بغية النبلاء في تاريخ كربلاء

بغية النبلاء في تاريخ كربلاء30%

بغية النبلاء في تاريخ كربلاء مؤلف:
الناشر: مطبعة الإرشاد
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 197

بغية النبلاء في تاريخ كربلاء
  • البداية
  • السابق
  • 197 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96710 / تحميل: 9764
الحجم الحجم الحجم
بغية النبلاء في تاريخ كربلاء

بغية النبلاء في تاريخ كربلاء

مؤلف:
الناشر: مطبعة الإرشاد
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

(٥)

بعثته ونزول الوحي إليه

«بَعَثَ اللهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ الأَكْرَم عَلَى حِينِ فَتَرةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُولِ هَجعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، وَاعْتِزَام مِنَ الفِتَنِ وَانتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ، وَتَلَظٍّ مِنَ الحُروبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرةُ الغُرورِ، عَلى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وإياسٍ مِن ثَمرِهَا، وَاغوِرَار مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَار الهُدى، وَظَهَرتْ اَعلامُ الرَّدى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبَها، ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيفَةُ، وَشِعارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ » (١) .

بعث على رأس الأربعين من عمره، وبُشّر بالنبوّة والرسالة، وأمّا الشهر الذي بعث فيه، ففيه أقوال وآراء، فالشيعة الإمامية تبعاً لأئمّة أهل البيت: على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في سبع وعشرين من رجب.

روى الكليني عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: لا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنّه اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

وروى أيضاً عن الإمام الكاظمعليه‌السلام أنّه قال: بعث الله عزّ وجلّ محمّداً رحمة للعالمين في سبع وعشرين من رجب(٣) .

روى المفيد عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال: في اليوم السابع والعشرين من رحب نزلت النبوّة على رسول الله، إلى غير ذلك من الروايات(٤) .

وأمّا غيرهم فمن قائل بأنّه بعث في سبعة عشر من شهر رمضان أو ثمانية عشر أو أربع وعشرين من هذا الشهر أو في الثاني عشر من ربيع الأوّل.

__________________

(١) إقتباس من كلام الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة الخطبة ٨٥، طبعة عبده.

(٢) و (٣) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

(٤) البحار: ج ١٨ ص ١٨٩ ـ نقلاً عن الكافي وأمالي ابن الشيخ.

١٠١

وبما أنّ أهل البيت أدرى بما في البيت، كيف وهم نجوم الهدى ومصابيح الدجى وأحد الثقلين الذين تركهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، فيجب علينا الوقوف دون نظرهم ولا نجتازه، نعم دلّ الذكر الحكيم على أنّ القرآن نزل في شهر رمضان قال سبحانه:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) ( البقرة / ١٨٥ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ( القدر / ١ ).

وقال سبحانه:( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) ( الدخان / ٣ ).

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على نزوله في شهر رمضان.

والإستدلال بهذه الآيات على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث في شهر رمضان مبني على إقتران البشارة بالنبوّة، بنزول القرآن وهو بعد غير ثابت، فلو قلنا بالتفكيك وأنّه بعث في شهر رجب، وبشّر بالنبوّة فيه، ونزل القرآن في شهر رمضان، لما كان هناك منافاة بين بعثته في رجب، ونزول القرآن في شهر رمضان.

ويؤيّد ذلك أي عدم اقتران النبوّة بنزول القرآن ما نقله غير واحد عن عائشة: إنّ أوّل ما بدء به رسول الله من النبوّة حين أراد الله كرامته، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رؤيا في نومه إلّا جاءت كفلق الصبح، قالت: وحبّب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده(١) .

لكن الظاهر من ذيل ما روته عائشة أنّ النبوّة كانت مقترنة بنزول الوحي والقرآن الكريم، ولنذكر نص الحديث بتمامه ثمّ نذيّله ببيان بعض الملاحظات حوله.روى البخاري: « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يخلو بغار حراء، فيتحنّث فيه وهو التعبّد في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزوّد لذلك ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاء الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣، السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٣٤.

١٠٢

فقال: إقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطّني الثالثة ثمّ أرسلني، فقال:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (١) .

وفي هذه الرواية تأمّلات واضحة:

١ ـ ما هو المبرّر لجبرئيل أن يروّع النبي الأعظم، وأن يؤذيه بالعصر إلى حدٍّ أنّه يظن انّه الموت ؟ يفعل به ذلك وهو يراه عاجزاً عن القيام بما يأمره به، ولا يرحمه ولا يلين معه ؟

٢ ـ لماذا يفعل ذلك ثلاث مرات لا أكثر ولا أقل ؟

٣ ـ لماذا صدّقه في الثالثة، لا في المرّة الاُولى ولا الثانية مع أنّه يعلم أنّ النبي لا يكذب ؟

٤ ـ هل السند الذي روى به البخاري قابل للإحتجاج مع أنّ فيه الزهري وعروة.

أمّا الزهري فهو الذي عرف بعمالته للحكام، وإرتزاقه من موائدهم، وكان كاتباً لهشام بن عبد الملك ومعلّماً لأولاده، وجلس هو وعروة في مسجد المدينة فنالا من عليٍّ، فبلغ ذلك السجادعليه‌السلام حتى وقف عليهما فقال: أمّا أنت يا عروة فإنّ أبي حاكم أباك، فحُكِم لأبي على أبيك، وأمّا أنت يا زهري فلو كنت أنا وأنت بمكّة لأريتك كن أبيك(٢) .

أمّا عروة بن الزبير الذي حكم عليه ابن عمر بالنفاق وعدّه الاسكافي من التابعيين الذين يضعون أخباراً قبيحة في عليّعليه‌السلام (٣) .

نعم رواه ابن هشام والطبري في تفسيره وتاريخه(٤) بسند آخر ينتهي إلى

__________________

(١) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

(٢) أي بيت أبيك.

(٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم: ص ٢٢٣.

(٤) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٥، تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٦٢، وتاريخه: ج ٣ ص ٣٥٣.

١٠٣

أشخاص يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ودونك أسماؤهم:

١ ـ عبيد بن عمير، ترجمه ابن الاثير، قال: ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي وهو معدود من كبار التابعين يروي عن عمر وغيره(١) .

٢ ـ عبد الله بن شداد، ترجمه ابن الأثير وقال: ولد على عهد النبي، روى عن أبيه وعن عمر وعليّ(٢) .

٣ ـ عائشة، زوجة النبي، حيث تفرّدت بنقل هذا الحديث ومن المستبعد جداً أن لا يحدّث النبي هذا الحديث غيرها مع تلهف غيرها إلى سماع أمثال هذا الحديث.

نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه(٣) أو المجلسي في بحاره(٤) .

لكن الكلام في صحّة نسبة التفسير الموجود إلى الإمام العسكريعليه‌السلام وأمّا المناقب فإنّه يورد الأحاديث والتواريخ مرسلة لا مسندة، والمجلسي اعتمد على هذه المصادر التي عرفت حالها.

وبذلك يظهر أنّه لا دليل على أنّ البشارة بالنبوّة كانت مقترنة بنزول القرآن، وبذلك ينسجم نزول القرآن في شهر رمضان مع كون البعثة في شهر رجب، نعم أورد العلّامة الطباطبائي على هذه النظرية بقوله: إذا بعث النبي في اليوم الثاني والعشرين من شهر رجب وبينه وبين شهر رمضان أكثر من ثلاثين يوماً فكيف تخلو البعثة في هذه المدّة من نزول القرآن ؟ على أنّ سورة العلق أوّل سورة نزلت على رسول الله وأنّها

__________________

(١) اُسد الغابة: ج ٣ ص ٣٥٣.

(٢) نفس المصدر: ج ٤ ص ١٨٣.

(٣) مناقب آل أبي طالب: ج ١ ص ٤٠ ـ ٤٤.

(٤) بحار الأنوار: ج ١٨ ص ١٩٦.

١٠٤

نزلت بمصاحبة البعثة(١) .

يلاحظ على ما ذكر:

١ ـ انّ الوجه الأوّل من كلامه مجرّد استبعاد، فأيّ إشكال في أن يكون النبي قد بشّر بالنبوّة ونزِّل القرآن بعد شهر وبضعة أيام.

٢ ـ وأمّا الوجه الثاني فلأنّ الروايات نطقت بأنّها أوّل سورة نزلت وليس فيها ما يدلّ على اقتران نزولها بأوّل عهد البعثة.

سؤال وإجابة:

إذا كان القرآن نازلاً في شهر رمضان فإنّ معناه أنّ مجموعه نزل في هذا الشهر مع أنّه نزل قرابة مدّة ثلاثة وعشرين سنة فكيف التوفيق بين هذين الأمرين ؟

وأمّا الإجابة فقد اُجيب عنه بأجوبة نذكرها واحداً تلو الآخر.

الأوّل: إنّ للقرآن نزولين: نزول دفعي وقد عبّر عنه بلفظ الإنزال الدال على الدفعة، ونزول تدريجي وهو الذي يعبّر عنه بالتنزيل. قال سبحانه:( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) ( هود / ١ ) فإنّ هذا الإحكام في مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً، وقطعة قطعة، والإحكام كونه على وجه لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض، لرجوعه إلى معنى واحد، لا أجزاء ولا فصول فيه، فعلى ذلك فالقرآن نزل دفعة واحدة على قلب النبي الأعظم، ثمّ صار ينزل تدريجياً حسب المناسبات والوقائع والأحداث(٢) .

وعلى ذلك فلا مانع من نزول جميع القرآن في شهر رمضان نزولاً دفعياً، ثمّ نزوله نحو ما في بضعة وعشرين سنة.

__________________

(١) تفسير الميزان: ج ٢ ص ١٣.

(٢) الميزان: ج ٢ ص ١٤ ـ ١٦.

١٠٥

ويلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مبني على الفرق بين « الإنزال » و « التنزيل »، وأنّ الأوّل عبارة عن النزول الدفعي، والثاني عن النزول التدريجي مع أنّه لا دليل عليه، فإنّ الثاني أيضاً استعمل في النزول الدفعي. قال تعالى حاكياً عن المشركين:( وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ) ( الاسراء / ٩٣ ).

وقال تعالى:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان / ٣٢ ) فلو كان التنزيل هو النزول التدريجي فلماذا وصفه بقوله: « جملة واحدة ».

الثاني: إنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى البيت المعمور حسب ما نطقت به الروايات الكثيرة ثمّ صار ينزل تدريجياً على الرسول الأعظم.

روى حفص بن غياث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجلّ:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) وإنّما اُنزل في عشرين بين أوّله وآخره، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام « نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور ثمّ نزل في طول عشرين سنة »(١) .

ولو صحّت الرواية يجب التعبّد بها، وإلّا فما معنى نزول القرآن الذي هو هدى للناس إلى البيت المعمور، وأيّ صلة بهذا النزول بهداية الناس الذي يتكلّم عنه القرآن ويقول:( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ) ؟

قال الشيخ المفيد:

« الذي ذهب إليه أبو جعفر(٢) حديث واحد لا يوجب علماً ولا عملاً ونزول

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ ص ١٨٢، والدر المنثور: ج ٦ ص ٣٧٠.

(٢) مراده الصدوق، وقد ذهب إلى أنّ القرآن قد نزل في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثمّ انزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة.

١٠٦

القرآن على الأسباب الحادثة حالاً لا يدلّ على خلاف ما تضمّنه الحديث، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث، وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلّا لحدوثه عند السبب، الخ.

ثمّ استعرض آيات كثيرة نزلت لحوادث متجددة(١) .

الثالث: إنّ القرآن يطلق على الكلّ والجزء، فمن الممكن أن يكون المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو شروع نزوله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، فكما يصحّ نسبة النزول إليه في شهر رمضان إذا نزل جملة واحدة، تصحّ نسبتة إليه إذا نزل أوّل جزء منه في شهر رمضان واستمرّ نزوله في الأشهر القادمة طيلة حياة النبي.

فيقال: نزل القرآن في شهر رمضان أي بدأ نزوله في هذا الشهر، وله نظائر في العرف، فلو بدأ فيضان الماء في المسيل يقال جرى السيل في يوم كذا وإن استمرّ جريانه وفيضانه عدّة أيام.

وهذا هو الظاهر من صاحب « المنار » حيث يقول: وأمّا معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنّ المعروف باليقين أنّ القرآن نزل منجّماً في مدّة البعثة كلّها، فهو أنّ إبتداء نزوله كان في رمضان، ذلك في ليلة منه سمّيت ليلة القدر أي الشرف، والليلة المباركة كما في آيات اُخرى. وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أنّ لفظ القرآن يطلق على هذا الكتاب كلّه ويطلق على بعضه.

الرابع: إنّ جملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة، لكن لـمّا نزلت سورة الحمد بها وهي تشتمل على جلِّ معارف القرآن، فكأنّ القرآن اُنزل فيه جميعاً فصحّ أن يقال: إنّا اَنزلناه في ليلة القدر.

يلاحظ عليه: أنّه لو كانت سورة الحمد أوّل سورة نزلت على رسول الله لكان حق الكلام أن يقال: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، أو يقال:

__________________

(١) تصحيح الإعتقاد: ص ٥٨.

١٠٧

بسم الله الرحمن الرحيم، قل: الحمد لله ربّ العالمين(١) .

وهذا يعرب عن أنّ سورة الحمد ليست أوّل سورة نزلت على النبي.

هذه هي الوجوه التي ذكرها المفسّرون المحقّقون والثالث هو الأقوى.

أوّل ما نزل على رسول الله:

ذكر أكثر المفسّرين أنّ أوّل سورة نزلت على رسول الله هي سورة العلق، وتدل عليه روايات أئمّة أهل البيت. روى الكليني عن الصادقعليه‌السلام قال: أوّل ما نزل على رسول الله( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) وآخر سورة هو قوله:( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ ) ومثله عن الإمام الرضاعليه‌السلام (٢) .

ولعلّ المراد نزول آيات خمس من أوّلها لا جميع السورة.

لأنّ قوله سبحانه في نفس تلك السورة:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ *عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ) لا يناسب أن تكون أوّل ما نزل، بل هو حاك عن وجود تشريع للصلاة، ووجود من يقيمها حتّى واجه نهي بعض المشركين، وهذا لا يتّفق مع كونه أوّل ما نزل.

أساطير وخرافات

دلّت الأدلة العقلية والآيات القرآنية على أنّ الأنبياء مصونون عن الخطأ والإشتباه في تلقّي الوحي أوّلاً، وضبطه ثانياً، وإبلاغه ثالثاً وأنّهم لا يشكّون فيما يلقى في روعهم من أنّه ربّ العالمين وأنّ ما يعاينونه رسول إله العالمين، والكلام كلامه، لا يشكّون في ذلك طرفة عين ولا يتردّدون بل يتلقّونه بنفس مطمئنة.

__________________

(١) الميزان: ج ٢ ص ٢١ ـ ٢٢.

(٢) البرهان في تفسير القرآن: ج ١ المقدّمة الباب الخامس عشر ص ٢٩، وتاريخ القرآن للزنجاني: ص ٣٠.

١٠٨

هذا هو القرآن الكريم يذكر كيفيّة بدء نزول الوحي إلى موسى وأنّه تلقّاه بلا تردّد ولا تريّث. بذكره في سور مختلفة:

يقول:( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ *إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى *وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ *إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَٰهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي *إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ *اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ *قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا ) ( طه / ١١ ـ ٣٥ ).

ترى أنّ الكليم عندما فُوجئ بنزول الوحي، تلقّاه بصدر رحب، ولم يتردّد في أنّه وحيه سبحانه وأمره، ولذلك سأل سبحانه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلّ العقدة التي في لسانه، ويجعل له وزيراً من أهله، يشدّ به أزره ويشركه في أمره.

يقول سبحانه:( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *يَا مُوسَىٰ إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( النحل / ٨ ـ ٩ ).

وجاءت هذه القصة في سورة القصص على وفق ما وردت في السورتين(١) .

ومن لاحظ هذه الآيات يقف على أنّ موقف الأنبياء من الوحي هو موقف الإنسان المتيقّن المطمئنّ إليه، وهذه خاصّة تعمّ جميع الأنبياء:

نرى أنّه سبحانه يذكر رؤية النبي الأكرم، ومواجهته لمعلّمه الذي وصفه القرآن بـ « شديد القوى ».

يقول:( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَىٰ *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ *فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ

__________________

(١) القصص: ٢٩ ـ ٣٥.

١٠٩

مَا أَوْحَىٰ *مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ ) ( النجم / ٤ ـ ١٢ ).

فأي كلمة أصرح في توصيف إيمان النبي واذعانه في مجال الوحي ومواجهة أمينه من قوله سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ) أي صدق القلب عمل العين. ويحتمل أن يكون المراد، ما رآه الفؤاد.

قال العلّامة الطباطبائي:

فالمراد بالفؤاد، فؤاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد، والرؤيا رؤيته ولابدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد، فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك بإحدى الحواسّ الظاهرة، والتخيّل والتفكّر بالقوى الباطنة كما أنّنا نشاهد من أنفسنا أنّنا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية رؤية بالبصر ولا معلوماً بالفكر، وكذا نرى من أنفسنا أنّنا نسمع ونشمّ ونذوق ونلمس، ونشاهد أنّنا نتخيّل ونتفكّر، وليست هذه الرؤية ببصر أو بشيء من الحواسّ الظاهرة أو الباطنة(١) .

فالله سبحانه يؤيّد صدق النبي فيما يدّعيه من الوحي ورؤية آيات الله الكبرى، سواء كانت بالعين أو بالفؤاد.

وعلى كل تقدير فهذه الآيات وغيرها تدلّ على أنّ الأنبياء وغيرهم لا يشكّون ولا يتردّدون فيما يواجهون من الاُمور الغيبيّة.

وعلى ضوء ذلك تقف على أنّ ما ملأ كتب السيرة وبعض التفاسير في مجال بدء الوحي وأنّه تردّد النبي وشكّ عندما بشّر بالنبوّة وشاهد ملك الوحي وامتلأ روعاً وخوفاً إلى حدّ حاول أن يلقي نفسه من شاهق، وعاد إلى البيت فكلّم زوجته فيما واجهه، وعادت زوجته تسلّيه وتقنعه بأنّه رسول ربّ العالمين، وأنّ ما رآه ليس إلّا أمراً حقّاً.

إذ كل ذلك أساطير وخرافات، تناقض البراهين العقليّة وما يتلقّاه الإنسان

__________________

(١) الميزان: ج ١٩ ص ٣٠.

١١٠

من قصص الأنبياء الواردة في القرآن الكريم، وقد دسّها الأحبار والرهبان وسماسرة الحديث والقصّاصون في كتب القصص والسير والحديث، ونحن نكتفي في المقام بما ذكره البخاري في صحيحه وابن هشام في سيرته، فإنّ استقصاء كل ما ورد حول هذا الموضوع من الروايات المدسوسة يدفع بنا إلى تأليف رسالة مفردة، ولكن فيما ذكرنا غنىً وكفاية. قال البخاري:

( بعد ذكر نزول أمين الوحي عليه في جبل حراء ) « فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد ( رضي الله عنها ) فقال: زمّلوني زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة ـ واخبرها الخبر ـ لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلاّ والله ما يخزيك الله أبداً إنّك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى ابن عمّ خديجة، وكان أمرئً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمخرجي هم ؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثل ما جئت به إلّا عودي، وان يدركني يومك، أنصرك نصراً مؤزّراً ثمّ لم ينشب(١) ورقة أن توفّي وفتر الوحي »(٢) .

هذا ما لدى البخاري، وأمّا صاحب السيرة النبوية فبعدما ذكر مسألة الغتّ ينقل عن النبي أنّه قال:

« فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول:

__________________

(١) أي لم يلبث.

(٢) صحيح البخاري: ج ١ ص ٣.

١١١

يا محمّد، أنت رسول الله وأنا جبرئيل، قال: فوقفت أنظر إليه، فما أتقدّم وما أتأخّر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، قال: فلا أنظر في ناحية منها إلّا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً، ما أتقدّم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا على مكّة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثمّ انصرف عنّي وانصرفت راجعاً إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكّة ورجعوا إليّ، ثمّ حدّثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشر يا ابن عمّ واثبت، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيّ هذه الاُمّة ».

ثمّ يذكر انطلاق خديجة إلى ورقة بن نوفل، وما أجابها به ورقة بنفس النص الذي ذكره البخاري ثمّ يذكر لقاء النبي ورقة بن نوفل، وهو يطوف بالكعبة، فسأله ورقة بما رأى وسمع، فأخبره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنّك لنبيّ هذه الاُمّة.

ثمّ عقبه بذكر ما قامت به خديجة من إمتحان صدق نبوّته فذكر أنّها قالت لرسول الله: أي ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا إذا جاءك ؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فاخبرني به، فجاءه جبرئيل، فقال رسول الله لخديجة: هذا جبرئيل قد جائني، قالت: قم يا بن عمّ فاجلس على فخذي اليسرى، قال: فقام رسول الله فجلس عليها، قالت: هل ترى ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل فاجلس على فخذي اليمنى، فجلس على فخذها اليمنى، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم، قالت: فتحوّل واجلس في حجري، فتحوّل فجلس في حجرها، قالت هل تراه، قال: نعم، فتحسّرت وألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه ؟ قال: لا.

قالت: يا ابن عم أثبت وابشر، فو الله هذا ملك وما هذا بشيطان(١) .

وقال الطبري ـ بعد ما ذكر نزول جبرئيل إليه وتعليم آيات من سورة العلق ـ

__________________

(١) السيرة النبوية: ج ١ ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩، وتاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١١٢

ثمّ دخلت على خديجة وقلت: زمّلوني زمّلوني حتى ذهب عنّي الروع، ثمّ أتاني وقال: يا محمّد، أنت رسول الله.

قال: لقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل فتبدّى لي حين هممت بذلك، فقال: يا محمّد، أنا جبرئيل وأنت رسول الله، ثمّ قال: إقرأ، قلت: ما اقرأ ؟ قال: فأخذني فغتني ثلاث مرات حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ قال: اقرأ باسم ربّك الذي خلق، فقرأت فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، فأخبرتها خبري فقالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبداً، ووالله إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدّي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، ثمّ انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل بن أسد، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته خبري، فقال: هذا الناموس الذي اُنزل على موسى بن عمران .

نظرة تحليلية حول هذه النصوص:

إنّ هذه النصوص التاريخية التي نقلها المشايخ كالبخاري وابن هشام والطبري، وتلقّاها الآخرون من بعدهم على أنّها حادثة متسالم عليها تضاد ما يستشفه الإنسان من التدبّر في حالات الأنبياء في القرآن الكريم وتناقض البديهة العقلية، وإليك بيان ما فيها من نقاط الضعف وعلائم الجعل والتهافت:

١ ـ إنّ النبوّة كما عرفت منصب إلهي لا يفيضه الله إلّا على من امتلك زخماً هائلاً من القدرات الروحية والقوى النفسية العالية حتّى يقوى على معاينة الوحي، ومشاهدة الملائكة، فعندئذٍ فلا معنى لما ذكره البخاري: « لقد خشيت على نفسي » أفيمكن أن ينزل الوحي الإلهي على من لا يفرّق بين لقاء الملك، ولقاء الجنّ ومكالمتهما حتى يخشى على نفسه الجنون أو الموت ؟

٢ ـ وأسوأ منه ما ذكره الطبري من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله همّ أن يرمي بنفسه من شاهق من جبل، فندم عليه ورجع عنه حين سمع كلام جبرئيل يا محمّد أنا جبرئيل.

١١٣

إنّ هذا الكلام يعرب من أنّ نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن نفساً مستعدّة لتحمّل الوحي على حدٍّ، همّ أن يقتل نفسه بالإلقاء من حالق، وهل هذا هو إلّا نفس الجنون الذي كان المشركون يصفونه به طيلة بعثته، فوا عجباً نسمعه من أعوانه وأنصاره ومن لسان زوجته.

٣ ـ إنّ قول خديجة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا والله ما يخزيك الله أبداً، تعرب من أنّها كانت أوثق إيماناً بنبوّته من نفس الرسول. فهل يمكن التفوّه بذلك، وما حاجة النبي الأعظم الذي قال تعالى في حقّه:( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) ( النساء / ١١٣ ) إلى هذا التسلّي ؟

وهل يصحّ ويتعقّل للنبيّ أنّ يشكّ في رسالة نفسه حتى يستفتي زوجته فيزول شكّه بتصديقها ؟

٤ ـ ذكر البخاري: أنّ خديجة انطلقت مع رسول الله إلى ورقة، فأخبره رسول الله بما وقع، فأجاب ورقة بما ذكره، وأنّ ما نزل عليه هو الناموس الذي نزّله الله على موسى.

ومعنى هذا أن يكون ورقة أعلم بالسرّ المودع في قلب رسول الله من نفسه، كما أنّ معنى ذلك أنّ كلاًّ من الزوجين كانا شاكّين في صحّة الرسالة، فانطلقا إلى متنصّر وقرأ وريقات من العهدين حتى يستفتياه ليزيل عنهما حجاب الشكّ وغشاوة الريب.

٥ ـ إنّ معنى ما ذكره البخاري من أنّ ورقة أخبر النبي بأنّه: يسخر منك قومك، وتعجّب الرسول من هذا الكلام وقال: أوَ مخرجي هم ؟ كون المرسل إليه أعلم من الرسول وأفضل منه.

٦ ـ إنّ ما ذكره ابن هشام من « أنّ الرسول كلّما رفع رأسه إلى السماء لينظر ما رأى إلّا رجلاً صافّاً قدميه في اُفق السماء، فلا ينظر في ناحية من السماء إلّا رآه فيها » يشبه كلام المصابين في عقولهم وشعورهم، والمختلّين في أفكارهم، فلا يرون في

١١٤

كل جهة إلّا الصورة المتخيّلة، لطغيانها على مخيّلتهم وشعورهم، أعاذنا الله من إكالة الشنائع بمقام النبوّة، بنحو لا يليق بساحة العاديين من الناس فضلاً عن النبي الأكرم خاتم النبّيين.

٧ ـ انظر إلى امتحان خديجة لبرهان النبوّة فإنّ ظاهرها أنّها كانت شاكّة في نبوّة زوجها، ولكنّها استحصلت اليقين على الوجه الذي سمعته في كلام ابن هشام والطبري، ولكن أيّ صلة بين رفع الخمار وإلقائه وعدم رؤية جبرئيل، وهل لرفع الخمار وتعرية شعر الرأس تأثير في غياب أمين الوحي عن البيت ؟

نرى أنّه سبحانه ينقل في غير سورة من سور القرآن الكريم مكالمة الملائكة زوجة الخليل وتبشيرها بالولد. فهل يمكن لنا أن نقول بعد ذلك: إنّ زوجة الخليل لو كانت مكشوفة الرأس لامتنعت الملائكة من دخول بيت الخليلعليه‌السلام (١) .

٨ ـ إنّ ورقة بن نوفل على حدّ تصريح نصّ الرواية كان بادي بدئه نصرانيّاً بعد ما كان مشركاً، فمقتضى الحال أن يشبّه الرسول الأعظم بالمسيح الذي كان يعتقد بنبوّته، لا بالكليم. أو ليس هذا يعرب عن لعب يد الأحبار في الخفاء في اصطناع هذه الأحاديث ودورهم في تشويش صفاء رسالة الرسول الأعظم بأمثال هذه الأساطير والمهاترات والخرافات ؟

٩ ـ نحن على ثقة ويقين بأنّ النبوّة منصب إلهي لا يتحمّله إلّا الأمثل والأكمل فالأكمل من الناس، ولا يقوم بأعباء مهامّها إلّا من امتلك قدرة روحيّة خاصّة تبعث في نفسه الإذعان والتسليم، والإنقياد حينما يتمثّل له رسول ربّه وأمين وحيه، فلا تأخذه المسكنة ولا يستولي عليه الخوف عند سماع كلامه ووحيه، وقد درسنا وضع الكليم عندما فوجئ بالوحي فما حاق به الروع ولا أحاط به الخوف، ولا همّ بإلقاء نفسه إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الروايات، وبما أنّ القرآن هو المرجع الفصل في تمييز الصحيح من الزائف في جملة هذه الروايات، يحتّم علينا إعراض

__________________

(١) لاحظ هود / ٧١ ـ ٧٣، الذاريات / ٢٩.

١١٥

الصفح عنها، وضربها عرض الجدار، مضافاً إلى ما فيها من التناقض والإختلاف في حكاية القصّة كما هو معلوم لمن تدبّر فيها وتأمّل نصّها.

فرية إنقطاع الوحي وفتوره

وقفت على ما في الروايات السابقة من الوضع والدسّ بهدف تشويه صفاء صورة رسالة النبي الأكرم فهلمّ معي نتناول فريّة اُخرىٰ حيكت على المنوال السابق، وللغاية نفسها، وهي مسألة إنقطاع الوحي بعد نزول آيات من سورة العلق، أو سورة المدّثّر، أو سورة الحمد على إختلاف في أوّل سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حازت هذه الفريّة على نصيب من الإهتمام والتقدير في كتب السيرة والتفسير حتى أنّ الدكتور محمد حسنين هيكل، أرسلها إرسال المسلّمات في كتابه بقوله: « انتظر هداية الوحي إيّاه في أمره، وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر، واذا جبرئيل لا ينزل عليه، إلى أن قال: وقد روي أنّ خديجة قالت له: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قلاك، وتولّاه الخوف والوجل، فهما يبعثانه من جديد، يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربّه، يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه، ولم تكن خديجة بأقلّ منه إشفاقاً ووجلاً ويتمنّى الموت صادقاً لولا أنّه كان يشعر بما اُمر به، فيرجع إلى نفسه، ثمّ إلى ربّه، ولقد قيل: إنّه فكّر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس وأيّ خير في الحياة، وهذا أكبر عمله فيها يدوي وينقضي، وأنّه لذلك تساور هذه المخاوف، إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره إذ نزل عليه بقوله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىٰ *وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ *أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ *وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَىٰ *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَىٰ *فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ *وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) ( سورة الضحى )(١) .

هذا ما يذكره رجل مثقّف في القرن العشرين في حقّ النبي الأكرم، فما ظنّك

__________________

(١) حياة محمد:صلى‌الله‌عليه‌وآله ص ١٣٨.

١١٦

بغيره ممّن سبقه من الذين يتعبّدون بالروايات ولا يحيدون عن شاذّها وسقيمها قيد أنملة وقدر شعرة، وأصل هذه الفرية يرجع إلى كتب السيرة والتفسير، وإليك ما يذكره واحد من اُولئك من أمثال الطبري حيث يصرّح في تفسيره بما نصّه:

١ ـ عن ابن زيد: إنّ هذه السورة نزلت على رسول الله تكذيباً من الله قريشاً في قيلهم لرسول الله لـمّا أبطأ عليه الوحي: « قد ودّع محمّداً ربّه وقلاه ».

٢ ـ عن ابن عبد الله: لـمّا أبطأ جبرئيل على رسول الله، فقالت امرأة من أهله أو من قومه: ودّع الشيطان محمّداً، فأنزل الله عليه:( وَالضُّحَىٰ ـ إلى قوله ـمَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٣ ـ عن جندب البجلي: أبطأ جبرئيل على النبي حتّى قال المشركون ودّع محمّداً ربّه، فأنزل الله:( وَالضُّحَىٰ ) ، وعنه قالت امرأة لرسول الله: ما أرى صاحبك إلّا قد أبطأ عنك، فنزلت هذه الآية.

وفي رواية اُخرى عنه: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك.

٤ ـ عن عبد الله بن شدّاد: إنّ خديجة قالت للنبي: ما أرىٰ ربّك إلّا قد قَلاك، فأنزل الله( وَالضُّحَىٰ ) .

٥ ـ وعن قتادة: إنّ جبرئيل أبطأ عليه بالوحي، فقال ناس من الناس: ما نرى صاحبك إلّا قد قلاك فودّعك، فأنزل الله:( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .

٦ ـ عن ضحّاك: مكث جبرئيل عن محمّد، فقال المشركون: قد ودّعه ربّه.

٧ ـ عن ابن عروة، عن أبيه قال: أبطأ جبرئيل على النبي، فجزع جزعاً شديداً، وقالت خديجة: أرىٰ ربّك قد قلاك، ممّا نرى من جزعك، قالت: فنزلت( وَالضُّحَىٰ ) (١) .

يلاحظ على هذه الروايات وعلى فرية فترة إنقطاع الوحي عدّة اُمور:

١ ـ إنّ هذه الروايات التي ملأت التفاسير وكتب السير، رويت عن اُناس

__________________

(١) تفسير الطبري: ج ٣٠ ص ١٤٨.

١١٧

لا يركن إليهم كقتادة والضحّاك فإنّهما كانا يأخذان تفسير القرآن عن أهل الكتاب(١) . وجلّها بل كلّها مرسلة غير مسندة إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ إنّها اختلفت في القائل الذي شَمِت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: « ودّعك ربّك » فربّما يسند إلى امرأة من أهله أو قومه وأخرى إلى المشركين، وثالثة إلى طائفة من الناس، ورابعة إلى زوجته خديجة.

إنّ نسبة هذا القول إلى زوجته الطاهرة التي آمنت به يوم بعثته، وقد عرفت فضائله وملكاته النفسيّة عن كثب، بعيداً جداً.

٣ ـ إنّها إختلفت في مدة الفترة. قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي إثنى عشر يوماً، وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقال مقاتل: أربعين يوماً(٢) ، وفي فتح الباري: أنّه كان ثلاث سنين(٣) كما في السيرة الحلبية وفيها أيضاً: إنّها كانت سنتين ونصفاً، وعلى قول: سنتين، إلى غير ذلك من الأقوال المختلفة التي تحكي عن اضطراب في الرواية والنقل.

٤ ـ إختلفت الرواية في سبب الفترة وانقطاع الوحي.فتارة زعموا أنّ سببها هو أنّ اليهود سألوا رسول الله عن مسائل ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن الروح وعن قصّة ذي القرنين، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : سأخبركم غداً ولم يستثنِ، فاحتبس عنه الوحي، فقال المشركون ما قالوا، فنزلت(٤) .

واُخرى قالوا: إنّ عثمان أهدى إليه عنقود عنب، وقيل: عذق تمر، فجاء سائل فأعطاه، ثمّ اشتراه عثمان بدرهم، فقدّمه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) لاحظ آلاء الرحمن في تفسير القرآن: ج ١، ص ٤٦، يقول: إنّ الضحّاك بن مزاحم فقد ضعّفه يحيى بن سعيد، وكان يروي عن ابن عباس، وأنكر ملاقاته له حتى قيل: إنّه ما رآه قط، وأمّا قتادة فقد ذكروا: أنّه مدلّس.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٢.

(٣) السيرة الحلبية: ج ١ ص ٢٦٢.

(٤) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧، نقله عن جمع من المفسّرين.

١١٨

ثانياً، ثمّ عاد السائل فأعطى وهكذا ثلاث مرّات، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله ملاطفاً لا غضبان: أسائل أنت يا فلان أم تاجر ؟ فتأخّر الوحي أيّاماً فاستوحش فنزلت.

وثالثة: رووا عن ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة، وكانت تخدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جرواً دخل تحت سرير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمات ولم تشعر به، فمكث رسول الله أربعة أيّام لا ينزل عليه الوحي، فقال: يا خولة ! ما حدث في بيت رسول الله ؟ جبرئيل لا يأتيني ! فقلت يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير من هذا اليوم، فأخذ برده فلبسها وخرج، فقلت في نفسي لو هيّأت البيت وكنسته، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجرو ميّتاً، فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبي ترعد لحيته، وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة، فقال يا خولة دثّريني، فأنزل الله تعالى:( وَالضُّحَىٰ *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) (١) .

ورابعة: انّ المسلمين قالوا: يا رسول الله مالك لا ينزل عليك الوحي ؟ فقال: وكيف ينزل عليّ وأنتم لا تنقّون رواجبكم، وفي رواية: براجمكم، ولا تقصّون أظفاركم، ولا تأخذون من شواربكم، فنزل جبرئيل بهذه السورة، فقال النبي: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبرئيل: وأنا كنت أشدّ إليك شوقاً، ولكنّي عبد مأمور، ثمّ أنزل عليه:( وَمَا نَتَنَزَّلُ إلّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) ( مريم / ٦٤ )(٢) .

إنّ الإضطراب في أسباب فتور الوحي يعرب عن عدم صحّة الرواية.

أمّا الأوّل: فلو صحّ فيلزم كون زمان إنقطاع الوحي في العام السابع من البعثة لأنّ قريشاً أرسلت النضر بن الحارث وابن أبي معيط إلى أحبار اليهود يسألانهم عن النبي الأكرم، وقالا لهم: إنّكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار اليهود: سلوهُ عن ثلاث نأمركم بهنّ، فجاؤوا إلى رسول الله، وقالوا: يا محمّد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل، قد كانت لهم قصّة عجب ،

__________________

(١) روح المعاني: ج ١٠ ص ١٥٧.

(٢) تفسير القرطبي: ج ٢٠ ص ٩٣، ومجمع البيان: ج ١٠ ص ٥٥ ( طبع صيدا ).

١١٩

وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي ؟ فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبركم بما سألتم عنه غداً ولم يستثن، فانصرفوا عنه(١) .

نحن ننزّه ساحة النبي الأكرم الذي نشأ نشأة الأنبياء في عالم مليء بالطهر والقداسة، أن يخبرهم على وجه قاطع بأنّه سيجيبهم غداً على أسئلتهم تلك فمن أين علم أنّه سبحانه ينزل الوحي عليه غداً ؟ أو أنّه سبحانه يجيب عن أسئلتهم عن طريق الوحي ؟

وأمّا الثاني: فهو أشبه بالقصص الموضوعة، فهل من المعتاد أن يباع عنقود عنب ثلاث مرّات في السوق، ومثله عذق تمر ؟ ولعلّ الجاعل كان يهدف إلى إختلاق الفضائل لعثمان فحسب أنّ هذا الموضع مناسب له.

وأمّا الثالث: فبعيد جدّاً، إذ كيف يمكن أن يموت الجرو تحت سرير النبي أو في زاوية من البيت ولا يلتفت إليه ؟ على أنّ ظاهر الرواية أنّ إنقطاع الوحي كان بعد تلقّي النبي لنزول الوحي مدّة مديدة حيث إنّ خولة قالت: « وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة » فإنّ ذلك يعرب عن أنّ الحادثة كانت في أزمنة متأخّرة من بدء البعثة، مع أنّ المشهور أنّها كانت في بدء البعثة ـ أي بعد نزول سورة العلق أو آيات منها ـ.

وأمّا الرابع: فهو أشبه بحمل النبي وزر الغير، فإنّ عدم قصّ المسلمين شواربهم، أو عدم تنظيف رواجبهم لا يكون سبباً لإنقطاع الوحي، قال سبحانه:( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ( الأنعام / ١٦٤ ).

هذه الوجوه كلّها تدفع بنا إلى القول: بأنّ مسألة انقطاع الوحي فرية تاريخيّة صنعتها يد الجعل والوضع لغاية أو غايات خاصّة، ولم يكن هناك أيّة فترة، وإنّما المسألة كانت بصورة اُخرى:

__________________

(١) السيرة النبويّة لإبن هشام: ج ١، ص ٣٠١.

١٢٠

الصحن الشريف، وعندما حلّق بالروضة الطاهرة - الأروقة الثلاثة الشرقي والغربي والقسم الشمالي - أصبح عندئذ ضريحه في الرواق الغربي، حيث الشمال كما هو عليه اليوم.

وذكر ابن شدقم في الجزء الثالث من مبسوطه تحفة الأزهار في نسب السادة الأطهار: (قال السيد في الشجرة: فأبو إبراهيم محمّد (العابد) خلّف ابنين؛ تاج الدين أبا محمّد إبراهيم الضرير يُعرف بالمجاب، وأبا جعفر أحمد الزاهد).

أقول الشجرة لتاج الدين محمّد بن معية الحسني النسّابة.

وورد في أصل المشجر المؤلّف للشاه طهماسب الصفوي، وكان من محتويات مكتبة المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني في كربلاء عند ذكر المجاب: (المكفوف وهو المجاب، وقبره مشهور بمشهد الحسين (عليه السّلام) في تربة العلويِّين معروف، وعليه قبّة).

وقال السيد تاج الدين بن محمّد بن حمزة بن زهير الحسيني نقيب حلب في (غاية الاختصار في أخبار البيوتات العلوية المحفوظة من الغبار، طبع مصر سنة ١٣١٠): وبنو المجاب إبراهيم، قالوا: سمّي المجاب بردّ السّلام؛ وذلك إنّه دخل إلى حضرة أبي عبد الله الحسين بن علي (عليه السّلام) فقال: السّلام عليك يا أبي.

فسمع صوت: «وعليك السّلام يا ولدي»، والله أعلم.

انتزع الرشيد هارون الخليفة العباسي الإمام موسى بن جعفر (سلام الله عليهما) من معتكفه ومحراب عبادته بجوار جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) طيبة من غير أيّ جرم أتاه؛ ليذيقه صنوف العذاب، ويدفنه في غيابات السجون إلى

____________________

(١) ذكره ابن مهنا الداودي في عمدة الطالب / ١٤٩.

١٢١

البصرة، ثمّ إلى بغداد، من ظُلَمٍ مطمورة إلى ظلم مطمورة حتّى أزهق نفسه وقضى عليه بالسمّ في رجب سنة ١٨٣ في حبس السندي بن شاهك، ودفن بوصية منه مع الأغلال التي صفد بها آماد حبسه في مقابر قريش في القسم الشمالي من مدينة المنصور ما يلي السور، حذاء قطيعة أمّ جعفر ببغداد.

قصد محمّد العابد مع شقيقه الأمير أحمد - الذي اشتهر عندما وقفوا على ضريحه بشاه جراغ - أخاهما علي بن موسى الرضا (عليهما السّلام) على أثر بيعة المأمون العباسي له بولاية عهد الخلافة؛ ليتصلا به في مرو من بلاد خراسان، وقد قضى المأمون على الرضا بالسمّ في صفر سنة ٢٠٣ في طوس، وأمر باستئصال شأفة الطالبيِّين.

ذكروا أنّه حرّج على هذين السيدين عن الخروج من شيراز أمداً، ثمّ نفّذوا فيهما ما أمروا له، فاُرمسوا فيها، ولهما اليوم مزار مشهور له من الشأن قيمة لا يُستهان بها، وسدنة وقوام.

كان إبراهيم تاج الدين كما سلف ينقل المبسوطات والمشجرات ممتحناً في نفسه، ضريراً مكفوف البصر، أحاطت به الخطوب والأرزاء بصفوف ضروبه، ومُزّق هو والأدنون من أهله شرّ ممزّق؛ لا يقرّ لهم قرار ولا يقلّهم سقف آر، وانتشروا كأيدي سبأ؛ إذ أصبح القتل والتشريد لهم عادة، إلاّ أنّ الذي دهم الطالبيِّين يومئذ لم يقتصر فقط على إزهاق نفوس الأحياء منهم أن شمل التعرّض حتّى لحفر أجداث الماضين من الأسلاف، وعقد مجالس الخلاعة واللهو للسخرية والاستخفاف بهم.

أورد الطبري(١) في حوادث سنة ٢٣٦ هـ أنّ المتوكّل أمر بهدم قبر الحسين بن علي (عليه السّلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقي موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أنّ عامل الشرطة نادى في الناحية:

____________________

(١) جـ ١١ / ٤٤.

١٢٢

مَنْ وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق. فهرب الناس وأقلعوا من المسير إليه، وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه.

وذكر أبو الفرج الإصبهاني في المقاتل(١) أنّ المتوكّل بعث بالديزج - وهو يهودي النحلة، وأسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بكراب قبره ومحوه، وإخراب كلّ ما حوله، فمضى وهدم البناء، وكرب نحو مئتي جريب، فلمّا بلغ قبره لم يتقدّم إليه أحد، فأحضر قوم من اليهود وأجرى الماء حوله.

وأورد الطوسي في أماليه(٢) عن الديزج هذا، فقال: بعثني المتوكّل وكتب معي إلى جعفر بن محمّد بن عمّار القاضي: أُعلمك أنّي بعثت بالديزج إبراهيم إلى نبش قبر الحسين، فقف على الأمر حتّى تعرف فَعَل أو لم يفعل.

فقلت: ما أمرت به، وأخبرت ابن عمّار أنّي ما وجدت شيئاً، فقال لي: أفلا عمّقته؟ قلت: وما رأيت.

وقال أبو علي العماري: سألت الديزج عن صورة الأمر، فقال لي: أتيت في خاصة غلماني ونبشت، فوجدت بارية جديدة وعليها بدن الحسين، ووجدت منه رايحة المسك، تركت البارية على حالها وأمرت بطرح الشراب، وأطلقت الماء والبقر لتمخره وتحرثه، فلم تطأه، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه.

قال أبو الفرج الأصفهاني(٣) : حدّثني الأشناني محمّد بن الحسين قال: بعُدَ عهدي بالزيارة خوفاً، ثمّ عملت على المخاطرة بنفسي، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتّى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل، فسرنا بين مسلحتين وقد قاموا حتّى أتينا القبر، فخفي علينا، فجعلنا نتنسّمه(٤) ونتحرّى جهته حتّى

____________________

(١) ص ٣٨٠.

(٢) ص ٣٠٧.

(٣) مقاتل الطالبيِّين / ٣٨٦، ط النجف سنة ١٣٥٣ هـ.

(٤) في طبعة القاهرة المحقّقة (نشمّه) / ٥٩٨.

١٢٣

أتيناه وقد قُلع الصندوق الذي كان حواليه واُحرق، واُجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قطّ من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟

فقال: لا والله ما شممت مثلها بشيء من العطر. فودّعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدّة مواضع، فلمّا قُتل المتوكّل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيِّين والشيعة حتّى صرنا إلى القبر، فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.

وأورد الطوسي في الأمالي(١) عن عبد الله بن دانية الطوري قال: حججت سنة ٢٤٧ سبع وأربعين ومئتين، فلمّا صدرت من الحج وصرت إلى العراق زرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) على حال خيفة من السلطان، ثمّ توجهت إلى زيارة الحسين (عليه السّلام) فإذا هو قد حُرث أرضه، وفُجّر فيها الماء، وأُرسلت الثيران والعوامل في الأرض.

فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تُساق في الأرض فتنساق لهم، حتّى إذا حاذت القبر حادت عنه يميناً وشمالاً، فتضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك، ولا تطأ القبر بوجه، فما أمكنني الزيارة، فتوجهت إلى بغداد وأنا أقول:

تا اللهِ إن كانت اُمية قد أتتْ

قتلَ ابن بنتِ نبيِّها مظلوما

فـلقد أتـاهُ بنو أبيهِ بمثلِهِ

هـذا لـعمرك قبرهُ مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فتتبّعوهُ رميما

ذكر ابن الأثير في الكامل(٢) : كان المتوكّل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، يقصد مَنْ يبلغه عنه أنّه يتولّى علياً وأهله بأخذ المال والدم، ومن ندمائه عبادة المخنّث، [كان] يشدّ على بطنه تحت ثيابه مخدّة، يكشف

____________________

(١) ص ٢٠٩.

(٢) ج ٧ ص ٢١.

١٢٤

رأسه وهو أصلع، يرقصه بين يديه، والمغنّون يغنّون: أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين.

يحكي بذلك علياً، والمتوكّل يشرب ويضحك، ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضراً، فأومأ إلى عبادة يتهدّده فأمسك من صنيعه، فتنبّه المتوكّل لذلك، فقال له المنتصر: يا أمير المؤمنين، الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمّك، وشيخ أهل بيتك، وبه فخرك، فكل أنت لحمه، ولا تُطعم هذا وأمثاله.

فأمر المتوكّل المغنين أن يغنّوا جميعاً:

غارَ الفتى لابن عمّه

رأس الفتى في حر امّه

ومن ندمائه علي بن الهجم الشامي الشاعر، وعمر بن فرج الرخجي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني اُميّة، وعبد الله بن محمّد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجه.

قال أبو الفرج الإصبهاني: كان الفتح بن خاقان يحسن له القبيح في معاملته (للطالبيّين). استعمل على المدينة ومكة عمر بن فرج فمنعهم من التعرّض لمسألة الناس، [وكان لا يبلغه أن أحداً أبرّ أحداً منهم بشيء] وإن قلّ إلاّ أنهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتّى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلّين فيه واحدة بعد واحدة، ثمّ يرفعنه ويجلسن على مغازلهنَّ عوارى حواسر.

كان لمجرى هذه الكوارث الجافة الخشنة في سلسلة متصلة الحلقات من غير انقطاع ما يقارب الأحد عشر سنة، يقرع خبر وقعه المتتالي مسامع تاج الدين إبراهيم أعظم من الصواعق المحرقة المبيدة، وهو في مخبئه رهين بيت المحبسين في أحد زوايا الكوفة، فكأنّه أصبح شأن كلّ ما حلّ ببيته وأحاط بالأدنين من أهله، وما به من شكوى لضرّ ونأي الدار لا قيمة له إزاء ما داهمه.

والسلوى الوحيدة لتخفيف تلك الفجائع القاصمة بطبيعة الحال الوصول إلى الحفرة الطاهرة، وأنّى ذلك له؛ لضخامة السياج المحيط بجهات ساحة الرمس الأقدس بالجند المسلّح المزوّد بكامل العدّة والعتاد

١٢٥

لمنع وصول الوافدين إليه، وإن تسنّى للأشناني كان على سبيل الصدف، فضلاً عن أنّه كان في غنى لا يحتاج إلى مَنْ يقوده، ولا هو علوي تحيطه الرقابة أثر كلّ خطوة.

مع ما كان من بعد أمد للخلف وشقة البين محمّد المنتصر لِما هو مجبول عليه بما ينطوي بين جوانحه من التعلّق بعلي والطالبيِّين، مع المهيمن الحاكم بأمره أبوه المتوكّل جعفر، والحاشية المحيطة بسدّة الخلافة من ندماء ومغنين، وأرباب مجون وخلاعة على صورة ملائمة دون توتر، حتّى يوم تهديد عبادة في تقليده لعلي.

وأمر المتوكّل بالقيان في فصول الغناء كما سلف، قلب الحاشية للمنتصر ظهر المجن، وأعرضوا من احتشامه؛ لِما يجمعهم مع الخليفة من النصب والشنآن لعلي (عليه السّلام)، فصاروا يتوسّلون بكلّ ما يخصّ ولاة العهود من الاستخلاف في إمامة صلوات الأعياد، يحبّذون تقديم المعتزّ ويطرونه بالثناء البالغ حتّى يودعه ولاية العهد.

حتّى ظهر بجميع معنى الكلمة ما غرسوه نامياً في نفس المتوكّل، فأخذ مرّة يشتم المنتصر، ومرّة يسقيه فوق طاقته، ومرّة يأمر بصفعه، وتارة يهدّده بالقتل، ويقول بمشهد من رجال الدولة والحاشية: اشهدوا أنّي قد خلعت المستعجل، سمّيتك المنتصر فسمّاك الناس المنتظر، ثمّ صرت الآن المستعجل. ويأمر الفتح بن خاقان بلطمه والمنتصر يتذلّل ولا يجديه.

وبلغ أن عزم المتوكّل على قتل ولده المنتصر، فاتفق مع الفتح بن خاقان أن يصيّرا غداءهما لخمس خلون من شوال عند عبد الله بن محمّد البازيار، وهناك يقضي على حياة المنتصر مع وصيف وبغا وعدّة من قواد الأتراك؛ لأجل إحالة إقطاعتهم إلى الفتح.

والقواد الأتراك هم القوّة التي كانت ترتكز عليها حياة الإمبراطورية بشايع حدودها المترامية الأطراف، مهيمنة على شؤون الدولة، حتّى أنفاس الخليفة كانت منوطة برعاية حياتهم.

١٢٦

فلمّا أصبحت حياتهم مع المنتصر على شفا جرف الانهيار بين عشية أو ضحاها أجمعوا لدرء ما يهدّدهم بسنة تنازع البقاء معاجلة المتوكّل ليلاً قبل أن يباكرهم نهاراً.

وكان المتوكّل أصبح لثلاث خلون من شوال نشيطاً مسروراً فرحاً، دعا الندماء لمجلسه، وأخذ في الشراب واللهو، ولم يزل في قصفه حتّى مضى من الليل شطراً، وأمسى ثملاً، حيث بلغ ما احتساه وتجرّعه من الخمرة أربعة عشر رطلاً.

دخل عليه بغا الصغير وأمر الندماء بالانصراف، فلم يبقَ سوى الفتح وعثعث وبعض الخدم، وأبواب دار الخلافة موصدة إلاّ مدخل الشط، فأقبل بغلون وباقر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي بأيديهم السيوف المسلولة فابتدره بغلون بضربة على كتفه واُذنه، فأراد المتوكّل الوثوب، واستقبل السيف بيده فأبانها، وشركه باقر، فرمى الفتح بن خاقان بنفسه على المتوكّل ليقيه بعجة هارون بسيفه، واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما وقطّعاه.

قضى المتوكّل دور شبابه قبل أن يلي الخلافة كأقرانه من أعضاء البيت المالك على حياة ترف، بجانب من قصف وولع بخلاعة بالغة أن نقم أخوه الواثق عليه وأطرحه، ورفع إليه أنّه يتظاهر بزي المخنّثين، فأمر بأخذ شعر قفاه ويُرمى بوجهه لتطرّفه المشين.

والسبب الذي ساق إليه الخلافة إنكار وصيف على حداثة ابن محمّد بن الواثق؛ لعدم جواز الاقتداء به للصلاة، والمتوكّل آنئذ في سروال وقميص جالس بين أبناء الأتراك غير مكترث به.

قرأ عليه علي بن يحيى المنجم بين يديه في كتب الملاحم قبل قتله بأيام أنّ العاشر يُقتل في مجلسه بحذف لفظ الخليفة، فقال المتوكّل: ليت شعري! مَنْ هذا الشقي المقتول؟!

ولم يقتصر لخلاعته واستهتاره ما جناه على نفسه أن قضت عليه بسبيل انتحار فقط أن هوى بعظمة حياة الخلافة، وما كان لها من شموخ

١٢٧

ورفعة من خالق إلى أحط دركات الحفيض بما تمهّد للأتراك بعد قتله من التلاعب بمصير مَنْ تعاقبوه من الخلفاء من العزل والنصب والقتل ما شاؤوا وأرادوا، دون أيّ مانع ورادع. وأخذت وحدة المملكة إلى الانحلال والتجزؤ، مستهلاً بآل الصفار، وتمخّض بظهور صاحب الزنج، وبه قارن انهيار كيان الدولة أبدياً وسقوطها على قاب قوسين.

ذكر ابن الأثير(١) في حوادث سنة ٢٤٨: كان المنتصر عظيم الخلق، راجح العقل، عزيز المعروف، راغباً في الخير، جواداً كثير الإنصاف، حسن العشرة، أمر الناس بزيارة قبر علي والحسين، وأمّن العلويِّين وكانوا خائفين أيام أبيه، وأطلق وقوفهم، وردّ فدكاً على ولد الحسين، وعزل صالح عن المدينة واستعمل علياً، فلمّا دخل عليه ليودّعه قال له: يا علي، اُوجّهك إلى لحمي ودمي - ومدّ ساعده إلى هذا - اُوجّهك فانظر كيف تكون للقوم وتعاملهم؟ يعني آل أبي طالب.

قال: أرجو أن أمتثل أمر أمير المؤمنين إن شاء الله.

قال له: إذن، تسعد عندي.

وورد أنّه أمر بالبناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويُقام على البناء علماً كالميل عالياً ليستدلّ به على موضعه لوافديه.

بوغت تاج الدين إبراهيم بخبر إلغاء المنع، وانهيار قواعد السياج، وإطلاق حرية كلّ مَنْ يشاء زيارة الحسين، وقصد حائره دون أيّ تعرّض، فكان في طليعة الرعيل الأوّل ممّن قصدوا كربلاء من الكوفة(٢) ، ولما نال

____________________

(١) الكامل ٧ / ٤٤.

(٢) أتذكر أنّي وقفت في النجف الأشرف بين كتب النسب الخطية عند ذكر إبراهيم المجاب، قال: هو أوّل مَنْ خرج من الكوفة وسكن الحائر.

أقول: لعل هذا الكتاب هو (النفخات العنبرية في أنساب آل خير البرية) لمؤلّفه السيد أبي فضل محمّد الكاظم بن أبي الفتوح الحسيني، المخطوط سنة ٨٩١؛ إذ جاء في تاريخ كربلاء (١ / ٣٧ المخطوط) - للمتغمد بالرحمة السيد عبد الرزاق الوهاب، نقلاً عن (النفحات): السيد إبراهيم المجاب أوّل مَنْ هاجر من الكوفة إلى كربلاء بعد حادثة المتوكّل، فسكن فيها حتّى توفي ودُفن فيها. (عادل).

١٢٨

من صنوف الإنكار، وما أوتيه من إطلاق حرية الإرادة أخذ يبثّ لجدّه الحسين لمّا بلغ ساحة كربلاء ما تكابد من محن وأرزاء مع أدائه لوجائب التحية والسّلام؛ فلتسليته والترحيب به أجابه السبط بردّ السّلام، فاختار تمضية بقيّة أيامه في جواره، واتخذه لنفسه ولأعقابه من ولده محمّد الثاني - الذي اشتهر بالحائري - وطناً ودار إقامة وسكناً من منذ بقيته الباقية من سنة ٢٤٧ ليومنا هذا سنة ١٣٦٩ هـ.

فلسلالته ألف ومئة واثنان وعشرون سنة لم يزالوا حائزين لشرف الجوار على أثر قصد جدّهم المجاب تاج الدين إبراهيم.

(٣) أبو الفائز محمّد الخامس(١)

ذكر ابن بطوطة في رحلته(٢) قال: (ثمّ سافرنا منها - الحلّة - إلى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن علي (عليهما السّلام) وهي مدينة صغيرة تحفّها حدائق النخيل، ويسقيها ماء الفرات، والروضة المقدّسة داخلها، وعليها مدرسة عظيمة، وزاوية كريمة، فيها الطعام للوارد والصادر، وعلى أبواب

____________________

(١) جاء في مناهل الضرب - للأعرجي (المخطوط) عن ترجمة أبي الفائز: كان أبو الفائز محمّد في الحائر سيداً وجيهاً، جليل القدر، شهماً غيوراً عفيفاً، ورعاً تقياً، نقي السريرة، يمتاز على سائر العلويِّين الساكنين في الحائر، ويتبعه أكثر من نصف سكّانه.

كان بينه وبين الوجيه المعاصر له السيد محمّد من ذرية محمّد بن الحنفيّة - يعتقد السيد حسن الكليدار أنّه محمّد بن يحيى زحيك - خصومات ومناوشات قبلية من أجل زعامة الحائر ونقابتها، ويقول بعد ذلك: اصطفى مع خصمه العنيد، وزجر نقيب الحائر شهاب الدين أحمد الحسيني وعزله، ونصب نفسه نقيباً للحائر خلفاً للنقيب المعزول. (عادل).

(٢) ص ١٣٩.

١٢٩

الروضة الحجّاب والقومة، لا يدخل أحد إلاّ عن إذنهم؛ فيقبّل العتبة الشريفة، وهي من الفضة، وعلى الضريح المقدّس قناديل الذهب والفضة، وعلى الأبواب أستار الحرير.

وأهل هذه المدينة طائفتان؛ أولاد زحيك، وأولاد فائز، وبينهما القتال أبداً(١) ، وهم جميعاً إمامية يرجعون إلى أب واحد؛ ولأجل فتنتهم تخرّبت هذه المدينة...).

ومن الغريب أنّه لم يتكتّل لأبي الفائز من أعقاب كثيرة عندئذ؛ إذ كان أبو الفائز من رجال القرن السابع وابن بطوطة زار كربلاء في أوّل القرن الثامن، إلاّ أنّنا نقول: لشخصيته البارزة كان ينضمّ ويلتحق لآله بنو عمومتهم من آل المجاب، وعددهم لا يُستهان به على ما أورد أسماءهم ابن شدقم في مبسوطه نقلاً عن مشجر ابن معية الحسني النسّابة.

(٤) السيد أحمد الثاني

(يُقال عنه: إنّه كان ناظر رأس العين).

قال ابن عتبة الداودي في العمدة / ٣٠٨: (كان السيد شمس الدين حسين ابن السيد تاج الدين هو المتولّي لنقابة العراق، وفيه ظلم وتغلّب؛ فأحقد

____________________

(١) في منتصف القرن الثامن الهجري وقعت في كربلاء حوادث جسام كادت أن تؤدّي بها وبساكنيها؛ وذلك من جرّاء نشوب القتال بين آل فائز وآل زحيك، فاستغلّت الحال قبيلة بني مهنا العلوية فأغارت على كربلاء وحجّتها أن تتدخل في حلّ النزاع، فتدخلت بشؤون كربلاء، ونصبت شمس الدين محمّد الحائري سادناً.

وقد أخطأ السيد حسن الكليدار (في مدينة الحسين ٢ / ١٤٠) بقوله معقّباً على النصّ المتقدّم: وتولّى عميد آل فائز محمّد نقابة الحائر ثانية، وتولّى عميد آل زحيك السدانة، فأمنت كربلاء غائلة الفتن سنة ٧٥٦ هـ انتهى.

ووجه الخطأ هنا هو إنّ السيد محمّد أبا الفائز الآنف الذكر بالقطع لم يكن من رجال القرن الثامن، بل كان محمّد أبو الفائز من رجال القرن السابع (راجع ترجمة أبي الفائز في النص). (عادل).

١٣٠

سادات العراق بأفعاله، فتوصّل الرشيد الطبيب(١) واستمال جماعة من السادات، وأوقعوا في خاطر السلطان من السيد تاج الدين وأولاده حكايات ردية، فلمّا كثر على السلطان استشار الرشيد الطبيب في أمره، وكان به حفيّاً، فأشار عليه أن يدفعه إلى العلويِّين، وأوهمه أنّه إذا سلّمه إليهم لم يبقَ لهم طريق في الشكاية والتشنيع، وليس على السيد تاج الدين من ذلك كثير ضرر.

فطلب الرشيد الطاهر جلال الدين الفقيه، وكان سفّاكاً جريّاً على الدماء، وقرّر معه أن يقتل السيد تاج الدين وولديه، ويكون له حكم العراق نقابة وقضاء وصدارة؛ فامتنع السيد جلال الدين من ذلك، وقال: إنّي لا أقتل علويّاً قطّ.

ثمّ توجه من ليلته إلى الحلّة، فطلب الرشيد (السيد ابن أبي الفائز الموسوي الحائري) وأطمعه في نقابة العراق على أن يقتل السيد تاج الدين وولديه، فامتنع من ذلك، وهرب إلى الحائر من ليلته.

أقول: اقتصر بالتعبير عنه بلفظ السيد مشدّداً دون التسمية يعرب

____________________

(١) هو فضل الله رشيد الدين وزير الجياتوخان المغولي، ولد في همدان سنة ٦٣٨ هـ، وتوفي سنة ٧١٨ هـ. وقد اشتغل رشيد الدين في بادئ أمره بالطبّ واشتهر به، وهو مؤلّف كتاب (جامع التواريخ) بالفارسية.

أمّا بشأن هذه الواقعة التي يرويها صاحب العمدة فقد شكّك بها (كاترمير)، بل اعتبرها مختلقة وملفّقة، وذلك في مقدّمته القيمة لكتاب رشيد الدين - جامع التواريخ ٢ / ٣٤ من الترجمة العربية - ويدعم رأيه هذا بحجج غاية في القوّة والإقناع.

ولكن مع تقديرنا لهذا الرأي نرى أنّنا مدفوعون بعدم التسليم بصحة تسليمنا كليّاً؛ لأنّ كاترمير ليس لديه دليل مادي يدعم به رأيه سوى ما يمليه عليه التحقيق العلمي الذي لا يسلّم بالنصوص التاريخية المخالفة للعقل والمنطق السليم، ومن المعلوم أنّ هذا وحده لا يكفي لتكذيب واقعة تاريخية وتنفيذها.

ثمّ إنّنا لا نرى سبباً معقولاً يدفع مؤلّف كابن مهنا الداودي إلى إدانة رشيد الدين وزجّه في هذه الحادثة ما لم تكن صحيحة؛ فرشيد الدين كان معروفاً بتشيّعه وإخلاصه لآل علي، فلذلك ولِما تقدّم لا نستطيع أن نفنّد كلّ ما جاء في العمدة ونسلّم برأي كاترمير. (عادل)

١٣١

عن بعد صيت قيّم وشهرة فائقة لابن أبي الفائز، يضاف إلى جملة اسمه في المشجرات والمبسوطات التذكارية التي عند آله وسلالته (ناظر رأس العين)، ويزعمون أنّ الضريح المشيد المشهور بأحمد بن هاشم في الشمال الغربي من شفاثا بمقربة من الرحالية قبره، وابن هاشم عزوة لعمرو العلا هاشم بن عبد المناف جدّ الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وليس باسم لأبيه.

ويعنون برأس العين ماء شفاثا، ولفظ رأس العين على سبيل العلمية لم يطلق على هذا العين كما تحكيه المعاجم الجغرافية العربية(١) ، وإن ذكروا رأس العين أرادوا به عين الوردة الواقع بين جسر منبج وبلد خلف الموصل.

في أواخر العقد الخامس من القرن الرابع عشر الهجري قصدت زيارة أحمد بن هاشم - وله مكانة عظيمة في نفوس البدو، يقدّمون له النذور - وبحثت جهد المستطاع على درك أيّ أثر أتوصل به إلى كشف هويته، مع شديد الأسف لم أقم على أيّ طائل رغماً عن شدّة التحرّي الذي بذلته، فقط أرشدوني على بعض أمتار على قبّة مبنية على رمس أخبروني قوامه أنّه قبر أخيه.

وانتهى الداودي عند ذكره لهذه السلالة من آل المجاب إلى جملة (آل أبي الفائز محمّد بالحائر)، ولم يذكر له أخاً أو إخوة ليتسنّى على ضوئه طريقاً للاستدلال - ما يشفي الغليل - على أثر هذا الضريح الذي على مقربة منه.

أمّا ناظر رأس العين إن اعتمدناه فلا بدّ أنّه ولي النظر بشؤون ولاية عين الخابور في الدولة المغولية، ولأوانئذ كان لهذا

____________________

(١) راجع معجم البلدان - للحموي، ومختصر كتاب البلدان - لابن الفقيه الهمداني / ١٣٤ ط ليدن، وأحسن التقاسيم - للمقدسي / ١٣٧، وصور الأقاليم - للبلخي / ٩٣ (مخطوط)، ورحلة ابن جبير / ٢٢١ ط سنة ١٩٠٨ القاهرة.

١٣٢

العين وتوابعه من العمران شأن من قيمة وتقدير ما لا يُستهان به.

وعندما هوت الخلافة العباسيّة من شاهق عزّها، وأصبح الحكم لملوك بني بويه في القرن الرابع الهجري، أخذ الطالبيون يشغلون جانباً من وظائف الدولة، فضلاً عن النقابة على آلهم وإمارة الحج، والنظر في المظالم والقضاء.

وفي القرن الخامس أُحيل لأبي تميم معد الموسوي مع النظر في نقابة الطالبيِّين الأشراف على المخزن - وزير المالية - مع ما كان له من مكانة رفيعة عند أبي العباس أحمد الناصر لدين الله، ولداره(١) الذي كان يقيم فيه ببغداد في المقتدرية قيمة أن اتخذه الخلفاء بعده محلاً للوافدين من الملوك إلى سدّة الخلافة.

وأبو تميم معد بن الحسين بن معد الموسوي هو الذي قام بأمر الناصر إلى تجديد معالم سرداب سامراء، وعلى باب صفة السرداب أعلام مباشرته وإنجازه في سنة ست وستمئة.

ومن أشراف آل المختار نقباء الغري؛ منهم تاج الدين الحسن، كان عارض الجيش(٢) في الدور المستنصري، وتاج الدين محمّد بن صلايا العلوي، صدر أربل(٣) للدور المستعصمي حتّى أن اتصل بالدور المغولي.

ولم ينفكّوا من إشغال المناصب في الدولة المغولية، وأشغل عزّ الدين ابن الموسوي العلوي نيابة رئاسة الشرطة، وتاج الدين الطقطقي صدرية الحلّة(٤) سنة ٦٦٧ هـ.

وتقف عند اسم السيد أبو جعفر محمّد الثالث الملقّب بخير العمال،

____________________

(١) راجع الحوادث الجامعة / ١٦٥.

(٢) انظر الحوادث الجامعة - لابن الفوطي / ١٣٣، وقد جاء في مجالس المؤمنين / ٦٩ ما ترجمته: (سادات بني المختار كانت لهم في عهد بني العباس أمارة الحج، وتولية المشهدين المقدّسين في كربلاء والنجف كانت بعهدتهم، وبعد ذلك رحلوا إلى سبزوار، وكانوا هناك دائماً مرجعاً ومآباً لآهالي خراسان).

(٣) الحوادث الجامعة / ٣٣٧.

(٤) الحوادث الجامعة / ٣٦٢.

١٣٣

وفي التسلسل بين ناظر رأس العين وتاج الدين المجاب لفظ خير العمال، من الممكن إطلاق هذه اللفظة على أثر أشغاله لنظارة أو صدارة أو إشراف أو ما قاربها.

(٥) السيد طعمة الأوّل

قال ضامن بن شدقم الحسيني المدني في المجلد الثالث من (تحفة الأزهار وزلال الأنهار في نسب أبناء الأئمّة الأطهار) عند ذكر لعقب تاج الدين إبراهيم المجاب، عند ذكره لطعمة: (وفي نسخة اُخرى أنّ طعمة هو ابن أبي جعفر أحمد (أبو طراس) المذكور من غير واسطة، والله تعالى أعلم، ويقال لولده: آل طعمة، سادات أجلاء ذو أهل ورياسة ونقابة، وعظمة وجلالة بالحائر)(١) .

(٦) السيد طعمة الثاني

راجع المنقول من وقفية بستان ضوي، لفظ الواقف، يقول: هو يحيى ابن السيد طعمة النقيب؛ فعليه ينبغي أن يكون طعمة الثاني هو نقيب الأشراف.

يقول في ورقة وقفية بستان ضوي، خارج باب بغداد الواقع للخارج من الباب في جانب اليمين: الواقف سيد يحيى ابن سيد طعمة النقيب على ولده السيد ضياء الدين وعلى أولاده ومن بعدهم لمصالح الحضرة الحسينيّة (عم) سنة ١٢١٤.

في المتن: مجموع البستان الواقعة قريباً

____________________

(١) عن نسخة خطية بيد المؤلّف (عبد الحسين).

١٣٤

من حواش القضية في محلّة آل فائز(١) من محلات قصبة كربلاء... والحدود... والحدّ الرابع طريق بغداد وفيه الباب.

(٧) السيد طعمة الثالث

العالم الكامل كما في ورقة وقفية الفدان. [ خلاصة وقفية الفدان: يُستفاد من الورقة أنّه في ملكية سيد طعمة (الثالث) ابن سيد علم الدين مملكة إلى الشيخ أحمد ابن الشيخ علي النحوي حتّى يوقفه الشيخ أحمد النحوي على المولى العالم الكامل السيد طعمة ابن المرحوم المبرور السيد علم (دام فضله وأفضاله) (عين ما في الوقفية).

وتأريخ الوقفية ١٥ شهر رمضان سنة ١٠٢٥ ألف وخمسة وعشرون، ومن فدان السادة فدان يختصّ بالسيد خليفة ابن السيد نعمة ابن السيد طعمة الواقف للفدان ].

(٨) السيد نعمة الله

وقفت على فرمان - والفرمان عند السيد مجيد ابن المرحوم السيد سلمان، والسيد نعمة الله الحلقة السابعة منه - صادر من السلطان مصطفى

____________________

(١) كانت كربلاء قديماً تقسّم إلى ثلاثة أطراف؛ يُدعى الطرف الأوّل منها بمحلّة آل فائز، والطرف الثاني بمحلّة آل زحيك، والطرف الثالث بمحلّة آل عيسى نسبة إلى الأقوام العلويِّين الذين كانوا يسكنون هذه الأطراف. وعندما أتمّ صاحب الرياض بناء السور استبدل أسماء تلك الأطراف بأسماء أبواب السور. (انظر مدينة الحسين ١ / ١٥). (عادل).

١٣٥

الثالث العثماني في الخامس من شهر ربيع الآخر سنة ١١٨٧ سبعة وثمانين وألف من إسلامبول، يبحث عن شؤون مزرعة وعوائد خطيّة للسيد عباس ابن السيد نعمة الله، يعبّر عن نعمة الله وآله السيد عباس بهذه العبارة: (نقيب الأشراف نعمة الله، أو علي سيد عباس).

(٩) السيد يحيى الثاني ضياء الدين (نقيب الأشراف)

وقفت في النجف الأشرف على نسخة من عمدة الطالب(١) بخطّ حسين بن مساعد بن حسن بن مخزوم بن أبي القسم بن عيسى الحسيني الحائري، فرغ من نسخه تاسع عشر ربيع الأوّل سنة ٨٩٣ ثلاث وتسعين وثمانمئة.

ويظهر في الصفحة الأولى مدرج سواد شهادة بصحة نسب السادة الحجوج، من الشهود: (ضياء الدين يحيى طعمة الحسيني النقيب الحائري)، والتاريخ التحريري لعقد عشر وألف ومئة سنة ١١٠٩.

وعند ذكر عقب وآل أحمد ابن الإمام موسى بن جعفر (سلام الله عليهم) في الهامش الأيسر يقول ما هذا لفظه: (وقد ذكر صاحب الشجرة القديمة التي هي الآن عند بعض سادات آل طعمة في مشهد كربلاء، التاريخ سنة ١١٦٤ أربعة وستين بعد المئة والألف، التي انتخب منها شيخنا أبو الحسن مدرس الغري (قدس الله رمسه) مشجره).

أقول: من الممكن على سياق التاريخ سنة ١١٠٩، وسنة وفاة المنتخب سنة ١١٣٨ أنّ أصل المشجر القديم كان في حيازة ضياء الدين يحيى الثاني النقيب، أو عند ولده الذي خلفه

____________________

(١) توجد هذه النسخة في مكتبة الشيخ عبد الرضا آل الشيخ راضي (النجف)، وقد طبعه في النجف الأشرف سنة ١٩١٨.

١٣٦

في النقابة السيد نعمة الله(١) ، أو عند أعقابه الآخرين انتقل منه إليهم.

وقفت قبل أعوام مضت، وأظنّني في الغري الأقدس، على نسخة هذا المختصر: مشجر مجرّد من كلّ تعليق، بسيط للغاية، يكاد لا يُستفاد منه سوى تسلسل الأسماء المدرجة فيه، مع صغر حجم.

والظاهر هو للشيخ المتغمد بالرحمة محمّد مهدي(٢) الفتوني المتوفّى سنة ١١٣٨، مؤلّف كتاب (ضياء العالمين) في أجزاء بقطع كبير، وهو من أوقاف مكتبة المرحوم

____________________

(١) أخبرني المرحوم السيد سلمان السيد محمّد علي السيد وهاب بأنّه جرى بينه وبين المرحوم السيد محسن ابن السيد عباس ابن السيد محسن من آل دراج نقباء الحائر كلام في النقابة، نفى السيد محسن تخصيصها في كربلاء لأحد غير سلالتهم.

قال السيد سلمان: (أنكرت عليه زعمه، ولإثبات صحة إنكاري أتيته بنفس الفرمان الصادر من ملوك آل عثمان في توديع النقابة لعهدة السيد يحيى ضياء الدين).

ولم أتقصَ عندئذ لرؤية هذا الفرمان؛ حيث لم يدر بخلدي تدوين شأن سلالة آل طعمة. وبعد وفاة المرحوم بالفرمان لأثبت صورته هنا بعد مراجعته(*) قال: إنّه لم يعثر عليه.

(٢) لم يُنسب كتاب (ضياء العالمين) هذا إلى محمّد مهدي الفتوني العاملي المتوفّى سنة ١١٨٣ هـ بل يُنسب إلى عالم آخر يحمل نفس اللقب هو أبي الحسن بن محمّد طاهر الفتوني النباطي العاملي المتوفّى سنة ١١٣٨ هـ كما في مستدرك الوسائل - للعلاّمة الأجل النوري ٣ / ٣٨٥، والذريعة إلى تصانيف الشيعة - للعلاّمة المحقّق آقا بزرك الطهراني، المجلد الخامس، وما أكّده لي شفوياً صاحب الذريعة (مدّ الله في عمره).

والأغلب أنّ المؤلّف قد اشتبه في ذكر الاسم لتطابق اللّقبين، والذي يرجع هذا أنّه قد ذكر سنة وفاة أبي الحسن الفتوني؛ وعليه يكون مؤلّف المشجر المذكور هو أبي الحسن الفتوني، ولعل المشجر هو (حدائق الألباب في معرفة الأنساب)، رآه السيد حسن الصدر الكاظمي في كربلاء، وفيه مشجرات آقا بزرك الطهراني في الذريعة ٢ / ٣٧١.

وذكر أنّ الوصول إلى المراد منه غير يسير، فطلب البعض من الشيخ أبي الحسن أن يؤلّف فيه كتاباً يسهل الوصول إليه؛ فألّف كتاب (الأنساب). (عادل).

(*) لا يخفى على القارئ ما في العبارة الأخيرة من إرباك مخلٍّ في المعنى، والذي يدل على السقط الحاصل إثناء النسخ.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٣٧

الشيخ عبد الحسين الطهراني.

اطلعت على صفحات جزء من هذا المؤلّف الجليل فبان لي ما يتمتّع به المؤلّف من منيع مكانة في النقد والتحليل باُسلوب غاية في المتانة، مؤيدة بحجج قوية دامغة، ويعوّل ويستند على مؤلّفات فريدة قيّمة تُفصح بما كان لمكتبة الروضة العلوية من النفائس والذخائر الأثرية النادرة.

كانت المكتبة آنذاك تضاهي خزانتها اليوم بما تحويه من الأعلاق النفسية والأحجار الثمينة، ما حدّث عنه ولا حرج.

(١٠) السيد درويش(١)

كان السيد درويش وإخوته: السيد مصطفى، والسيد محمّد، والسيد جواد(٢) ، وابن عمّهم السيد محمّد علي الكليدار أحياء في سنة ألف ومئتين واثنين وأربعين أيام ولاية داود باشا لبغداد خلال سني محاصرة كربلاء بأمر داود باشا بزعامة المناخور التي ابتدأت من سنة ألف ومئتين وأربعين إلى سنة أربع وأربعين، والمحاصرة بينها فترات.

(١١) السيد علي الثالث(٣)

كان (رحمه الله) برّاً تقيّاً، عابداً زاهداً، قد سمعت منه (طاب ثراه)

____________________

(١) جاء في مناهل الضرب في أنساب العرب (مخطوط ص ٥٦٥ في مكتبة العلاّمة آقا بزرك الطهراني) عن السيد درويش ما نصّه: وأمّا السيد درويش بن أحمد بن يحيى فكان سيداً جليلاً ديّناً، حج بيت الله الحرام ماشياً، وكان في أغلب أوقاته لا يُفارق الروضة المقدّسة؛ لا ليلاً ولا نهاراً، وكان لا يفتر عن العبادة. (عادل).

(٢) أسماء هؤلاء الإخوة تطلق اليوم على أفخاذ آل طعمة خلا السيد محمّد؛ إذ يعرفون سلالته بـ (آل شروفي).

(٣) في الحقيقة إنّ هذه الترجمة لم تنسق هكذا، وإنّما قد جمعتها ممّا كتبه المؤلّف عن والده.

١٣٨

أنّه ولد سنة جلوس ناصر الدين شاه على العرش الفارسي، وذلك سنة ١٢٦٤هجري.

وكان قد تقلّد مقام أبيه في سنة ١٣٠٩ هـ، وقد طالت أيام سدانته للروضة الحسينيّة تسعة أعوام قضى معظمها داخل الحضرة الزاكية مشغولاً بالصلاة والدعاء.

وكان كثيراً ما يتصدّق على الفقراء والأيتام، وتوفي يوم الخميس ثالث محرّم الحرام سنة ١٣١٨ هجري، وكان يوم وفاته حسن الأحوال، وقد التفّ حوله أعمامه ينقلون له الأخبار، وكنت في الصحن الشريف وقتئذ، ولمّا خرج أعمامه أراد أن يدخل الحرم فوقع مغشياً عليه، فما قام بعد ذلك أبداً.

ودفن عند قدمي عمّه العباس (عليه السّلام) في حجرة من حجر الرواق؛ ولاستشهاره بالأعمال الخيرية، والإحسان للفقراء صار ملاذ الشعراء، ومدار البلغاء يذكرونه في كلّ مناسبة تدعو لذاك.

وللمرحوم الشيخ محمّد سعيد خلف الشيخ محمود سعيد نائب كليدار الروضة الحيدرية الأسبق (وكان من سكنة كربلاء وأحد شعرائها)، مهنّئاً المغفور له والدي السيد علي عند قدومه من حج بيت الله الحرام لسنة إحدى وثلاثمئة بعد الألف الهجرية ١٣٠١ هـ:

بـشراً فـقُمريّ الـتهاني غرّدا

وعـندليب الـبشرِ بـالشعر شدا

بـشّر فـي مـقدمِ مقدام وطأ

أقـدامُ عـلياهُ الـسهى والفرقدا

ذاك العليُّ ذو العلى مَنْ لم يزل

يـرقى من العليا إلى أعلى مدى

خـيرُ سـريٍّ قـد سرى بعزمِه

يـفري الأكـامَ حـدّها والفدفدا

نـودي من أمّ القرى إلى القرى

فـأمّـها مـلـبّياً ذاك الـنـدى

قـلّ ردى أحـرامَه أهـلُ ردى

أيّ فـتى أحـرم من ذاك الردى

أحـرم في ذاك الردى طود تقى

في التقى أحرم مَنْ بالنسك ارتدى(١)

وهـل درى الـبيت بأيّ ناسك

طـافَ بـهِ وساقَ للهدى الفدى

لـقد زهت مناسكُ البيتِ بمَنْ

بنسكهِ ذو النسكِ والتقوى اقتدى

سـليلُ مَـنْ قواعدُ البيتِ بهمْ

قـامت وفـيهم ركنهُ قد شُيّدا

____________________

(١) في المصراع الثاني خلل عروضي واضح.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٣٩

كـم وثـنٌ لـلشركِ فيه نكثوا

وقـوّموا لـلدين فـيهِ عـمدا

وبـيت ربّـي قسماً لولا هُمُ

مـا كان ربّ البيتِ يوماً عُبِدا

ومـذ أتـمّ الـحجَ فرضاً سنّه

أكّده بـما بـهِ قـد أكّـدا

فـطافَ مـن طيبة في مراقدٍ

فـي مـهدها سرّ الوجودِ اُلحدا

بأشرفِ الرسلِ استطالت شرفاً

وآلـهِ الأشـراف أعلامُ الهدى

عـليهمُ الصلاة تترى ما سرى

لـلبيتِ ركبٌ وبهِ الحادي حدا

فـلتهنأ الأشراف في أسنى هنا

بـخيرِ فـذٍ قـد تزكّى محتدا

لـلناسكِ الأوّاهِ عـبد الله كـم

رعـى زمـامَ عـهد ودٍ عقدا

بـبرّه الأبـرارُ راحت تقتني

إثْـراً لـهُ قـد اتخذ البرّ ردا(١)

وخـصّ مـنها بالنُّهى خيرَ آبٍ

لـقد أبـى إلاّ العُلا والسؤددا

ذاك الـجواد مَـنْ يـجودُ كفّه

صـيّر أجـواد الـبرايا أعبدا

سـادَ قـبيل مـجدهِ وقد غدى

فـيهم بـأقليد الـعلا مـقلّدا

طويلُ باعٍ في العلا قد قصرت

عـنهُ ذوو العليا وإن طالَ اليدا

لا غـرو أن ألـقت لهُ قيادها

فـالدهرُ قـد ألقى إليهِ المقودا

قـلّد فـي أقليد أسنى روضة

يـودّ رضـوانٌ بـهِ لـو قُلّدا

فـكان خـيرَ سـادنٍ مـؤتمنٍ

لـكعبةِ الـكعبةِ كـعبة الهدى

الـكعبة الـقدس التي تفضلها

قـدماً على الكعبةِ أرضاً وردا

كـعبة قـدس في ثرى أعتابها

ترى الملوكَ الصيدَ خرّوا سُجّدا

مـختلفُ الأملاك إنْ يهبط بها

فـوجٌ فـمنها مـثله قد صعدا

تضمّنت سبطَ النبيِّ المصطفى

مَـنْ قـد دُعـي للشهداءِ سيّدا

ريـحانة الهادي فكم قد روّحت

بـروحها لـلطهرِ طـه كـبدا

ولـيهن مـنه خـير عمّ علم!

عـمّ الورى فضلاً وذكراً وندا

أحـدهـم خـلائقاً فـحقّ أن

سـمّي بـاسم خـيرِ جدٍّ أحمدا

____________________

(١) لا يخفى الخلل العروضي البيّن في المصراع الثاني من البيت.(موقع معهد الإمامين الحسنين)

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197