الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم0%

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 289

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ جعفر التستري
تصنيف: الصفحات: 289
المشاهدات: 39319
تحميل: 7822

توضيحات:

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 289 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39319 / تحميل: 7822
الحجم الحجم الحجم
الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العنوان الثاني :

في صفاته وأخلاقه وعباداته العامّة المطلقة

وليس المراد بيان صفات الإمامة ؛ فإنّها ممّا لا تصل العقول إلى كنهها، ولا يحيط ببيانها الأرقام ولا الأقلام، ويلزم على كلّ مكلّف معرفتها إجمالاً للمعرفة بحقّ الأئمّةعليهم‌السلام ، ولا بيان محض صفاته الممتاز فيها أيضاً، إنّما المقصود بيان خصوصية في صفات خاصّة وعبادات خاصّة، وهي على قسمين: الأول: صفات مطلقة، وعبادات مطلقة له على مدّة الحياة. الثاني: خصوصية لتلك الصّفات، وخصوصية للعبادة في يوم الطفّ. فكلّ من هذين عنوان مستقل، وهذا العنوان لبيان خصائصه الدائمة، وخصوصيات له في صفات خاصّة ثابتة له مدّة عمره. فنقول :

منها: إباء الضّيم

فله نحو خاصّ به قالعليه‌السلام لمّا أرادوا منه النزول على حكم يزيد، وابن زياد: (( لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد )) بل يُقال: إنّه سنّ إباء الضّيم، وأنّ أباة الضّيم يتأسّون به.

ومنها: الشّجاعة

ولها كيفية خاصّة به ؛ ولذا قيل: الشّجاعة الحسينيّة، فقد ظهرت منه في يوم الطفّ في حالته شجاعة ما ظهرت من أحد أبداً، ولم يتّفق مثلها حتّى لوالده الكرارعليه‌السلام ، ولا لغيره من المعروفين بهذه الصّفة.

ومنها: العبادة

فله منها خصوصية هي أنّه اشتغل بها في بطن اُمّه، فكانت تسمع منه الذكر والتسبيح إلى أن رُفع رأسه على الرمح، وسُمع منه الذكر وقراءة القرآن. وهذه الخصوصية زائدة على ما قاله السّجادعليه‌السلام حين قيل ]له]: ما أقلّ ولد أبيك ؟! قال: (( العجب كيف وُلدت له ! كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة )).

ومنها: مراعاة الحقوق

فقد علّم عبد الرحمن السّلمي ولد الحسينعليه‌السلام سورة الحمد، فلمّا قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار وألف حلّة، وحشا فاه درّاً، وقال: (( أين يقع هذا من حقّه )).

ومنها: العطاء للسّائلين

فلهعليه‌السلام خصوصية وهي الحياء عند

٢١

العطاء، فالناس تعرض لهم حالة ردّ السّائل وهوعليه‌السلام له حالات عجيبة تعرض له عندما يريد أن يعطيه سؤله، وتراه يرقّ على السّائل بسبب الذلّ العارض له حين إعطائه له، لا لفقره واحتياجه وصعوبة ذلك، بل لأجل السّائل وحيائه منه.

فمن ذلك قضية الأعرابي الذي سأله فدخل البيت، وشدّ له أربعة آلاف درهم في ردائه فأخرجها له من شقّ الباب حياءً منه حين أراد أن يعطيه، ثمّ أنشدعليه‌السلام قائلاً :

خذها فإنّي إليك معتذرٌ

واعلم بأنّي عليك ذو شفقهْ

لو كان في سيرنا الغذاة عص

أمست سحاباً عليك مندفقهْ

لكنّ ريب الزمان ذو غيّر

والكفّ منّي قليلة النفقهْ

ومن هذه الخصوصية: إنّه أعطى لسائل أتى إليه ألفاً، فأخذها ينقدها، فقال الخازن: بعتنا شيئاً ؟

قال: ماء وجهي.

فقال الحسينعليه‌السلام : (( صدق، أعطه ألفاً وألفاً وألفاً ؛ الأول لسؤالك، والألف الثاني لماء وجهك، والألف الثالث لأنّك أتيتنا )).

وأعطاه رجل رقعة، فقال له: (( حاجتك مقضيه قبل قراءتها )).

فقيل له: هلاّ رأيت ما فيها !

قالعليه‌السلام : (( يسألني الله تعالى عن وقوفه بين يدي حتّى أقراها )).

وهذه الصّفة الخاصّة قد بلغت فيه بحيث إنّه يستحي من ذلّ الجاهل حين يريد أن يعلمه، لا محضّ ذلّ السّائل حين يريد أن يعطيه.

كما ورد في الرواية: إنّه رأى رجلاً لا يُحسن الوضوء فأراد أن يعلّمه فاستحى من ذلّه حين يتعلّم، فقال لأخيه: (( نحن نتوضأ قدّامه ثمّ نسأله أي الوضوءين أحسن ؟ )) ففعلا ذلك، فقال الأعرابي: كلاكما تحسنان الوضوء، وأنا الجاهل الذي لا أعرف.

ومنها: رقّة خاصّة له على أهل الهموم والغموم

حتّى إنّه دخل على أُسامة بن زيد وهو محتضر ليعوده، فتأوّه أمامه، فقال: وا غمّاه !

فقالعليه‌السلام : (( ما غمّك يا أخي ؟ )). فقال: ديّن عليّ ستون ألفاً.

فقالعليه‌السلام : (( عليّ قضاؤها )). قال: أحبّ أن لا أموت مديوناً.

فأمرعليه‌السلام بإحضار المال ودفعه إلى غرمائه قبل خروج روحه.

٢٢

ومنها: الصدقات

فقد تحقّقت منه خصوصية فيها ما سمعتها من غيره ؛ وذلك إنّهم رأوا في ظهره يوم الطفّ ثفنات، فسُئل السجّادعليه‌السلام عنها، فقالعليه‌السلام : (( إنّ ذلك ممّا كان ينقله في الليل على ظهره للأرامل والأيتام المساكين )).

قال الراثي :

وإنّ ظهراً غدا للبرّ ينقله

سرّاً إلى أهله ليلاً لمكسور

ومنها: شدّة عزم وحزم خاصّ في التخليص من عذاب الله

ولذا اختار أشدّ التكاليف ليفوز بدرجة خاصّة تؤثر شفاعته في المستوجبين للعقاب وليس مقصودي بيان ذلك خاصّة، إنّما غرضي كيفية اهتمامه بذلك حتّى في حفظ أعدائه عن ذلك بالسّعي في رفع العذاب عنهم، حتّى إنّه لمّا أتى إليه مَنْ أتى لقطع الرأس تبسّمعليه‌السلام في وجهه ثمّ وعظه، وإذا رأى أنّه لا يفيد فيهم التخليص الكلّي كان يسعى لهم في التخفيف، كما في قضية هرثمة بن أبي مسلم لمّا لم تنجع فيه الموعظة، قال: (( فامض حيث لا ترى لنا مقتلاً، ولا تسمع لنا صوتاً )) وكذلك للجعفي كما سيجيء.

ومنها: شدّة خوفه من ربّه تبارك وتعالى

ولقد كان بحيث إذا توضأ تغيّر لونه، وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك، فقالعليه‌السلام : ((حقّ لمؤمن يقف بين يدي المالك القهّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله )). وقد تعجّب الناس الذين شاهدوا حالته من شدّة خوفه، حتّى إنّهم قالوا: ما أعظم خوفك من ربّك ! فقالعليه‌السلام : (( لا يأمن يوم القيامة إلاّ مَنْ خاف الله في الدنيا )). أقول: فانظر إلى سيّد الشهداء يريد الوضوء لعبادة الله كيف ترتعد فرائصه ويصفرّ لونه، ونحن نشتغل بالكبائر الموبقة ولا يحصل لنا اضطراب بوجه من الوجوه، فكيف ندّعي أنّ لنا في الحسينعليه‌السلام اُسوة ؟! وهو يرتعد عند أفضل العبادادت، ونحن لا تأخذنا أدنى واهمة عند أشدّ المعاصي ! ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

ومن صفاته الخاصّة: مدحه بالنسبة إلى المادحين

فنقول: قد مدحه الله تعالى في كتابه العزيز بمدائح: منها: أنّه النفس المطمئنة، فكما هو متعارف عند الروايات إنّها نزلت في إمامنا الحسينعليه‌السلام ، وإنّه من أبرز مصاديقها، كما إنّها سورة إمامنا الحسينعليه‌السلام ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) . ومنها: أنّه كفل من رحمته،( اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ) .

ومنها: أنّه من أعلى أفراد

٢٣

الوالد الذي قضى ربّك بالإحسان إليه،( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) . فهل أحسنت إلى هذا الوالد يوماً ؟

ومنها: أنّه قُتل مظلوماً غريباً،( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ) .

ومنها: أنّه ذِبح عظيم،( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) . ومنها:( كهيعص ) .

وقد سمّاه بأسماء :الأول: الفجر،( وَالْفَجْرِ ) .

الثاني: الزيتون،( وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) .

الثالث: المرجان،( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ) .

وقد كتُب مدحه عن يمين العرش: (( إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة )).وقد مدحه في الأحاديث القدسية بمدائح :منها: ما في حديث وضع اليدين، قال تعالى: (( بورك من مولود عليه صلواتي ورحمتي وبركاتي )) وقد وصفه بأنّه: (( نور أوليائي، وحجتي على خلقي، والذخيرة للعصاة )) كما سيجيء تفصيله في عنوان الألطاف الخاصّة.وقد مدحه رسول الله المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله بمدائح عجيبة :منها: أنّه (صلوات الله تعالى عليه وآله) قال له يوماً: (( مرحباً بك يا زين السماوات والأرض )) وقال أُبي بن كعيب: وهل غيرك زين السماوات والأرض ؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( يا اُبي، والذي بعثني بالحق نبيّاً إنّ الحسين بن عليعليه‌السلام في السماوات أعظم ممّا في الأرض، وقد كتب الله في يمين العرش أنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة )).

ثمّ أخذ بيده وقال: (( أيّها الناس، هذا الحسين بن علي فاعرفوه، وفضّلوه كما فضّله الله تعالى )) إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات الكثيرة المستفيضة.وقد مدحه جميع الأنبياء والملائكة، وعباد الله الصالحين، لكنّ خصوصيته في الممدوحية أنّه ممدوح الأولياء والأعداء فقد اختصّ بمدح أعدائه له، فقد مدحه معاوية في وصيته ليزيد، ومدحه ابن سعد في بعض أبياته، ومدحه قتلته حين وقفوا لمبارزته وأشهدهم، ومدحه شمر قاتله حين قال له: كفء كريم، ليس القتل بيده عاراً ومدحه سنان حين اشتغل بقتله، فقال :

أقتلك اليوم ونفسي تعلمْ

علماً يقيناً ليس فيه مكتمْ

ولا مجال لا ولا تكتمْ

إنّ أباك خير مَنْ تكلمْ

ومدحه رافع رأسه حين جاء به إلى ابن زياد ،فقال :

املأ ركابي فضة أو ذهبا

إنّي قتلتُ السيد المحجّبا

قتلت خير الناس أُمّاً وأبا

وخيرهم إذ ينسبون نسبا

وقد مدحه يزيد في مجلسه حين دخلت عليه هند زوجته في مجلس

٢٤

عام حاسرة، فغطّاها، فقال (لعنه الله تعالى): اذهبي وابكي واعولي على الحسين صريخة قريش ؛ فقد عجّل عليه ابن زياد(١) .

فإذا كان قول عدوّه الفاسق الفاجر يزيد: اعولي عليه، فما بالكم ساكتون عن البكاء ؟! أما تنادون بالعويل على سيّد شباب الجنان ؟!

خاتمة

هذه نبذة من أوصافه ومدائحه، وقد حاولت أمراً صعباً، وأنّى لي بمعرفة مَنْ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه بعد جميع ما تبين: (( اعرفوه وفضّلوه كما فضّله الله تعالى )) ؟!

فلنقتصر على ذكر صفة خاصّة من خصائصه، وهي من فروع جميع الأضداد في صفاته، وتلك الصّفة الخاصّة أنّهعليه‌السلام موجب للحزن والسّرور، وأنّه سبب الأسف وسبب الفرح.

بيان ذلك: إنّه حيث كان سبب الحزن لكلّ مؤمن بالله تعالى، ومن أوّل خلقه إلى يوم البعث ؛ لأسباب كثيرة قد أشرنا إلى بعضها وسنذكرها، بل وقد صار سبباً للحزن لأهل تلك النشأة التي هي ليست بدار حزن، فجعله الله تعالى سبب الفرح والسّرور لكلّ مؤمن جبراً له وفطرة، وذلك بأنّ الله تعالى خلق الجنّة والحور من نوره حين الاشتقاق من الأنوار، كما في رواية عن أنس بن مالك، عن النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (( إنّ الله تعالى خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم، حين لا سماء مبنيّة، ولا أرض مدحيّة، ولا ظلمة ولا نور، ولا شمس ولا قمر، ولا جنّة ولا نار )).

فقال العبّاس: كيف كان بِدءُ خلقكم ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( يا عمّ، لمّا أراد الله تعالى أن يخلقنا تكلّم بكلمة خلق منها نوراً، ثمّ تكلّم بكلمة اُخرى خلق منها روحاً، ثمّ مزج النور بالروح فخلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين، فكنّا نسبّحه حين لا تسبيح، ونقدّسه حين لا تقديس فلمّا أراد الله تعالى أن يُنشئ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش ؛ فالعرش من نوري، ونوري من الله، ونوري أفضل من العرش.

ثمّ فتق نور أخي فخلق منه الملائكة ؛ فالملائكة من نور علي، وعلي أفضل من الملائكة.

ثمّ فتق نور ابنتي الزهراء فخلق منه السماوات والأرض ؛ فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة، ونور

____________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٧٤.

٢٥

ابنتي فاطمة من نور الله تعالى، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض.

ثمّ فتق نور ولدي الحسن فخلق الشّمس والقمر من نور ولدي الحسن، ونور الحسن من نور الله تعالى، والحسن أفضل من الشّمس والقمر.

ثمّ فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنّة والحور العين ؛ فالجنّة والحور العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله تعالى، وولدي الحسين أفضل من الجنّة والحور العين )).

والحسين عبرة كلّ مؤمن، وفرحة كلّ مؤمن

ومن العجائب في هذه الخصوصية أنّه سبب الفرح به، وهو الجنّة والحور العين ؛ [حيث] صار سبباً لعروض الحزن لها ؛ فهو سبب الحزن حين تسبب السّرور ؛ فإنّ الجنّة قد بكت عليه لمّا وقع طريحاً، والحور العين قد لطمت عليه في أعلى عليّين.

وأعجب من ذلك: أنّه حيث صار سبباً لحزن الجنّة صار سبباً لفرحها أيضاً ؛ فإنّها قد طلبت من ربّها أنْ يزيّنها، فزّين الله تعالى أركانها بالحسن والحسينعليهما‌السلام ، فماست كما تميس العروس فرحاً، والحمد لله ربّ العالمين.

انتهى العنوان الثاني

العنوان الثالث :

في خصائص صفاته وأخلاقه وعباداته يوم عاشوراء

لهذه الخصائص خصوصية ظهرت في صفاته وعباداته يوم عاشوراء بالخصوص، وهي منشأ جميع الخصائص، ألا وهي امتثاله لخطاب خاصّ به من الله تعالى قد امتثل بعبادة خاصّة به في يوم واحد، وتحقّقت بالنسبة إليه ألطاف خاصّة في مقابل أجزاء تلك العبادة، أو لنقل العبودية للربّ.

وهي عبادة ما تحقّقت من أحد قبله، ولا تحصل لأحد بعده، وهي عبادة جامعة لما يتصوّر من العبادات البدنية الواجبة والمندوبة، ظواهرها وبواطنها، روحها وصورتها، وأتى بأكمل أفراد كلّ واحد منها.

فعَبَد الله تعالى بجميع مفردات تلك الكلمة وتراكيبها ،

٢٦

وبهيئة اجتماعها في ظرف يوم واحد، وأظهر مع ذلك فيه جميع مكارم الأخلاق والصّفات الحسنة، متلائمها ومتضادّها، بأكمل أفرادها، وأضاف إلى ذلك تحمل أعظم الشدائد والابتلاء الحاصل لكلّ مبتلى، والصّبر عليها بأكمل أنواعه، بل الشكر عليها بأكمل وجوهه، وحازت هذه العبادات من كلّ مزية وخصوصية موجبة للفضيلة أزكاها وأسناها، وزادت على ذلك كلّ خصوصية للعبادة في الشدّة التي هي من خصوصيات بعض الأنبياءعليهم‌السلام والذين باهى الله تعالى بهم ملائكته.

لذلك حصلت له من جميع ذلك خصوصية عبادة لم يكن له شريك فيها، وبسببها اختصّ بنداء خاصّ بقوله (عزّ وجلّ):( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ، واختص برضاه عن ربّه تعالى ورضاه عنه( رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ، واختصّ بعبودية خاصّة وجنّة خاصّة منسوبة إلى الله تعالى( فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

فلنشرع في تفصيل هذه العبادة بعون الله تعالى، فنقول: اعلم أنّ الله (جلّ جلاله) كلّف عباده بحسب مراتبهم ودرجاتهم ومصالحهم، فجعل لكلّ نبيّ شرعة ومنهاجاً له ولأمّته، ولكلّ منهم خصائص بالنسبة إلى أوصيائهم، كما جعل الله تعالى الملّة الحنيفية السّمحة السّهلة لنبيّنا محمد المصطفى (صلوات الله عليه وآله)، ولكن جعل له خصائص كثيرة تبلغ إحدى وعشرين أو أزيد، وجعل لأوصيائهعليهم‌السلام بالنسبة إلى ما يتعلّق بإمامتهم ودعوتهم إلى الدين أحكاماً خاصّة مثبتة،( صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) ، فجعل لكلّ واحد في ذلك تكليفاً خاصّاً بيّنه لهم في صحيفة مختومة باثنتي عشرة خاتماً من ذهب لم تمسّه النار.

جاء بالصحف جبرئيلعليه‌السلام إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاته، وقال: يا محمد، هذه وصيتك إلى النخبة من أهل بيتك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( ومَنْ النخبة ؟ )).

قالعليه‌السلام : علي بن أبي طالب ووُلده.

فدفعها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سيد الوصيين علياًعليه‌السلام وأمره أن يفك خاتماً منها ويعمل بما فيه، ثمّ دفعها إلى ابنه الحسنعليه‌السلام ، ففكّ خاتماً فعمل بما فيه، ثمّ دفعها إلى أخيه الحسينعليه‌السلام ، ففكّ خاتماً فوجد

٢٧

فيه: أن اخرج بقوم للشهادة، لا شهادة لهم إلاّ معك، واشرِ نفسك لله تعالى أي بمعنى: بع نفسك لله ثمّ دفعها إلى علي بن الحسين (صلوات الله عليهما)، ففكّ خاتماً فوجد فيه: اطرق واصمت، والزم منزلك، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين.

ولمّا كان من التكليف المختصّ بالحسينعليه‌السلام ( بع نفسك )، والمراد به في خصوص يوم القتال، فلا بدّ أن يجمع في ذلك اليوم بين كلّ عبادة بدنية وقلبية وفعلية وتركية ؛ واجبة ومستحبة، بأنواعها وأقسامها، وأصنافها وأشخاصها، المشتركة بينه وبين غيره، والمختصّة بهعليه‌السلام ، فاستحق المعاملة الكلية مع الله تعالى، وأن يعطيه كلّ ما يمكن أن يعطيه المخلوق، وقد فعل ذلك.

وحصلت له بإزاء ذلك ألطاف خاصّة جليلة وخفية، وتفصيل هذه المعاملة، وبيان هذه العبادة إنّما يتحقّق بأن نعنون للعبادات والأخلاق على نحو ما في كتب الفقه، ثمّ نذكر كيفية تأديته لها، ثمّ بعض خصوصيات جمعها وتركيبها.

كتاب العبادات البدنية الواجبة

وفيه أبواب :

أولاً: باب الطهارة الظاهرية العامة

فقد اغتسل ليلة شهادته بماء أتى به ولده علي مع علمه بأنّهم يضطرون إليه، وهذا من خصائصه فاختص بالجمع بين أقسام الطّهارات، ثمّ تطّهر بطهور خاصّ هو دم قلبه، فتوضأ منه بغسل الوجه، ثمّ اغتسل غسل ترتيب بدمائه، فغسل بها رأسه ثمّ بدنه، ثمّ غسل بها غُسل ارتماس تارة اُخرى.وأمّا الباطنية الخاصّة: فقد توضأ في يوم العاشر بوضوء خاصّ، فملأ كفه من بعض دمائه وغسل بها وجهه وخضّبه، ثمّ تيمم صعيداً طيّباً مباركاً فمسح به وجهه، واضعاً عليه جبهته حينما تهيّأ لتسليم ما باعه لله تعالى.

ثانياً: باب الصلاة

في الزيارة الجامعة ورد: (( وأقمتم الصّلاة )) وفي زيارة الحسينعليه‌السلام بالخصوص: (( وأقمت الصّلاة )).فله إقامة الصّلاة المختصّة به، فقد صلّى في ذلك اليوم بأربعة أقسام من الصّلوات.

القسم الأوّل: الوداع لصّلاة الليل، وهي التي لها استمهل القوم ليلة عاشوراء.

القسم الثاني: صلاة الظهر في

٢٨

ذلك اليوم على طريقة صلاة الخوف، بنحو خاصّ به غير صلاة عسفان وذات الرقاع وبطن النخل(١) .القسم الثالث: روح الصّلاة من أسرار أفعالها وأقوالها وكيفيتها على ما هو مذكور في كتاب الصّلاة.القسم الرابع: صلّى صلاة خاصّة به بتكبير خاصّ وقراءة خاصّة، وقيام خاصّ وركوع خاصّ وسجود وتشهّد وتسليم أحرم لها حين نزل من الفرس وقام حين وقف راجلاً، وركع حين كان ينوء(٢) ويكبو(٣) ، وقنت بقوله: (( اللّهمّ متعالِ المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّاً عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادراً على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النّعمة، حسن البلاء، قريباً أذا دُعيت، محيطاً بما خلقت، قابل التوبة لمَنْ تاب إليك، قادراً على ما أردت، ومُدرِكاً ما طلبت، شكوراً إذا شُكِرت، وذكوراً إذا ذُكِرت.أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، واستعين بك ضعيفاً، وأتوكّل عليك كافياً، احكم بيننا وبين قومنا ؛ فإنّهم غرّونا وخدعونا، وخذلونا وغدروا بنا، وقتلونا ونحن عترة نبيّك، وولد حبيبكصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً، برحمتك يا أرحم الراحمين )).

ثالثاً: باب الصوم

قد وقع التكليف به مختلفاً، وهو اثنا عشر قسماً ذكرتها في فصل مستقل، وأعلاها صوم الحسينعليه‌السلام ، فقد أتى بصومٍ أمسك فيه عن الطعام وشرب الماء.

وأضاف إليهما الإمساك عن جميع علائق القلوب والأبدان ؛ ولذا جعل الله تعالى لصومه إفطاراً خاصّاً، أهداه إليه على يد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو منتظر لوقت الإفطار كما أخبره به ولده علي الأكبرعليه‌السلام ، وقال: هذا جدّي بيده كأس مذحورة لك.

رابعاً: باب الجنائز

يجب تجهيز الأموات وتغسيلهم وتكفينهم وتحنيطهم والصّلاة عليهم، إلاّ الشهيد في المعركة فيجب الصّلاة عليه ودفنه بثيابه، ويستحبّ التشييع لجنائزهم وحملها، والتربيع في حملها وغير ذلك، إلاّ الحسينعليه‌السلام لم يتمكن من الواجبات ؛ ولعلّه أتى بأقل الواجب من الصّلاة حسب الإمكان.وأمّا الدفن فروي أنّهعليه‌السلام حفر لرضيعه بسيفه فدفنه ؛

____________________

(١) عسفان: أي موضع بين مكة والمدينة، وذات الرقاع: مخازن بنجد كانت تمسك الماء لبني كلاب، وبطن النخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة.

(٢) أي ينهض ويقوم.

(٣) أي يسقط.

٢٩

لنكات :الأوّل: التمكّن منه وحده.

الثاني: أن لا يُقطع رأسه.

الثالث: أن لا يبقى مطروحاً ثلاثة.

الرابع: أن لا يُرضّ بحوافر الخيول.

الخامس: عدم القدرة على النظر إليه.ولا ننسى أنّه روي أنّ أكثر من رضيع للحسين قُتل يوم الطفّ نعم، قد فعل ما تمكّن منه، من حمل الأجساد وجمعها، ووضع بعضها على بعض، فإذا وجد مَنْ يحمل الجنازة معه فعل، ومع عدم الوجدان كانعليه‌السلام يحمل بنفسه ويشيع ويربّع.

خامساً: باب الزكاة والصدقات

فقد أدى زكاة البدن، وزكاة المال، لا العشر وربع العشر، بل جميعه حتّى الثوب العتيق الذي لا قيمة له، ودفع ليلة عاشوراء أثواباً قيمتها ألف دينار لفكّ الرقاب(١) .

سادساً: باب الحجّ

قد امتاز حجّه من عباداته بخصوصيات، سنذكرها في عنوان ما يتعلّق منه ببيت الله إن شاء الله تعالى.

سابعاً: باب الجهاد

في زيارة الجامعة: (( وجاهدتم في الله حقّ جهاده )) وفي زيارة الحسينعليه‌السلام بالخصوص: (( أشهد أنّك قد جاهدت في الله حقّ جهاده )) نعم، له خصوصيةعليه‌السلام في الجهاد ؛ فاُمر بجهاد خاصّ في أحكامه لم يُؤمر به أحد قبله.وذلك من وجوه :الأوّل: أنّ من شرائط الجهاد في أوّل الأمر أن يكون الواحد بعشرة لا أكثر، فيلزم ثبات كلّ واحد في مقابل عشرة من الكفار، ثمّ خفّف الله تعالى عنهم وعلم أنّ فيهم ضعفاً فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين، فلم يوجب الجهاد إذا كان عدد العدو عشرة أضعاف المجاهدين، ولكن قد كتب عليه القتال وحده في مقابل ثلاثين ألفاً أو أكثر.الثاني: أنّه لا جهاد على الصّبيان ولا على الهرم، وهو الشيخ الكبير، وقد شرع الجهاد في واقعته على الصّبيان، مثل القاسمعليه‌السلام وابن العجوز (سلام الله عليهما)، بل على مثل عبد الله بن الحسنعليه‌السلام ، وعلى الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر (سلام الله عليه).الثالث: أن لا يظنّ الهلاك، ولكنّهعليه‌السلام قد علم بأنّه يُقتل، فقال لأصحابه: (( أشهد أنّكم تقتلون جميعاً، ولا ينجو

____________________

(١) وهو كما ورد في اللهوف ـ لابن طاووس / ٤١.

٣٠

أحد منكم إلاّ ولدي علي )).ثمّ إنّ أعداءه خالفوا في سلوكهم معه حتّى الأحكام التي جعلها الله تعالى للقتال مع الكفّار وهي كثيرة.

منها: عدم القتال في الشهر الحرام، ولكنّهم قاتلوه فيه.

ومنها: أن لا يقتل صبيّ ولا امرأة من الكفّار، ولكنّهم قتلوا منه صبياناً بل رُضّعاً ؛ فرضيعاً حين أراد تقبيله، ورضيعاً حين أراد منهم أن يسقوه.

ومنها: أن لا يحرق زرعهم، وقد احرقوا بعض خيامه أثناء حياته، وأرادوا حرقها مع مَنْ فيها فخاب كيدهم، ولكنّهم أحرقوا بعضها الآخر بعد قتله.

ومنها: أن لا يهجموا دفعة ؛ إذ الشّرط الوحدة في المبارزة، ولو مع الكفّار.

ومنها: أن لا يبدؤوا في الهجوم قبل الظهر، بل العصر ؛ حتّى لا تطول المقاتلة ويحول الليل بينهم ؛ لئلاّ يُستأصلوا.ومنها: أن لا يُنقل رأس من المعركة(١) ، وقيل: إنّه يكره نقل رؤوس الكفّار إلاّ مع نكاية بهم، فأصل قطع رأس الكافر جائز، ونقله في أرض المعركة جائز، ولكن لا يجوز أن يُنقل من الميدان ومحلّ الحرب إلى مكان آخر.

ومنها: أن لا يُسلب كبير الكفّار إلاّ إذا قُتل، حتّى إنّ علياًعليه‌السلام لمّا قتل عمراً، وهو الكفر كلّه، لم يسلب منه حتّى درعه الذي لم يكن له نظير في ذلك الزمان على ما قيل، ولم يكن من لباسه، وقد سُئلعليه‌السلام عن ذلك فقال: (( إنّه كبير قوم، ولا أُحبّ هتك حرمته )).

وذلك حينما قال المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: (( برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه )) ؛ وبذلك فرحت أُخته لمّا رأت أخاها غير مسلوب، وعلمت أنّ قاتله عليعليه‌السلام ، فكان فرحها لشيئين :

أحدهما: أنّ قاتله كفء كريم، وشخص جليل ؛ لذا قالت :

لو أنّ قاتل عمر غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

وثانيها: أنّهعليه‌السلام قد احترمه بعدم سلب درعه ؛ لذا قالت: لا رقأت دمعتي إن أهرقتها تعني أنّ سروري باحترام قاتلك لك قد أنساني مصيبة قتلك فلا أبكيك، بل يُقال: إنّها هلهلت فرحاً، وقالت: يا أخي، عشت طويلاً جليلاً مكرماً، وقُتلت بيد جليل محترماً ثمّ أنشدت :

لكنّ قاتله مَنْ لا يُعاب له

وكان يُدعى أبوه بيضةَ البلدِ(*)

____________________

(١) كما جاء في كتاب المبسوط ـ للشيخ السيوطي ٢ / ٣٣.

(*) ورد المصراع الثاني في هذا الكتاب: ( وكان يُدعى قديماً ببيضةِ البلد ) ، وفيه خلل عروضي واضح، وما أثبتناه هو الصحيح ؛ إذ ذكرته بهذا النحو جلّ مصادر التاريخ (موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٣١

فما أدري لو كان قاتل أخيها ابن راعية المعزى، أبقع أبرص من أرذل الناس، فما كانت تصنع ؟!

ومنها: أن لا يُمّثل بقتيل من الكفّار، حتّى إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام نهى عن المُثلة بأشقى الاشقياء من الأوّلين والآخرين، وهو ابن ملجم، فقالعليه‌السلام :(( إذا متُ فلا تمثّلوا به بعدي )).

وهذا الحكم ثابت عند الكفّار، وعبدة الأصنام أيضاً في الجاهلية، حتّى بالنسبة إلى المسلمين الذين قُتلوا فإنّ أبا سفيان لمّا وقف يوم اُحد على الشهداء بعد فرار المسلمين في الأطراف، ورأى جسد الحمزة، جاء إليه ووضع الرمح على فمه وضعاً وشمت بقتله، وقال: ذُق يا شاق يا عاق.

لكن لمّا رأى المثلة في أصابعه وبطنه وإخراج كبده، صاح بأعلى صوته: يا أتباع محمد، إنّ قتلانا في قتلاكم مُثلة والله ما أمرت بهذا، ولا رضيت به.

ولكن قد أمر بأعظم المُثلة دعيُ أبي سفيان، فكتب إلى ابن سعد: إذا قتلت حسيناً اركب الخيل ظهره وصدره، ولست أرى أنّ هذا يضرّ بعد الموت شيئاً، لكن على قول قد قلته: لو قتلته لفعلت هذا به.

ومنها: أن لا يُمرّ بنساء الكفّار إذا أُسرن على رجالهن القتلى ؛ ولذا عاتب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله بلالاً حين مرّ بصفية أسيرة على قتلى اليهود حتّى ارتجف وارتعدت فرائصها، ولكن عظمة المصيبة بالنسبة إلى سبايا آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ليست في مجرّد المرور بهنّ على قتلاهنّ مضرجين بالدماء، بل في اصطحابهنّ لقتلاهنّ أياماً كثيرة تزيد على الشهر، وكون رؤوس القتلى بمنظرهنّ.

ومنها: أنّ النساء من الكفّار إذا اُسرنَ واسترققنَ، وكنّ من بنات السلاطين فلا يُعرضنَ للبيع في الأسواق، ولا يوقفنَ في المجالس، ولا تُكشف وجوههنَ كسائر نساء الكفّار، ولكن روي عن الباقرعليه‌السلام أنّه جيء بسبايانا إلى الشام مكشّفات

٣٢

الوجوه، فقال أهل الشام: ما رأينا سبايا أحسن وجوهاً من هذه السبايا(*) .

ومع ذلك فقول الشامي ليزيد: هب لي هذه الجارية، يقرع الكبد أكثر من العرض للبيع.

ثامناً: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لهعليه‌السلام من ذلك قسم لم يُكلّف به غيره، حتّى إنّه تبسّم في وجه قاتله ووعظه لمّا أراد قتله، ووعظ رأسه الشّريف الراهب ودعاه إلى الحقّ فأسلم على يديه.

كتاب العبادات المستحبة

أولاً: باب سقي الماء

والظاهر أنّه مستحبّ حتّى للكفّار في حال العطش والبهائم، وواجب في بعض الأوقات، وأجره أوّل أجر يُعطى يوم القيامة(١) وقد تحقّقت منهعليه‌السلام أنواع السقي كلّها حتّى السقي للمخالفين له، والسقي لدوابهم بنفسه النفيسة، وسقي ذي الجناح، فقال: (( اشرب وأنا أشرب )) وحصلت منه أنواع الاستسقاء كلّها حتّى بحفر البئر بيده الشّريفة، وبالسؤال منهم بلسانه وبرسوله مقللاً لكميته حتّى بلغ السؤال لقطرة أيضاً.

ثانياً: باب الإطعام

( فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ) وكفى في فضله أنّ الخلاص من العقبة قد حُمل عليه في الآية الشّريفة، والحسينعليه‌السلام لم يتمكّن من هذه العبادة بالخصوص، مع إنّ يوم عاشوراء علاوة أنّه كان يوماً ذا عطش فقد كان يوماً ذا مسغبة أيضاً.

إنّ الطعام كان مفقوداً عندهم في ذلك اليوم ؛ ولذا قال السجّادعليه‌السلام : (( قُتل ابن رسول الله جائعاً، قُتل ابن رسول الله عطشانَ )) لكن من جهة شدّة العطش لم يتحقّق ذكر الاستطعام ؛ لأنّه مذلّة عظيمة لا تتحمّلها النفوس الأبية، بل وتستنكف الإطعام وإن حصل بدون استطعام في هذه الحالة.ولذا لمّا أطعم أهل الكوفة الأطفال التمر والجوز صاحت بهم أمّ كلثومعليها‌السلام : يا أهل الكوفة، إنّ الصدقة علينا حرام وأخذت هي وزينب ما في أفواه الأطفال ورمته إليهم ؛

____________________ ــ

(*) لم نعثر على هذه الرواية في المصادر المعتبرة نعم ذكر الشيخ الصدوق في حديث أبي نعيم عن حاجب عبيد الله بن زياد (لعنه الله) قوله: ( قالوا: فلمّا دخلنا دمشق اُدخل بالنساء والسبايا بالنهار مكشّفات الوجوه، فقال أهل الشام الجفاة: ما رأينا سبايا أحسن من هؤلاء ! فمَنْ أنتم ؟ فقالت سكينة ابنة الحسينعليه‌السلام : نحن سبايا آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ) الأمالي ـ للشيخ الصدوق / ٢٣٠ (موقع معهد الإمامين الحسنين)

(١) كما ورد في كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه ٢ / ٣٦.

٣٣

فإنّ الطعام في هذه الحالة صدقة فيها إهانة وذلّة ؛ فيحرم عليهم وإن لم يكن زكاة.

ثالثاً: باب ملاطفة الآباء أولادهم

فإنّه مستحبّ، ولتفريح البنات خصوصية في الفضيلة، وقد تحقّق ذلك منه بأحسن وجوهه، وذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينةعليها‌السلام ، بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها فما ازدادت إلاّ غصّة وحزناً.

رابعاً: باب ردّ العادية وإغاثة الملهوف

له من هذين المستحبّين ما لم يتحقّق لغيره منذ صارا من المستحبات ؛ فقد ردّ العادية أحسن ردّ لمّا صرخت النساء حين الإحاطة بهنّ، فقال لهم: اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي.

وقد أغاث اثنين وسبعين لهيفاً من أصحابه (رضوان الله عليهم) حين كانوا ينادونه إذا صرعوا ليحضر عندهم، فأغاثهم كلّهم، وأغاث سبعة وعشرين لهيفاً من أهل بيتهعليهم‌السلام نعم، عزّ عليه، ويعزّ ذلك علينا أنّ بعض إغاثاته صارت سبباً لشدّة المصيبة على مَنْ أغاثه، كما اتفق في إغاثته لابن أخيه على ما سيجيء إن شاء الله ؛ ولذا قالعليه‌السلام : (( عزّ والله على عمّك أن يجيبك فلا ينفعك )).

خامساً: باب إدخال السرور على المؤمن، وزيارته

وهما من أفضل الأعمال كما في الروايات، وقد سعىعليه‌السلام في إدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات في ذلك اليوم ؛ تسليات وملاطفات، وأمر بالصبر ووعظ، لكن حيث إنّ الميدان أرض كرب وبلاء بذاته، وإنّ يوم عاشوراء يوم أسف وحزن بذاته لم يمكن أن يحصل سرور في قلوبهم وأمّا الزيارة فقد حصلت منه بعناوين مختلفة.

سادساً: باب عيادة المريض

التي ورد فيها: (( إنّ عيادة المؤمن بمنزلة عيادة الله جلّ جلاله )) وقد ظهر منهعليه‌السلام عيادة للمرضى والمجروحين حين دعوه إليهم ليعودهم، فلم يكتفِ بمحض المجيء والجلوس عندهم، بل كان يخصّ بعضهم بملاطفات خاصّة، وخصوصاً الغرباء منهم، كالعبد الأسود، والغلام التركي

٣٤

الذي جاء إليه ووجده قتيلاً ولكنّهعليه‌السلام أراد عيادة واحد منهم فلم يتحقّق ذلك وهو ابنه ؛ فإنّه لأدبه لم يدعه، لكنّه لمّا سمع سلامه جاء إليه عالماً بأنّه لا يدركه حيّاً، فصاح :(( يا بُني، قتلوك! )).

نعم، تحقّقت منه عيادة لولده السجّادعليه‌السلام وسؤال عن حاله حين أراد المبارزة، لكنّها كانت آخر عيادة لموت العائد الصحيح قبل المريض المعاد، وتفصيلها في عنوان الشهادة.

سابعاً: باب تلاوة الذكر والدعاء

أمّا التلاوة: فقد كان يتلو كتاب الله تعالى آناء الليل وأطراف النّهار، ومع ذلك فقد استمهل الأعداء ليلة عاشوراء لأمور [ كان ] أحدها التلاوة، فقد اهتدى بسماع تلاوته ومناجاته ثلاثون رجلاً في تلك الليلة، وعبروا إليه من عسكر ابن سعد، واستشهدوا بين يديه، وتلا القران الكريم في يوم عاشوراء في مقامات خاصّة: أحداها حين وقف لولده قبالة القوم، وقد دامت تلاوته إلى حين رفع رأسه على الرمح، فسُمعت منه سورة الكهف.

وأمّا الذكر: فإنّ جميع حالاته وأفعاله وأقواله، وحركاته وسكناته من عصر تاسوعاء إلى عصر عاشوراء كانت ذكراً لله تعالى، وتذكّراً للميثاق، وتعاهداً له حتّى أدّى أمانته، ولم ينشغل بشيء من اللوازم البشرية والجسدية حتّى أكل الطعام، هذا مع إنّه كان رطب اللسان دائماً بالذكر حتّى حين يبس لسانه.

وأمّا الدعاء: فقد اشتغل به من أول الليل، وهو أحد الأمور التي استمهل الأعداء لأجلها ليلة عاشوراء، فاشتغل به في تلك الليلة إلى الصّباح.

ودعا أوّل الصبح بقوله: (( اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته أليك ؛ رغبة منّي إليك عمّن سوال، ففرّجته )) ثمّ كان آخر دعاء دعا به وهو طريح: (( اللّهمّ متعالي المكان، عظيم الجبروت )) والذي مرّ ذكره آنفاً.

كتاب العبادات القلبية والصّفات الحميدة

اعلم أنّهعليه‌السلام قد

٣٥

أبرز الأعلى من جميع مكارم الأخلاق في ذلك اليوم، ولنذكر أوّلاً الأخلاق والصّفات، فقد ورد في الرواية: إنّ الله تعالى قد خصّ بها رسله وهي اثنتي عشرة صفة كما في بعض الروايات :

منها: اليقين وقد حصل له أعلاه ؛ فإنّ حقيقة اليقين أن تصرف النفس عن الدنيا، وتتجافى عنها، وقد حصل له يوم خرج من المدينة، ولمّا نزل كربلاء كتب إلى أخيه وسائر بني هاشم: (( من الحسين بن علي إلى أخيه محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم أمّا بعد، فكأنّ الدنيا لم تكن، والآخرة لم تزل )) فإنّه جعل الدنيا كأن لم تكن، وهذا عبارة عن تجافي القلب عنها بالكلّية.

ومنها: الرضا

وقد كانعليه‌السلام في أعلى درجات الرضا، فلمّا أراد الخروج من مكة: (( كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفاً، وأجربة سبغاً لا محيص عن يوم خطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت (صلوات الله تعالى عليكم) نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصّابرين )) فإنّه رضي بأعظم مصائبه، وهو تقطّع الأوصال ؛ إمّا بالجراح، أو بالرض إلخ.

ومنها: السّخاء

وقد سخاعليه‌السلام لا بجميع ماله فحسب، بل وبما يتعلّق به.

ومنها: الشّجاعة

وقد ورث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شجاعته كما في الرواية، فظهرت منهعليه‌السلام في ذلك اليوم شجاعة يُضرب بها المثل، لا أقول: إنّهعليه‌السلام أشجع منه أبيه وجدّه المصطفى (صلوات الله تعالى عليهم)، بل أقول: إنّه لم يتّفق لأبيه ولا لجدّه المصطفى ولا لغيره من الشّجعان المشهورين مثل ذلك أي لم يُقدّر للنبي المصطفى ولا لأخيه وابن عمّه المرتضى علي (صلوات الله تعالى عليهما) لم يُقدّر أن يكون لهما يوم كيوم الإمام الحسينعليه‌السلام . وكما قال عبد الله بن عمّار: ما رأيت مكثوراً(١) قطّ قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه ! ولقد كان يحمل عليهم وقد تكمّلوا نيفاً وثلاثين ألفاً، فينهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر فأصل الحملة على ثلاثين ألفاً ناشئ عن قوّة قلب، ودالّ على كمال الشّجاعة.ومنها: الوقار والطمأنينة وقد ظهر منه فرد كامل توحّد فيه ؛ فإنّه كان كلّما اشتدّ عليه الأمر يوم عاشوراء يكثر وقاره، ويزيد اطمئنانه ،

____________________

(١) أي الذي كثُرت عليه البلايا وعظُمت.

٣٦

ويشرق لونه.

ومنها: رقّة القلب

فكان يرقّ قلبه على كلّ مَنْ كان معه ؛ لشدّة ابتلائهم، ويسعى في رفع المصاعب عنهم ؛ ولشدّة رقّة قلبه وروحه الطاهرة عظمت مصائبه فمِن رقّة قلبه: أنّه بمجرد رؤية ابن أخيه مريداً للمبارزة، وهو يتيم حائر عطشان مكروب، بكى حتّى غُشي عليه، فكيف تكون حاله إذا رأى حاله مُرضّضاً قد وطأته الخيول بسنابكها حتّى مات من ذلك.

ومنها: الحلم

ويكفي فيه أنّه مع جميع هذه الحالات تحمّل الضّرب والجراحات، وما دعا عليهم إلاّ إذا جُرح باللسان جرحاً لم يتحمّله، حتّى إنّ بعض مَنْ ضربه بالسيف، وسبّه كـ ( مالك بن بسر ) لم يدعُ عليه حين ضربه، بل دعا عليه حين سبّه وهذا لا ينافي الحلم ؛ فإنّ تحمّل الاستخفاف إذلال للنفس لا حلم ؛ ولذا قالعليه‌السلام : (( الموت خير من ركوب العارِ )).

ومنها: حسن الخُلق

وقد ظهر منهعليه‌السلام ، مع ما كان عليه مدّة عمره في يوم عاشوراء وليلتها، كيفيات عجيبة تظهر بملاحظة سلوكه مع كلّ واحد من الأصحاب والأهل، والعيال والخدم والعبيد بحيث يعلم تفردّه مَنْ لاحظ جزئيات حالاته في ذلك الوقت الموجب لتشتت الفكر.

ومنها: المروءة

وقد ظهر منهعليه‌السلام من هذه الصّفة معهم من سقي الماء، وعدم الرضا بنصرة الجنّ، ما يقضي منه العجب، وأعجب من ذلك أنّه أراد أحد أصحابه أن يرمي شمراً بسهم قبل التحام القتال حين جاء يكلّمهم، فقالعليه‌السلام : (( لا ترمه ؛ فإنّي لا أبدأ بالقتال )).

ومنها: الغيرة بالنسبة إلى النفس، وبالنسبة إلى الأهل والعيال

أمّا بالنسبة إلى النفس فأقواله في ذلك ؛ شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة، وأفعاله الدالّة على ذلك كثيرة لكن قد أقرح القلب واحد منها وهو أنّهعليه‌السلام لمّا ضعف عن الركوب لضربة صالح بن وهب نزل، أو سقط عن فرسه

٣٧

على خدّه الأيمن، وقد قيل بطعنه على خاصرته طعنة منكرة، فلم تدعه الغيرة على العيال وتجنّب الشماتة أن يبقى ساقطاً ؛ لذا قام (صلوات الله عليه)، وبعد ذلك أصابته صدمات أضعفته عن الوقوف، فجلس (صلوات الله تعالى عليه) وتحاماه الناس حين جلوسه وعليه جبة خز، ثمّ أصابته صدمات أضعفته عن الجلوس، فجعل يقوم مرّة ويسقط أُخرى، كلّ ذلك لئلاّ يروه مطروحاً فيشمتوا به.

وأمّا بالنسبة إلى العيال فقد بذل جهده في ذلك من حفر الخندق وإضرام النار فيه، وقوله: (( اقصدوني بنفسي واتركوا حرمي )) حتّى وصل الأمر إلى أنّه صبّ الماء الذي في كفه وقد أدناه إلى فمه، وهو مقطّع الكبد والفؤاد من الظمأ والإعياء لمّا سمع قول القائل: إنّه قد هُتكت خيمة حرمك.

ومنها: القناعة

فقد قنععليه‌السلام من الدنيا لإتمام الحجّة عليهم، بأن يذهب إلى ثغر من الثغور، ثمّ ازدادت قناعته فقنع من جميع الدنيا وأموالها بثوب عتيق مخرّق لا يُرغب فيه ولا قيمة له أبداً.

ومنها: الصبر

وهو مناط أمام الأئمّةعليهم‌السلام ، وسبب جزائهم لقوله تعالى:( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) ،( وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) .

وقد روي في مهيج الأحزان بسند معتبر عن الصّادقعليه‌السلام ما مضونه: إنّه ممّا أوحى الله تعالى إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المعراج أنّ الله تعالى يختبرك بثلاث لينظر كيف صبرك، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُسلّم أمرك، ولا قوّة لي على الصبر إلاّ بك.

فأوحى أنّه لا بدّ أن تؤثر فقراء أُمّتك على نفسك فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُسلّم ذلك وأصبر ولا بدّ أن تتحمّل الأذى والتكذيب لما يصيب أهل بيتك ؛ فأمّا أخوك فيُغصب حقّه ويُظلم ويُقهر ؛ وأمّا ابنتك فتُظلم وتُحرم، ويُؤخذ حقّها غصباً الذي تجعله لها، وتُضرب وهي حامل، ويُدخل عليها وعلى حريمها ومنزلها بغير إذن ؛ وأمّا ولداك فيُقتل أحدهما غدراً ويُسلب ويُطعن، والآخر تدعوه اُمّتك ثمّ يقتلوه صبراً، ويقتلون ولده ومَنْ معه من أهل بيته، ثمّ يسبون حرمه.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اُسلّم أمري إلى الله تعالى وأسأله الصبر.

أقول: ولقد صبر (صلوات الله عليه وآله) في جميع ذلك عن كلّ شيء

٣٨

إلاّ عن الحسين فلم يصبر عن البكاء عليه ؛ فإنّ البكاء لا يُنافي الصّبر، بل هو لازم الشّفقة، ورقّة القلب ولم يُسمع أنّه ذكر يوماً مصيبة نفسه، أو أحد أهل بيته وبكى، لكنّه كان كلّما ذكر الحسينعليه‌السلام أو رآه غلبه البكاء وكان يقول لعليعليه‌السلام : (( أمسكه )) فيمسكه، فيقبّل نحره، فيقولعليه‌السلام له: (( لِمَ تبكي ؟ )).

فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( أُقبّل موضع السّيوف منك وأبكي )).

وكان إذا رآه فرحاً يبكي، وإذا رآه حزيناً يبكي، وكذلك علياً وفاطمة والحسنعليهم‌السلام كانوا يبكون عليه لأجل ذلك، وقد أوصىعليه‌السلام أهل بيته بالصّبر حين الوداع، ووعظهم ونهاهن عن خمش الوجوه، أي خدشها ولطمها وضربها، وشقّ الجيوب والدعاء بالويل، ولكن قالعليه‌السلام : (( لا أمنعكم من البكاء )).

نعم، قد منع ابنته عن البكاء حال حياته ؛ لئلاّ يحرق قلبه، وقال :

لا تُحرقي قلبي بدمعكِ حسرةً

مادام منّي الروحُ في جثماني

فإذا قُتلت فأنت أولى بالذي

تأتينه يا خيرة النسوانِ

نعم، إنّه منعهنّ من الجزع عليه في حينها ؛ كي لا يشمت بهم الأعداء، ولكن بعدها ورد أنّ زينب (سلام الله عليها) قد ضربت بوجهها المحمل فسال الدم المبارك منها جزعاً على الحسين (صلوات الله عليه).

نعم، إنّ الجزع حرام، ولكن على مصاب أهل البيتعليهم‌السلام وعلى الحسينعليه‌السلام فليس بحرام ما دام لا يتلف النفس، أو به إيذاء شديد ثمّ أي إيذاء يأتي من اللطم أو الجزع عليهم ؟ بل هو الشّفاء بعينه كما شوهد على مرّ العصور.

وأمّا صبرهعليه‌السلام ، فقد ورد أنّه عجِبت من صبره ملائكة السماوات، فتدبّر في أحواله وتصوّرها حين كان مُلقى على الثرى في الرمضاء، جريحاً بسهام لا تُعدّ ولا تُحصى ؛ مفطور الهامة، مكسور الجبهة، مرضوض الصدر بسنابك الخيول، مثقوب الفؤاد بذي ثلاث شعب ؛ فسهم في نحره، وسهم في حنكه، وسهم في حلقه، واللسان مجروح من اللوك، والكبد محترق، والشّفاه يابسة من الظمأ، والقلب الطاهر محروق من ملاحظة الشّهداء في أطرافه، ومكسور من ملاحظة العيال والنساء في الطرف الآخر، والكفّ مقطوعة من ضربة زرعة بن شريك، والرمح في الخاصرة، وهو مخضّب اللحية والرأس، يسمع صوت الاستغاثات من عياله، والشماتات ،

٣٩

بل الشتم والاستخفاف من أعدائه، ويرى بعينه إذا فتحها القتلى الموضوع بعضهم على بعض، ومع ذلك كلّه لم يتأوه في ذلك الوقت، ولم تقطر من عينه قطرة دمع، وإنّما قال (سلام الله عليه): (( صبراً على قضائك يا ربّ، لا معبود سواك يا غياث المستغيثين … إلخ )) وفي الزيارة: (( ولقد عجبت من صبرك ملائكة السماوات )).وروي عن إمامنا المظلوم السجّادعليه‌السلام أنّه قال: ( كلّما كان يشتدّ الأمر كان يشرق لونه، وتطمئن جوارحه، فقال بعضهم: انظروا كيف لا يبالي بالموت ! )(١) نعم، قد بكى في كربلاء في مواضع ستة، ستأتي قريباً.والوجه في بكائه أحد أمور :

الأوّل: أنّ أصل البكاء على مصائب أهل البيتعليهم‌السلام من الطاعات.

والثاني: أنّ بكائهعليه‌السلام على ما كان يراه من اضمحلال الدين وخموده.

والثالث: وهو الأقوى، إنّ الطبائع البشرية موجودة فيهم فيعرضهم الجوع والعطش عند أسبابه، وتحترق قلوبهم لِما يرد عليهم، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند موت ولده: (( يحترق القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يُغضب الربّ )).فكذلك كان هوعليه‌السلام فليت شعري، أفكان يمكنه حبس الدموع وهو فريد وحيد بعد كثرة الأصحاب والإخوان والأولاد، ومضطهد مصاب، وقد ضاقت عليه الأرض برحبها، ومحصور بين أهل الدنيا وعبيدها في خيام هو وعياله في الرمضاء وعناء السّفر، عطاشى جميعهم وليس فيهم إلاّ أطفال ونساء، وعليل يغمى عليه بين الفينة والأُخرى، مظلوم أمام معصوم، ورأى أهله صرعى وعياله بهذه الحالة من المصائب، وقد صرعهم العطش بين ميّت ومحتضر ؟ويريد أن يتركهم ويرحل عنهم، ويقول لهم: تهيّأوا للأسر، ويأمرهم بالصبر، ويجدّ في إسكاتهم عن البكاء والصّراخ في حين الواقعة لئلاّ يشمت بهم الأعداء.والمواضع السّتة التي بكى بها الإمام الحسين الشهيدعليه‌السلام :الأوّل: حين أراد أن يخرج فجاءت ابنته الصغيرة صائحة، حاسرة مع شدّة حبّه لها وتعلّقت بثوبه قائلة: مهلاً ! مهلاً ! توقف حتّى أتزوّد من النظر إليك، فهذا وداع لا تلاقٍ بعده آه يا حسين ! ثمّ قبلت يديه ورجليه، فجلس وأجلسها في حجره، وبكى بكاءً شديداً ومسح دموعه بكُمّه وجعل يقولعليه‌السلام :

سيطول بعدي يا سكينةُ فاعلمي

منك البكاءُ إذا الحمام دهاني

____________________

(١) لقد ذُكرت الرواية بالمضمون، وإليك نصّها: ( لمّا اشتد الأمر بالحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام نظر إليه مَنْ كان معه، فإذا هو بخلافهم ؛ لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم، وارتعدت فرائصهم، ووجبت قلوبهم وكان الحسينعليه‌السلام وبعض مَنْ معه من خصائصه تشرق ألوانهم، وتهدأ جوارحهم، وتسكن نفوسهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا لا يبالي بالموت ! ) معاني الأخبار ـ للشيخ الصدوق / ٢٨٨. (موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٤٠