الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم0%

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 289

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ جعفر التستري
تصنيف: الصفحات: 289
المشاهدات: 38234
تحميل: 7070

توضيحات:

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 289 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38234 / تحميل: 7070
الحجم الحجم الحجم
الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

الخصائص الحسينية خصائص الحسين (ع) ومزايا المظلوم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الثالث: إذا زرت الحسينعليه‌السلام في ليلة عاشوراء وبتّ عنده حتّى الصباح لقيت الله تعالى ملطّخاً بالدم كمَنْ قُتل معه.

الرابع: وهو يفوق أصل الجهاد ؛ فإنّ الجهاد قد تحصل به الشهادة وقد لا تحصل، وفي هذه الوسائل ما يحصل من ثواب الجهاد والشهادة والتشحّط بالدم.

الخامس: ما فاق على ذلك ؛ فإنّ التشحّط بالدم في سبيل الله تعالى إنّما يتحقّق مرّة واحدة، وفي الوسائل ما يحصّل ذلك مرّات عديدة.

الخطاب الخامس:( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى )

وأحسن الزاد ما طاب وبلغ المنزل، وزيارة الحسينعليه‌السلام نِعْمَ الزاد لهذا السفر الطويل ؛ فإنّه نافع في كلّ منزل، وطيّب قد فاق كلّ زاد، وليس هو زاداً لك وحدك، بل زاداً لغيرك أيضاً ؛ فإنّك قد تأخذ بيد مَنْ أحببته فتدخله الجنّة.

الخطاب السادس:( وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً )

والوسائل بالحسينعليه‌السلام قرض حسن لله تعالى، وقرض حسن لحبيبه المصطفى (صلوات الله عليه وآله)، وقرض حسن لعلي بن أبي طالبعليهما‌السلام ، وقرض حسن للزهراء البتول فاطمة (سلام الله تعالى عليها)، وقرض حسن للمظلوم المسموم الحسن المجتبىعليه‌السلام ، وقرض حسن للحسين الشهيد (سلام الله عليه)، ويضاعف الله تعالى لك في كلّ قرض لكلّ واحد منهم أضعافاً كثيرة لا يعلم عددها إلاّ الله تعالى.

الخطاب السابع:( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )

وقد دعانا رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يتعلّق بالحسينعليه‌السلام إلى أسباب حصول الحياة الأبدية الحقيقية ؛ من المحبّة لهعليه‌السلام والنصرة، والبكاء والزيارة، وإحياء أمرهم بذكرهم إلخ بالتفاصيل السابقة واللاحقة.

الخطاب الثامن:( وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ )

وهذا تقديم للنفس، وتأخير لها أيضاً، يلحق ويتجدّد حصول ثوابه لعد موتك.

الخطاب التاسع:( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) ،( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ )

ويحصل بالحسينعليه‌السلام أسرع المغفرة ؛ فإنّ الذنوب تُغفر بالبكاء عليه بمجرّد دوران الدمع في الحدقة، وبزيارته بمجرّد النيّة والعزم.

٨١

الخطاب العاشر: خطابات الدعاء( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً )

وتُنال بوسائله ثمرات الدعاء لكلّ حاجة تدعو لها، ويُنال بهعليه‌السلام مع ذلك إذا زرته دعاء رسول الله تعالى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودعاء علي وفاطمة والحسن والأئمّةعليهم‌السلام ، ودعاء الملائكة.

وفي الرواية الأُخرى أنّ زائره لا يضع قدمه على شيء إلاّ دعا له، وأنّهعليه‌السلام يسأل الله تعالى لك الدعاء إذا زرته، وبكيت عليه من جدّه وأبيه.

وقد دعا الإمام الصادقعليه‌السلام في أيام حياته وهو ساجد باك لِمَنْ قلّب خدّه على قبر الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولِمَنْ جرى دمعه عليه، ولِمَنْ صرخ لأجله.

الخطاب الحادي عشر:( كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ )

والله تعالى أجّل من أن يحتاج إلى نصرة، إنّما هو الغني المطلق الخالق البارئ، لكن من سعة رحمته (جلّ جلاله) أن جعل نصرة أوليائه ودينه هي نصرته تبارك وتعالى، وكلّما كان المنصور من أوليائه مستضعفاً مقهوراً مظلوماً، كان تحقّق نصرة الله تعالى فيه أظهر وأجلى.

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : (( بأبي المستضعف الغريب بلا ناصر ! )) فزيارة هذا الغريب الشهيدعليه‌السلام نصرة له، والبكاء نصرة له، وإقامة عزائه نصرة له، وتمنّي نصرته نصرة له، بل أقول: السجود على تربته نصرة له، والتسبيح بسبحة تربته نصرة له ؛ فإنّ الفضيلة المجعولة فيهما من الأعواض الخاصة التي أعطاها الله تعالى لهعليه‌السلام ، كما سنذكرها في عنوانها إن شاء الله تعالى.

الخطاب الثاني عشر:( أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ )

وداعي الله تعالى هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي دعا إلى الإسلام، ويتلوه الحسينعليه‌السلام الذي دعا إلى الإيمان، وأظهر الدعوة إلى الإيمان، وأبان الأمر عن بطلان ما اعتقده الناس من خلافة أهل العصيان، وجميع وسائله إجابات لِما دعا إليه، كما يظهر بالتأمّل فيها حتّى إنّي أقول: إنّ الاستشفاء بتربته إجابة لدعوته، فتأمّل في ذلك لتفهم.

الخطاب الثالث عشر:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )

والحسين الشهيدعليه‌السلام أعظم وسيلة نبتغيها ؛ فإنّ وسائله عظيمة ميّسرة سهلة الحصول، فيها ما هو غاية المأمول وفوق المأمول.

الخطاب الرابع عشر:( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً )

والحسين إمامناعليه‌السلام السبيل الأعظم، والصراط الأقوم، وأنهج السبل.

٨٢

وهذه المذكورات أُنموذجاً وقانون فقس عليها غيرها من الخطابات الإلهية، وجميع ما في القرآن من قبيل ذلك، كالخطابات بالتجارة المنجية والرابحة، فقس ما لم نذكر على ما ذكرنا، ولا تتوهّم إغراقاً ولا مبالغة.

الكيفية الثانية

تصوير أنّه يسهل بالحسينعليه‌السلام جريان الخطابات التكوينية عند قيام القيامة الصغرى عليك، أعني موتك وأيامها، اعني برزخك.

فنقول: إنّ من وسائله الاستعبار عليه، وتغيير الأحوال عند تذكّر ما صُنع به، بحيث لم يتهنّأ من طعام ولا شراب، ومن خواص ذلك أنّه يحضره النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام ، ويلقونه بشارة وتحيّة يفرح بها فرحة تبقى في قلبه إلى يوم القيامة فيسهل بها جميع ما يرد عليه من خطابات الاحتضار، والبرزخ إلى غير ذلك من كيفيات التسهيل التي نبيّنها في التفصيل.

الكيفية الثالثة

كيفية رفه الخطابات التهكمية والتعجيزية، وخطابات الأخذ والجر، والغلّ والسلك في السلسلة وغير ذلك.

وينال بالوسائل الحسينيّة تبديلها بخطابات الملاطفة والمرحمة، أو دفعها أو رفعها ؛ وذلك إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد ضمن أنّه يزور مَنْ زاره يوم القيامة، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( ضمنت على الله تعالى، وحقٌّ عليّ أن أزور مَنْ زاره يوم القيامة )) فقال (صلوات الله عليه وآله): (( فآخذ بعضده فأُنجيه من أهوال القيامة وشدائدها حتّى أُصيّره في الجنة )).

ومع عظم هذه الكيفيات فلا يُكتفى بها، بل وزيادة على ذلك فهي الباقيات الصالحات، والأعمال المقبولات اللاحقات.

فبالحسين الشهيدعليه‌السلام قد أُطفئت النيران، وبهعليه‌السلام قد فُتح باب عظيم للجنان سُمّي بباب الحسينعليه‌السلام ، به يحصل الدخول من كلّ باب، فهو الباب والمفتاح لأبواب الجنان، والمغلاق لطبقات النيران، فهلمّوا إلى الوسائل الحسينيّة وابشروا ؛ فإنّ فيها مع ما ذكرناه علاوة عجيبة، وطريفة مبشّرة، ونعمة عظيمة، ومنّة من الله تعالى جسيمة ؛ وذلك إنّ في التسبيبات الحسينيّة خصوصية أُخرى تفوق على جميع التسببات وتزيد على جميع الأعمال الصالحات من جهات :

٨٣

الأوّلى: إنّ نهاية ثمرة الأعمال الخلاص من النار، وقد فاقتها ثمرة التسبيبات بأنّه يحصل بها التخليص للغير من النار أيضاً.

الثانية: نهاية ثمرتها دخول الجنّة، وقد فاقت هذه بأنّ فائدتها إدخال الغير إلى الجنّة أيضاً.

الثالثة: نهاية ثمرتها أن يُرزق الشرب من الكوثر، فيصير الشخص شارباً منه، وهذه قد فاقت بأنّه قد يحصل بها كون الشخص ساقياً عند الكوثر.

الرابعة: نهاية ثمرة الأعمال الصالحة أن ترقى أعمالك في كتاب الحسنات، فتؤتى كتابك بيمينك تقرؤه، وقد فاقت بأنّه قد يحصل بها أن يُكتب في كتابك من أعمال أفضل العابدين لله تعالى، أعني من أعمال نبيّه المصطفى (صلوات الله تعالى عليه وآله)، وهو أفضل المخلوقات.

الخامسة: نهاية ثمرتها أن لا يُحال بينك وبين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة فتستشفع به إلى الله تعالى، وهذه قد يحصل منها أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يتفحّصك ويطلبك، ويأخذ بعضدك وينجيك من أهوال القيامة.

السادسة: نهاية ثمرة الأعمال الجنّة والحور الرضوان، ولكن في بعض الروايات: إنّه يُثاب الباكون عليهعليه‌السلام بأن يجلسوا تحت العرش في صحبته ويتحدّثوا معه، فتُرسل الحور إليهم: إنّا قد اشتقناكم، فيأبون الذهاب ويختارون حديث الحسينعليه‌السلام على الجنّة والحور.

السابعة: نهاية ارتفاع الدرجات أن تُرتفع درجة الشخص على بعض المؤمنين، والوسائل الحسينيّة قد فاقت على ذلك بأنّها توجب أن يكون الشخص مع أفضل النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام في درجاتهم ويأكل معهم على موائدهم.

الثامنة: نهاية الأعمال الصالحة حصول الرضوان من الله تعالى، وهو أكبر وأعظم من الجنان، وهذه فاقت بأنّه قد يحصل منها أم يكون من محدّثي الله تعالى فوق عرشه، كناية عن شدّة القرب.

التاسعة: نهاية ما يحصل لك في تجهيزك بعد موتك أن يُغسّلك صالح جيرانك، وأن تُكفّن بخالص حلالك، ويُصلّي عليك مَنْ حَسُنَ ظاهره من العلماء، أو الصلحاء، وفي تسبيبات الحسينعليه‌السلام ما يوجب أن يُصلّي على جنازتك الروح الأمين

٨٤

مع الملائكة المقرّبينعليه‌السلام ، ويكفّنوك بأكفان الجنّة، ويحنّطوك بحنوط منها.

العاشرة: نهاية الآثار والأعمال اللاحقة للشخص والباقيات الصالحات التي لا ينقطع عمله منها أن تبقى مدّة مديدة بعد موته، فيعمل النائب عنه من الناس، أو يهدي إليه من أعمال الناس فيصل إليه عشر ثوابه لو كان صحيحاً، أو ينتفع شخص بعلمه، أو فرسه أو مائه، أو مسكنه أو قنطرته، أو يكون له ولد صالح يستغفر له.

وهذه لا تبقى بحسب العادات أزيد من ألف سنة ؛ فإنّ الزمان وحالاته متبدّلان متغيّران، ولكن في هذه الوسائل ما يوجب أن تكون الملائكة بعد موتك نوّاباً في العمل عنك إلى يوم القيامة، فكلّ ثوابهم يُكتب لك، ولا يُستبدل بأوضاع الزمان.

الحادية عشرة: نهاية الترقّي لك أن تكون من عباد الله الصالحين، وفي الوسائل الحسينيّة ما يجعل الشخص من ملائكة الله المقرّبين، لا بل أن لا تعجب أقول: من الكرّوبيين، وهم سادات الملائكة المقرّبين، كما دلّت عليه الروايات المعتبرة، وسيجيء تشخيص مصاديق هذه في عنوان التفاصيل بعون الملك الجليل.

الثانية عشرة: نهاية الأعمال الصالحة ثبوث أجر متصوّر، وفي هذه أجر لا يتصوّر إذ لم يتبيّن لأحد، فهو درجة من أرفع الدرجات، ولا شيء فوقه.

فلنكتفِ بهذا الإجمال، ولنشرع في التفصيل، وحيث إنّ عمدة هذه الوسائل تأثّر القلب بالبكاء عليه، وتوجّه القلب إليه بالزيارة فنذكرهما في عنوانين، ونجعل لباقي الوسائل كلّها عنواناً ثالثاً، فنقول بحول الله وقوّته.

انتهى العنوان الخامس

العنوان السادس

في خصوصياتهعليه‌السلام المتعلّقة بالخشوع ؛

لتذكّره، والرقّة، والبكاء عليه، وإقامة مجالس المآتم والرثاء

وفيه مقدمة ومقاصد :

قال الله تعالى:( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ) يعني بعد ما آتاكم من العقل والتدبير، وبعد ما شاهدتم الآيات في الأنفس والآفاق، والسماوات

٨٥

والأرض، وفي كلّ ذرّة وورقة، وبعد ما رأيتم العِبَر والغِيَر في الغافلين، وبعد ما تُليت عليكم الآيات، وبعد ما عمّرتم ما يتذكّر فيه مَنْ تذكّر وجاءكم النذير من بين أيديكم ومن خلفكم، وتكاثرت عليكم الأصوات المنادية الواعظة لكم، وبعد ما مرّ عليكم دهر في الإسلام وادعائكم وانتحالكم له، ألم يأنِ أن تخشع قلوبكم لذكر الله تعالى ؟ فإذا ذكرتموه كنتم من المؤمنين،( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) ، وكففتم عن المعاصي.

ألم يأنِ للذين آمنوا وعرفوا عظمة ربّهم تعالى أن تخشع قلوبهم لذكر الله إذا قاموا بين يديه وخاطبوه، فيكونوا من المؤمنين( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) ؟ فقد انتهى العمر ولم تصلِّ ركعتين خشوعاً لله تعالى، فصلَّ لربّك صلاة واحدة ؛ فلعلّها تكون صلاة وداع.

ألم يأنِ للذين آمنوا وعرفوا أن لا نافع إلاّ الله تعالى، ولا ملجأ إلاّ له تعالى ؟ أن تخشع قلوبهم لذكر الله فلا يكونوا من الذين لا يرون شيئاً إلاّ ويرون الله بعده، أو الذين لا يرون شيئاً إلاّ ويرون الله تعالى معه، أو قبله.

ألم يأنِ للذين أمنوا إذا اُفنيت أعمارهم يوماً في البُعد عن الله ولم يذكروه يوماً ولا ساعة ذكراً نافعاً، أن تخشع قلوبهم لذكر الله آناً واحداً لغلبة خوف واضطراب ؟ فلعلّه يكون توبة إلى ربّهم ورجوعاً إليه بعد انقطاعهم عنه، فيكون لهم وصل بعد الإعراض والقطع، ولا يموتون حين هم عن ربّهم محجوبون.

ألم يأنِ للذين آمنوا بالله ورزقهم الله معرفة أوليائه، أن تخشع قلوبهم لذكر الحسين الشهيدعليه‌السلام فيبكون عليه ؟ فإنّه من خشوع القلب لذكر الله، كما إنّ مَنْ والاه فقد والى الله، ومَنْ عاداه فقد عادى الله، ومَنْ أحبّه فقد أحبّ الله، ومَنْ اعتصم به فقد اعتصم بالله، ومَنْ زاره فقد زار الله، ومَنْ خشع قلبه لذكره فقد خشع قلبه لذكر الله تعالى، ومَنْ انكسر قلبه لمصابه ومصاب أولياء الله تعالى فإنّه يكون صاحب قلب يحبّه الله تعالى فيفيض عليه من عنايته الخاصّة.

ألم يأنِ ذلك خصوصاً إذا دخل المحرّم وهلّ عاشوراء، أما ترى الناس ذوي كربة قد خُنقت منهم القلوب بالبكاء ؟ فيا أيّها الذين آمنوا هذا أوّل خشوع القلب لذكر الإمام الحسينعليه‌السلام الراجع إلى ذكر الله تعالى، فاذكروا الله ذكراً كثيراً

٨٦

بذكر الحسينعليه‌السلام ، ذكراً راجعاً إلى ذكر الله تعالى، وإقامة عزائه بما يرجع إلى خشوع القلب لذكر الله تعالى.

والمراد بقولي: الراجع إلى ذكر الله سبحانه، أنّ خشوع القلب لذكر الحسينعليه‌السلام له أقسام، منها ما يرجع إلى ذكر الله، ويكون لله تعالى، والفرد الكامل منه لِمَنْ خلص إيمانه، يكون خشوع قلبه للحسينعليه‌السلام من القسم الراجع إلى خشوع القلب لذكر الله، نظير أصل ذكر الله، والتسبيح بحمده والخضوع له ؛ فإنّ كلّ مخلوق يسبّح بحمد ربّه تبارك وتعالى، ويخضع له، ويسجد له سجوداً تكوينياً، ولكنّ الفضيلة للتكليفي الجامع للشرائط، وكذلك خشوع القلب لهعليه‌السلام ومسألة بطلان الصّلاة بالبكاء على الحسينعليه‌السلام وحكمه يتوقفان على تشخيص هذه الأقسام.

فكلّ بكاء على الإمام الحسينعليه‌السلام يكون من خشوع القلب لذكر الله تعالى لا يبطل الصّلاة، وما كان لمحض الرقّة البشرية ففيه إشكال فتأمّل.

ولنفصّل الكلام في بيان هذا المطلب الشريف ببيان أقسام خشوع القلب للحسينعليه‌السلام ، وبيان ما يتعلّق بالرثاء له في ضمن مقاصد بعون الملك الوهاب :

المقصد الأوّل: في المنشأ الباطني للخشوع وسبب حصوله.

المقصد الثاني: في البواعث الخارجية الموجبة للبكاء المختصّة به.

المقصد الثالث: في كيفيات الرقّة والجزع والبكاء عليه.

المقصد الرابع: في المجالس المنعقدة لذكر مصيبته والبكاء عليه.

المقصد الخامس: في صحف الرثاء والكتب التي رثته قبل شهادته وعندها.

المقصد السادس: في خواص مجالس البكاء.

المقصد السابع: في خواص البكاء من حيث الصّفات.

المقصد الثامن: في فضائل البكاء وتأثيره وثوابه.

المقصد التاسع: في خواص البكاء لنيل الأجر والثواب.

المقصد العاشر: في خواص العين الباكية.

المقصد الحادي عشر: في خواص الدمع الجاري.

المقصد الثاني عشر: في خاتمة المقاصد، والحمد لله.

٨٧

المقصد الأوّل: في المنشأ الباطني للبكاء وسبب حصوله

اعلم أنّ منشأ البكاء قد يكون سبباً ملحوظاً للباكي، وقد يكون غير ملحوظ، فهو نوعان :

النوع الأوّل: ما كان بلحاظ سبب ملحوظ

وأقسام البكاء بالسبب الملحوظ ثمانية:القسم الأوّل: لعلقة مع صاحب العزاء وأعظم العلقات الأبوة ؛ ولذا قرن الله تعالى حقّ الوالدين بالتوحيد. قال تعالى:( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ؛ وذلك لأنّهما علّة الإيجاد الصوري لك.فإذا كان حقّ علّة الإيجاد الصوري بهذه المرتبة، فلعلّه الإيجاد الصوري والمعنوي أحقّ بهذا الحق، فالوالد الحقيقي النبيّ والوصي (سلام الله عليهما)، وقضى ربّك بالإحسان إليهما، وكما جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي المرتضىعليه‌السلام : (( يا علي، أنا وأنت أبَوَا هذه الأُمّة )).ولا ريب إنّ إقامة العزاء والبكاء على الحسينعليه‌السلام إحسان إلى النبي والوصي والزهراء (صلوات الله عليهم)، بل في بعض الروايات في تفسير قوله تعالى:( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ، أنّ الوالدين الحسـن والحسينعليهما‌السلام ، فالبكاء عليه إحسان إلى الوالد ابتداءً.والوجه في أنّ البكاء إحسان: إنّ الإحسان إيصال النفع، وعمدة النفع الإعزاز والاحترام، والبكاء إعزاز للأموات والمقتولين ؛ ولذا سأل النبي إبراهيمعليه‌السلام ربّه تعالى في ابنة تبكيه بعد موته، ولمّا سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نساء الأنصار يندبنَ قتلى اُحد، قال (صلوات الله عليه وعلى آله): (( أمّا حمزة فلا بواكي له )) ؛ فأمر الأنصار نساءهم أن يندبنَ حمزة، فسمع النبي محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله فدعا لهنّ.

وقد جاء أيضاً: أنّه مرّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بنسوة من الأنصار يبكينَ ميّتاً فزجرهن عمر، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( دعهنّ يا عمر ؛ فإنّ النفس مصابة، والعين دامعة، والعهد قريب )).ولمّا بكت نساء أهل المدينة على قتلى اُحد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( لكنّ حمزة لا باكية له )) فسمع ذلك أهل المدينة فلم يقم لهم مأتم بعدها إلى اليوم إلاّ ابتدأ النساء فيه بالبكاء على حمزة.نكتة: حمزة سيد الشهداءعليه‌السلام تحقّقت له بعض أجزاء تجهيز الموتى من الكفن والصّلاة والدفن والتشييع وغير ذلك إلاّ النوادب، فعظم ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .ولكنّ الإمام الحسينعليه‌السلام سيد الشهداء لم يكن له شيء من ذلك إلاّ النوادب، بل قد زيد في ابتلائه مقابل ابتلاء الحمزةعليهما‌السلام ، خلاف التمثيل بالجسد باستخراج كبد الحمزة، فقد زاد بلاء الحسين على الحمزة بالرض قبل وبعد الشهادة، وتقطيع الجسد المبارك إرباً إرباً ؛ فكان الجرح على الجرح، والطعنة فوق الطعنة، وتكسير الضلوع والبدن السليب، وقطع الأصبع وضرب الجبهة، والغدر والموت عطشاً، وتقتيل أهل بيته وأولاده وإخوته، وأبناء إخوته وأبناء عمومته قبل شهادته ...حتّى نادت أُخته المباركة زينب الكبرىعليها‌السلام بصوت حزين، أخذت تُنادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليشهد الندبة، لكن قد منعوهنّ فيها، بل ومن البكاء، بل ومن إجراء الدمع حتّى أشبعوها ومَنْ معها من الأطفال والنساء ضرباً بالسياط حتّى اسودّت أجسامهم من شدّة الضرب والزجر لهنّ وللأطفال.

فهلم نبكي عليه وعلى مصاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الأطيابعليهم‌السلام ، بكاءَ قرابةٍ حقيقيةٍ إن كنّا من الموالين بأدنى درجات الولاء والانسجام معهم ومع خطّهم القويم ؛ فمَنْ لا يبكي

٨٨

كذلك فهو عاق قاطع الرحم.

القسم الثاني: الرقّة لعلقة الالتحام التي هي من أعظم القرابة

نظير العضو من الإنسان إذا عرضه مرض ووجع يكون الوجع في الكلّ، ومن هذه الجهة بكاء الحور العين، ولطمهنّ على الإمام الحسينعليه‌السلام في الجنان التي هي دار السرور ؛ وذلك لأنّ لكلّ من المخلوقات مادة، وقد خُلقت الحور العين من نور الحسينعليه‌السلام ، فهي ملتحمة بهعليه‌السلام ومع ذلك كيف يمكن أن يكون واقعاً على الأرض تحت سنابك الخيل، ورأسه المبارك على الرمح، ودمه الطاهر مسفوك على الأرض، وفؤداه مثقوب، وكبده مقرح، وقلبه محترق، ونساءه وأطفاله مسبيّات قد حُرقت خيامهنّ قبل شهادته وسبينَ بعد شهادته ...، وتبقى الحور في القصور بأنعم بال وأحسن حال ؟!

ومن جملة أقسام البكاء بكاءُ الشيعة عليه، هذا القسم أيضاً، وذلك في رواية عن الصادقعليه‌السلام قال: (( شيعتنا منّا، وقد خُلقوا من فاضل طينتنا، وعُجنوا بنور ولايتنا، ورضوا بنا أئمّة، ورضينا بهم شيعة ؛ يُصيبهم ما أصابنا، ويُبكيهم ما أبكانا، ويُحزنهم حزننا، ويسّرهم سرورنا، ونحن أيضا نتألّم بتألّمهم، ونطّلع على أحوالهم، فهم معنا لا يُفارقونا، ونحن لا نُفارقهم )) ثمّ قالعليه‌السلام : (( اللّهمّ، إنّ شيعتنا منّا، فمَنْ ذكر مصابنا وبكى لأجلنا استحى الله تعالى أن يعذّبه بالنار )).

وفي حديث الأربعمئة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : (( إنّ الله تبارك وتعالى اختارنا، واختار لنا شيعة ينصروننا، ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويبذلون أنفسهم وأموالهم فينا، أولئك منّا وإلينا )).

فدّلت هذه الرواية على أنّ مخلصي الشيعة اختارهم الله تعالى كما اختار الشهداء، بل شهادتهم.

وفي ذلك علامات كما استدل الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله من المحبّة الخاصّة للطفل الذي رآه يلعب مع الإمام الحسينعليه‌السلام على أنّه يكون من أنصاره في واقعة كربلاء.

فلاحظ علاقة الشيعة في نفسك وهلمّ نبكي عليه لذلك ؛ فإنّ مَنْ لا يبكيه ولا يواليه ولو بأدنى درجات الولاء فإنّه يكون لا علاقة له معه، ومقطوع عنه، فهلمّ نتألّم لمصابه.

فالحسينعليه‌السلام يتألّم لآلامنا أيضاً، وكفى بذلك عزّة لنا وفرجاً، وأنّهعليه‌السلام يصلنا أيام تألّمنا في أحلك عواقب حالاتنا، اللّهمّ صلِّ على محمد حبيبك المصطفى وآله الأطهار المعصومين وعجّل في فرجهم يا الله.

القسم الثالث: الرقّة على المصيبة

كون [لصاحب] المصاب حقّ عليك، والحقوق كثيرة :

٨٩

منها: حقّ الإيجاد

وهو حقّ الوالدين والأجداد، والحسينعليه‌السلام له علينا هذا الحقّ ؛ فإنّ وجودنا ووجود آبائنا ببركة وجوده.

ومنها: حقّ الإسلام والإيمان وهو ثابت لكلّ مسلم على كلّ مسلم، فكيف يكون حقّ مَنْ صار سبباً لهدايتنا إلى الإيمان ؟ فإن الحسينعليه‌السلام قد فدى نفسه لهذا الدين، ومعنى هذا أنّه لو لم يتحمّل تلك المصائب والمصاعب لما كان هناك إسلام ولا مسلمين، ولا نقول إلاّ كما قال المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله : الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء(١) وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون دوام الإسلام وحفظه بالحسينعليه‌السلام ، وكما جاء أيضاً بالحديث المبارك (( إنّ الله تعالى أبى أن بجري الأمور إلاّ بأسبابها ))(٢) والحمد لله (عزّ وجلّ).

وذلك إنّه لمّا استولت بنو أُميّة (لعنهم الله) على البلاد وأظهروا الفساد، سعوا جاهدين في إخفاء الحقّ حتّى شبّهوا الأمر على الناس ؛ بحيث جعلوا سبّ الإمام أمير المتقين عليعليه‌السلام من أجزاء الصلاة، وأدخلوا في أذهان الناس أنّ بني أُميّة أئمّة الإسلام حقّاً، ورسخ هذا الباطل في أذهان الناس منذ طفولتهم، حيث إنّهم أجبروا المعلّمين على أن يُلقّنوا الأطفال والأجيال في مكاتبهم ومدارسهم هذا الأمر فاعتقد الناس أنّ هؤلاء أئمّة الدين، وأنّ مخالفتهم ضلالة. فلمّا قُتل الحسينعليه‌السلام ومَنْ معه بهذه الكيفية، وسُبيّ مَنْ سُبيّ بهذه الطريقة المخصوصة، تنبّه الناس والتفتوا إلى أنّ هؤلاء لو كانوا أئمّة حقّ ما فعلوا ذلك أبداً. ورأوا أنّ فعلهم هذا لا يُطابق ديناً ولا مذهباً ولا عدلاً، بل ولا يُطابق جور الجائرين على مرّ التاريخ ؛ فعدلوا عن الاعتقاد بهم، وتبرؤوا منهم، وعدل مَنْ هداه الله إلى الحقّ، وظهرت الشيعة بشكل جليّ وواضح بعد أن كانوا مستضعفين مظلومين.

وأمّا السُنّة فعدلوا عن اعتقاد خلافتهم، وعلموا أنّهم حكّام جور، وجوّزوا لعنهم والحقيقة إنّ الاهتداء إلى الدين الحقّ بعد ذلك الانحراف بدأ من ثورة الحسينعليه‌السلام .

ومنها: حقّ الزاد والملح فإنّ به حياة كلّ شيء، وبه ينزل الغيث وينبت النبات، فجميع طعامك وشرابك إنّما هو ببركته. ومنها: حقّ الإحياء.

أوَ ليست حياتنا الحقيقية، أعني الروحية والإيمانية، هي ببركة الحسينعليه‌السلام ؟ أوَ ليست أعمالنا كلّها بهدايته لنا ؟ ومنها: حقّ الإسلام وسلامتنا الحقيقية مرجوّة من الحسينعليه‌السلام .

ومنها: حقّ الوداد فهل يودّ شخص شيعته مثل الحسينعليه‌السلام ؟! الذي هو إلى يمين العرش ينظر إلى زوّاره والى الباكين عليه ؟ كما جاء في الروايات المعتبرة. ومنها: حقّ التعب. فلو أنّ شخصاً أصابه صدع أو جرح يسير بسببك لكنت

____________________

(١) لقد أشرنا فيما سبق أنّ هذا ليس حديثاً، وإنّما هو قول يُنسب إلى العلامة الشيخ آل كاشف الغطاءرحمه‌الله (موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(٢) لم نعثر في موسوعاتنا الرواية على مثل هكذا حديث، ولكن ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: (( إنّ الله سبحانه يجري الأمور على ما يقضيه لا على ما ترتضيه )) (ميزان الحكمة ـ للريشهري ٢ / ١٠٩٥) (موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٩٠

خجلاً منه أبداً، وبصدد تدارك تعبه، أفلا تكون بصدد تعب الحسينعليه‌السلام وما أصابه ؟ وليت شعري بأيّ شيء نتدارك تعبه لنا ؟! أبهذه القطرات من الدمع ؟! أم بالسير الاعتقادي والعملي على نهجه المحمدي القويم ؟! وهل نحن صادقين بهذا ؟

فهلّموا نبكي عليه لأداء حقوقه علينا، فمَنْ لا يبكيه لا عهد له ولا وفاء، ولا ننسى إنّ البكاء عليه هو أدنى درجات الوفاء لهم.

القسم الرابع: الرقّة على المصاب

لأنّه كبير وجليل، فإنّ لمصاب الكبير خصوصية توجب رقّة القلوب عليه ولو كان أجنبياً، بل ولو كان كافراً، بل ولو كان عدوّاً، وبذلك جرت سيرة الملوك أيضاً كما في قضية ذي القرنين مع دارا بن دارا.

وقد جرى حكم الشارع أيضاً على ذلك ؛ ولذا رمى النبي المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ثوبه لعدي بن حاتم زمن كفره ليجلس عليه، وقال: (( أكرموا عزيز قوم ذلّ )).

ولأجل هذا لم يسلب عليعليه‌السلام ثياب عمرو بن عبد ود لمّا قتله، بل ولا نزع درعه، مع إنّه لم يكن له نظير، فقيل له في ذلك، فقالعليه‌السلام : (( إنّه كبير في قومه، وما اُحبّ هتك حرمته في بقائه عارياً )).

ولأجله أيضاً جعل الشارع لبنات ملوك الكفار إذا اُسرن واسترققن حكماً آخر من الاحترام، فيُخّيرن ولا يُعرضن على البيع في الأسواق.

فهلمّوا نبكي عليه بكاء العبد على سيّده، وبكاءً له ؛ لأنّه جليل وكبير، هُتكت حرمته، وسُلب ثوبه، ودير بحريمه وأطفاله أُسارى من بلد إلى بلد حتّى طُمِعَ فيهن كالجواري، فمَنْ لا يبكيه كذلك لا مقام له، ولا يعرف قدر أحد.

القسم الخامس: الرقّة على مَنْ كان ذا صفات حميدة

فإنّ حسن الصّفات ومحمودها توجب الرقّة على المتّصف بها وإن لم تعرفه، بل قد ورد عن الشرع احترامه ولو كان كافراً، كما أوحى الله تعالى إلى موسى النبيعليه‌السلام : ( لا تقتل السامري فإنّه سخي ).

وكما نزل جبرئيلعليه‌السلام من الله تعالى بالنهي عن قتل أحد أسرى الكفار ؛ لكونه يُطعم الطعام.

فمصاب صاحب الصّفات الحسنة يؤثر في القلب أياً كان هذا الشخص، خصوصاً المصاب بما يُقابل مقتضى هذه الصفات.

فإذا رأيت مَنْ كان يهب الألوف

٩١

قد احتاج إلى لقمة خبز يسأل الناس عنها لرقّ قلبك عليه بالخصوص، كذا مَنْ كان ذا حياء مُهاناً في ملأ من الناس وهكذا.

فإذا لاحظت صفات سيد الشهداء وخصوصياتها، ونظرت إلى التطابق بينها وبين خصوصيات مصائبه كان ذلك موجباً لرقّة خاصة عليه، وبكاءً مخصوصاً عليه.

فهلمّوا نبكي عليه بكاءً مقابلاً لصفاته الحميدة العليّة، فاستمع لمصائب خاصة في مقابلة صفات خاصّة :

الأولى: إنّ لسانه قد ذكر الله تعالى قبل خلق السماوات والأرض، وهلّل الله فتعلّمت الملائكة منه التسبيح والتحميد، ثمّ ذكر الله تعالى في عالم النور والأشباح والظِلال، ثمّ في بطن أُمّه الزهراءعليها‌السلام والتي كانت تسمع منه التسبيح والتهليل، ثمّ حين ولادته المباركة، ثمّ أيام صغره وصباه وكبره، ثمّ حين شهادته، ثمّ حين كون رأسه على الرمح، أفيحق أن يُقرع وجهه الشريف بالخيزران بيد مثل يد يزيد وابن زياد في تلك الحالة، ويضحكا ويشمتا به بمحضر أهله ؟!

الثانية: إنّهعليه‌السلام رأى أعرابياً لا يُحسن الوضوء فاتّفق مع أخيه الحسن المظلومعليه‌السلام على أن يتوضأ كلّ منهما بمحضره.

فقال الحسينعليه‌السلام للأعرابي: (( أيُنا يُحسن الوضوء ؟ )) فقال الأعرابي: كلاكما تُحسنانه، روحي لكما الفداء، ولكن أنا الذي لا أُحسنه.

فهوعليه‌السلام قد تحرّج من أن يقول للجاهل: أنت جاهل ؛ لئلاّ يكسر قلبه مع أنّه جاهل حقيقة، فكيف حاله هو حين خوطب بخطابات لا تليق إلاّ بأعداء الله تعالى ؟! فقد قال له قائل: تعجّلت بنار الدنيا، وقال له الحصين بن تميم ـ حين أراد الصلاة ـ: إنّها لا تُقبل منك، لعن الله أعداء أوليائه.

الثالثة: أعطاه رجل رقعة، فقال له الإمامعليه‌السلام فوراً حاجتك مقضية، فقيل له: لولا قرأتها، فقالعليه‌السلام : (( يسألني الله تعالى يوم القيامة عن ذلّ مقامه بين يدي حين أقرأ رقعته )) يعني أنّه قد يتردد بين الخوف والرجاء حتّى أقرأ الرقعة فيصيبه ذلّ بين يدي ولا اُحبّ ذلك.

فكيف كان حاله حيث وقف بين أيدي أهل الكوفة يسألهم أموراً يعلم أنّهم لا يفعلونها، فطلب الإنصات لكلامه حينما أراد أن يتكلّم معهم فكانوا يتصايحون، فقالعليه‌السلام : (( ويلكم ! ألا تسمعون ؟! ألا تنصتون؟!)).

٩٢

الرابعة: حضرعليه‌السلام عند أُسامة بن زيد حالة احتضاره، فتأوّه أُسامة وقال: يا غمّاه ! فقالعليه‌السلام : (( يا أخي، لِما تأوّهت، وما غمّك ؟ )) قال أُسامة: عليّ دّين مقداره ستون ألف درهم قال الإمام الحسينعليه‌السلام : (( عليّ قضاؤه )) قال: اٌحبّ أن يُقضى وأنا حيّ فقضاه في مجلسه.

أفيحق لمثل هذا الرحيم الرؤوف، الإمام المعصومعليه‌السلام أن يتأوّه ويتلهّف، ويلتمس في حالة احتضاره أموراً هيّنة يسيرة ولا يُقضى له منها حتّى قطرة من الماء ؟! وا أسفاه ! ووا غمّاه ! ووا لهفاه ! ووا كرباه عليك يا مولاي وسيدي الحسين !

الخامسة: وقف أعرابي عليه وهو يصلّي فقال :

لم يخب الآن مَنْ رجاك ومَنْ

حرّك من دون بابك الحلقه

فدخل الدار، وشدّ أربعة آلاف دينار في ردائه ودفعها إليه من رواء الباب ؛ حياءً منه، وقال :

خذها فإنّي إليكَ معتذرٌ

واعلم بأنّي عليكَ ذو شفقه

لو كانَ في سيرنا الغداةَ عصا

أمست سمانا عليكَ مندفقه

لكنّ ريبَ الزمانِ ذو غِيَرٍ

والكفُ منّي قليلةُ النفقه

فبكى الأعرابي، فقال لهعليه‌السلام : (( استقللت العطاء ؟ )) قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك.

فبكاء الأعرابي كان على دفن يده في التراب ولا ننسى أنّ تلك اليد في حينها لم تكن مدماة قطيعة الأصبع حمراء، تشخب دماً زاكياً، ولكن نحن نبكي على الذي كان حياؤه بمرتبة يخجل معها حتّى عند عطائه لمبلغ كثير من المال لسائل غير مضطر.

فكيف يكون خجله إذا سأله أحد المضطرين شيئاً ولم يعطه ؛ لعدم تمكّنه وهو الكريم الرحيم على عباد الله تعالى وعلى خلقه، أم كيف كان حاله حين سألته ابنته الصغيرة شربة ماء، وهو يرى حالها من العطش، وسألته زوجته قطرة ماء لولده الرضيع، بل ولرضيع ثانٍ، وأعظم من ذلك أنّه طلب منه ابن أخيه أن يحضر على جسده حال وقوعه، فجاء ولم يدركه حيّاً ؛ فلذا قالعليه‌السلام : (( يعزّ على عمّك أن تدعوه فلا يُجيبك، أو يُجيبك فلا ينفعك )).

السادسة: وُجد يوم الطفّ في ظهره أثراً، فسألوا السجّادعليه‌السلام عن سببه، فقالعليه‌السلام : (( ذلك ممّا كان ينقل على ظهره من الطعام قي الليالي للأرامل والأيتام، والفقراء والمساكين )).

فهل من الإنصاف أن يُمنع من سقي طفل له رضيع قطرة من الماء ؟

٩٣

السابعة: مرّ يوماً على مساكين وقد أخرجوا كسرات من الخبز ليأكلوا فدعوه إلى طعامهم فثّنى وركه وجلس يأكل معهم، وهو يقول: (( إن الله لا يحب المستكبرين )) ثمّ قال: (( قد أجبتكم فأجيبوني )) فقالوا: نعم فأتوا منزله، فقال للجارية: (( اخرجي ما كنتِ تدّخرين )) فجاءت بأطيب الطعام، فجلس يأكل معهم (سلام الله عليه) ليُطيّب قلوبهم.

وقد سعىعليه‌السلام كثيراً في أن يُطيّب قلوب نساء وأطفال عطاشى بشربة من الماء فلم يمكّنوه من ذلك.

القسم السادس: البكاء للتبعيّة

فإنّه قد يتحقّق البكاء تبعاً للباكين مع قطع النظر عن المبكي عليه، فابك تبعاً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فلكم فيه أُسوة حسنة، لا بل تبعاً للأنبياء والأوصياء، لا بل تبعاً للسماوات والأرضين، أو الوحوش أو الطيور، أو الجنة أو النار، أو ما يُرى وما لا يُرى، أو الجن أو الملائكة، أو ابكِ تبعاً للأشجار، أو تبعاً للحجار.

فأيّ قلب هو أقسى من الحجر، أو تبعاً للحديد فقد بكى مسمار سفينة نوح النبيعليه‌السلام دماً، كما جاء دليل ذلك كلّه في الأحاديث والروايات، فابك دماً تبعاً له.

القسم السابع: الترحم للجنس

فإنّه يوجب الرقّة مع قطع النظر عن كلّ صفة وحقّ وعلاقة مثلاً: إذا سمعت أنّ رجلاً بلا تقصير أتى إلى بريّة ومعه أولاد أطفال ونساء وشباب، وإخوان وأصحاب وأقارب فجرى عليه ما جرى لاحترق قلبك أسىً وألماً عليه بل لو سمعت أنّ رجلاً مقصّراً، أو محلّلاً للحرام، أو محرّماً للحلال، أو عدوّاً لك، أو كافراً بالله تعالى صُنع به ما صُنع مع إمامنا الحسينعليه‌السلام لرحمته ورأفت بحاله، وقد كان يقولعليه‌السلام : (( هل تُطالبوني بقتيل قتلته ؟ أو بمال لكم استملكته ؟ أو شريعة بدلّتها ؟ )).

أقول: فدتك نفسي ! لو كنت كذلك لما كنت مستحقّاً لما وقع عليك، فليست هناك جناية هذه عقوبتها، بل إنّه ليس متعارفاً لدى القُساة الفسقة المنافقون في طول تاريخ البشرية جريمة كما فُعل بك يا حسين يا حسين.

فهلمّوا نبكِ عليه بكاء ترحّم عليه، فمَنْ لا يبكيه كذلك لا مروّة له، ولا إنسانية سوية.

القسم الثامن: البكاء لهذه الصّفات بأجمعها

بل ولغيرها من صفات حسنة للإمام لم نذكرها، بل لم يكتبها التاريخ من الصّفات والمواقف الحسنة النورانية.

٩٤

فالحسينعليه‌السلام والدك حقيقة وأنت ملتحم به، وهو كبير في السماوات والأرض، صاحب كلّ الحقوق عليك، صاحب الصّفات الحميدة، بكى عليه جميع الخلق، وهو من البشر ولا ذنب له ولا جرم، وقد وقع عليه كلّ ذلك، فمَنْ لا يبكيه كذلك فهو عاقّ شاقّ بلا وفاء وبلا عهود، ولا يعرف قدراً ولا مروّة له، وهو خارج عن الحقيقة الإنسانية.

النوع الثاني: البكاء من غير سبب ملحوظ

وله أفراد :

الأوّل: كلّ خضوع وانكسار، وخشوع وهمّ وغمّ يعرض للناس فإنّ مرجع الكلّ إلى الحسينعليه‌السلام ؛ ولهذا المطلب مقدّمات ليس هنا محلّ بيانها.

الثاني: الرقّة عليه بالفطرة التي فُطر الناس عليها من غير اختيار، مع التفات الباكين إلى أنّه رقّة على المبكي عليهم، ويكون ذلك في أحبائهم وفي أعدائهم، مع الغفلة عن بغضهم فيغلب جانب الرقّة بحيث يوجب الغفلة عن البغض.

وذلك كبكاء يزيد حين رأته هند، وبكاء معاوية على عليعليه‌السلام ، وهذا القسم لا نحتاج فيه إلى أن نقول: هلمّ وابكِ على أيّ شيء، بل نقول: اقطع النظر عن كلّ شيء، فافرض أنّك لا تعرف الحسين الشهيدعليه‌السلام ، ولا تعرف قرابة ولا حقوقاً، ولا صفاتاً ولا جلالة، وافرض أنّه لا ثواب للبكاء عليه ولا أجر ولا تبعية لأحد، فلاحظ هل يجري الدمع بلا اختيار أم لا ؟

الثالث: فطرة توجب الرقّة بلا اختيار مع الالتفات إلى جهة البغض، ومنع النفس عن الرقّة وتشجيعها على التصبّر، فمع ذلك يغلب البكاء كبكاء ابن سعد، وبكاء أخنس بن زيد، وبكاء خولي، وبكاء السالب لحلي فاطمة بنت الحسينعليهما‌السلام ، وبكاء العسكر كلّه حين عرضت عليهم حالات أبكتهم مع منع أنفسهم عن البكاء، والتفاتهم إلى جهة بغضهم، وعدم رغبتهم في البكاء، ومنافاته لِما هم فيه وبصدّده من مواجهة إمام زمانهم ومعاداته وقتاله، ولكنّه غلب على كلّ حالاتهم، حتّى على شقاوتهم وخبث طينتهم، وفيهم ما فيهم من أولاد زنا وكفر ونفاق وشقاق.

فإذا أردت أن تعرف هذه الحالة المبكية لِمَنْ كان عدوّاً له، مع التفاته لعداوته ومنع

٩٥

نفسه عن البكاء، فاستمع ثمّ امنع نفسك عن البكاء تجد أنّه يغلب عليك البكاء تلو البكاء بلا اختيار.

فلنذكر الآن بعضها ولا نقول: هلمّوا لنبكي، بل نقول: امنعوا أنفسكم عن البكاء واضبطوها وتجلّدوا، فانظروا هل تقدرون حقّاً على ذلك حيناً ما ؟

فمِن تلك الحالات، ما كان فيها واقفاً في الميدان وفي بدنه ألف وخمسمئة إصابة، الضربة فوق الضربة، والجرح على الجرح، والرض على الرض، والضرب على الضرب والرأس مشقوق، والقلب مقسوم ظاهراً من السهم، وباطناً من ملاحظة العيال والنساء والأهل ومَنْ معهم من الأرامل والمواليات واليتامى، بل وابناه الرضيعان.

ومحترق ظاهراً من العطش، وباطناً من الفراق وضياع الإسلام، بل ومن هلاك مقاتليه بأن يكون مصيرهم إلى النار بسببه، وهذه رحمة لا تتوفر عادة إلاّ لدى الأنبياء وأوصياء الأنبياءعليهم‌السلام ، وما هذا إلاّ لنعلم عظم قدرهم وحكمة الله تعالى في خلقهم.

نعم، وباطناً من الفراق، وفي هذه الحالة يُضرب بالسيف على مذبحه، وهو يستسقي ماء، فامنع نفسك عن البكاء فقد بكى ابن سعد على هذه الحالة وسالت دموعه على لحيته.

ومنها حالة إدخال النساء والعيال والرؤوس المنصوبة على الرماح على يزيد، إذ وضِعت الرؤوس، ووقفت البنات والنساء والأرامل والعليل الإمام المعصومعليه‌السلام مقيّدون، فحصلت هيئة فظيعة أوجبت غلبة الرقّة على يزيد (لعنه الله) حتّى قال: قبّح الله ابن مرجانة.

المقصد الثاني: في البواعث الخارجية والموجبة للبكاء المختصّة به

وهي عشرة :

الأوّل: رؤية شبحه وظِله في عالم الأشباح والظِلال، بل رؤيته في عالم القُدس، كما اتّفق ذلك لآدمعليه‌السلام حين شاهد الذرّ في عالم الذرّ، فمثّل الله تعالى له قضية كربلاء فبكى لذلك، ولمّا رأى إبراهيمعليه‌السلام ملكوت السماوات والأرض، رأى الأشباح الخمسة تحت العرش فأبكته رؤية الخامس.

الثاني: سماع اسمه، كما قالعليه‌السلام : (( ما ذُكرت عند كلّ مؤمن ومؤمنة إلاّ بكى واغتمّ لمصابي )) فهو سبب بكاء لكلّ مؤمن.

الثالث: النطق باسمه، كما قال الأنبياء آدم وزكرياعليهما‌السلام ، في ذكر الحسينعليه‌السلام ، تسيل عبرتي وينكسر قلبي، بل ما ذكره نبي أو سمع باسمه إلاّ واعتبر.

الرابع: النظر إليه، وقد تحقّق هذا بالنسبة إلى جدّه حينما رآه عند ولادته وبعدها، وقد قال أبوهعليه‌السلام أيضاً حين نظر إليه وبكى: (( يا عبرة كلّ مؤمن )) قال: (( أنا يا أبتاه ؟ )) قال: (( نعم يا بُني )).

٩٦

فإن كنّا لم ننظر إليه في زمانه، فهل نظرنا إليه وإلى حالاته في كلّ مراحلها، بل وإلى بهائه ببصائر قلوبنا ؟ فإن لم ننظر إليه فهو ينظر إلينا، رحمة من الله تعالى الحكيم والرؤوف، بل ولهعليه‌السلام نظرات خاصّة إلى شيعته ومواليه ممّن تولّوه بصدق وإقبال مرضي لدى الله تعالى.

ففي الصحيح إنّ الحسينعليه‌السلام على يمين العرش ينظر إلى مصرعه وإلى زواره، وإنه لينظر إلى مَنْ يبكي عليه ولا غرو من أن لا يحجب نظره البعد والجدران والدور.

الخامس: النظر إلى مدفنه، كما قال الصادقعليه‌السلام : (( الحسينعليه‌السلام غريب بأرض غربة، يبكيه مَنْ زاره، ويحزن عليه مَنْ لم يزره، ويحترق له مَنْ لم يشهده، ويرحمه مَنْ نظر إلى قبر ابنه عند رجليه )) فهل ترون مدفنه ؟ قال العارف: وكلّ بلدةٍ فيها قبره، وكربلاءُ كلّ مكانٍ يُرى.

السادس: يمسّ بدنه وتقبيله ؛ فإنّه مبكٍ ولقد تحقّق هذا بالنسبة إلى جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي مواضع خاصّة ؛ فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يُقبّل نحره فيبكي، ويُقبّل فوق قلبه فيبكي، وجبهته ويبكي، ويُقبّل أسنانه فيبكي، ويُقبّل كلّ بدنه ويبكي، فيقولعليه‌السلام : (( يا أبتِ، لِمَ تبكي ؟ )) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : (( اُقبّل مواضع السيوف منك وأبكي)).

ولو سُئل عن بكائهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند تقبيل ثناياه، لقال: أُقبّل موضع نكث الخيزران، وأُقبّل ما يتبسّم ضاحكاً عند رؤيته ابن زياد، وأبكي لضحكه، ولو سُئلصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تُقبّل فوق قلبه ؟ لقال: موضع السهم المثلّث.

ولكن قد أرادت أُخته زينبعليها‌السلام في وقت ما تقبيل المواضع التي كان يُقبّلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم تتمكّن ؛ لأنّ الأعضاء كانت ممزّقة، خصوصاً بعد تحقّق الرضّ بالخيول، بل ولو لم يتحقّق فقد رضّ بالسهام والسيوف، والرماح والحجر والتقطّع كما قالعليه‌السلام : (( كأنّي بأوصالي تُقطّعها عسلان الفلوات )).

ولذا قيل على لسان السيدة زينبعليها‌السلام بالفارسية :

خاك عالم بسرم كز اثر تير وسنان

جاي يك بوسه من در همه اعضاى تونيست

نعم، قد قبّلت موضعاً واحداً من بدنه المبارك، ولم يُقبّله المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّها قبّلت النحر المنحور، والودج المقطوع، أي باطن ما قبّل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ظاهره ولذلك نادته حين وضعت وجهها على نحره المبارك، وأخبرته بأنّ هذا حسين مقطّع

٩٧

الأعضاء، ثمّ أخبرته بأنّ هذا الحسين محزوز الرأس من القفا، ولكن من أين علمت بذلك ؟

فيه وجوه :

الأوّل: أن تكون قد شاهدت ذلك حين ذبحه، لكنّه خلاف ما يظهر من الروايات الدالة على أنّهعليه‌السلام أمرها بالرجوع إلى الخيام.

الثاني: أن تكون قد سمعت بذلك من الناس الذين حضروا ونقلوه، أو نادوه بذلك فسمعته، وهو بعيد أيضاً.

الثالث: أن تكون قد استنبطت ذلك حين رأت الجسد الشريف ؛ فإنّها رأته مطروحاً بكيفية علمت أنّه قد حزّ رأسه من القفا، وذلك إنّها رأته مكبوباً على وجهه، فعظمت مصيبتها بذلك، وإن كانت مصيبتها بعُريهعليه‌السلام أعظم من أصل القتل ؛ فلهذا نادت جدّها الحبيبصلى‌الله‌عليه‌وآله مخبرة بقتله وبأنّه محزوز الرأس من القفا.

السابع: الانتساب إليه ؛ فإنّه يورث للحزن والبكاء، حتّى إنّ مسماره كان له تأثير في البكاء.

وذلك إنّه لمّا أتى جبرئيلعليه‌السلام بمسامير السفينة كلّ على اسم نبي، فسمّر بالمسامير كلّها السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير لمقدّمة السفينة، فلمّا أخذ نوحعليه‌السلام الأوّل بيده أنار وأشرق، فقال: هذا على اسم خاتم الأنبياء محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا تحقّق بالنسبة إلى الثلاثة الأخرى والتي كانت باسم علي والزهراء والحسنعليهم‌السلام ، فلمّا أخذ الخامس بيده ظهر منه دم، وتلطخت يده به، فقال جبرئيلعليه‌السلام : هذا على اسم الحسينعليه‌السلام .

فإذا كان الحديد الحسيني يُدمى، فلمَ لا تُدمى القلوب إذا كانت حسينيّة ؟

ثمّ من العجب أن تكون أسباب الفرح والسرور بالنسبة إليه كأسباب البكاء ! فحوريته الخاصّة به في الجنان باكية، وعيده ولبسه الجديد فيه مبكٍ لجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعبه مبكٍ، وفتحه في الحرب مبكٍ لأبيهعليه‌السلام ، وأكله طعاماً طيباً مبكٍ، بل الحمل به مبكٍ، وولادته مبكية، والتهنئة بها مبكية كما ورد كلّه في الروايات، إلى ما غير ذلك.

الثامن: دخول شهر شهادته، أعني المحرّم، فإنّه يورث الكربة واختناق العبرة في قلوب مَنْ والاه، أما ترى التأثير في شهره فغصّ شرب الماء

٩٨

على مَنْ رعى، أو غصصت بالماء وشرقت، أو وقف في حلقك فلم تكد تسيغه ؟

التاسع: ورود أرض مدفنه، فإنّه باعث كبير على الحزن والبكاء، وقد تحقّق ذلك بالنسبة إلى كلّ نبي ورد تلك الأرض، وورد أنّه ما من نبي إلاّ وقد زار كربلاء، وقال: فيك يُدفن القمر الأزهر.

وكلّ منهم كان إذا ورد اعتلّ وضاق صدره، وأصابه الغمّ، وأصابته بليّة حتّى يسأل ربّه تعالى عن ذلك، فيوحى إليه: إنّ هذه كربلاء، وإنّ الحسين يُقتل فيها.

وقد تحقّق ذلك أيضاً بالنسبة إلى أهل بيته لمّا وردوا كربلاء ونزلوا، قالت أُمّ كلثومعليها‌السلام : يا أخي، هذه بادية مهولة ! فقال الحسينعليه‌السلام : (( إنّ أبي نام في هذه الأرض فاستيقظ باكياً وقال: رأيت ولدي الحسين في بحر من الدم يضطرب، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، كيف تكون إذا وقعت الواقعة ها هنا ؟ )).

العاشر: سماع اسم أرض مدفنه، وقد تحقّق ذلك بالنسبة إليهعليه‌السلام ؛ فإنّه لمّا ورد أرض كربلاء وسأل عن [اسمها]، أخبروه بأسماء عديدة، ثمّ قالوا: إنّها تسمّى كربلاء فاغرورقت عيناه المباركتان بالدموع وقال: (( اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء هاهنا مناخ ركابنا، ومحطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، ومذبح أطفالنا ؛ فيها يُراق دمي، وفيها تُرى حرمي حواسراً عليهنّ من ثوب الذلّ سربال، وفيها تُقتل أبطالي وتُذبح، وتستعبد الأحرارَ أرذالٌ)).

حطّوا الرحال بها يا قوم وانصرفوا

عنّي فما ليَ عنها قطُّ ترحالُ

الحادي عشر: شرب الماء البارد، وقد كان هذا من المبكيات دائماً للإمام الصادق وغيره من الأئمّةعليهم‌السلام ، كما ورد عن داود الرقّي، قال: كنت عند الصادقعليه‌السلام فشرب ماء، واغرورقت عيناه المباركتين بالدموع، فقالعليه‌السلام : (( ما أنغص ذكر الحسين للعيش ! إنّي ما شربت ماء بارداً إلاّ وذكرت الحسينعليه‌السلام )) إلى آخر الحديث.

وقد نُقل عن الحسينعليه‌السلام : (( شيعتي، شيعتي، ما إن شربتم عذب ماء فاذكروني، أو سمعتم بغريب فاندبوني))(١) .

____________________

(١) لم نعثر في موسوعاتنا الروائية على هذا النص، ولكن ورد عن سكينة بنت الحسينعليها‌السلام أنها قالت: لمّا قُتل الحسينعليه‌السلام اعتنقته، فاُغمي عليَّ، فسمعته يقول :

شيعتي ما إن شربـتم

ريّ عذبٍ فاذكروني

أو سمعتم بغريبٍ

أو شهيد فاندبوني

(مستدرك الوسائل ـ للميرزا النوري ١٧ / ٢٦ ب٢٢ ح١) (موقع معهد الإمامين الحسنَين)

٩٩

الثاني عشر: شمّ تربته، فقد أبكى ذلك جدّه محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله حين دخل عليه عليعليه‌السلام فرأى عينيه تفيضان، فقال: (( دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعيناه تفيضان، فقلت: بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ! ما لعينيك تفيضان ؟! أغضبك أحد ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا، بل كان عندي جبرئيلعليه‌السلام فأخبرني أنّ الحسين يُقتل بشاطئ الفرات، وقال لي: هل اُشِمُكَ من تربته ؟ قلت: نعم فمدّ يده فأخذ قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا واسم الأرض كربلاء )).

وكذلك الإمام الرضاعليه‌السلام كما ورد عن أبي بكار، قال: زرت كربلاء وأخذت من عند الرأس طيناً أحمر، فدخلت على الرضاعليه‌السلام فعرضته عليه فأخذه في كفّه، ثمّ شمّه ثمّ بكى حتّى جرت دموعه، ثمّ قالعليه‌السلام : (( هذه تربة جدّي )).

الثالث عشر: سماع مصيبة لشهيد أو غريب أو مظلوم ؛ فإنّه مذكّر بالحسينعليه‌السلام ، وقد قالعليه‌السلام :

أو سمعتم بغريب

أو شهيد فاندبوني

الرابع عشر: مصيبة عند سماعها أو تصوّرها والتفكر فيها، ولتأثير هذا الوجه كيفيات عديدة، وتختلف باختلاف السامعين، وتفصيلها في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى.

المقصد الثالث: في كيفيّات الرقّة والجزع والبكاء عليه

وهي أقسام :

الأوّل: بكاء القلب بالهمّ والغمّ، وهو أوّل المراتب، وثمرته أنّه يجعل النَفَس تسبيحاً لله تعالى، كما قالعليه‌السلام : (( نفس المهموم لظلمنا تسبيح )).

الثاني: وجع القلب، وفي الحديث: (( إنّ الموجع قلبه لنا ليفرح عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض )).

الثالث: دوران الدمع في الحدقة بلا خروج، وهذه هي التي توجب الرحمة من الله تعالى، كما في الرواية عن الصادقعليه‌السلام في الباكي أنّه يرحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه.

الرابع: خروجه من العين مع اتصاله به، ولو بقدر جناح بعوضة، وهذا هو الذي ورد فيه أنّه يوجب غفران الذنوب ولو كانت كزبد البحر.

١٠٠