فاجعة الطف

فاجعة الطف0%

فاجعة الطف مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام

فاجعة الطف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
تصنيف: المشاهدات: 6637
تحميل: 5491

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 8 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 6637 / تحميل: 5491
الحجم الحجم الحجم
فاجعة الطف

فاجعة الطف

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فاجعةالطفِّ

السيد محمد كاظم القزويني

لمحة خاطفة واستعراض موجز لواقعة كربلاء الدامية، يتضمّن شرح الحادثة من مقدّمات خروج الإمام الحسين بن علي من المدينة المنوّرة إلى مكّة، ومنها إلى كربلاء، والتقاءه بجيوش الأعداء، وما جرى هناك من حوار واحتجاج، إلى أن انتهى الأمر بالقتال الذي تجلّت فيه بطولة العقيدة وجمال الاستقامة بأروع منظر في استشهاد أصحاب الحسين، والفتية من آل الرسول الذين ورثوا الشجاعة والشهامة، وحازوا عزّة النفس، وشرف الضمير، وثبات العقيدة، وأسفرت الفاجعة عن شهادة الإمام سيد الشهداء الحسين بن عليعليه‌السلام .

تلك الكارثة التي ألمّت كلّ ضمير حي، وهيّجت كلّ عاطفة سليمة، وأبكت ملايين العيون، وأحرقت ملايين القلوب، ولا يزال الحبل ممدوداً حتّى اليوم وبعد اليوم.

بسم الله الرحمن الرحيم

عظّم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بسيدنا الحسينعليه‌السلام ، وجعلنا الله من الطالبين بثأره مع ولده الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه).

إنّ هذا اليوم أعظم يوم في الإسلام، وأكبر يوم تاريخي في العالم، لقد وقعت في مثل هذا اليوم الفاجعة العظمى، والمصيبة الكبرى التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ولا نظيراً واقعة دامية، وكارثة مؤلمة حلّت بالإسلام والمسلمين، فأبكت العيون على مرِّ القرون والدهور، وأحرقت القلوب بنار الأسى والحزن؛ فهذا اليوم تتجدّد فيه أحزان أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأحزان كلّ مَنْ يحمل لهم الولاء والمودّة.

والعجب كلّ العجب من بعض المسلمين الذين يجعلون هذا اليوم يوم عيد وسرور، وهم في غفلة عمّا حدث في هذا اليوم، وما نزل بسيّد شباب أهل الجنة وسبط رسول الله وريحانته، الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام من المصائب والنوائب التي أشفقن منها الجبال وأبين أن يحملنها، وهذه الفجائع نزلت بآل رسول الله الطيّبين على يد بني أميّة وأتباعهم.

فقد مات معاوية بن أبي سفيان في النّصف من رجب سنة 59 أو 60 من الهجرة، واستولى ابنه يزيد على مسند الخلافة، وادّعى أنه خليفة رسول الله والقائم مقامه، مع العلم أنّه لم تكن في (يزيد) مؤهّلات الخلافة؛ من نسبه المهتوك، وحسبه الدنيء، وموبقاته التي كان يرتكبها من الخمور والفجور، واللعب بالكلاب والقردة، والاستهتار بجميع معنى الكلمة.

فاستنكف المسلمون أن يدخلوا تحت طاعة رجل لا يؤمن بالله ولا بالرسول، ويحمل عقيدة الإلحاد والزندقة كما صرّح بذلك يوم قال:

لَعِبَتْ هاشمُ بالملك فلا

خَبَرٌ جاءَ ولا وحي نزلْ

خروج الحسينعليه‌السلام من المدينة

كَتب يزيد كتاباً إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان (والي المدينة) يُخبره بموت معاوية، ويأمره بأخذ البيعة من هل المدينة عامّة ومن الحسين بن علي خاصّة، فأرسل الوليد إلى الإمام الحسين وقرأ عليه كتاب يزيد، فقال الحسين: «أيّها الوليد، إنّك تعلم إنّا أهلُ بيتٍ بنا فَتَح الله وبنا يَختم، ومِثْلي لا يبايع ليزيد شارب الخمور، وراكب الفجور، وقاتل النفس المحترمة».

وخرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة خائفاً يترقّب، وقصد نحو مكّة، فجعل أهل العراق يكاتبونه ويراسلونه، ويطلبون منه التوجّه إلى بلادهم ليبايعوه بالخلافة؛ لأنّه أولى من غيره، فإنّه ابن رسول الله وسبطه، والمنصوص عليه بالإمامة من جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله: «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا». أي سواء قاما بأعباء الخلافة أو غُصبتْ عنهما.

إلى أن اجتمع عند الحسين اثنا عشر ألف كتاب من أهل العراق، وكلّها مضمون واحد، كتبوا إليه: قد أينعتِ الثمار، واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جندٍ لك مجنّدة، إنّ لك في الكوفة مئة ألف سيف، إذا لم تقدم إلينا فإنّا نخاصمك غداً بين يدي الله.

فأرسل الحسين ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة، فلمّا دخل مسلم الكوفة اجتمع الناس حوله وبايعوه؛ لأنّه سفير الحسين وممثّله، فبايعه ثمانية عشر ألفاً، أو أربعة وعشرون ألفاً.

وكتب مسلم إلى الحسين يخبره ببيعة الناس، ويطلب منه التعجيل بالقدوم، فلمّا علم يزيد ذلك أرسل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فدخل ابن زياد الكوفة وأرسل إلى رؤساء العشائر والقبائل يُهدّدهم بجيش الشام ويطمعهم، فجعلوا يتفرّقون عن مسلم شيئاً فشيئاً، إلى أن بقي مسلم وحيداً، فأضافته امرأة، فطوّقوا الدار التي كان فيها، وخرج مسلم واشتعلت نار الحرب، وقتل مسلم منهم مقتلة عظيمة، وأُلقي عليه القبض يوم عرفة وضربوا عنقه، وجعلوا يسحبونه في الأسواق والحبل في رجليه.

خروج الحسينعليه‌السلام من مكّة

وخرج الحسينعليه‌السلام من مكة نحو العراق يوم الثامن من ذي الحجّة، ومنعه جماعة من التوجّه نحو العراق، وأحدهم عبد الله بن العباس (حَبْر الأمّة)، فقال له الحسين: «يابن عباس، إنّ رسول الله أمرني بأمرٍ أنا ماضٍ فيه».

فقال: بماذا أمرك جدّك؟

فقال الحسينعليه‌السلام : «أتاني جدّي في المنام وقال: يا حسين، اخرج إلى العراق؛ فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً».

فقال ابن عباس: إذاً، فما معنى حملُك هؤلاء النساء معك؟

فقال الحسينعليه‌السلام : «هنّ ودائع رسول الله، ولا آمنُ عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لا يُفارقنني».

وخرج الحسين قاصداً الكوفة، وفي أثناء الطريق التقى به سريّة من الجيش تتكوّن من ألف فارس بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي، وأرادوا إلقاء القبض على الحسين وإدخاله الكوفة على ابن زياد، إلاّ إنّ الحسين امتنع من الانقياد لهم، فتمّ القرار على أن يسلك الحسين طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يردّه إلى المدينة، فوصل إلى أرض كربلاء فنزل فيها.

وقام ابن زياد خطيباً في الكوفة وقال: مَنْ يأتيني برأس الحسين فله الجائزة العظمى، وأعطه ولاية ملك الرّي عشر سنوات.

فقام عمر بن سعد بن أبي وقاص وقال: أنا.

فعقد له رايةً في أربعة آلاف رجل، وأصبح الصباح، وأوّلُ راية سارتْ نحو كربلاء راية عمر بن سعد، ولم تزل الرايات تترى حتّى تكاملوا في اليوم التاسع من المحرم ثلاثين ألفاً، أو خمسين ألفاً، أو أكثر من ذلك، وحالوا بين الحسين وأهل بيته وبين ماء الفرات من اليوم السابع من المحرّم، ولمّا كان اليوم التاسع اشتدّ بهم العطش، واشتدّ الأمر بالمراضع والأطفال الرضّع.

قالت سكينة بنت الحسين: عزّ ماؤنا ليلة التاسع من المحرّم؛ فجفّت الأواني، ويبست الشفاه حتّى صرنا نتوقّع الجرعة من الماء فلم نجدها، فقلت في نفسي: أمضي إلى عمّتي زينب لعلّها ادّخرت لنا شيئاً من الماء. فمضيتُ إلى خيمتها، فرأيتها جالسة وفي حجرها أخي عبد الله الرضيع، وهو يلوك بلسانه من شدّة العطش، وهي تارة تقوم وتارة تقعد، فخنقتني العبرة فلزمتُ السكوت.

فقالت عمتي: ما يُبكيكِ؟

قالت: حال أخي الرضيع أبكاني. ثمّ قلت: عمّتاه، قومي لنمضي إلى خيم عمومتي لعلّهم ادّخروا شيئاً من الماء. فمضينا واخترقنا الخيم بأجمعها، فلم نجد عندهم شيئاً من الماء، فرجعت عمّتي إلى خيمتها، فتبعتها، وتبعنا من نحو عشرين صبياً وصبيّة، وهم يطلبون منها الماء، وينادون: العطش.. العطش.

وآخر راية وصلت إلى كربلاء راية شمر بن ذي الجوشن في ستة آلاف مساء يوم التاسع، ومعه كتاب من ابن زياد إلى ابن سعد، فيه: فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم، فإن قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره... إلى آخره.

فزحف الجيش نحو خيام الحسين عند المساء بعد العصر، واقترب نحو خيم الحسين، والحسين جالس أمام خيمته، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت اُخته زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين الصيحة، فدنت من أخيها، وقالت: يا أخي، أما تسمع هذه الأصوات قد اقتربت؟

فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه، وقال: «اُخيّه، أتى رسول الله الساعة في المنام فقال لي: إنّك تروح إلينا».

فلطمتْ أخته وجهها وصاحت: وا ويلاه! فقال لها الحسينعليه‌السلام : «ليس الويل لك يا اُخيّه، ولا تُشمتي القوم بنا، اسكتي رحمك الله».

فقال له العباس بن عليّ: يا أخي، قد أتاك القوم فانهض.

فنهض، ثمّ قال: «يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، وتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وما تريدون؟»

فأتاهم العباس في نحو عشرين فارساً، فقال لهم العباس: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟

قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.

فرجع العباس إلى الحسين وأخبره بمقال القوم، فقال الحسين: «ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غد، وتدفعهم عنّا العشيّة؛ لعلّنا نُصلّي لربّنا الليلة، وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه».

فمضى العباس إلى القوم وسألهم ذلك، فأبوا أن يمهلوهم، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: ويلكم! والله لو أنّهم من الترك والديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم، فكيف وهم آل محمد؟!

وبات الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه وأهل بيته ليلة عاشوراء، ولهم دويٌّ كدويّ النحل؛ ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد.

خطاب الإمام الحسينعليه‌السلام في أصحابه

وجمعهم الحسينعليه‌السلام ، وقام فيهم خطيباً، وقال: «أما بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، فلقد بررتم وعاونتم.

ألا وإنّي لا أظنّ يوماً لنا من هؤلاء الأعداء إلاّ غداً، ألا وإنّي قد أذنت لكم فانطلقوا جميعاً في حلٍّ من بيعتي، ليس عليكم منّي حرج ولا ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم؛ فإنّهم لا يريدون غيري».

فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء عبد الله بن جعفر: ولِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً.

وتكلّم إخوته وجميع أهل بيته فقالوا: يا بن رسول الله، فما يقول لنا الناس؟ وماذا نقول لهم؟ نقول: إنّا تركنا شيخنا وكبيرنا، وابن بنت نبيّنا لم نرمِ معه بسهم، ولم نطعن معه برمح، ولم نضرب معه بسيف؟ لا والله يا بن رسول الله لا نفارقك أبداً، ولكن نقيك بأنفسنا حتّى نُقتل بين يديك، ونرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

ثمّ قام مسلم بن عوسجة وقال: نحن نخلّيك هكذا وننصرف عنك، وقد أحاط بك هذا العدو؟! لا والله لا يراني الله وأنا أفعل ذلك حتّى أكسر في صدورهم رمحي، وأضاربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، ولا اُفارقك حتّى أموت معك.

وقام سعد بن عبد الله الحنفي فقال: لا والله يا بن رسول الله، لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمد. ولو علمت أنّي أُقتل فيك ثمّ اُحيا، ثمّ أُحرق حيّاً، ثمّ أُذرى، ويُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

ثمّ قام زهير بن القين فقال: والله يا بن رسول الله، لوددت أنّي قُتلت ثمّ نُشرت ألف مرّة وإنّ الله قد دفع القتل عنك وعن هؤلاء الفتية من إخوتك وولدك وأهل بيتك.

وقام الأصحاب وتكلّموا بما تكلّموا، فلمّا رأى الحسين ذلك منهم قال لهم: «إن كنتم كذلك فارفعوا رؤوسكم، وانظروا إلى منازلكم».

فكشف لهم الغطاء - بإذن الله - ورأوا منازلهم، وحورهم وقصورهم، فقال لهم الحسين: «يا قوم، إنّي غداً أُقتل وتُقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد».

فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرّفنا بالقتل معك. أو لا ترضى أن نكون في درجتك يا بن رسول الله؟

فقال: «جزاكم الله خيراً».

فقال له القاسم بن الإمام الحسن المجتبى: وأنا في مَن يُقتل؟ فأشفق عليه الحسينعليه‌السلام وقال: «يا بُني، كيف الموت عندك؟».

قال: يا عمّ، فيك أحلى من العسل.

فقال الحسينعليه‌السلام : «إي والله فداك عمّك، إنّك لأحدُ مَنْ يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو بلاءً حسناً، ويُقتل ابني عبد الله».

فقال: يا عمّ، ويصلون إلى النساء حتّى يُقتل وهو رضيع؟

فقال الحسينعليه‌السلام : «أحمله لأدنيه من فمي، فيرميه فاسق فينحره».

ثمّ قال الحسين: «ألا ومَنْ كان في رَحْلهِ امرأة فلينصرف بها إلى بني أسد».

فقام علي بن مظاهر وقال: لماذا يا سيدي؟

فقال: «إنّ نسائي تُسبى بعد قتلي، وأخاف على نسائكم من السبي».

فمضى علي بن مظاهر إلى خيمته فقامت زوجته واستقبلته، وتبسّمت في وجهه، فقال لها: دَعيني والتبسّم، فقالت: يابن مظاهر، إنّي سمعتُ غريب فاطمة خطب فيكم خطبة، وسمعت في آخرها همهمة ودمدمة فما علمتُ ما يقول.

قال: يا هذه، إنّ الحسين قال لنا: «ألا ومَنْ كان في رحله امرأة فليذهب بها إلى بني أسد؛ لأنّي غداً أُقتل، ونسائي تُسبى».

فقالت: وما أنت صانع؟

قال: قومي حتّى ألحقك ببني عمّك.

فقامت ونطحت رأسها بعمود الخيمة، وقالت: والله ما أنصفتني يا بن مظاهر!أيسرّك أن تُسبى بنات رسول الله وأنا آمنة من السبي؟! أيسرّك أن يبيّض وجهك عند رسول الله ويسودّ وجهي عند فاطمة الزهراء؟! والله أنتم تواسون الرجال ونحن نواسي النساء.

فرجع علي بن مظاهر إلى الحسين وهو يبكي، فقال الحسينعليه‌السلام : «ما يبكيك؟».

قال: يا سيدي، أبتِ الأسدية إلاّ مواساتكم. فبكى الحسينعليه‌السلام وقال: «جُزيتم منّا خيراً».

يوم العاشر

فلمّا أصبح الصباح من يوم عاشوراء نادى الحسين أصحابه وأمرهم بالصلاة، فتيمّموا بدلاً عن الوضوء، وصلّى بأصحابه صلاة الصبح، ثمّ قال: «اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كربٍ، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة. كم من كربٍ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته عنّي وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة».

ثمّ نظر إلى أصحابه وقال: «إنّ الله قد أذن في قتلكم وقتلي، وكلّكم تقتلون في هذا اليوم إلاّ ولدي علي بن الحسين - أي زين العابدينعليه‌السلام - فاتقوا الله واصبروا».

وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وخرج بالناس، وجمع على ميمنة العسكر عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى المسيرة شمر بن ذي الجوشن، وعلى الخيل عروة بن قيس، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، وأعطى الراية دُريداً غلامه.

ودعا الحسين بفرس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المرتجز، وعبّأ أصحابه، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، وقيل أكثر من ذلك، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في المسيرة، وأعطى رايته أخاه العباس، وجعلوا البيوت والخيم في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب أن يُترك في خندق عملوه في ساعة من الليل، وأشعلوا فيه النار؛ مخافة أن يأتيهم العدو من ورائهم، وجعلوا جبهة القتال جهةً واحدة.

فغضب الأعداء بأجمعهم، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين، أتعجّلت النار قبل يوم القيامة؟

فقال الحسين: «مَنْ هذا، كأنّه شمر؟».

فقالوا: نعم.

فقال: «يا بن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّاً».

وأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين، وقال: «أكره أن أبدأهم بالقتال».

ثمّ تقدّم الحسين نحو القوم في نفر من أصحابه، وبين يديه برير بن خضير الهمداني، فقال له الحسين: «كلّم القوم».

فتقدّم برير وقال: يا قوم، اتقوا الله؛ فإنّ ثِقل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أصبح بين أظهركم، هؤلاء ذرّيته وعترته، وبناته وحرمهن، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه؟

فقالوا: نريد أن نمكّن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى رأيه فيهم.

فقال برير: أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة! أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها؟ ويلكم! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وحلأتموهم عن ماء الفرات؟! بئس ما خلفتم نبيّكم في عترته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم!

فقال نفر منهم: ما ندري ما تقول.

فقال برير: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال القوم، اللّهمّ ألقِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

خطاب الحسينعليه‌السلام في القوم

فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع برير إلى ورائه، فتقدّم الحسينعليه‌السلام نحو القوم، ثمّ نادى بأعلى صوته: «يا أهل العراق - وكلهم يسمعون -، فقال: أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ، وحتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك سعداء، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فأجمعوا رأيكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غُمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين».

ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكره بما هو أهله، وصلّى على النبي وآله وعلى الملائكة والأنبياء، فلم يسمع متكلّم قطّ قبله ولا بعده أبلغ منه في المنطق.

ثمّ قال: «أمّا بعد يا أهل الكوفة، فانسبوني فانظروا من أنا، ثمّ راجعوا أنفسكم فعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟

ألستُ ابن بنت نبيّكم، وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل مصدّق لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به من عند ربّه؟

أو ليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟

أو ليس جعفر الطيّار في الجنّة بجناحين عمّي؟

أو لم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول - وهو الحقّ - والله ما تعمّدتُ كذباً منذ علمتُ أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إن سألتموه عن ذلك أخبركم.

سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يُخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟

يا قوم، فإن كنتم في شكٍ من ذلك، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم.

ويحكم! أتطالبوني بقتيل منكم قتلته، أو مالٍ استملكته، أو بقصاص من جراح؟».

فأخذوا لا يكلّمونه، ونادى بأعلى صوته، فقال: «أنشدكم الله، هل تعرفونني؟».

قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه. فقال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أن جدّي رسول الله؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ أبي علي بن أبي طالب؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ اُمّي فاطمة بنت رسول الله؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّتي خديجة بنت خويلد أوّل نساء هذه الأمّة إسلاماً؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جعفر الطيّار في الجنّة عمّي؟» قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله أنا متقلّده؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «أُنشدكم الله، هل تعلمون أنّ علياً كان أوّل القوم إسلاماً، وأعلمهم عِلماً، وأعظمهم حلماً، وأنّه ولي كلّ مؤمن ومؤمنة؟». قالوا: اللّهمّ نعم. قال: «فبِمَ تستحلّون دمي وأبي الذائدُ عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يُذاد البعير الصادر عن الماء، ولواءُ الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!».

قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشانَ.

فلمّا خطب بهذه الخطبة وسمعت بناته وأخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن خدودهن، وارتفعت أصواتهن، فوجّه إليهنَّ أخاه العباس وابنه عليّاً، وقال لهما: «أسكتاهنّ؛ فلعمري ليكثرن بكاؤهن».

خطبة اُخرى للحسينعليه‌السلام

وذكر السيّد ابن طاووس خطبةً أخرى للحسين، قال: فركب الحسين ناقته - وقيل: فرسه - فاستنصتهم، فأنصتوا. وفي رواية: فأبوا أن يُنصتوا حتّى قال: «ويلكم! ما عليكم أن لا تنصتوا لي فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمَنْ أطاعني كان من المرشدين، ومَنْ عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمعٍ قولي، فقد مُلئتْ بطونكم من الحرام، وطُبعَ على قلوبكم؟

ويلكم! ألا تنصفون؟ ألا تسمعون؟ ألا تنصتون؟».

فتلاوم القوم وقالوا: أنصتوا له. فأنصتوا.

فحمد الله وأثنى عليه، وذكره بما هو أهله، وصلّى على محمد وآله وعلى الملائكة والأنبياء والرسل، وأبلغ في المقال، ثمّ قال: «تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم.

فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف؟ ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش، فسُحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعُصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن.

أهؤلاء تعضدون، وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت إليه اُصولكم، وتأرّزت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركّز بين اثنتين؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة؛ يأبى الله ذلك لنا ورسوله، وحجور طابت، وجدودٌ طهرت، واُنوفُ حميّة، ونفوسٌ أبيّة من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإنّي زاحفٌ بهذه الأسرة مع قلّة العدد، وخذلان الناصر».

ثمّ قال: «

فإن نهزم فهزّامون قِدماً

وإن نُغلَبْ فغَيرُ مُغَلّبينا

وما إن طبّنا جبنٌ ولكن

منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن اُناسٍ

كلا كله أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سرواة قومي

كما أفنى القرون الأوّلينا

فلو خلدَ الملوكُ إذن خلدنا

ولو بقي الكرامُ إذن بقينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا

ثمّ أيمُ الله، لا تلبثون بعده إلاّ كريث ما يُركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدّي، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون؛ إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها، إنّ ربّي على صراط مستقيم.

اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كاساً مصبّرة؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير».