• البداية
  • السابق
  • 156 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 11590 / تحميل: 5340
الحجم الحجم الحجم
عاشوراء بين الصلح الحسني والكيد السفياني

عاشوراء بين الصلح الحسني والكيد السفياني

مؤلف:
العربية

انتصار الإبادة

وقد طبّق معاوية سياسة الإبادة هذه حتّى بعد معاهدة الصلح حيث بطش في أصحاب عليعليه‌السلام واستأصل شأفتهم ..

فقد نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمة ممّن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل أهل بيته.

وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة، لكثرة مَن بها من الشيعة، فاستعمل زياد ابن أبيه وضمّ إليه العراقَيْن: الكوفة والبصرة، فجعل يتتبع الشيعة، وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم، وطردهم وشرّدهم حتّى نُفوا عن العراق، فلم يبقَ بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب، أو محبوس، أو طريد أو شريد.

وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة(1) ...

وكتب إليهم أيضاً أن يقتلوا كل من يحبّ أهل البيت، أو يُشكّ أو يُتّهم بحبه لهم(2) .

____________________

(1) الاحتجاج 2 / 17، وسليم بن قيس / 316، وبحار الأنوار 33 / 192، وج44 / 125، 126، ومناقب أهل البيتعليهم‌السلام - للشيرواني / 27، شرح النهج 10 / 244، والغدير 11 / 28.

(2) راجع المصادر في الهامش السابق.

٤١

ومن جهة اُخرى ، فإنّ النصر العسكري للإمام الحسنعليه‌السلام لا يعني بطلان اُطروحتهم وبوار حجتهم ...

والشاهد على ما نقول: إنّ معاوية قد استطاع أن يخدع الناس بباطله حتّى في مقابل أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي لا يدانيه أحد في الاُمّة في جهاده وتضحياته، ومقامه وفضائله.

ولا يجرؤ أحد على ادّعاء شيء منها في مقابله. فهل يعجز هو والأخطبوط الاُموي من ورائه، والزبيريّون وأتباعهم، والخوارج وأصحاب الأطماع، وكذلك الذين لا يعتقدون بإمامتهعليه‌السلام ، بل يوالون غيره، هل يعجز هؤلاء كلهم عن بلبلة الأفكار وإثارة الشبهات والشكوك حول الإمامة والإمام، خصوصاً بعد خديعة التحكيم التي أعطته الجرأة ليتسمى بأمير المؤمنين؟!

ثمّ بعد استشهاد الإمام عليعليه‌السلام وصيرورة الأمر إلى ولده الإمام الحسنعليه‌السلام ، حيث تداعى الجيش العراقي، وظهرت فيهم حسيكة النفاق، وساروا في صراط الخيانة والغدر.

والخلاصة: أنّ انتصار الإمام الحسنعليه‌السلام لا يعني أن تصبح النتائج على صعيد وضوح الحق وإبطال كيد أهل الباطل في المستوى المطلوب، بل سيبقى مثيروا الشبهات وأصحاب الادّعاءات الباطلة يثيرون الشبهات بدعواهم شراكة الإمام عليعليه‌السلام في قتل عثمان، ولادّعاء أن معاوية قد ظلم، وأن كل مَن معه قد ظلموا معه، وسيقولون للناس: إن النصر العسكري لا يعني أن المنتصر محق.

٤٢

فالانتصار عليهم إذاً لن يكون مانعاً لهم من التشكيك في أحقّية أهل البيتعليهم‌السلام بمقام الإمامة، فكيف إذا أصبحوا يدَّعون المظلومية لأنفسهم، والغاصبيّة والعدوانيّة من أهل البيتعليهم‌السلام ، وعلى رأسهم الإمام عليعليه‌السلام ، عليهم وعلى حقوقهم؟!

وسوف يجدون الكثيرين من البسطاء والسّذّج، وطلاب الدنيا والجهال، وحديثي العهد بالجاهليّة يستمعون إليهم، ويقبلون منهم، ويأخذون عنهم.

كما أن الخوارج والزبيريّة والعثمانيّة، والموالين لغير أهل البيتعليهم‌السلام ، وأهل المطامع والأهواء سوف ينشطون لمواجهة خط أهل البيتعليهم‌السلام ونهجهم، وسوف يسرحون ويمرحون، ويضلون ويشككون، ويثيرون الفتن، ويشيعون الباطل في الناس، ولربما تحدث تقلّبات وفتن تزيد الطين بلة، والخرق اتساعاً حين تتشارك آلاف الأيدي الأثيمة في تشويه صورة الحق، وفي زرع الفتنة وتمزيق المسلمين.

الثاني: أن لا يتحقق انتصار حاسم لأي من الطرفين، بل يبقى كل فريق في موقعه كما كان الحال عليه في زمن الإمام عليعليه‌السلام .

ومن الواضح: أنّ هذا الأمر لن يأتي بسهولة، بل سوف يكون ثمنه خوض حروب صعبة قد تكون كبيرة وخطيرة، بالإضافة إلى الكثير من الضحايا من خلّص الشيعة ومن الناس عامة.

أمّا النتائج فهي بلا شك ستكون ضئيلة وغير متكافئة مع حجم التضحيات وفقاً لما أوضحناه آنفاً، وذلك في ظل النشاط التخريبي

٤٣

للأخطبوط الاُموي وكل المناوئين لأهل البيتعليهم‌السلام .

ولعلّك تقول:

إذا كان الأمر كذلك فلماذا حارب الإمام عليعليه‌السلام معاوية ولم يسعَ إلى الصلح معه؟!

ونقول في الجواب:

سيأتي: أنّ الإمام علياًعليه‌السلام كان قادراً على الحرب، وعلى تسجيل النصر الحاسم فيها فسعيه لمسالمة معاوية يعطي الانطباع بأنّ معاوية محق فيما يدّعيه كما سيأتي.

الثالث: أن ينتصر معاوية في الحرب، والثمن سوف يكون في هذه الحالة أعلى وأغلى، فإنّ الدماء التي سوف تسفك في حرب كهذه سوف تكون كثيرة وغزيرة، ولن يقتصر ذلك على دماء شيعة الإمام عليعليه‌السلام ، بل هي سوف تتعداهم إلى غيرهم. كما أنّ الآثار السلبية للحرب السياسيّة منها والاجتماعيّة، والأخلاقية والاقتصاديّة وغيرها سوف تكون كبيرة وخطيرة جداً.

أضف إلى ذلك: أنّ هذه الحرب سوف تتمخض عن نتائج مرعبة هي بلا شك الأشر والأضر: هي قتل أهل بيت النبوة واستئصالهم، ثمّ الملاحقة بالإبادة الأكيدة لجميع أهل الإيمان أينما كانوا وحيثما وجدوا.

وإذا كان معاوية قد تتبّع شيعة الإمام عليعليه‌السلام حتّى استأصلهم - كما تقدم - رغم أنه لم يخض مع الإمام الحسنعليه‌السلام

٤٤

حرباً، ورغم العهود التي أعطاها في صلحه وعقد هدنته معه، فماذا ستكون النتيجة؟

وكيف سيعامل شيعة الإمام علي والإمام الحسنعليهما‌السلام لو أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان قد حاربه وانتصر هو على الإمامعليه‌السلام ؟!

وإذا تمخّضت الحرب عن هذه النتائج فمَن يا تُرى يمكن أن يكون الداعي إلى الحق والمدافع عنه، ومن يجرؤ على تعريف الناس به أو دلالتهم عليه؟!

فإنّ هذا الدين سوف يصبح بلا شك أسيراً بأيدي الأشرار، وعلى رأسهم من هو مثل يزيد (لعنه الله)، والوليد ومروان، ومن تابعهم وشايعهم من أمثال الشمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، وعبيد الله بن زياد، والحجاج، وخالد القسري، وغيرهم ممن هو على شاكلتهم.

ومن جهة اُخرى: فإنّ معاوية الذي استطاع أن يجنّد المسلمين لحرب أعظم رجل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يخدع الناس بشبهاته وشائعاته، وأن يستفيد إلى أبعد الحدود من قتل عثمان، ومن علاقته بعمر بن الخطاب، لو انتصر على الإمام الحسنعليه‌السلام فسوف يكون أقدر على تشويه الصورة وقلب الحقائق، وسوف يستعين بكلِّ ما له من مال ورجال، وسيشتري الضمائر، ويشوّه الدين، ويعبث بأحكامه بلا رقيب أو عتيد.

فلا بدّ من تجاوز مرحلة معاوية بأفضل الطرق والوسائل، خصوصاً

٤٥

بعد أن سمّى نفسه بأمير المؤمنين بعد التحكيم، حيث إنّ هذا سيجعله أكثر شراسة في الدفاع عمّا يعتبره إنجازاً عظيماً في سياق تحقيق طموحاته وأطماعه الكبرى.

ولعلّك تقول:

إنّ هذه الاُمور لا بدّ أن تمنع أيضاً من مواجهة الإمام الحسينعليه‌السلام ليزيد (لعنه الله).

ونقول في الجواب:

إنّ الأمر بعد الصلح قد أصبحت له حيثيات اُخرى، فإنّ حركة الإمام الحسينعليه‌السلام الجهاديّة قد جاءت لتؤكد ثمرات هذا الصلح وتحفظها.

جيش الإمامعليه‌السلام

وإذا كانت الاُمور تسير باتجاه تكريس النصر العسكري لصالح معاوية حين استطاع أن يخرج الاُلوف الكثيرة من جيش الإمام الحسنعليه‌السلام من دائرة الصراع المسلّح، من خلال شراء ضمائر قادتهم، وكان من بينهم أقرب الناس إلى الإمام، وواليه على اليمن، وابن عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو عبيد الله بن العباس(1) الذي خان الإمام الحسن

__________________

(1) بحار الأنوار 44 / 51، الغارات / 644، شرح النهج - للمعتزلي 16 / 42، وراجع حول استسلام قادة جيش الإمام الحسنعليه‌السلام أعيانَ الشيعة 4 قسم 1 / 22.

٤٦

عليه‌السلام ولحق بمعاوية في ثمانية آلاف، لقاء مئة ألف درهم كما رواه الفضل بن شاذان في بعض كتبه(1) ، أو مليون درهم(2) ..

مع أنّ معاوية قد قتل له طفلين في اليمن، فقد أتي بهما أحد قواده، وهو بسر بن أبي أرطأة، فذبحهما(3) .

هذا فضلاً عمّن انحاز إلى معاوية مع غير عبيد الله، مع العلم بأن جيش الإمام الحسنعليه‌السلام بأجمعه ربما لم يكن يزيد على العشرين ألفاً(4) في مقابل ستّين ألفاً عند معاوية كما نصّت عليه المصادر(5) .

وفي بعضها أنّ معاوية كان في مئة ألف(6) .

ويدلّ على أن عدة جيش الإمام الحسنعليه‌السلام لا تزيد على

__________________

(1) قاموس الرجال 6 / 216 عن الفضل بن شاذان في بعض كتبه، والبحار 44 / 60 عن الكشي.

(2) الإرشاد - للمفيد 2 / 13، وشرح النهج - للمعتزلي 6 / 42، وتاريخ اليعقوبي 2 / 214.

(3) سير أعلام النبلاء 3 / 837، وتاريخ مدينة دمشق 10 / 152، وراجع الاستيعاب مطبوع بهامش الإصابة 1 / 163 عن الدار قطني، والمبرد، وراجع مقاتل الطالبيِّين / 65.

(4) راجع صلح الإمام الحسنعليه‌السلام - لآل ياسين / 106.

(5) الإمامة والسياسة 1 / 184.

(6) راجع الهداية الكبرى / 192.

٤٧

ذلك، أمّا ما ذكروه من أنه كان ولّى كندياً على أربعة آلاف فانحاز إلى معاوية في مئتين منهم، ثمّ أرسل أحد بني مراد على أربعة آلاف أيضاً فانحاز إلى معاوية أيضاً، فأعلم الناس بذلك، فادعوا أنهم مناصحون له، فقال لهم:

«إنّ معسكري بالتحلية فوافوني، وإنّي لأعلم أنكم غادرون بي، ووالله لا تفون بعهدي، ولتنقضن الميثاق بيني وبينكم».

ثمَّ إنه أخذ طريق النخيلة فعسكر عشرة أيام، فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف،

وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية بـ:

«أنَّا معك، وإن شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك»(1) .

بل لقد قالعليه‌السلام لحجر بن عدي:

«والله يا حجر، لو أني في ألف رجل، لا والله إلاّ مئتي رجل، لا والله إلاّ في سبع نفر لما وسعني تركه»(2) ، يعني ترك معاوية الذي جاء في مئة ألف حسب نص تلك الرواية نفسها.

___________________

(1) راجع الخرائج والجرائح 2 / 574، 575، 576، والبحار 44 / 43 - 45، ومعالي السبطين / 34، والعوالم 16 / 141، وراجع إثبات الهداة 5 / 151، والهداية الكبرى / 189 - 191 لكن فيه: إنّ الذين وافوه إلى النخيلة هم عشرة آلاف راجل.

(2) الهداية الكبرى / 192.

٤٨

بل ذكر المرتضى في تنزيه الأنبياء أنهعليه‌السلام دعاهم إلى أن يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة فلم يجبه منهم أحد(1) .

وبذلك يظهر: أنّ ما ذكره البعض من أنه قد كان عنده أربعون ألفاً، أو نيف وأربعون ألفاً(2) فهو ناظر إلى الذين كان الإمام عليعليه‌السلام قد جهّزهم قبل استشهاده لحرب معاوية كما ألمح إليه، بل صرح به بعضهم(3) .

أمّا مَن بقي معهعليه‌السلام فهم يرون أن الدنيا التي يحبونها كانت عند معاوية الذي يرون بينهم وبينه العقبات والحواجز، كما أنهم كانت أهواؤهم وولاءاتهم مختلفة، فمنهم الخوارج، ومنهم - وهم الأكثر - من يكنّ الولاء لعمر بن الخطاب لا للإمام عليعليه‌السلام .

وذلك لأنّ عمر هو الذي فتح بلادهم، ووجههم للفتوحات في بلاد فارس، فاستفادوا المال والمناصب وغير ذلك، وهو الذي مصَّر الكوفة والبصرة، بالإضافة إلى أن الكثيرين ما كان يهمهم سوى الحصول على الولايات والمناصب والزعامات، ومنهم من كان يكنّ الولاء لبني اُميّة.

وقد رأوا أنّ الإمام علياًعليه‌السلام يريد أن يحملهم على المحجّة،

___________________

(1) راجع البحار 44 / 25.

(2) راجع عمدة الطالب / 66، والمختصر في أخبار البشر 1 / 182، والبحار 44 / 57، وتاريخ الخميس 2 / 289، والكامل في التاريخ 3، وراجع كلام المسيب بن نجبة في شرح النهج - للمعتزلي.

(3) راجع المختصر في أخبار البشر 1 / 193، وابن الأثير في الكامل.

٤٩

ويعاملهم بالعدل، وقد جاهد بهم أعداء الله، وضحوا بالأموال والأنفس، وبالعلاقات وبغير ذلك من دون أن يحصلوا على غنائم ولا على سبايا، ولا على مناصب أو مقامات، بل إنّ الإمام علياًعليه‌السلام لا يسكت حتّى عن وليمة يُدعى إليها واليه على البصرة، وهو ابن حنيف، فيكتب إليه رسالة لوم وتقريع يخلّدها التاريخ، كما أنهعليه‌السلام لم يكن ليفسح لهم المجال لأية مخالفة، بل هو يعاقب المخالف وفق أحكام الشرع والدين.

وهذا أمر لم يعتادوه، بل اعتادوا حياة الانفلات والسعي وراء الشهوات، وكانوا يعرفون أن الإمام الحسنعليه‌السلام لا يختلف عن أبيه في ذلك، بل هو يسير على نفس الخط.

بل إنّ هذا الجيش نفسه الذي أعدّه الإمام الحسنعليه‌السلام لحرب عدوه قد اعتدى على نفس قائده وإمامه، فنهبوا فسطاطه، وأخذوا مطرفه عن عاتقه، وسحبوا البساط الذي يصلّي عليه من تحته، وضربوه بالمعول في فخذه بساباط المدائن، وبقي يتداوى من هذه الضربة أكثر من شهرين(1) .

ورماه أحدهم بسهم وهو يصلي، فلم يثبت فيه لأنهعليه‌السلام كان يلبس درعه(2) .

_____________________

(1) شرح النهج - للمعتزلي 16 / 26، 41، وراجع مقاتل الطالبيِّين / 41، وكمال الدين وتمام النعمة / 546، والبحار 51 / 232.

(2) أعيان الشيعة 4 قسم 1 / 22 عن المفيد.

٥٠

فالجيش الذي يفعل ذلك بقائده وسيده هل يمكن أن يضحّي بالغالي والنفيس امتثالاً لأمر ذلك القائد ونصرة لقضيته؟!

وقد قالوا في وصف جيش الإمام الحسنعليه‌السلام :

خف معه أخلاط من الناس، بعضهم شيعة له ولأبيهعليهما‌السلام ، وبعضهم محكّمة (أي خوارج) يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبية اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين(1) .

أمّا معاوية فمعه جيش قوي متماسك يلتقي معه في الأهداف، وفي السلوك، وفي الولاء، وقد تربى على يده، وعلى نهجه، وله نفس طموحاته، وعين أهدافه، ويكنّ له الولاء والحب.

وله أيضاً جانب كبير من أهل العراق، وفي جيش الإمام الحسنعليه‌السلام بالذات ممّن اشترى ضمائرهم، أو أنهم من أنصاره والموالين له مباشرة، أو يلتقون معه في الأهداف، أو في المطامع، أو في الولاء والانتساب لغير أهل البيتعليهم‌السلام .

التحرك نحو الحرب:

وقد كان الإمام الحسنعليه‌السلام يعلم بكل هذه الحقائق، ولكن

­­­­­­­­­­___________________

(1) الإرشاد - للمفيد 2 / 10، وراجع البحار 44 / 46، 56، وأعيان الشيعة 4 / 20 ط دار التعارف سنة 1400 هـ، والفصول المهمة - لابن الصباغ / 143، وفي طبعة دار الكتب التجارية / 161، وكشف الغمة للأربلي 2 / 165.

٥١

كان لا بدّ له - بعد أن سار معاوية إليه بجيشه - من أن يتحرك للدفاع وللتصدي، لكي تتجسد الحقائق واقعاً، حياً وملموساً، وليرى الناس باُمِّ أعينهم حقيقة جيش الإمام في تركيبته، وفي ممارساته لكل أحد. ولكي يمكّن أن يخضع معاوية لشرائطه، أو على الأقل أن يقبل بأن يفاوضه عليها، ويحقق أعظم الأهداف رغم أنه في أضعف جيش، وفي مواجهته معاوية الداهية وهو في أقوى جيش، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أن الإمامعليه‌السلام قد حقق معجزة كبرى في مجال السياسة كما هو واضح.

خيار السلم:

وأمّا خيار السلم فهو أيضاً على نحوين:

أحدهما: أن يستسلم الإمام الحسنعليه‌السلام لمعاوية، ويقول له: افعل ما تشاء، فإنني قد انسحبت من ساحة الصراع.

فهذا السلام هو عين الهزيمة، وهو سوف يعطي الشرعيّة لكل ممارسات وجرائم وجنايات معاوية، وهو أعظم خطراً من الهزيمة العسكرية ثمَّ الإبادة.

ثاني: السلام القائم على شروط، وهو عقد الهدنة المسمّى بالصلح، فإنه ليس فيه تضحية لا بالأنفس ولا بالأموال، ولا تنشأ عنه أي من سلبيات الحرب الكثيرة.

كما أنه على صعيد النتائج لا يعطي أي مبرر لاُولئك الطغاة والمجرمين للعدوان على حياة القيادة، أو على حياة أي من الرموز

٥٢

المؤثرة والفاعلة في الحياة الدينية أو السياسيّة.

وهو أيضاً يحفظ الشيعة من تسهيل استئصالهم وإبادتهم حين يزيّن المجرمون لأنفسهم وللبسطاء من الناس أنّ جرائمهم هذه لا بدّ منها، لأنهم إنما يقتلون عدوهم الذي حاربهم وأراد قتلهم.

ولعلك تقول:

لقد رأينا أنّ الشيعة لم يسلموا بعد الصلح من ظلم معاوية وبني اُميّة، حيث تتبعهم زياد بن أبيه وغيره من ولاة معاوية تحت كل حجر ومدر، وألحقوا بهم أكبر الأذى.

ونقول في مجال التوضيح والتصحيح:

إنه كان ظلماً مفضوحاً، فاقداً لأي مبرر، ولا يمكن أن يتسبب بأي تضليل أو شبهة ..

لأنّ هذه الخسائر في السلم قد جاءت على سبيل نكث العهد، ونقض العقد، فهي إذاً لم تكن بلا ثمن، بل صار ثمن دم الشيعي هو اكتشاف الناس للخائن والغادر، ووعيهم لحقيقة هؤلاء الظالمين، ووضوح بطلان دعاواهم، وفضح مكائدهم، وإدراك أنهم غادرون ظالمون، ناكثون للعهود، وأنهم ليسوا أهلاً لما يدّعونه من إمامة وخلافة.

وهذا معناه: أنّ الصورة ستصبح أكثر نقاء ووضوحاً للأجيال الآتية، وفي هذا الوضوح يحفظ الدين من غائلة تراكم الشبهات والأباطيل، ويحفظ المسلمون من التضليل وبذلك يفضح أمر الطرف الآخر، ويسلب أية شرعيّة لما يدّعيه، وتسقط جميع تصرفاته عن الاعتبار،

٥٣

ويظهر زيف ادعاءاته، وبوار ممارساته، وعوار أهدافه.

كما أنّ ذلك يسقط شرعيّة كلّ ما يدّعيه الغاصبون الذين يأتون بعد معاوية ممّن يرتكزون في شرعيتهم إليه ويعتمدون فيها عليه.

فاتّضح: أنه لولا هذا السلم المتمثل بعقد الهدنة «الصلح » لبقي أعداء أهل البيت يبثّون شبهاتهم، ويشيعون أضاليلهم وأباطيلهم التي تتهدّد إيمان الناس واعتقادهم على مر الدهور والعصور.

واتضح أيضاً: أنّ ما يحصل عليه الإمام الحسنعليه‌السلام عن طريق السلم يستحيل أن يحصل عليه في الحرب حتّى لو انتصر فيها.

ولعلك تقول:

لماذا حارب الإمام عليعليه‌السلام معاوية ولم يسعَ إلى مصالحته؟

ونقول في الجواب:

إنّ من الضروري التنبيه إلى أن هذا لم يكن يمكن حصوله في حرب معاوية للإمام عليعليه‌السلام ، فإنّ الإمام علياًعليه‌السلام كان يملك القدرة على الحرب، فلا مبرر للصلح بنظر الناس، بل إنّ السعي إليه يوجب الشبهة لدى الناس في أن يكون معاوية محقاً فيما يدّعيه، وبذلك تصبح خيانة معاوية مبررة عند الكثيرين من الجهّال والبسطاء حتّى لو بادر إلى قتل الإمام عليعليه‌السلام نفسه، لأنه سيكون قادراً على التمويه على الناس في أمر اتهام الإمام عليعليه‌السلام بدم عثمان، وكفى ذلك مبرراً لنقض العهد والإقدام على جريمة قتلهعليه‌السلام

٥٤

بدافع من إحنه البدرية وأحقاده الأحدية.

ولكن قتل الإمام الحسنعليه‌السلام ليس له مبرر ما دام أنّ الحسنينعليهما‌السلام قد دافعا عن عثمان حين هوجم وقُتل كما أوضحناه في كتابنا: الحياة السياسيّة للإمام الحسنعليه‌السلام .

حسابات معاوية في صلحه:

وإذا رجعنا إلى حسابات معاوية لأمر الصلح فإنّه وإن كان يرى نفسه في موقع القوة، ويرى أن انتصاره العسكري سيكون سهلاً وميسوراً بملاحظة واقع الجيشين، ولكنه كان يعلم أيضاً أنّ هذا الانتصار إذا انتهى باستشهاد الإمامين الحسنينعليهما‌السلام وبني هاشم فإنه يحمل معه احتمالات حدوث مفاجآت غير محسوبة(1) هو في غنى عن معاناة الخوف والحذر منها، وسوف تنغّص تلك المفاجآت المحتملة عليه لذة العيش إذا كانت تتحرك في دائرة انتقال الملك إلى ولده يزيد (لعنه الله) وبني اُميّة، فإنّ الأيام قد تتمخض عن تقلّبات لم يحسب لها هو ولا غيره حساباً، وقد لا يستطيع من يأتي بعده من بني أبيه معالجتها بما يحفظ له النتائج الطيّبة التي يتوخاها ..

ولأجل ذلك، فقد آثر أن يعطي الإمام الحسنعليه‌السلام ما يريد، معتمداً على ما بيَّته من نوايا الغدر والخيانة له، ونكث عهده ونقض

____________________

(1) ولو مثل أن يأتي سهم غرب فيقتله أو يقتل ولده، أو أن يتمكّن إنسان من التسلل إليه أو إلى مَن يحب فيقتله، إلى غير ذلك من احتمالات.

٥٥

عقده، وإبطال كل ما كان شرطه له. وقد أفصح هو نفسه عن نواياه هذه بجلاء حينما أعلن بعد توقيعه على وثيقة الصلح، يقول:

ألا إنّ كلَّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين، لا أفي به(1) .

وهذا ما صرّح به عدد من المؤرّخين أيضاً(2) .

معاوية يظهر على حقيقته:

ولكن من الواضح: أنّ هذا الغدر والخيانة ليس فقط لا يخلّ بالبنية الفكرية والاعتقادية، بل هو يحصِّن هذه البنية ويزيدها قوة ومناعة، من حيث إنه يمثّل الدليل الحي لسقوط الدعاوى الكاذبة بأنّ لبني اُميّة الحقَّ في امتلاك قيادة الاُمّة فإنّ الخائن والغادر والكاذب لا يمكن أن يكون أهلاً لشيء من ذلك.

وليكن هذا الانطباع الناشئ عن المعاينة بمثابة صمّام الأمان حتّى لا تتعرض الحقيقة بعد هذا للتزوير، وليكن هو الحافظ لها من التشكيك

____________________

(1) راجع مقاتل الطالبيِّين / 69، والغدير 11 / 7، وشرح النهج - للمعتزلي 16 / 46، وراجع الإرشاد - للمفيد 2 / 14، والإمامة والسياسة 1 / 186، والبحار 44 / 3.

(2) راجع النصائح الكافية لمحمد بن عقيل / 193، وترجمة الإمام الحسنعليه‌السلام - لابن عساكر - بتحقيق المحمودي / 186، وجواهر المطالب في إمامة الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام - لابن الدمشقي 2 / 198، والبداية والنهاية 8 / 131.

٥٦

والتلاعب وخداع الناس فيها ..

وبذلك يصبح للفكر السياسي والديني قوته ورسوخه وأصالته، ليؤمن بعد هذا مَن آمن عن بينة، وليكفر من كفر عن بينة.

الوفاء والخيانة لشروط الصلح

وبعدما تقدّم نقول: إنّ الإمام الحسنعليه‌السلام قد استطاع بعقد الهدنة الذي أبرمه مع معاوية أن يحفظ للشيعة المخلصين حقهم في الحياة، وأصبح أي تعامل غير إنساني معهم يمثّل دليلاً على سقوط اُطروحة وادّعاءات مناوئي أهل البيتعليهم‌السلام ، لأنه سوف يكون عدواناً غادراً ومفضوحاً لا يمكن تبريره بأي منطق كان حتّى بمنطق أهل الجاهليّة ومَن لا يؤمن بدين.

كما أنه عدوان يدركه الناس كلهم، كبيرهم وصغيرهم، وعالمهم وجاهلهم، والذكي والغبي، والقريب والبعيد من حيث إنّ البشر كلهم يدركون أنّ الحياة الإنسانيّة لا يمكن أن تستمر إذا لم يتم الالتزام بالعهود والمواثيق، فمن لا يلتزم بها فإنه يصادم البداهة، ولا بدّ من إدانته، لأنه بنظر الناس جميعاً يعبث بسلامة الحياة الإنسانيّة، وهو ما لا يمكن السماح ولا الرضا به في أي من الظروف والأحوال.

وبذلك يصبح الوفاء والخيانة للعهود هو المفتاح الذي إذا حرّكه الإنسان وعرف الخائن والوفي فإنه يعرف بذلك المحق من المبطل، والمصلح من المفسد، وقد استطاع الإمام الحسنعليه‌السلام أن يوجد هذا المفتاح، وأن يجعله في متناول يد كل إنسان عاش معه أو يأتي بعده.

٥٧

الفصل الثالث:

شروط الصلح

تجعل يزيد (لعنه الله) هو الباغي

٥٨

٥٩

شروط الهدنة:

إنّ الشروط التي وقَّع عليها معاوية قد جاءت على غاية من الأهمية والخطورة ..

وهي شروط كثيرة لم يستطع التاريخ أن يفصح لنا إلاّ عن بعض منها، غير أنه قد أشار التاريخ إلى كثرة هذه الشروط حين صرّح بأنّ معاوية قد أرسل إلى الإمام الحسنعليه‌السلام وثيقة ضمن له فيها شروطاً، ولكن الإمام الحسنعليه‌السلام قد شرط عليه أضعاف ذلك(1) .

والذي أفصح لنا عنه التاريخ من هذه الشروط مهم جدّاً، ولعل ما لم يصل إلينا ممّا سعى الاُمويّون إلى طمسه وإغفاله كان هو الأهم والأكثر حساسيّة.

بعض شروط الصلح:

ومن جملة شروط معاهدة الهدنة التي كانت بين معاوية والإمام

____________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 124 ط الأعلمي، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي - لابن الدمشقي 2 / 198 ط مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة.

٦٠