دخله إذا به يرى ابنته فاطمة جالسة بين يدي اُمّها ثمامة لترجيل شَعْرها، فالاُمّ تمشط رأس ابنتها وتسرح شَعْرها والبنت تحدّث اُمّها وتستأذنها بأن تقصّ عليها رؤيا كانت قد رأتها وهي تقول: أُمّاه لقد رأيت في منامي البارحة رؤيا عجيبة أُحبّ أن أقصّها عليك يا اُمّاه.

فقالت الاُمّ بحرارة وبكلِّ عطف وحنان: خيراً رأيتِ يا بنيّة، نعم، قصّيها عليّ.

وهنا وقف حزام في مكان لا يراه فيه أحد وأخذ يسمع رؤيا ابنته، فسمعها تقول: يا أُمّاه، رأيت في منامي البارحة كأنّي جالسة في روضة غنّاء، ذات أشجار مثمرة، وأنهار جارية، وكان الوقت ليلاً لكن ليلة مقمرة، حيث السماء صاحية، والنجوم ساطعة، والقمر تامّاً، وقد أرسل القمر أضواءه الفضيّة على الروضة وأكسبها جمالاً فائضاً، وبهجةً رائعة.

وكنت أنا في تلك اللحظات أُفكر في عظمة الله خالق السماء والأرض، ومبدع الشمس والقمر، فبينا أنا كذلك وإذا بالقمر قد انقضّ من كبد السماء وهوى نحو الأرض ووقع في حجري، وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار ويبهر العيون، فتعجّبت من ذلك كثيراً! ولكن زاد تعجّبي عندما رأيت ثلاث نجوم زواهر تنقضّ من السماء نحو الأرض وتسقط في حجري أيضاً، وهي تتلألأ نوراً وتشعّ سناً وضوءاً، وإذا بهاتف يهتف بي حينئذ ويقول:

٣٠

بـشراكِ فـاطمةٌ بالسادةِ الغررِ

ثـلاثةِ أنـجمٍٍ والـزاهرِ القمرِ

أبـوهم سـيّدٌ فـي الخلقِ قاطبة

بعدَ الرسولِ كذا قد جاءَ في الخبرِ

ثمّ أضافت قائلة: فما أن سمعت ذلك حتّى انتبهت من نومي وأنا فزعة. ثمّ قالت: هذه يا اُمّاه كانت رؤياي التي رأيتها البارحة في منامي، فما هو تأويلها وتفسيرها؟

فقالت لها اُمّها وهي تفسّر لها رؤياها: خيراً يا بنيّة، رؤياك تنبئ عن أنّك ستصبحين زوجة لرجل له عند الله جاه عظيم، وشأن رفيع، وقدر كبير، سيّد في قومه، مطاع في عشيرته، عظيم عند الناس، كبير عند الله، وترزقين منه أربعة أولاد أوّلهم أكبرهم قدراً، وأعظمهم منزلة، ويكون كالقمر، ويكون الثلاثة الباقون بالنسبة إليه كالنجوم الزواهر.

وإلى هذا المعنى أشار الشاعر بقوله:

صـدقـتْ بهِ رؤيا رأتْها فاطمٌ

قبلَ القران بمَنْ بهِ عُرفَ التقى

قمراً رأتْ ينقضُّ من كبدِ السما

يهوي بأحضانِ الحصانةِ مشرقا

تـقفوهُ مـن أبهى النجومِ ثلاثةٌ

يـغدو الـزمانُ لحسنِهم متشوّقا

الرؤيا الصادقة

وهنا عندما تمّ حديث الاُمّ وبنتها ظهر عليهما حزام وحيّاهما بالسّلام، وقال مبتسم الثغر، مبتهج القلب: لقد تحقّقت رؤياك يا بنيّة، فهذا ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عقيل بن أبي طالبعليه‌السلام جاء يخطبك منّا.

فوجئت الاُمّ وابنتها بهذا النبأ السار الذي جاء مفسّراً للرؤيا ومطابقاً لها، فطأطأت البنت رأسها حياءً، وغضّت طرفها خجلاً، بينما رفعت الاُمّ رأسها

٣١

والتفتت إلى حزام وهي تقول: لمَن يخطبها؟

قال حزام: لفلاّل الكتائب، ومظهر العجائب، فارس المشارق والمغارب، أسد الله الغالب علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

فقالت الاُمّ بلهفة واشتياق: وما الذي أجبت به عقيلاً يا حزام؟

قال حزام: استمهلته حتّى أستشيرك في الأمر، وأرى رأيك في ذلك، ثمّ أضاف: فما ترين يا ثمامة؟ هل ترين ابنتنا مؤهّلة للزواج، وكفؤ لأن تكون زوجة لوصي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحجة على خلق الله الإمام أمير المؤمنين وإمام المتّقين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؟

فأجابت الاُمّ وبكلِّ بهجة وإعجاب: نعم يا حزام، إنّ ابنتنا وبحمد الله عاقلة نبيهة، وأديبة أريبة، لقد رأيت فيها الكفاءة منذ صغرها، وأحسست منها التفوّق والنبوغ من أيّامها الأولى، فأدّبتها بآداب العرب، وربّيتها تربية الصالحين، وأعددتها إعداداً تأهّلت عبره لأن تكون زوجة صالحة واُمّاً عطوفاً، وربّة بيت مديرة ومدبّرة، فأرجو الله أن تكون عند حسن ظنّنا، وأن تبيّض بسيرتها الحسنة عند الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وجوهنا.

عندها تهلّل وجه حزام، وأقبل على ابنته يسألها عن رأيها ويستعلم موافقتها ورضاها بالزواج من الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثمّ بقي بعد أن عرض عليها أمر الزواج يترقّب رأيها وينتظر جوابها، لكن ما كان جواب البنت اللبيبة عن رضاها بهذا الزواج المبارك إلاّ سكوتها؛ فإنّ السكوت علامة الرضا.

عندها طار الأب فرحاً، وغادر البيت مسرعاً، واتّجه إلى المضيف ليلتقي بعقيل الذي تركه هناك ينتظره، ويترقّب جوابه حتّى يبشّره بالموافقة والقبول.

٣٢

مهر السنّة

فلمّا دخل حزام المضيف تلقّاه عقيل متسائلاً وهو يقول: ما وراءك يا أبا المحل؟

فأجابه حزام: يابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كلّ الخير إنشاء الله تعالى، لقد رضينا أن تكون ابنتنا خادمة متواضعة في بيت النبوة والإمامة إن قبلها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بذلك؟

فقال له عقيل: يا أبا المحل، لا تقل خادمة متواضعة ولكن قل: زوجة وفيّة، وقرينة كريمة.

ثمّ واصل عقيل كلامه وقال: لا بدّ للمرأة من صداق، فهل لكم اقتراح فيه؟

قال حزام: لا، إنما نفوّض ذلك يابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليك.

فقال عقيل وهو يشكره على ذلك: اعلم يا أبا المحل، إنّ أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتجاوزون في صداق بناتهم ونسائهم ما سنّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصداق لبناته ونسائه هو خمسمئة درهم.

فقال له حزام: ونحن أيضاً لا ينبغي لنا أن نتجاوز ما سنّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من المهر والصداق، رضينا وسلّمنا.

ثمّ نهض حزام لإبلاغ الأمر إلى عياله، وذلك بعد أن استأذن من عقيل واسترخصه فتوجّه نحو البيت، فلمّا دخله التفت إلى زوجته ثمامة وابنته فاطمة وقال لهما بكل بهجة وسرور: البشارة البشارة، لقد رضي عقيل بن أبي طالب ابنتنا فاطمة لأخيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام على مهر السنّة وهو خمسمئة درهم؛ فإنّه الصداق الذي سنّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه وبناته.

٣٣

فسجدت ثمامة شكراً لله تعالى وهي تقول: أحمد لله الذي شرّفنا بهذه المصاهرة، وكرّمنا بوصلة وصي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ أقبلت على ابنتها فاطمة تقبّلها، كما وأخذت تهنّئها بهذه الكرامة التي أكرمها الله بها، والشرف الذي تشرّفت به، وتوصيها بحسن الأخلاق والسيرة، وتحثّها على خدمة زوجها وخدمة أولاده ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك بكل إخلاص وكامل الجهد والجد.

إعلان الخطبة

ثمّ إنّ حزام خرج بعد ذلك ودعا عشيرته وقومه من بني كلاب وبني عامر؛ ليحضروا مجلس الخطبة، فلمّا حضروا قام فيهم عقيل خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام .

ثمّ قال: أمّا بعد، فاعلموا يا بني كلاب، ويا بني عامر بن صعصعة، إنّ الله قد منّ علينا إذ بعث فينا رسولاً من أنفسنا محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاءنا بدين الله القويم الذي ارتضاه الله لنا، إذ يقول تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ) (1) . ويقول تعالى:( ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) (2) .

وأمرنا بنبذ البغضاء والشحناء، وأوجب علينا التعارف وصلة الأرحام، إذ يقول تعالى:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (3) .

وحرّم علينا الزنا والسفاح، وأحلّ لنا الزواج والنكاح، إذ يقول تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (4) .وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((تناكحوا تناسلوا فإنّي مباهٍ بكم الاُمم)).

وهذا وصي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وابن عمّ نبيّكم، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشمعليه‌السلام ، قد أحبّ مصاهرتكم، وخطب

____________________

(1) سورة آل عمران / 19.

(2) سورة آل عمران / 85.

(3) سورة الحجرات / 13.

(4) سورة الرّوم / 21.

٣٤

إليكم كريمتكم فاطمة اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة على كتاب الله وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد قال الله تعالى:( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (1) . والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثمّ جلس.

عندها قام حزام بن خالد وقال بعد الحمد والثناء على الله تعالى، والصلاة على رسوله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وآله الطاهرين: أمّا بعد، فيا قوم قد سمعتم ما قاله ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عقيل بن أبي طالب من ذكر نبينا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ودين الإسلام القويم.

وإنّي أُشهدكم وأُشهد الله أنّي اُدين بدين هذا النبي الكريم، وأطيعه فيما أمر به ونهى عنه، وقد ارتضيت وصيّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام لابنتي فاطمة بعلاً، وارتضيتها له سكناً، وأنتم عشيرتي وقومي فما تقولون في هذا الأمر؟

فقالوا في جوابه: ما تريد أن نقول في وصيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وابن عمّ نبيّكم؟ إنّه أكرم الناس نسباً وحسباً، وأعظمهم شرفاً وسؤدداً، ولنا الفخر والشرف في الانتساب إليه والوصلة معه، فنعم ما صنعت وخير ما فعلت.

في بيت الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام

ثمّ إنّه بعد إتمام الخطبة، وإجراء صيغة العقد، وإرسال الصداق والهدايا، وتجهيز الجهاز واللوازم، زفّت فاطمة اُمّ البنين إلى زوجها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان ذلك - طبعاً - بعد شهادة الصدّيقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ؛ فإن السيّدة اُمّ البنين - على ما يراه بعض المؤرّخين - كانت هي أوّل مَنْ تزوّجها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بعد فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، أو أنّها كانت الثانية بعد تزوّجهعليه‌السلام أوّلاً

____________________

(1) سورة الشّورَى / 11‏

٣٥

باُمامة بنت زينب بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ما يراه بعض آخر من المؤرّخين.

وكيف كان، فإنّ اُمّ البنين لمّا جاءت في بيت الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كانت له ولأولادهعليهم‌السلام كما رجاها أبوها حزام واُمّها ثمامة، وكما وصفها عقيل بن أبي طالبعليه‌السلام ، فإنّها عاشت معهعليه‌السلام زوجة وفيّة، وقرينة كريمة، وربّة بيت مدبّرة، واُمّاً حنوناً لأولادهعليهم‌السلام ، ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّها أنجبت له بنيناً أربعة، أوّلهم وأفضلهم: قمر العشيرة أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وثانيهم: عبد الله، وثالثهم: جعفر، ورابعهم: عثمان.

وتحقّق صدق كنيتها اُمّ البنين بهؤلاء الأشبال الأربعة، بل الأُسود البواسل، بل إنّهم وخاصةً أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، قد ورثوا الشجاعة من أبيهم الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ومن اُمّهم فاطمة الوحيديّة الكلابيّة التي كانت قد ورثت الشجاعة من آبائها وأسلافها الفرسان الشجعان.

كما إنّهم ورثوا منها المحاسن والمكارم، والفضائل والمناقب، والصدق والوفاء، والمحبّة والولاء؛ فقد كانوا لأخيهم الإمام الحسينعليه‌السلام مطيعين موالين، وفي حبّهم له من المخلصين الصادقين، وبإمامته من المعترفين المقرّين، ولم يرضوا بأقلّ من أن يضحّوا بأنفسهم من أجله، وبأرواحهم دون روحه.

وبالفعل فإنّهم رغم المغريات والتطميع بإمارة جيش بني اُميّة، ومواثيق الأمان التي عرضت عليهم من قِبَل ابن زياد لم يتركوا أخاهم الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم ينصرفوا عنه، بل قاتلوا دونه حتّى قُتلوا فداءً له، وتضرّجوا بدمائهم وقاءً لدمه، وذلك كلّه بفضل وفاء اُمّهم اُمّ البنين، وإخلاصها لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذرّيته.

حيث كانت تعلّمهم كيف يضحّوا من أجل إمامهم الحسينعليه‌السلام ، وكيف يقوه بأنفسهم ويفدوه بأرواحهم، ويرخصوا دماءهم الغالية وقاءً لدمه الطاهر، وذلك من حين طفولتهم ونعومة أظفارهم، فقد دأبت في تعليمهم وتربيتهم على ذلك، وتنشئتهم عليه.

٣٦

الزواج الأمثل

لقد كان في طريقة زواج الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وكيفية انتخابه لاُمّ البنين، واختياره إيّاها زوجةً له واُمّاً لأولاده درس للمسلمين وعبرة لهم؛ حتّى يكونوا في أمر الزواج على بصيرة، ويقدموا على ذلك عن تحقيق ومشورة؛ فإن الزواج هو اللبنة الأولى في بنيان الاُسرة، والحجر الأساس لتشييد أركانها، وبصلاح الاُسرة يصلح المجتمع والعكس بالعكس؛ ولذلك اعتنى الإسلام بالزواج وبالزوجين - وخاصةً المرأة - ما لم يعتنِ بها وبشؤونها دين من الأديان السماوية، ولا مبدأ من المبادئ الأرضية.

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إنما جسّد بزواجه هذا ما جاء في القرآن الحكيم، والسنّة الكريمة، والأحاديث الشريفة من الحثّ على التحقيق والتدقيق في أمر الزواج، وانتخاب ذوي البيوتات والشرف، والإيمان والتقوى، واجتناب ما خبث ولَؤم.

فقد روي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قام خطيباً وقال: ((أيها الناس، إيّاكم وخضراء الدمن!)). قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((المرأة الحسناء في منبت السوء)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((أغلب الأعداء للمؤمن زوجة السوء)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((ذروا الحسناء العاقر، وعليكم بالسوداء الولود، فإنّي مكاثر بكم الاُمم حتّى بالسقط)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((اعلموا أنّ المرأة السوداء إذا كانت ولوداً أحبّ إليّ من الحسناء العاقر)).

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول في دعائه: ((اللّهم إنّي أعوذ بك من ولد يكون عليّ ربّاً، ومن مال يكون عليّ ضياعاً، ومن زوجة تشيّبني قبل أوان مشيبي)).

٣٧

الزوجة الصـالحة

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((ألا أُخبركم بخير نسائكم؟)). قالوا: بلى. قال: ((إنّ خير نسائكم الولود الودود، السّتيرة العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرّجة مع زوجها، الحصان عن غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها، ولم تتبذّل له تبذّل الرجل)). أي لم تترك الزينة له.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((تزوّجوا للرزق، فإنّ لهنّ البركة)).

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً: ((ألا أُخبركم شرّ نسائكم؟)). قالوا: بلا يا رسول الله أخبرنا.

قال: ((إنّ شرّ نسائكم الذليلة في أهلها العزيزة مع بعلها، العقيم الحقود التي لا تتورّع عن قبيح، المتبرّجة إذا غاب عنها زوجها، الحصان معه إذا حضر، التي لا تسمع قوله ولا تطيع أمره، فإذا خلا بها تمنّعت تمنّع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل له عذراً ولا تغفر له ذنباً)).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ((تزوّج عيناء سمراء، عجزاء مربوعة، فإن كرهتها فعليّ الصداق)).

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: ((مَنْ أراد الباءة فليتزوّج بامرأة قريبة من الأرض، بعيدة ما بين المنكبين سمراء اللون، فإن لم يحظَ بها فعليّ مهرها)).

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: ((عقول النساء في جمالهنّ، وجمال الرجال في عقولهم، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يتزوج امرأة بعث إليها مَنْ ينظر إليها، وقال: شمّ ليتها، فإن طاب ليتها طاب عرفها، وإن درم كعبها عظم كعثبها)).

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: ((يظهر في آخر الزمان واقتراب القيامة، وهو شرّ الأزمنة، نسوة متبرّجات كاشفات، عاريات من الدين، داخلات في الفتن،

٣٨

مائلات إلى الشهوات، مسرعات إلى اللذات، مستحلاّت للمحرمات في جهنم خالدات)).

وقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ((إذا أراد أحدكم أن يتزوّج فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها؛ فإن الشعر أحد الجمالين)).

وقالعليه‌السلام أيضاً: ((خير نسائكم الطيّبة الريح، الطيّبة الطعام، التي إن أنفقت أنفقت بمعروف، وإن أمسكت أمسكت بمعروف، فتلك من عمّال الله، وعامل الله لا يخيب ولا يندم)).

وقال أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام : ((خير نسائكم التي إن غضبت أو أغضبت قالت لزوجها يدي في يدك، لا أكتحل بغمض حتّى ترضى عنّي)).

وقالعليه‌السلام أيضاً: ((من بركة المرأة قلّة مؤونتها، وتيسير ولادتها، ومن شؤمها شدّة مؤونتها، وتعسير ولادتها)).

وقالعليه‌السلام أيضاً: ((الخيّرات الحسان من نساء أهل الدنيا هنّ أجمل من الحور العين)).

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: ((قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل نساء اُمّتي أصبحهنّ وجهاً، وأقلهنّ مهراً)).

وعنهعليه‌السلام أيضاً قال: ((الحياء عشرة أجزاء؛ تسعة في النساء وواحد في الرجال، فإذا خفضت المرأة ذهب جزء من حيائها، وإذا تزوّجت ذهب جزء، وإذا افترعت ذهب جزء، وإذا ولدت ذهب جزء وبقي لها خمسة أجزاء، فإن فجرت ذهب حياؤها كلّه، وإن عفّت بقي لها خمسة أجزاء)).

وعن داود الكرخي قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : إنّ صاحبتي هلكت وكانت لي موافقة، وقد هممت أن أتزوج.

فقال: ((انظر أين تضع نفسك، ومَنْ تشركه في مالك، وتطلعه على دينك وسرّك وأمانتك، فإن كنت لا بدّ فاعلاً

٣٩

فبكراً تنسب إلى الخير وإلى حسن الخلق)).

ولقد أوصت بنت الحارث ابنتها حين زفّت إلى زوجها قائلة: يا بنية، احملي عنّي إلى بيت زوجك عشر خصال تكن لك ذخراً وذكرى:

1 - الصحبة بالقناعة.

2 - والمعاشرة بحسن السمع والطاعة.

3 - والتعهّد لموقع عينه، والتفقّد لموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشمّ منك إلاّ أطيب ريح.

4 - والتعهّد لوقت طعامه.

5 - والهدوء عنه عند منامه.

6 - والاحتفاظ ببيت ماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله.

7 - ولا تفشي له سرّاً.

8 - ولا تعصي له أمراً.

9 - ثمّ اتّقي الفرحة أمامه إن كان ترحاً، والاكتئاب عنده إن كان فرحاً.

10 - وكوني أشدّ ما تكونين له إعظاماً يكن أشدّ ما يكون لك إكراماً، وأشدّ ما تكونين له موافقة يكن أطول ما يكون لك مرافقة.

الزوج الصالح

عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)).

وقال الإمام الصادقعليه‌السلام : ((حبّ النساء من أخلاق الأنبياء)).

وقالعليه‌السلام أيضاً: ((ما أظنّ رجلاً يزداد في هذا الأمر - أي التشيّع واتّباع

٤٠