الخصائص العباسية

الخصائص العباسية0%

الخصائص العباسية مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 378

الخصائص العباسية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد إبراهيم الكلباسي النجفي
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
تصنيف: الصفحات: 378
المشاهدات: 296545
تحميل: 10624

توضيحات:

الخصائص العباسية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 296545 / تحميل: 10624
الحجم الحجم الحجم
الخصائص العباسية

الخصائص العباسية

مؤلف:
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدرية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحاضرون وكأنّهم على رؤوسهم الطير؛ إجلالاً له وهيبة منه، وقد أخذني من بين الجميع قزق كبير، ورهب شديد؛ لما سلف منّي في حقّهعليه‌السلام .

إرشاد وتنبيـه

ثمّ إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام بدأ يحيّي أهل المجالس واحداً واحداً حتّى إذا وصل إليّ قال لي: ماذا تقول أنت يا فلان؟

فكاد أن يرتجّ عليَّ القول عندما واجهني بسؤاله هذا لولا أن تداركتني رحمة ربّي، فعزمت على أن أبوح بكلّ ما قلته بحقّه دون زيادة ولا نقيصة، وأن اُصارحه بما تصوّرته وتخيّلته بالنسبة إليَّ وإليه، فقصصت عليه ما جرى بيني وبينكم من حوار في حقّه، وذكرت له من الحديث والاستدلال حسب ما مضى معكم، وأنا في كلّ ذلك مستحي منه، طالب عفوه وإعذاره.

عندها التفتعليه‌السلام إليَّ مبتسماً، وقال معذراً: لا بأس عليك إن ندمت وتبت تاب الله عليك، ولكن كن على علم بأنّي لست كما تصوّرته وتخيّلته أنت؛ وذلك لأنّي قد تلقّيت العلم من معينه ونميره، وأخذت الفضل من أصله ومعدنه؛ فقد تلمّذت على نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأديبه، أعني أبي ووالدي الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وتفقّهت لديه، ثمّ تلمّذت من بعده وتفقّهت على يد أخوي الإمامين الهمامين سيّدي شباب أهل الجنّة وريحانتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وأنا على أثر ما تلقّيته من أئمّتي وسادتيعليهم‌السلام من المعارف الإلهية والتعاليم الإسلاميّة كنت على يقين من ديني، وبصيرة من أمري.

بينما أنت بعكس ذلك كلّه؛ فقد أخذت أنت ممّن لا يقين له، وصرت أنت الآخر على أثره أيضاً لا يقين لك؛ تعوّل على الاُصول والقواعد المعدّة للجاهل

٣٠١

بالأحكام، وتعمل بها عندما يعوزك الوصول إلى الواقع، وأنا في غنى من ذلك كلّه؛ لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي ومعدن النبوّة والإمامة.

أضف إلى ذلك إنّي تأدّبت وتهذّبت على يدي أدباء الله، ومَنْ زكّاهم الله وهذّبهم، وطهّرهم من الرجس تطهيراً، فصرت منهم مهذّباً ومؤدّباً، أحمل بين جوانبي من المحاسن والمكارم ما لو قسمته على جميعكم ما أمكنكم حمل شيء منها، ولا القيام بعبئها، بينما أنت بعكس ذلك كلّه إذ أنّك تحمل بين جوانبك من الصفات الرذيلة ما يبغضك الله تعالى عليها، ومن غرور ورياء، وجدال ومراء وغير ذلك، ثمّ ضربعليه‌السلام بيده الشريفة على فم الرجل، وقال مؤكّداً: قم وتب إلى الله تعالى، وحاول أن تطهّر نفسك ممّا يبغضه الله تعالى، ويمقتك عليه.

قال الرجل: فانتبهت عندها من نومي فزعاً مرعوباً، نادماً تائباً، معترفاً مذعناً، وأسرعت إلى روضة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ولذت بضريحه، متوسّلاً به إلى الله تعالى ليغفر لي، ومشفّعه إلى الله تعالى فيّ ليعفو عنّي ويرضى عليّ؛ فإنّي لما قلت من النادمين، وعلى ما صدر منّي من التائبين المنيبين.

أيّهما أكثر علماً وفضلاً

وهنا قصّة ثانية تشبه القصّة الآنفة وتضاهيها، وهي: أنّه دار في مجلس فيه جماعة من أهل الفضل والعلم بحث حول أنّه أيّهما أكثر فضلاً وعلماً، هل هو أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ، أو سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((سلمان منّا أهل البيت))؟

فأجاب أحدهم: الظاهر أنّ أكثرهما علماً وفضلاً هو سلمان الفارسي، ثمّ قال: وذلك لأنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لمّا قيل له حدّثنا سلمان الفارسي،

٣٠٢

أجابهم قائلاً: ((أدرك سلمان العلم الأوّل والآخر، وهو بحر لا ينزح، وهو منّا أهل البيت)).

لكن سرعان ما رجع هذا القائل عن رأيه؛ حيث إنّه لم تمضِ عليه إلاّ مدّة قليلة حتّى عدل من كلامه وقوله ذلك، فلمّا سألوه عن سبب عدوله ورجوعه قال: بعدما أبديت رأيي في أفضلية سلمان الفارسي وأعلميّته رأيت في منامي في تلك الليلة بأنّي أحضر مجلساً ضخماً حافلاً بأهله، وغاصّاً بروّاده، ونظرت وإذا بي أرى أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام في غاية الجلال والبهاء جالساً في صدر المجلس، ورأيت سلمان الفارسي قائماً بين يديه يخدمه، ويأتمر بأوامره، فلمّا وقع نظري عليه تذكّرت ما جرى من الحديث حوله في اليقظة، وما أبديته من رأيي فيه.

وبينا أنا اُفكر في ذلك إذ بدرني سلمان الفارسي، وهو يشير بيديه إليّ، ويقول: يا هذا، لقد اشتبه الأمر عليك، إنّي بحر لا ينزح بالنسبة إلى أترابي وأقراني، مثل أبي ذر وحذيفة وعمّار وابن مسعود، وأمّا بالنسبة إلى شبل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام فإنّي أفتخر بأن أكون خادماً له، وتلميذاً صغيراً عنده؛ لكي أرتشف من علمه، وأتزوّد من فضله وكماله.

٣٠٣

الخصّيصة التاسعة والثلاثون

في أنّهعليه‌السلام كان عاملاً بعلمه

إنّ العلم الذي عُدّ في الروايات المرويّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن أهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام أنّه فريضة على كلّ مسلم ومسلمة، وأنّه يجب على كلّ فرد من المسلمين بنحو الواجب العيني كالصلاة والصيام أن يتفرّغ لطلبه، ويتصدّى لتحصيله، وأنّه مَنْ أهمل معرفة هذا العلم كان كمَنْ ترك الصلاة والصيام.

هو على ما يستفاد من الروايات الشريفة والأحاديث الكريمة، مثل قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ((إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، وفريضة عادلة، وسنّة قائمة، وما خلاهنَّ فهو فضل)).

ومثل قول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : ((ثلاث بهنَّ يكمل المسلم: التفقّه في الدين، والتقدير في المعيشة، والصبر على النوائب)).

ومثل قول الإمام الصادقعليه‌السلام : ((وجدت علوم الناس كلّها في أربع: أوّلها أن تعرف ربّك، والثانية أن تعرف ما صنع بك، والثالثة أن تعرف ما أراد منك، والرابعة أن تعرف ما يخرجك من دينك)).

ومثل قولهعليه‌السلام أيضاً: ((العلم أصل كلّ حال سنيّ، ومنتهى كلّ منزلة رفيعة؛ لذلك قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة)).

أي علم التقوى واليقين هو العلم بثلاثة أشياء:

٣٠٤

الأوّل ممّا يجب العلم به

1 - العلم باُصول الدين، فإنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة الاعتقاد بأصول الدين الخمسة عن دليل وبرهان، وذلك بأن يعلم بأنّ الله واحد لا شريك له، وأنّه عالم قادر مريد، مدرك حي قيوم، غني متكلّم صادق سرمدي، لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنّه عادل لا يظلم أحداً مثقال ذرّة، وأنّه أرسل الرسل لهداية البشر، وأنزل معهم الكتاب لإرشاد الناس إلى الحقّ؛ أوّلهم آدمعليه‌السلام وآخرهم النبيّ الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأنّه تعالى جعل لهم أوصياء معصومين، وأنّ أوصياء نبيّنا اثنا عشر وصيّاً؛ أوّلهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وآخرهم المهدي المنتظر، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملأت ظلماً وجوراً، وأنّهم جميعاً مع السيّدة فاطمة الزهراءعليه‌السلام معصومون، قد أنزل الله تعالى فيهم:( إنّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، فيكون عدد المعصومين في اُمّتنا المرحومة أربعة عشر معصوماً.

وأنّ الله أعدّ للحساب ومجازاة الناس يوم القيامة في الآخرة؛ ليجزي المحسنين بالجنّة والمسيئين بالنار، وذلك كما قال تعالى:( كلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وإنّما تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمََنْ زُحْزِحَ عِنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الجنّة فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ) .

هذا، ولا يخفى أنّ هذه الاُصول الخمسة من التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد في يوم القيامة من الاُصول الاعتقاديّة التي لا تقبل التقليد، بل يجب فيها الاجتهاد، وتحصيلها عن دليل وبرهان وعلم ويقين.

٣٠٥

الثاني ممّا يجب به العلم

2 - العلم بفروع الدين، فإنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة العلم بأحكام فروع الدين العشرة من: الصلاة والصيام، والخمس والزكاة، والحج والجهاد، والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر، والتولّي لأولياء الله والتبرّي من أعداء الله، بل معرفة أحكام الدين في كلّ ما يحتاجه الإنسان في حياته من صغيرة وكبيرة، وكلّية وجزئيّة، ما عدا اُصول الدين الخمسة؛ فإنّ كلّ ما عدا الاُصول الخمسة تعدّ فروعاً للدين، وعلى كلّ مسلم ومسلمة معرفة ما يبتلى بها من مسائل شرعية، ويحتاج إليها من أحكام دينيّة بالنسب إلى الفروع.

هذا، ولا يخفى بأنّ الفروع يجوز التقليد فيها، أي يجوز الرجوع فيها إلى مرجع جامع للشرائط، وأخذ المسائل والأحكام منه، ولا يجب الاجتهاد فيها وتحصيلها عن دليل وبرهان وعلم ويقين، كما كان يجب ذلك في اُصول الدين، وهذا هو نوع تسامح من الله تبارك وتعالى للإنسان؛ لأنّ فروع الدين كثيرة وتحصيلها عن اجتهاد يستغرق كلّ وقت الإنسان، ولذلك أجاز فيه التقليد من مرجع جامع للشرائط.

الثالث ممّا يجب العلم به

3 - العلم بالأخلاق والآداب الفرديّة والاجتماعيّة، فإنّه يجب على كلّ مسلم ومسلمة العلم بالاُمور التالية:

أوّلاً: العلم بكيفيّة تنسيق رابطته مع الله تعالى، وكتابه ودينه ورسله وأوليائه.

٣٠٦

ثانياً: العلم بكيفيّة تنسيق رابطته مع نفسه وروحه، وفكره وعقله، وعواطفه وغرائزه، وجوارحه وأعضائه، وسائر شؤونه الفرديّة.

ثالثاً: العلم بكيفيّة معاشرته مع والديه وذويه، وإخوته وأخواته، وزوجته وأولاده، وأصدقائه وشركائه، وأقربائه وأرحامه، ومعلمه وأستاذه، وحاكمه وسلطانه، وسائر أفراد المجتمع؛ سواء المجتمع الصغير، وهو محيط الاُسرة والعائلة، أم المجتمع الكبير، وهو محيط المحلّة والبلدة، والدولة والعالم.

رابعاً: العلم بكيفيّة تعامله مع الآخرين في بيعه وشرائه، وحرفته ومهنته، وقبضه وبسطه، وحلّه وترحاله، وسفره وحضره، وإلى غير ذلك من الاُمور التي يجمعها رابط العلاقات والروابط الفرديّة والاجتماعيّة، ويعمّها عامل العشرة والمعاشرات الخصوصيّة والعموميّة.

هذا، ولا يخفى أنّ هناك في مجال الأخلاق والآداب الفرديّة والاجتماعيّة روايات وأحاديث كثيرة تدّلنا على مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ما فيها لنا غنى عن غيرها، ولعلّ من أجمعها وأشملها هي (رسالة الحقوق) المرويّة عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، فإنّه يجب على كلّ مسلم، بل على كلّ إنسان حرّ مطالعة هذه الرسالة بدقّة، ومدارستها بهمّة وعلقة، ثمّ تطبيق ما جاء فيها تطبيقاً حرفيّاً في كلّ شؤونه الفرديّة والاجتماعيّة، وروابطه ومعاشراته الخصوصيّة والعموميّة.

علماً بأنّ تطبيقها ضامن لسعادة الفرد والمجتمع، ومتكفّل للتقدّم في الحياة الخاصّة والعامّة، وعلينا أن نؤسس دورات تعليميّة، وحلقات تمرينيّة نعلّم فيها ناشئتنا وشبابنا كيف يمارسون تعاليم هذه الرسالة المباركة (رسالة الحقوق)، وندرّبهم فيها على أنّه كيف يطبّقونها في حياتهم العمليّة تطبيقاً حرفيّاً، وذلك إن أردنا أن نستعيد عزّنا وسعادتنا، ونسترجع كياننا وسؤددنا إن شاء الله تعالى.

٣٠٧

أبو الفضل عليه‌السلام وهذه العلوم الثلاثة

سبق أن قلنا إنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام قد تخرّج وهو متقن لهذه العلوم الثلاثة: أصول الدين، وفروع الدين، والأخلاق والآداب، وغيرها من العلوم الإسلاميّة والإنسانيّة الاُخرى من معهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجامعة الأئمّة من أهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، وعلى يدي أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخويه الإمامين الهمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام .

فهو إذاً عالم كامل، وفقيه فاضل، واُستاذ بارع، وعالم متضلّع باُمّهات العلوم الإسلاميّة واُصولها، وجذور الأخلاق الإنسانيّة وفروعها.

هذا من جهة العلم والفضل، وأمّا من جهة العمل والتطبيق الخارجي، فقد كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام من خصوصيّاته وامتيازاته أنّه كان يعمل بما يعلمه ويفقهه، ويطبّق في حياته الفرديّة والاجتماعيّة معارفه وثقافاته تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً بلا زيادة ولا نقصان.

العلم مقرون بالعمل

وإنّما كان أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام عاملاً بعلمه، مطبّقاً لمعارفه في الخارج؛ لأنّه كان قد تعلّم أيضاً من أساتذته الميامين وأئمّته المعصومينعليهم‌السلام أنّ: ((العلم مقرون إلى العمل؛ مَنْ علم عمل، ومَنْ عمل علم، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه)).

وتعلّم أيضاً أنّ: ((العالم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر)).

وتعلّم أيضاً: ((إنّ العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه)).

٣٠٨

وتعلّم أيضاً أنّه: ((مكتوب في الإنجيل: لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولمّا تعملوا بما علمتم؛ فإنّ العلم إذا لم يُعمل به لم يزدد صاحبه إلاّ كفراً، ولم يزدد من الله إلاّ بعداً)).

وتعلّم أيضاً أنّ: ((العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناجٍ، وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإنّ أشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنّة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتّباعه الهوى وطول الأمل؛ أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وطول الأمل ينسي الآخرة)).

وسمع أيضاً أباه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو يخطب في الناس على منبر الكوفة، ويقول: ((أيّها الناس، إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلكم تهتدون؛ إنّ العالم بغيره كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله، بل قد رأيت أنّ الحجّة عليه أعظم، والحسرة أدوم على هذا المنسلخ من علمه منها على هذا الجاهل المتحيّر في جهله، وكلاهما حائر بائر، لا ترتابوا فتشكّوا، ولا تشكّوا فتكفروا، ولا ترخّصوا لأنفسكم فتدهنوا، ولا تدهنوا في الحقّ فتخسروا.

وإنّ من الحقّ أن تفقّهوا، ومن الفقه أن لا تغترّوا، وإنّ أنصحكم لنفسه أطوعكم لربّه، وأغشّكم لنفسه أعصاكم لربّه، ومَنْ يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخب ويندم)).

وعرف أيضاً أنّه: ((لا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل، فمَنْ عرف دلّته المعرفة على العمل، ومَنْ لم يعمل فلا معرفة له، ألا إنّ الإيمان بعضه من بعض)).

وعرف أيضاً أنّه: ((مَنْ عمل بما علم كُفي ما لم يعلم)).

وعرف أيضاً ما [ أُخبر عن ] عيسىعليه‌السلام حيث قال: ((رأيت حجراً مكتوباً عليه قلّبني فقلّبته، فإذا على باطنه: مَنْ لا يعمل بما يعلم مشومٌ عليه طلب ما لا يعلم،

٣٠٩

ومردود عليه ما علم)).

وعرف أيضاً ما قالهعليه‌السلام : ((مَنْ علم وعمل فذاك يدعى عظيماً في ملكوت السماء)).

وعلم ما أوحى الله تبارك وتعالى إلى داودعليه‌السلام ، حيث قال له: ((إنّ أهون ما أنا صانع بعالم غير عامل بعلمه أشدّ من سبعين عقوبة؛ أن أخرج من قلبه حلاوة ذكري... والعامل حقّاً هو الذي ينطق عنه أعماله الصالحة، وأوراده الزاكية، وصدقه وتقواه، لا لسانه وتصاوله ودعواه...)).

وعلم أيضاً أنّ: ((العلم وديعة الله في أرضه، والعلماء أمناؤه عليه، فمَنْ عمل بعلمه أدّى أمانته، ومَنْ لم يعمل بعلمه كتب في ديوان الخائنين)).

وتعلّم أيضاً ما أوصى به أبوه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من قوله: ((لا تجعلوا علمكم جهلاً ويقينكم شكّاً، وإذا علمتم فاعملوا، وإذا تيقّنتم فأقدموا)).

وعلم أيضاً بأنّ: ((أشدّ الناس عذاباً عالم لا ينتفع من علمه بشيء)).

وعلم أيضاً بأنّ: ((العلم الذي لا يُعمل به كالكنز الذي لا يُنفق منه؛ أتعب صاحبه نفسه في جمعه ولم يصل إلى نفعه)).

وعلم أيضاً بأنّ: ((مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه)).

وعرف أيضاً أنّه: ((ما ازداد العبد علماً فازداد في الدنيا رغبة إلاّ ازداد من الله بُعداً)).

وعرف أيضاً أنّ: ((كلّ علم وبال على صاحبه إلاّ مَنْ عمل به)).

وعرف أيضاً أنّ: ((أشقى الناس مَنْ هو معروف عند الناس بعلمه، مجهول بعمله)).

٣١٠

العبّاس عليه‌السلام السباق في ميدان العمل والتطبيق

وعليه، فأبو الفضل العبّاسعليه‌السلام كان من حسن تعلّمه، وجميل تفقّهه، وفضل تأدّبه، ومن إلمامه بالروايات الكريمة، ومعرفته بالأحاديث الشريفة، هو السبّاق في ميدان العمل بما تعلّمه، والمقدام في ساحة التطبيق الخارجي لما تفقّه فيه.

وأدلّ دليل على ذلك: كونهعليه‌السلام مع الصادقين، الذين أمر الله تعالى بالكون معهم، فكانعليه‌السلام ما عرفت مع أبيه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ثمّ مع أخيه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، ثمّ مع أخيه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وبقاؤه معه حتّى آخر لحظة من حياته، متحدّياً كلّ الوعود والمغريات من عرض الأمان، وتقديم الإمارات والمناصب وغير ذلك، والوقوف إلى جانبه حتّى آخر قطرة من دمه، معلناً عن نصرته له، والحماية عنه حتّى أريق دمه في سبيل الله، ونصرة دينه وكتابه، وحماية [ ابن ] رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمامهعليه‌السلام ، وسقط شهيداً مظلوماً بين يدي أخيه وإمامه، الإمام الحسينعليه‌السلام ، ونال بذلك شرف الدنيا، وفاز بسعادة الآخرة والجنّة.

هذا مع أنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام كان يحمل بين جوانبه كلّ مؤهّلات الرئاسة، وكان يضمّ بين جوانحه جميع معدّات الزعامّة والقيادة، من جمال وكمال، وعلم وحلم، وحسب ونسب، وعزّ وشرف، وفصاحة وبلاغة، وجود وكرم، وشجاعة وشهامة، وبالتالي كان فيه كلّ مستلزمات القائد الحكيم، والزعيم المجرّب، والرئيس المحبوب المقدام.

فكان باستطاعته أن يطرح نفسه رأساً، ويدعوا الناس إلى ذلك، ويكون رئيساً وزعيماً في قومه، كما فعل مَنْ هو أقلّ منه بكثير، بل مَنْ هو بالنسبة إليه كالقطرة مقابل البحر، والرشفة أمام اليمّ، والذرّة لدى المجرّة، والهباءة عند الكون العظيم، أعني به عبد الله بن الزبير، الذي نصب نفسه علماً، ودعا الناس إلى نفسه، وكان من أمره ما كان.

٣١١

نموذج من التطبيق العملي لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام

نعم، كان باستطاعة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام لولا التزامه بأن يعمل بما علمه، ويطبق ما عرفه تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً أن يطرح نفسه رأساً، ويدعو الناس إلى نفسه كما فعل ابن الزبير، وكان حينئذ نسبة موفقيّته في ذلك بالنسبة إلى موفقيّة ابن الزبير أكثر بكثير، وهو واضح لا غبار عليه. ولكنّهعليه‌السلام لم يفعل ذلك، ولم ينصب نفسه علماً للناس، ولم يدعُ الناس إلى نفسه.

كما إنّه لم يتّخذ موقف الحياد من إمامه الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولم ينعزل عن الساحة وعن مجتمعه، ولم يترك الأمر على عواهنه دون أن يقوم بما يجب عليهعليه‌السلام تجاه ربّه ودينه، وقبال كتاب الله ورسولهعليه‌السلام ، وإزاء أخيه وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام .

بل إنّهعليه‌السلام حدّد موقفه في الحياة حسب ما أملاه عليه دينه وعقيدته، وما أوجبه عليه علمه ومعرفته، وقام بما يجب عليه بكلّ إخلاص وتسليم، وأدّى ما فرض عليه بأمانة ونصيحة، فعاضد أخاه الإمام الحسينعليه‌السلام في كلّ موقف ومشهد، ودافع عنه بكلّ قوّة وقدرة، وكان معه ناصراً ومعيناً، وله وليّاً وحميماً، وعليه حدباً وحانياً، وبه شفيقاً ورفيقاً حتّى نال وسام الشهادة بين يديهعليه‌السلام ، وفاز بسعادة الدنيا والآخرة.

وبذلك علّمناعليه‌السلام كيف نكون مع الصادقين، وكيف نضمّ أصواتنا إلى أصواتهم، وهممنا إلى هممهم حتّى ينتصر الحقّ ويندحر الباطل، ويعلو الإسلام والمذهب الحقّ، مذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، على ما سواه، ويغطّي ربوع الأرض

٣١٢

بظِلاله، ويسعد الناس بأحكامه وتعاليمه.

علماً بأنّ الصادقين على ما في مجمع البيان، عن جابر الأنصاري، عن أبي جعفرعليه‌السلام هم آل محمّد (صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين)؛ فآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذين عيّنهم آل محمّد في حياتهم ومن بعدهم مرجعاً يرجع الناس إليهم في دينهم ودنياهم، وهم اليوم الفقهاء والمراجع.

هم الذين أمرنا الله تعالى بأن نكون معهم، ولا نتفرّق عنهم، حقّ يتحقّق، الإسلام يعلو ولا يُعلا عليه؛ وذلك لأنّ يد الله مع الجماعة، وأنّ نصر الله معقود على نواصي الذين أخلصوا لله، واتّحدوا في الله، ونصحوا لعباد الله، لا على نواصي الذين تفرّقوا وتشتّتوا، وتخاذلوا وتحاقدوا، ونصبوا أنفسهم علماً ورأساً، ودعوا الناس إلى أنفسهم، وصاروا بذلك رؤوساً كمزرعة البصل، كلّها رؤوس يقتلعها الزرّاع في الدنيا بسهولة، ويدّخرها الملائكة في الآخرة لشجرة الزقوم التي طلعها كأنّه رؤوس الشياطين بمرونة؛ فإنّهم بذلك لم ينالوا ما أمّلوا، ولم يبلغوا ما راموا، وسوف يحاسبهم التاريخ في المستقبل حساباً عسيراً مخزياً، ويعاقبهم الله في القيامة عقاباً شديداً مهيناً.

أوسمة أبي الفضل عليه‌السلام على عمله بعلمه

أجل، لقد امتاز أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام من بين أقرانه وأصحابه في مجال العمل بعلمه، وميدان التطبيق الحرفي لمعارفه بالسبق عليهم جميعاً، والتقدم من بينهم قاطبة حتّى فاز عند الله بأعلى الدرجات، وحصل من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام على أرفع الأوسمة، وأعظم النياشين.

ونحن نشير إلى ما تيسّر لنا منها باختصار إن شاء الله تعالى حتّى يكون

٣١٣

نبراساً لنا نستضيء بنوره، وقدوة لنا نتعلّم من هديه؛ كيف نكون مثلهعليه‌السلام عاملين بعلمنا، مطبّقين لمعتقداتنا، محقّقين في الخارج لمعارفنا وثقافاتنا.

علماً بأنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام لم يكن نبيّاً ولا وصيّاً، ومع ذلك نراه قد جاز على أرقى مدارج العلم المقرون بالعمل، عملاً عينيّاً خارجيّاً لِما علِمه، وفاز على أعلى مراقي المعرفة المحفوفة بالتطبيق العملي، تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً لِما اعتقده وعرفه، ونال سبب ذلك المقام الرفيع عند الله تبارك وتعالى، والمنزلة السامية لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابنته الصدّيقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، والأئمّة من أهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام .

وعليه فيكون أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بذلك حجّة بالغة علينا، لا نستطيع أن نقول بعدها كيف لنا الحصول على المقام الرفيع، والمنزلة السامية عند الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع إنّا لسنا بأنبياء ولا بأوصياء أنبياء؟

فإنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام مع أنّه لم يكن نبيّنا ولا بوصيّ نبيّ قد نال ما ناله من العظمة والزلفى عند الله ورسوله، وعند أهل بيت رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبب عمله بعلمه عملاً دقيقاً من غير زيادة ولا نقصان، ولا اجتهاد منه مقابل النصّ، ولا تحوير وتحريف للواقعيّات العقائديّة، وتمويه وتشويه للحقائق العلميّة، كما فعل ذلك عمر بن سعد وأمثاله حيث حرّف كلّ الحقائق، وشكّك فيها؛ للوصول إلى ولاية الري، ولم يصل إليها، ولم يتهنّأ بها؛ بل عمل بها أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بكلّ أمانة وصداقة، وإذعان وتسليم.

وإليك بعض تلك الأوسمة والنياشين، والمقامات الرفيعة، والمنازل السامية لهعليه‌السلام عند الله ورسوله وأهل بيتهعليهم‌السلام في الخصّيصة الأخيرة من هذا الكتاب، وهي الخصّيصة الأربعون من خصائص أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام إن شاء الله تعالى.

٣١٤

الخصّيصة الأربعون

في أنّهعليه‌السلام الوجيه عند الله ورسوله والأئمّة الطاهرين

لقد استطاع أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام عبر إيمانه الراسخ، وعقيدته الصلبة، ونفسيّته الطيّبة، وأخلاقه الكريمة، وبتطبيق معارفه الربّانيّة في الخارج تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً، وتحقيق ثقافته الإسلاميّة في حياته العلميّة تحقيقاً وافياً واضحاً، أن يحلّق في مقام القرب والوجاهة إلى الله تعالى، ويعلو في درجات الفضل والجلال عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام والأئمة الطاهرين من أهل بيت رسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وذلك بما لم يستطع أحد ليس هو بنبيّ ولا بوصيّ نبيّ أن يصل إلى ما وصل إليه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام من الوجاهة عند الله تبارك وتعالى وعند رسوله الحبيب وابنته الوفيّة وأهل بيته الطاهرين.

ونحن نذكر شيئاً منها، ونستعرض نماذج عليها بعون الله تعالى وقوّته وحوله وطوله.

العبّاسعليه‌السلام ومنزلته عند الله

قال الله تعالى:( وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ واخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِن لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * ومَنْ يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ

٣١٥

فَأُولئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النبيِّين وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ اُولئك رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ عَلِيماً) (1) .

ومن أجلى مصاديق هذه الآيات الكريمة هو سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الشهيد بكربلاء الإمام الحسينعليه‌السلام وأخوه أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام ؛ فلقد كتب الله تعالى على سبط رسوله الحبيب، ووصيّ وصيّه الكريم الإمام الحسينعليه‌السلام الهجرة والقتال، والخروج على يزيد عدوّ الله وعدوّ رسوله، وأبلغ ما كتبه عليه عبر أمين وحيه جبرائيل، وبواسطة حبيبه الرسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه، فامتثل الإمام الحسينعليه‌السلام أمر ربّه وخرج، فلم يخرج معه ولم يقاتل بين يديهعليه‌السلام إلاّ القليل، وكان في مقدّمة هذا القليل أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام .

وحيث إنّهعليه‌السلام فعل ما وُعِظ به، وعمل بما علِم، كان خيراً له وأشدّ تثبيتاً، ونال من الله أجراً عظيماً، وهُدي صراطاً مستقيماً، وحُشر كما في زيارتهعليه‌السلام أيضاً المأثورة عن الإمام الصادقعليه‌السلام على أثر طاعته لله ولرسوله ولإمامه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيِّين والصدّيقين، والشهداء والصالحين، وحسن اُولئك رفيقاً، فصدق في حقّهعليه‌السلام ، وتحقّق عليه قوله تعالى:( ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ عَلِيماً ) .

فطوبى لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام مقامه الرفيع عند الله تبارك وتعالى، وهنيئاً له على منزلته السامية لديه!

مشاهد العبّاس عليه‌السلام الأربعة

كان هذا شيئاً قليلاً من جزاء الله (عزّ وجلّ) لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ونزراً يسيراً من ثواب الله تبارك وتعالى له في الآخرة.

وأمّا جزاؤه تعالى له وأجره إيّاه في الدنيا فحدّث ولا حرج؛ فتلك روضته المباركة، وقبّته السامية ملاذاً للاّئذين، وأمنا للاّجئين، ومقصداّ للزّائرين، ومحطّاً للوافدين، وتلك كراماته الباهرة وعناياته الخاصة ظاهرة منها للناس أجمعين.

____________________

(1) سورة النساء / 66 - 70.

٣١٦

أضف إلى ذلك مزاراته الثلاثة، ومشاهده المباركة الاُخرى، فإنّها أيضاً كروضته المباركة مقصداً ومزاراً للناس، وملاذاً ومعاذاً لهم.

علماً بأنّ تلك المزارات الثلاثة والمشاهد المباركة الاُخرى هي عبارة عمّا يلي:

المشـهد الأول

1 - مشهد الرأس الشريف: جاء في كتب المقاتل أنّ عمر بن سعد أمر جيشه بعد أن قتلوا ابن بنت رسولهمصلى‌الله‌عليه‌وآله ومَنْ كان معه من أهل بيته وأصحابهعليهم‌السلام بأن يحتزّوا رؤوسهم، ويحملوها مع السبايا إلى ابن زياد ومنها إلى يزيد بن معاوية.

وكذلك فعلوا، فكانت للرؤوس الطاهرة في كلّ مكان وخاصة في الشام معجزات باهرة، وكرامات ظاهرة، افتضح على أثرها الأمويّون، وخُزي من جرائها يزيد وابن زياد؛ ممّا أدّى بيزيد أن يسلّم الرؤوس الشريفة كلّها إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام حتّى يلحقها بالأبدان الطاهرة ويدفنها معها، وهذا هو المعروف والمشهور.

فإنّ الإمام السجّادعليه‌السلام ردّ الرؤوس الكريمة كلّها إلى كربلاء، وألحقها بالأبدان الطاهرة، ودفنها معها، غير أنّ هناك بدمشق الشام، وفي المقبرة المعروفة باسم (مقبرة باب الصغير) مشهد كان قد وضع على بابه - وذلك أوائل القرن الرابع عشر الهجري - صخرة منحوت عليها (هذا مدفن رأس العبّاس بن عليعليه‌السلام ...)، وفي أواسط القرن الرابع عشر الهجري انهدم هذا المشهد فأُعيد بناؤه، وأُزيلت تلك الصخرة من على بابه، وبُني ضريح داخل المشهد، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء.

هذا ما جاء في التاريخ، وتعرّض له كتاب (أعيان الشيعة)، إلاّ أنّ الظاهر القوي، والقريب غير البعيد هو: أنّ هذا المشهد محلّ صلب تلك الرؤوس الكريمة لا محل دفنها.

٣١٧

المشهد الثـاني

2 - مشهد الكفّ اليمنى: لقد قُطعت يدا أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام في كربلاء غدراً وغيلة؛ فإنّ العدو الجبان لمّا لم يتجرأ على مواجهة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام يوم عاشوراء ومقاتلته وجهاً لوجه، كمن له وراء نخلة وضربه على يده اليمنى فبترها من الزند، فاتّخذ محلّ سقوطها بعد ذلك مشهداً ومزاراً.

ويقع مقام هذا المشهد (مشهد الكفّ اليمنى) في جهة الشمال الشرقي من الروضة المباركة، وذلك على حدّ محلّة باب بغداد، ومحلّة باب الخان، قريباً من باب الصحن الشريف الواقع في الجهة الشرقيّة، وعلى جدار المقام شبّاك صغير نقش في أعلاه بيتان من الرثاء باللغة الفارسية.

المشهد الثالـث

3 - مشهد الكفّ اليسرى: وهي أيضاً اليد الاُخرى التي قُطعت في كربلاء غدراً وغيلة؛ وذلك في كمين آخر كمِن له شقي آخر من وراء نخلة وضربه على يده اليسرى فقطعها من الزند أيضاً، فاتّخذ ذلك الموضع بعدها مشهداً ومزاراً أيضاً.

ويقع هذا المشهد (مشهد الكفّ اليسرى) في جهة الجنوب الشرقي من الروضة المباركة، وذلك في السوق الصغير المعروف بـ (سوق باب العبّاس الصغير)، قريباً من باب العبّاس الصغير من الصحن الشريف الواقع في الجنوب الشرقي، وعلى جدار المقام شبّاك صغير كتب في أعلاه بالقاشاني الرثاء التالي:

سلْ إذا ما شئت واسمع واعلمِ

ثـمّ خـذ منّي جوابَ المفهمِ

إنّ فـي هـذا المقامِ انقطعتْ

يـسرةُ الـعبّاس بحرِ الكرمِ

٣١٨

ها هنا يا صاح طاحتْ بعدما

طاحتِ اليُمنى بجنبِ العلقمي

اِجـرِ دمعَ العينِ وابكيهِ أساً

حـقَّ أنْ يُبكى بدمعٍ من دمِ

هذه المشاهد الثلاثة بالإضافة إلى مشهد روضته المباركة، ومحلّ مرقده الشريف، أربعة مشاهد ومزارات يؤمّها الناس في حوائجهم ومهمّاتهم هي من امتيازات أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، ومن خصائصه التي خصّه الله بها؛ إكراماً له على عمله بعلمه ومعرفته، وتقديراً له على تطبيقه لمعتقداته وثقافاته في الخارج، تطبيقاً حرفيّاً دقيقاً.

فهنيئاً لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ما ناله من عزّة وكرامة، ومباركاً عليه ما منحه الله تعالى من مقام ومنزلة، ومن جاه عريض وشرف رفيع، وعزّ منيع وشفاعة مقبولة، ووساطة مرضيّة محمودة.

منزلة العبّاس عليه‌السلام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

لا شكّ في أنّ جبرائيلعليه‌السلام لمّا أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الله تبارك وتعالى بشهادة سبطه الأصغر، وريحانته في الدنيا، الإمام الحسينعليه‌السلام وما يجري عليه، أخبره أيضاً عن شهادة مَنْ يستشهد معه، وخاصّة عن شهادة أخيه وصنوه، وحاميه والمدافع عنه، والذي أبلى في نصرته بلاءً حسناً، وفداه بروحه ودمه أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام .

ولا شكّ في أنّ اطّلاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مواساة أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام أخاه وإمامه الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتعرّفه على إيثاره له، علماً بأنّ هذه المواساة، وهذا الإيثار منهعليه‌السلام هو نتيجة عمله بعلمه، وتطبيقه لمعرفته، ومعتقده بإمامهعليه‌السلام ؛ فإنّ ذلك جعل لأبي الفضل العبّاسعليه‌السلام عند جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكانة مرموقة، ومنزلة محمودة، ممّا دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى التصريح بفضل أبي الفضل

٣١٩

العبّاسعليه‌السلام وكرامته، والتلويح بمقامه ومنزلته عند الله وعند رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما صرح بذلك في حقّ سبطه وريحانته الإمام الحسينعليه‌السلام ، ومن قبله في حقّ سبطه الأكبر وريحانته المجتبى الإمام الحسنعليه‌السلام .

ولكن لم يصلنا شيء من تصريحاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام - وللأسف - كما وصلنا - والحمد لله - بعض تصريحاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ الإمامين الهمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام .

ويدلّ على ذلك ما جاء في كتاب الخصال للشيخ الصدوق، باب الاثنين، الحديث الواحد بعد المئة، فإنّهرحمه‌الله بعد أن يروي فيه عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حقّ عمّه العبّاس بن عليعليه‌السلام الرواية المعروفة، ويذكر فيها إنّ الله أبدله مكان يديه المقطوعتين جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل لجعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، يقول ما نصّه: والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة... ثمّ يضيف: وقد أخرجته بتمامه مع ما رويته في فضائل العبّاس بن عليعليه‌السلام في كتاب (مقتل الحسين بن عليعليه‌السلام ).

انتهى كلامه (رفع الله مقامه)، فإنّه كما لم يصلنا كتاب مقتل الشيخ الصدوق، فكذلك لم يصلنا ما جاء فيه، وما جاء في غيره من الكتب الاُخرى من فضائل أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام التي ربّما نقلت في حقّه عن الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

العبّاس عليه‌السلام في طليعة العلماء العاملين

هذا، ولكن يمكن أن يدّعي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد عنى أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام أيضاً في روايته المرويّة عنه في مدح العلماء الأبرار العاملين بعملهم، والمطبّقين لما عرفوه واعتقدوه من الحقّ في الخارج تطبيقاً عمليّاً دقيقاً؛ وذلك لأنّ أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام هو في طليعة العلماء العاملين فيشمله مثل

٣٢٠