الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296661
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296661 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

استغاث به مستغيث في ملمّة إلاّ وانجلى عنه ملمّته، ولا التجأ إليه خائف إلاّ وأمن، ولا أَمَّلهُ مؤمّل حاجة إلاّ وبلغ أمله، وقضيت له حاجته.

وتاريخ مرقد أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ويوميّات روضته المباركة، بل ساعاتها ولحظاتها مليئة بهذه الكرامات، وحافلة بهذه العنايات والألطاف.

وقد نظم الشعراء قصائد مطوّلة وكثيرة في هذا المجال، نشير إلى مقطع منها للسيّد صالح الحلّيرحمه‌الله . قال وهو يصف استشفاء أحد المؤمنين يدعى باسم (سعيد) بهعليه‌السلام ، وحصوله على الشفاء الكامل:

بأبي الفضلِ استجرنا

فـحبانا مـنه مِنحهْ

وطـلـبنا أن يداوي

ألـمَ القلبِ وجرحهْ

فـكـسـا اللهُ سعيداً

بعدَ سقمٍ ثوبَ صحّهْ

بـدّل الرحمنُ منهُ

قرحةَ القلبِ بفرحهْ

٢٦١

الخصّيصة الخامسة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام الواقـي

وقاه يقيه وقاية، أي صانه ومنعه من الأذى. وقيت الشيء أقيه: إذا صنته وسترته عن الأذى.

وفي التنزيل:( فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرّ ذلِكَ الْيَوْمِ ) ، أي كفاهم الله، ومنع منهم أهوال يوم القيامة وشدائده.

وفي الكتاب الحكيم:( مَا لَهُم مِنَ اللّهِ مِن وَاقٍ ) ، أي من دافع.

ووقاه الله أي حفظه. والتوقية: الكلاءة والحفظ.

إذاً فالواقي من حيث اللغة: هو مَنْ يقوم بعملية الحفظ والوقاية، والمنع والصيانة، ويشتغل بالدفع والكفاية، والإغاثة والإعانة.

وفي ثواب الواقي روايات نذكر بعضها:

ففي الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: ((مَنْ أغاث أخاه المؤمن حتّى يخرجه من همّ وكربة وورطة كتب الله له عشر حسنات، ورفع له عشر درجات، وأعطاه ثواب عتق عشر نسمات، ودفع عنه عشر نقمات، وأعد له يوم القيامة عشر شفاعات)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ((قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : عونك الضعيف من أفضل الصدقة)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ((ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلاّ كان أفضل من صيام شهر، واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر

٢٦٢

على نصرته إلاّ نصره الله في الدنيا والآخرة)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: ((نزعك القذاة عن وجه أخيك عشر حسنات، وتبسّمك في وجهه حسنة، وأوّل مَنْ يدخل الجنّة أهل المعروف)).

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام أيضاً أنّه قال: ((مَنْ أغاث أخاه المؤمن اللهفان اللهثان عند جهده فنفّس كربته، وأعانه على نجاح حاجته، كانت له بذلك اثنان وسبعون رحمة لأفزاع يوم القيامة وأهواله)).

وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام قد فاز بما بشّرت به هذه الروايات من أجر وثواب؛ إذ كان وهو الواقي بنفسه ودمه بالنسبة إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وذلك بكلّ ما لكلمة الواقي من معنى، كما كان أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام هو الواقي بكلّ ما للكلمة من معنى أيضاً بالنسبة إلى أخيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى إنّه نزلت في حقّه آية الذكر الحكيم، وهي تشهد له بالوقاية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المبيت، وتثني عليه قائلة:( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .

(الواقي) وسام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام

نعم، لقد حصل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام على أثر إخلاصه في حفظ معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكلاءة مخيّم النساء والأطفال؛ بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذريته الأطيبين، وصيانة رسول الله في ذرّيّته ودينه على وسام الواقي، وكفى به شرفاً وعزّاً وفخراً وكرامة.

فلقد جاء في إحدى زياراتهعليه‌السلام المرويّة عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن قال: ((تقف عند مرقده الشريف وتقول: السّلام عليك أيّها الولي الصالح الناصح الصديق، أشهد أنّك آمنت بالله، ونصرت ابن رسول الله، ودعوت إلى سبيل الله،

٢٦٣

وواسيت بنفسك، وبذلت مهجتك، فعليك من الله السّلام التام)).

ثمّ قال: ((تنكبّ على القبر المنيف وتقول: بأبي أنت واُمّي يا ناصر دين الله! السّلام عليك يابن أمير المؤمنين، السّلام عليك يا ناصر الحسين الصدّيق، السّلام عليك يا شهيد ابن الشهيد، السّلام عليك منّي أبداً ما بقيت، وصلّى الله على محمّد وآله وسلم)). فإنّه يستفاد من هذه الزيارة أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام قد حصل على أوسمة رفيعة، ونياشين عالية، وهي تتضمّن على نيشان الواقي.

ولقد جاء في الزيارة الصادرة عن الناحية المقدّسة سنة مئتين واثنين وخمسين هجريّة، المنقولة في البحار عن كتاب الإقبال مسنداً عن الإمام الهاديعليه‌السلام ، المشتملة على أسماء الشهداء وبعض أحوالهم، ما يلي: ((السّلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له الواقي)).

وهنا كما رأيت تصريح من الناحية المقدّسة بمنح أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وسام (الواقي)، وقد نالهعليه‌السلام بكفاءة وجدارة.

ثمّ إنّ هناك أوسمة قيّمة اُخرى نالها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بجدارة وكفاءة، حتّى صار يُعرف بها ويُدعى إليها. مثل: الساعي، والمستعجل، والمصفّي، وغير ذلك، نشير إليها باختصار.

الساعي

سعى يسعى سعاية: إذا عمل ومضى في مهمّة، ومشى فيها، وباشر إنجازها وتحصيلها، والساعي هو مَنْ يقوم بذلك.

ولقد عُرف أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بالساعي؛ لسعيهعليه‌السلام في إنجاز مهمّة الاستسقاء، وطلب الماء لمعسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وخاصّة لأهل بيته وعيالاته بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وذريته، ولسعيهعليه‌السلام في حماية أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وحماية أهل بيته وذويه وأصحابه

٢٦٤

وأنصاره، بل ولسعيه في حفظ دين الله وكتابه، والذبّ عن رسول الله وذريّته، ونصرة الحقّ ومعالمه، حتّى وسمه الإمام الهادي علي بن محمّدعليه‌السلام في زيارة الناحية المقدّسة المنقولة في البحار، والمشتملة على أسماء الشهداء بوسام الساعي، وذلك حيث يقولعليه‌السلام فيها: ((السّلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له الواقي الساعي)).

وخاطبه قبل ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام في زيارته المعروفة، قائلاً: ((أشهد أنّك لم تهن، ولم تنكل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك))، كناية عن شدّة سعي أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وعظيم وفائه بعهده مع سيّده وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكبير معرفته بالله ورسوله وولاية أئمّة الحقّ، ونفوذ بصيرته باُمور دينه ودنياه وآخرته وعقباه، فهنيئاً لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام وسام (الساعي)؛ فإنّه قد ناله بجدارة، وكفاءة ولوذعيّة وألمعيّة.

أجر السـاعي وثوابه

وهناك روايات تعرّضت لبيان ثواب الساعي، وأجر الماشي في حوائج الناس بين يدي إمامه، والماشي في قضاء حوائجه، وإنجاز مهمّاته، كأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ن ونحن نشير إلى بعضها:

في الكافي مسنداً عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: ((مَنْ سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله، كتب الله (عزّ وجلّ) له ألف ألف حسنة، يغفر فيها لأقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه...)).

وفي الكافي أيضاً مسنداً عن أبي الحسنعليه‌السلام أنّه قال: ((إنّ لله عباداً في

٢٦٥

الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة. ومن أدخل على مؤمن سروراً فرّح الله قلبه يوم القيامة)).

وفي الكافي أيضاً مسنداً عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: ((مَنْ مشى في حاجة أخيه المسلم أظله الله بخمسة وسبعين ألف ملك، ولم يرفع قدماً إلاّ كتب الله له حسنة، وحطّ عنه بها سيئة، ويرفع له بها درجة، فإذا فرغ من حاجته كتب الله (عزّ وجلّ) له بها أجر حاج ومعتمر)).

وفي الكافي أيضاً مسنداً عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال: ((لأن أمشي في حاجة أخ لي مسلم أحبّ إليّ من أن أعتق ألف نسمة، وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة)).

وفي الاختصاص عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: ((مشيُ المسلم في حاجة المسلم خير من سبعين طوافاً بالبيت الحرام)).

وفي الكافي مسنداً عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: ((ما من مؤمن يمشي لأخيه المسلم في حاجة إلاّ كتب الله (عزّ وجلّ) له بكلّ خطوة حسنة، وحطّ بها عنه سيئة، ورفع له بها درجة، وزيد بعد ذلك عشر حسنات، وشفّع في عشر حاجات)).

المستعجـل

العجل والعجلة: السرعة خلاف البطء، وفي التنزيل العزيز:( وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) ، أي لو عجّل الله للناس الشرّ إذا دعوا به على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم وأولادهم، واستعجلوا به كما يستعجلون بالخير فيسألونه الخير والرحمة لقضي إليهم أجلهم، أي ماتوا وهلكوا، ولكن الله تعالى لا يعجل لهم الهلاك، بل يمهلهم حتّى يتوبوا.

وقد دعي أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بالمستعجل، وعرف به؛ لأنّهعليه‌السلام يسرع في إغاثة الملهوف، وإعانة

٢٦٦

الضعيف، وإسعاف المحتاجين والزمنى؛ فإنّه ما توسّل به إلى الله تعالى أحد، ولا استشفع به مستشفع، ولا أمله مؤمل إلاّ ورجع بقضاء حاجته وقبول شفاعته، وتحقيق آماله وأمانيه، حتّى دُعيعليه‌السلام على إثر ذلك باسم المستعجل وعرف به.

المصـفي

صفا يصفو صفاءً: إذا أخلص من الكدر، ونقي ممّا لا خير فيه. واستصفيت الشيء إذا استخلصته، وأصفى الشاعر إذا انقطع شعره ونفد، واستصفى ماله إذا أخذه كلّه.

وكيف كان، فإنّ (المصفّي) الذي هو اسم فاعل من صفّى، يصفّي، تصفية، يُقال لمَنْ يقوم بعملية التصفية والتنقية، والقطع والحسم، والاستخلاص والأخذ؛ وحيث إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام عُرف باستخلاص قضيّة المتنازعين عند مراجعتهما إليه من الكدر، وإنقاء نزاعهما من الشبهة، وأخذ الظالم الجاحد للحقّ من المتنازعين أخذاً شديداً يقطع به مادة النزاع، دُعي باسم (المصفّي).

نعم، إنّه اشتهر في الناس وخاصّة عند أهل القرى والأرياف القانطين في العراق بأنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هو خير مَنْ يقطع مادة النزاع ويحسمها من أصلها؛ وذلك بأخذ الظالم، والانتقام من الجاحد للحقّ والمنكر له من المتنازعين.

ولذلك إذا حدث لهم نزاع وتشاجر، ولم يرضخ الظالم من المتنازعين للحقّ، ولم يعترف به أو يخضع له، جاؤوا بالقضيّة إلى أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فيأتون إلى روضته المباركة، ويدخلون حرمه الشريف، ويطلبون من المتهم في القضيّة الذي يصرّ على الجحود والإنكار أن يحلف بأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام على براءته.

فالمتّهم حينئذ يرى نفسه أمام الواقع الصريح الذي لا مفرّ منه، والحقّ الواضح الذي لا غبار عليه، فهو إمّا بريء في نفسه، أو ظالم منكر

٢٦٧

للحقّ، وبكلّ صورة سوف ينقطع النزاع وينحسم؛ وذلك لأنّه إن كان بريئاً حلف ولم يمسه سوء فيُعلم أنّه كان بريئاً ممّا اتُّهم به، وإن كان واقعاً غير بريء فهو إمّا يحلف أو لا يحلف؛ فإن تعقّل واشترى خزي الدنيا عن عذاب الآخرة لم يحلف؛ خوفاً من أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، فيعترف بالحقّ ويرضخ له.

وإن جازف بنفسه وباعها بخزي الدنيا وعذاب الآخرة حلف، فيؤخذ بذنبه، ويعاقب على جنايته، ويُنتقم منه، وأحياناً كثيرة يقضى عليه من طريق الغيب؛ لكرامة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام على الله، ومنزلته عنده، انتصافاً للمظلوم المُعتدى عليه، وانتقاماً من الظالم الجاحد للحقّ.

هذا إن كان (المصفّي) على وزن اسم الفاعل، وإن كان على وزن اسم المفعول (المصفّى) فإنّ معناه الخالِص والمخلِّص والمستخلَص، أي إنّ الله تبارك وتعالى قد استخلص أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام واتّخذه خالِصاً له، وجعله من عباده المخلصين، وهو مقام رفيع، ووسام عظيم، لا يناله إلاّ ذو حظ عظيم، كأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

٢٦٨

الخصّيصة السادسة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام سفير أخيه الإمام الحسين عليه‌السلام

السفير: هو الرسول المصلح الذي يمثّل أحد طرفي القضيّة الدائرة بين فئتين، ويقوم بينهما بعمليّة السفارة والوساطة، والتنسيق والوفاق.

ومعلوم أنّه كلّما كانت القضيّة الدائرة بين الطرفين أكثر أهميّة وحساسيّة، وأعظم دوراً وفاعليّة، كما لو كانت حيويّة ومصيريّة، كانت السفارة فيها أصعب وأعقد، وكان السفير فيها أكبر مسؤوليّة وأعظم عبئاً وحملاً، فيلزم أن يكون السفير بمستوى القضيّة، بل فوق مستواها.

إذاً فالقضايا المصيريّة المهمّة تتطّلب سفيراً أميناً كريماً، وعالماً حازماً، وشجاعاً شهماً، وأبيّاً وفيّاً. وأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام هو مَنْ قد تجمّعت فيه كلّ خصال السفير الناجح، والرسول الصالح، ولم يكن هناك في كربلاء أحد أجدر منه وأفضل؛ ولذلك اختاره أخوه الإمام الحسينعليه‌السلام لمهمّة السفارة بينه وبين جيش بني اُميّة عندما زحف الجيش بقيادة ابن سعد نحو مخيّم الإمام الحسينعليه‌السلام ، مساء يوم التاسع من محرّم الحرام سنة إحدى وستّين للهجرة.

تاسوعاء وأهم واقعة فيها

لقد سجّل التاريخ في صفحاته، ودوّنت كتب المقاتل في طيّاتها وقائع

٢٦٩

مهمّة وقعت في اليوم التاسع من محرّم الحرام، ذلك اليوم العصيب المسمّى بيوم تاسوعاء، وسمّي تاسوعاء؛ لأنّه - على ما قيل - اسم لليوم التاسع من السنة، إذ شهر محرّم الحرام أوّل شهور السنة، وتاسعه تاسع أيّام السنة، ويُقال لليوم التاسع منها: تاسوعاء، ولليوم العاشر منها: عاشوراء.

وعليه، فلعلّ الواقعة التالية من بين وقائع يوم تاسوعاء، التي سوف نتعرّض لذكرها قريباً إن شاء الله تعالى، تكون من أهم تلك الوقائع وقعاً، وأعظم تلك القضايا عِضة ودرساً، وعبرة وحكمة؛ وذلك لأنّها كشفت عن علوّ مقام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند الله ورسوله، وعن كبير منزلته ومكانته لدى أخيه وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ وذلك عندما زحف الجيش الأموي نحو المخيّم الحسيني، حيث خاطبه الإمام الحسينعليه‌السلام بقوله: ((يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم)).

كما إنّ هذه الواقعة كشفت عن تولّي أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام منصب السفير، وأداء مهمّة السفارة عن أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإحراز كفاءته لها وجدارته بها؛ فقد أثبت كونه سفيراً ناجحاً، ورسولاً موفّقاً، استطاع عبر سفارته تقديم ما قام بالسفارة من أجله، وتمكّن بواسطته إنجاز ما توسّط له من مهامّه.

كما إنّ هذه الواقعة كشفت أيضاً عن اهتمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام بالقرآن وتلاوته، والصلاة وإقامتها، والدعاء وإكثاره، والاستغفار وملازمته، واللّجاء إلى الله تعالى والإنابة إليه، وتبليغ رسالات الله إلى الناس والاستمرار فيه، والتوجيه إلى المعنويّات والدار الآخرة والإصرار عليها، والتضحية من أجل الله ودينه والاستقامة فيها، وإلى غير ذلك من الدروس والعظات، والعِبَر والحِكَم الكامنة في طيّات هذه الواقعة المهمّة التي اتّفقت للإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، وفي يوم تاسوعاء من سنة إحدى وستين هجريّة

٢٧٠

على هاجرها آلاف التحيّة والسّلام. والواقعة هي على ما جاءت في معالي السبطين كالتالي:

إطلالة تاسـوعاء

أطلّ يوم تاسوعاء بوقائعه المؤلمة، وحوادثه المفجعة على الإمام الحسينعليه‌السلام ، ونشرت الشمس اشعّتها الباهتة والكئيبة من شدّة الرزايا والمصائب على ربوع كربلاء؛ فقد حوصر هذا اليوم كما عن الإمام الصادقعليه‌السلام الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه (رضي الله عنهم) بكربلاء، واجتمع عليه خيل أهل الشام، وناخوا عليه، وفرح ابن مرجانة وعمر بن سعد بتوافر الخيل وكثرتها، واستضعفوا فيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه، واستيقنوا أنّه لا يأتي الإمام الحسينعليه‌السلام ناصر، ولا يمدّه أهل العراق بعدّة وعدد، ثمّ بكى الإمام الصادقعليه‌السلام وقال: ((بأبي المستضعف الغريب)).

نعم، في هذا اليوم اجتمعت عدّة أهل الشام، وكثر جمعهم، وتوافرت كثرتهم، ونزل شمر بن ذي الجوشن على ما روى الصدوق (عليه الرحمة) في أربعة آلاف، ومعه كتاب من عبيد الله بن زياد.

وفي القمقام: قال سعد بن عبيدة: كنّا في حرّ شديد في ذلك اليوم، وقد دخلنا الماء مع عمر بن سعد للنزهة والتبريد، وبينا نحن كذلك إذ جاء إلى ابن سعد رجل وأسرّ إليه ما نغّص علينا نزهتنا واستجمامنا، أنّه همز في أُذنه قائلاً: إنّ ابن زياد قد بعث إليك شمر بن ذي الجوشن ليرى ما أنت صانعه مع الإمام الحسين؛ فإن رآك متوقّفاً في قتاله ومنازلته ضرب عنقك، وتصدّى هو بنفسه لقيادة الجيش وإمارة العسكر، فانظر في أمرك، وأعدّ له عدّتك.

٢٧١

وما أن علم ابن سعد بالخبر حتّى خرج من الماء وتعجّل في حرب الإمام الحسينعليه‌السلام ، فركب في ساعته ونادى في معسكره بأعلى صوته مراوغاً ومخادعاً بقوله: يا خيل الله اركبي، وبالجنّة أبشري، معلناً في ذلك عن بدء القتال، وانطلاق الحرب والمناوشة.

وزحف الجيش نحو معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ومخيّمه، فركبوا وزحفوا نحوهعليه‌السلام ، وكان الوقت بعد العصر من يوم تاسوعاء.

زحف الجيش الاُموي

اقترب الجيش الأموي الزاحف إلى معسكر جيش بني هاشم الرابض، وذلك في حين كان سيّد المعسكر الإمام الحسينعليه‌السلام جالساً أمام خيمته، محتبياً بسيفه، خافقاً برأسه على ركبتيه، فسمعت السيّدة زينبعليها‌السلام الصيحة والهيجة، فأسرعت نحو أخيها الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ لتعلمه بالخطر الذي أصبح يهدّدهم، فلمّا رأت أخاها بتلك الحالة بعيداً عن الخطر المحدق به، دنت منه وقالت: أخي يا أبا عبد الله، أخي يا أخي، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت منّا؟

عندها رفع الإمام الحسينعليه‌السلام رأسه واستوى جالساً، وقال: ((أُخيّه زينب، كنت قد غفوت الساعة فرأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غفوتي ونومي وهو يقول لي: إنّك تروح إلينا)).

وفي اللهوف: قالعليه‌السلام : ((إنّي رأيت الساعة جدّي محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبي عليّاًعليه‌السلام ، واُمّي فاطمةعليها‌السلام ، وأخي الحسنعليه‌السلام وهم يقولون لي: يا حسين، إنّك رائح إلينا عن قريب))، وفي بعض الروايات ((إنّك رائح إلينا غداً)).

وما أن سمعت السيّدة زينبعليها‌السلام رؤيا أخيها الإمام الحسينعليه‌السلام حتّى بكت وأعولت، ولطمت وجهها وخدها، وصرخت وصاحت وا ويلاه!

فقال لها الإمام الحسينعليه‌السلام بشفقة ورحمة، وهو يسكتها ويسكّنها: ((ليس

٢٧٢

الويل لك يا أُخيّه بل لأعدائك، اسكتي رحمك الله؛ كي لا يشمت القوم بنا)). فسكتتعليها‌السلام وسكنت.

السفارة بين الجيشين

وهنا تقدّم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأخبره بأن الجيش الاُموي قد زحف نحوهم قائلاً: يا أخي، قد أتانا القوم وزحفوا نحونا.

فنهض الإمام الحسينعليه‌السلام ، ثمّ قال: ((يا عبّاس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، وتقول لهم ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم؟)).

فركب أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام وأتى القوم في نحو عشرين فارساً؛ فيهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، فجاء حتّى إذا وقف عليهم قال: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟

فأجابوه بقولهم: قد جاءنا أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.

فقال لهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام : إذاً مكانكم لا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام فأعرض عليه ما ذكرتم، وأخبره بما قلتم.

كان لكلام أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام هذا وقعاً شديداً على قلوب القوم، وتأثيراً كبيراً في إرعاب نفوسهم؛ حيث إنّهم لم يجرؤوا بعد هذا على مواصلة زحفهم نحو معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإنّما أحجموا ووقفوا، وهم يقولون: نعم، ألقه واعلمه بالخبر، ثمّ القنا بما يقول لك واعلمنا به.

فرجع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويكلّمونهم.

٢٧٣

حبيب وزهير يعظان القوم

ثمّ التفت حبيب بن مظاهر إلى زهير بن القين وقال له: يا زهير، كلّم القوم إن شئت، وإن شئت كلّمتهم أنا.

قال زهير: يا حبيب، أنت بدأت بهذا، فكن أنت الذي تكلّمهم.

فتقدّم حبيب بن مظاهر وخاطب القوم بقوله: أما والله، لبئس القوم عند الله غداً قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته، وعبّاد أهل هذا المصر، المتهجّدين بالأسحار، الذاكرين الله كثيراً!

فقاطعه عزرة بن قيس قائلاً: إنّك يا حبيب لتزكّي نفسك ما استطعت.

فأجابه زهير بقوله: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها، فاتّق الله يا عزرة وخفه، فإنّي لك من الناصحين. أُنشد الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضُلاّل على قتل النفوس الزكيّة.

فقال له عزرة، شامتاً به وطاعناً فيه: يا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنت أنت عثمانيّاً.

فأجابه زهير قائلاً: أفلست تستدلّ بموقفي هذا على أنّي منهم؟ ثمّ أضاف: أما والله، ما كتبت كتاباً قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرت به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوّه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه؛ حفظاً لما ضيّعتم من حقّ الله وحقّ رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢٧٤

السفير الناجح والسفارة الموفّقة

وبينما كان زهير يناقش عزرة، وحبيب ينصح القوم ويعظهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، إذ وصل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأخبره بما قاله القوم، فقال له الإمام الحسينعليه‌السلام : ((ارجع يا أخي إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد، وتدفعهم عنّا العشية؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار)).

فمضى أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام إلى القوم واستمهلهم تلك الليلة، وكانت ليلة جمعة، فتوقّف عمر بن سعد في ذلك.

وفي المنتخب: إنّه التفت إلى شمر بن ذي الجوشن وقال له: ما تقول يابن ذي الجوشن؟

فقال شمر بن ذي الجوشن: أمّا أنا فلو كان الأمر لي وكنت أنا الأمير ما كنت أمهلهم، ولا أنظرهم ساعة، فكيف بليلة؟

فقاطعهم عمر بن الحجاج الزبيدي قائلاً: ويلكم! والله لو أنّهم كانوا من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمّد؟!

وهنا التفت ابن الأشعث قيس إليه وقال له: لا تجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحُنّك بالقتال غدوة.

فردّ على قيس مجيباً له بقوله: والله، لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشية.

ثمّ استقر رأيهم أخيراً على أن يمهلوهم تلك الليلة، فرجع أبو الفضل العبّاس من عند القوم ومعه رسول من عند عمر بن سعد، حتّى إذا وصلا إلى الإمام الحسينعليه‌السلام قام ذلك الرسول حيث يسمع الصوت، ونادى قائلاً: إنّا قد

٢٧٥

أجّلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلى ابن زياد، وإن أبيتم فإنّا لسنا بتاركيكم، ثمّ انصرف.

وفي أمالي الصدوق: إنّ ابن سعد أمر مناديه أن ينادي في الناس: إنّا قد أجّلنا حسيناً وأصحابه يومهم وليلتهم، فرجع على أثره كلّ من الجيشين إلى معسكرهم ومخيّمهم.

وهكذا استطاع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام أن يؤدّي سفارته بأحسن وجه، وأن يقوم بوساطته خير قيام؛ حيث إنّه لم يجد القوم بعد عرضهعليه‌السلام عليهم إمهال ليلة إلاّ النزول إلى عرضه، والسماح بإمهالهم، والقبول لإنظارهم، وتركهم وشأنهم في تلك الليلة التاريخيّة الحاسمة، ليلة عاشوراء المصيريّة الصارمة.

من أحداث ليلة عاشوراء

غربت شمس تاسوعاء، ولملمة ذيولها الباهتة في الأُفق، وغابت في المجهول، ولاح سواد ليلة عاشوراء على أُفق كربلاء، وأخذ الظلام يغزو كلّ ثغر ومكان، حتّى أصبح الكون مظلماً وكأنّه قد طبّق بأجنحة حالكة سوداء، وستور قاتمة دكناء، ولاذ كلّ إلى وكره ومأمنه، ومأواه ومستراحه، غير ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وأصحابه، وعقائل بني هاشم وذراري رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّهم قد جنّ عليهم الليل، وغطّاهم سواده وظلامه، ولا وكر لهم ولا مأمن ولا مستراح ولا مأوى.

نعم، في هذه الليلة التاريخيّة الصعبة، والظروف القاسية المرّة، لم يرتبك الإمام الحسينعليه‌السلام ، وينشغل عمّا يهمّ أمر دينه ودنياه، وحاشاه أن يرتبك وينشغل؛ فإنّهعليه‌السلام إمام معصوم، قد أذهب الله عنه الرجس وطهّره تطهيراً، بل أنّه كما كان

٢٧٦

يفكّر في أمر آخرته، كان يفكّر في أمر دنياه أيضاً، وهذا هو ما أكّد عليه الإسلام، وطبّقه الإمام الحسينعليه‌السلام في أصعب ظروفه تعليماً لنا وحجّة علينا.

ولذلك فإنّهعليه‌السلام قسّم ليلته تلك، ليلة عاشوراء الرهيبة، إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الاجتماع بالأصحاب

1 - خصّص الإمام الحسينعليه‌السلام قسماً من ليلة عاشوراء للاجتماع بأصحابه واختبارهم، ورفع البيعة عنهم، وإتمام الحجّة عليهم، بقوله لهم: ((يا قوم، اعلموا أنّكم خرجتم معي لعلمكم أنّي أقدم على قوم بايعوني بألسنتهم وقلوبهم، وقد انعكس الأمر؛ لأنّه استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، والآن ليس لهم قصد سوى قتلي، وقتل مَنْ يجاهد بين يدي، وسبي حرمي بعد سلبهم، وأخشى أنّكم ما تعلمون، وتعلمون وتستحيون، والخِدَع عندنا أهل البيت محرّمة.

فمَنْ كره منكم ذلك فلينصرف؛ فإنّ الليل ستير، والسبيل غير خطير، والوقت ليس بهجير، ومَنْ واسانا بنفسه كان معنا في الجنان، نجياً من غضب الرحمن، وقد قال جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ولدي الحسين يُقتل بطفّ كربلاء غريباً وحيداً، عطشانَ فريداً، فمَنْ نصره فقد نصرني ونصر ولده الحجّة (عجّل الله تعالى فرجه)، ولو نصرنا بلسانه فهو في حزبنا يوم القيامة)).

وما أن أتمّ الإمام الحسينعليه‌السلام كلامه إلاّ وتفرّق كثير ممّن كان قد جاء مع الإمام الحسينعليه‌السلام لطلب الدنيا، ولم يبقَ معه إلاّ نيف وسبعون رجلاً ممّن صحبهعليه‌السلام لطلب الآخرة، إضافة إلى مَنْ كان معهعليه‌السلام من أهل بيته وإخوته، وشبّان بني هاشم.

وفي رواية اُخرى: إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام خطب ليلة عاشوراء في أهل بيته

٢٧٧

وفيمَنْ بقي معه من أصحابه، وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلّى على رسوله وأهل بيته الطاهرين: ((أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً. ألا وإنّي لا أظنّ يوماً لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام؛ هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً)).

وهنا لمّا أتم الإمام الحسينعليه‌السلام كلامه قام إليه بنو هاشم، وعلى رأسهم الناطق عنهم أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وقال: لِمَ نفعل ذلك يابن رسول الله؟! لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً.

ثمّ قام الأصحاب وقال كلّ منهم كلاماً أظهر فيه وفاءه بعهده، وافتخاره بالشهادة بين يديهعليه‌السلام ، فجزّاهم الإمام الحسينعليه‌السلام خيراً، وانصرف إلى مضربه وخيمته.

وكان من نتائج هذا الاجتماع والاختبار: أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لمّا التقى بأخته عقيلة بني هاشم السيّدة زينبعليها‌السلام وسألته عن وفاء أصحابه له قائلة: أخي يا أبا عبد الله، هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة واصطكاك الأسنّة.

فأجابها الإمام الحسينعليه‌السلام مطمئناً لها، ومشفقاً عليها، وهو يبكي، ويقول: ((أما والله، لقد لهزتهم وبلوتهم، وليس فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل بلبن اُمّه)).

القسم الثاني: التخطيط العسكري

2ـ وخصّص الإمام الحسينعليه‌السلام قسماً ثانياً من ليلة عاشوراء للتخطيط العسكري، وترسيم سُبل الذبّ والدفاع عن النفس، وصدّ هجوم القوم إذا بدؤوا الحرب في الصباح عليهم، وتنظيم جبهة واحدة للمقابلة والمواجهة، وتهيئة

٢٧٨

معدّاتهم وإصلاحها وصقلها. فقد دعا الإمام الحسينعليه‌السلام أصحابه، وأمرهم بأن يقرّبوا بيوتهم بعضها من بعض، وأن يدخلوا أطناب الخيام بعضها في بعض حتّى يحتوي معسكره على أقل مساحة ممكنة من الأرض.

ثمّ أمرهم بأن يحفروا خندقاً حول الخيام، وفي كلّ أطراف المعسكر، ما عدا طرف واحد وهو طرف المواجهة، ثمّ أمر أن يملؤوه بالقصب والحطب حتّى يكون جاهزاً عند الصباح لإضرام النار فيه، فيكون بذلك خطّاً دفاعيّاً لهم، يقيهم من هجوم الأعداء من كلّ الجوانب، ويحفظهم من محاصرة القوم لهم من كلّ الأطراف، وليكون دفاعهم عن أنفسهم على جبهة واحدة، ومن طرف واحد.

وقد كانت هذه الخطّة خطّة عسكريّة ناجحة، تحكي عن نبوغ مخطّطها وحكمة طرّاحها، وتفصح عن حنكة مؤسّسها، وتجربته العسكريّة العاليّة، ومعرفته الفائقة بفنون الحرب والقتال؛ فإنّ العدو لمّا بدأ القتال صباح يوم عاشوراء دار حول الخيام، وفكّر في محاصرة معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام في أوّل لحظات الحرب، والقضاء على معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام في الجولة الأولى من بدء القتال، لكنّهم لمّا واجهوا الخندق المضطرم بالنار حول الخيام فشلوا ورجعوا خائبين، وخسروا وعادوا أذلّة صاغرين.

نعم، هكذا خطّط الإمام الحسينعليه‌السلام لحفظ معسكره، وصيانة مخيّمه؛ وذلك بعد أن سلّم حراسة المخيّم ومحافظة المعسكر كلّه إلى عضده وظهره، وأخيه وصنوه، قمر العشيرة، وكبش الكتيبة الذي كانت ترتعد فرائص الأعداء من اسمه، وترتجف قلوبهم من رسمه، أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

فكانعليه‌السلام من أكبر مهامّه في تلك الليلة العصيبة هو حفظ المعسكر، وحراسة مخيّم النساء. ولعلّ لقاء السيّدة زينبعليها‌السلام به، وإيقافه على أنّه الذي ادّخره أبوه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لهذه الليلة ولهذه الأيّام، وتشجيعه على نصرة أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحماية

٢٧٩

أخواتها عقائل بني هاشم، وحراستهم من الأعداء، كان قد اتّفق في هذه الليلة بالذات، كما إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكذلك الأصحاب دخلوا بعد ذلك خيامهم، وأخذوا يعدّون سيوفهم ويصلحونها، ويهيّئون عتادهم ويصقلونها، وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يصلح سيفه ويعالجه، وهو ينعى نفسه ويقول:

يـا دهرُ أفٍّ لكَ من خليلِ

كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

مـن صاحبٍ وطالبٍ قتيلِ

والـدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وإنّـما الأمـرُ إلى الجليلِ

وكـلّ حـيّ سالكٌ سبيلي

القسم الثالث: الاشتغال بالعبادة والتلاوة

3ـ وخصّص الإمام الحسينعليه‌السلام قسماً ثالثاً وأخيراً من ليلة عاشوراء للعبادة والتوجّه إلى الله تعالى، وذلك بالصلاة، وبتلاوة القرآن، وبالدعاء والاستغفار، واقتدى به كلّ أصحابه وأهل بيته. وفي طليعة أصحابه وأهل بيته أخوه العبد الصالح المطيع لله ولرسوله أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّه إلى جانب حراسته كان قد شارك الأصحاب في ابتهالهم ولجئهم إلى الله تعالى، فقاموا يصلّون، ويتلون القرآن، ويدعون ويستغفرون حتّى كان لهم على أثر ذلك دويّ كدويّ النحل.

فقد روى السيّد ابن طاووس في لهوفه قائلاً: وبات الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه في تلك الليلة ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، فعبر إليهم في تلك الليلة من معسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً. يعني: التحقوا بهم، وفازوا بالشهادة والجنّة مع الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وذلك على إثر عبادتهم وصلاتهم التي كانوا يصلّونها لله تعالى، وإخلاصهم فيها، وتوديعهم لها، لإيقانهم بالشهادة والسعادة غداً في يوم عاشوراء.

٢٨٠