فاجعة الطف
0%
مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
تصنيف: المشاهدات: 6639
تحميل: 5491
توضيحات:
مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
استشهاد الأصحاب
وخطب فيهم خطبة أخرى، وأتمّ عليهم الحجّة فما أفاد فيهم الكلام، ثمّ أناخ راحلته، ودعا بفرس رسول اللهصلىاللهعليهوآله المرتجز فركبه، فعند ذلك تقدّم عمر بن سعد وقال: يا دريد، أدنِ رايتك. ثمّ أخذ سهماً ووضعه في كبد القوس وقال: اشهدوا لي عند الأمير فأنا أوّل مَنْ رمى الحسين.
فأقبلت السهام من القوم كأنّها شآبيب المطر، فقال الحسينعليهالسلام لأصحابه: «قوموا رحمكم الله؛ فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم».
فاقتتلوا ساعة من النهار حملةً وحملةً، فلما انجلت الغبرة وإذا بخمسين من أصحاب الحسين صرعى، فعند ذلك ضرب الحسين بيده على لحيته الكريمة وقال: «اشتدّ غضبُ الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم. أما والله، لا أُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي».
ثمّ جعل أصحاب الحسين يبرزون واحداً بعد واحد، وكلّ مَنْ أراد منهم الخروج ودّع الحسين، وقال: السلام عليك يا أبا عبد الله.
فيجيبه الحسين: «وعليك السلام، ونحن خلفك»، ثمّ يتلو:( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) .
ولا يبرز منهم رجلٌ حتّى يقتل خلقاً كثيراً من أهل الكوفة، فضيّقوا المجال على الأعداء حتّى قال رجل من أهل الكوفة يصفهم: ثارت علينا عصابةٌ؛ أيديها على مقابض سيوفها كالأسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين الورود على حياض المنيّة، والاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها.
ونِعمَ ما قيل في حقّهم:
قومٌ إذا نودوا لدفعِ ملمّةٍ |
والخيلُ بينَ مدَعّسٍ ومكردسِ |
|
لبسوا القلوبَ على الدروعِ وأقبلوا |
يتهافتونَ على ذهابِ الأنفسِ |
وأقبل الحرّ بن يزيد الرياحي إلى عمر بن سعد، وقال: يا عمر، أمقاتل أنت هذا الرجل؟
قال: إي والله، قتالاً أيسرهُ أن تطير الرؤوس، وتطيح الأيدي.
فقال الحرّ: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضاً؟
قال عمر: أمّا لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى.
فأقبل الحرّ حتّى وقف موقفاً من الناس، فأخذ يدنو من الحسين قليلاً قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد أن تصنع؟ أتريد أن تحمل عليه؟
فلم يجيبه الحر، وأخذه مثل الإفكل - وهي الرعدة - فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: مَنْ أشجع أهل الكوفة؟ ما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟!
فقال الحرّ: إنّي والله اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعتُ وحُرّقت.
ثمّ ضرب فرسه قاصداً نحو الحسين، ويده على رأسه، وهو يقول: اللّهمّ إليك أنبتُ فتُبْ عليّ؛ فقد أرعبتُ قلوب أوليائك وأولاد بنت نبيّك.
فلمّا دنا من الحسينعليهالسلام قال له: «مَنْ أنت؟».
قال: جعلني الله فداك! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعتُ بك في هذا المكان، وما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون بك هذه المنزلة، وأنا تائبٌ إلى الله ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟
قال: «نعم، يتوب الله عليك، فانزل».
قال: أنا لك فارساً خير منّي لك راجلاً؛ أُقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول يصير آخر أمري.
فقال له الحسين: «فاصنع - رحمك الله - ما بدا لك».
فاستقدم أمام الحسينعليهالسلام فقال: يا أهل الكوفة، لأّمّكم الهُبل والعبر! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه فعدوتم عليه لتقتلوه؟! أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه إلى بلاد الله العريضة، فصار كالأسير المرتهن، لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، وحلأتموه ونساءه وصبيته عن ماء الفرات الجاري الذي تشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتتمرّغ به خنازير السواد وكلابه، وها هم قد صرعهم العطش! بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ الأكبر.
فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل، فأقبل حتّى وقف أمام الحسين، واستأذن قائلاً: يا بن رسول الله، كنت أوّل خارجٍ عليك، فأذن لي لأكون أوّل قتيلٍ بين يديك، وأوّل مَنْ يُصافح جدّك غداً.
فأذن له الحسين، فبرز مرتجزاً:
إنيّ أنا الحرّ ومأوى الضيفِ |
أضربُ في أعناقكم بالسيفِ |
|
عن خيرِ مَنْ حلّ بأرضِ الخيفِ |
أضربكم ولا أرى من حيفِ |
وحمل عليهم وقتل منهم نيفاً وأربعين رجلاً، فعقروا فرسه، فجعل يُقاتلهم راجلاً، ثمّ شدّت عليه عصابة فقتلوه.
فلمّا صُرع وقف عليه الحسين ودمه يشخب، فجعل الحسين يمسح الدم والتراب عن وجهه، وهو يقول: «بخٍ بخٍ لك يا حر! أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك». وقضى نحبه، وحملته عشيرته ودفنته.
وبرز برير بن خضير الهمداني بعد الحرّ، وكان من عباد الله الصالحين، فجعل يحمل عليهم ويقول: اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول الله، وذرّيته الباقين.
حتّى قتل منهم ثلاثين رجلاً، فخرج إليه يزيد بن المغفّل أو معقل، وقرّرا المباهلة إلى الله في أن يقتل المحقّ منهما المبطل، فقتله برير، ثمّ حمل عليه القوم وقتلوه (رحمه الله).
ثمّ برز مسلم بن عوسجة وجعل يُقاتلهم قتالاً شديداً، وبالغ في قتال الأعداء، وصبر على أهوال البلاء حتّى سقط صريعاً، فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر، وبه رمق من الحياة، فقال له الحسين: «رحمك الله يا مسلم،فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ».
ثمّ دنا منه حبيب بن مظاهر وقال: يعزّ والله عليّ مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنّة.
فقال مسلم بصوت ضعيف: بشّرك الله بالخير، فقال حبيب: لو لا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بكلّ ما أهمّك.
فقال مسلم: اُوصيك بهذا - وأشار إلى الحسينعليهالسلام - قاتل دونه حتّى تموت.
فقال حبيب: لأنعمنّك عيناً.
نصروكَ أحياءً وعند مماتهمْ |
يوصي بنصرتكَ الشفيقُ شفيقا |
|
أوصى ابنُ عوسجةٍ حبيباً قائلاً |
قاتل دونهُ حتّى الحِمام تذوقا! |
ونادى أصحاب عمر بن سعد مستبشرين: قد قتلنا مسلم بن عوسجة. فصاحت جارية له: وا سيّداه! يابن عوسجتاه!
فلمّا سمع ابنه ذلك دخل عند اُمّه وهو يبكي، فقالت: ما يبكيك؟ قال: اُريد الجهاد. فقامت اُمّه وشدّت سيفاً في وسطه، وقالت: أبرز يا بُني فإنّك تجد رمحاً مطروحاً بين أطناب المخيّم.
فخرج وأراد حمل الرمح فلم يتمكّن، وجعل يسحبه على الأرض سحباً، فبصر به الحسين فقال: «إنّ هذا الشاب قد قُتل أبوه في المعركة، وأخاف اُمّه تكره برازه».
فقال الغلام: يا سيدي، إنّ اُمّي ألبستني لامة حربي. فبرزَ مرتجزاً:
أميري حسينٌ ونعمَ الأميرْ |
سرورُ فؤادِ البشيرِ النذيرْ |
|
عليٌّ وفاطمةٌ والداهْ |
فهل تعلمونَ لهُ من نظيرْ |
|
لهُ طلعةٌ مثلُ شمسِ الضحى |
لهُ غرّةٌ مثلُ بدرٍ مُنيرْ |
فقاتل حتّى قُتل، فاحتزوا رأسه ورموا بالرأس نحو معسكر الحسين، فأخذت اُمّه رأسه، وقالت: أحسنت يا بُني، يا سرور قلبي، يا قرّة عيني. ثمّ رمت برأس ولدها، وأخذت عمود الخيمة، وحملت عليهم وهي تقول:
أنا عجوزٌ سيّدي ضعيفهْ |
خاويةٌ باليةٌ نحيفهْ |
|
أضربكمْ بضربةٍ عنيفهْ |
دونَ بني فاطمةَ الشريفهْ |
فأمر الحسينعليهالسلام بصرفها، ودعا لها.
ثمّ برز وهب بن عبد الله الكلبي، وكان نصرانياً ومعه أمّه وزوجته فأسلموا على يد الحسين في أثناء الطريق، ورافقوه إلى كربلاء، فأقبلت اُمّه وقالت: يا بُني، قُم وانصُر ابن بنت رسول الله.
فقال: أفعل يا اُمّاه ولا اُقصّر. فبرز وهو يقول:
إن تنكروني فأنا ابن الكلبي |
سوفَ تروني وترونَ ضربي |
وسطوتي وجولتي في الحربِ
فقتل جماعة منهم، ثمّ رجع إلى اُمّه وقال: يا اُمّاه، ارضي عنّي.
فقالت: ما رضيتُ حتّى تُقتل بين يدي الحسين، فقالت امرأته: بالله عليك لا تفجعني في نفسك.
فقالت اُمّه: اعزب عنها ولا تقبل قولها، وارجع وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله؛ تنل شفاعة جدّه يوم القيامة.
فرجع فلم يزل يُقاتل حتّى قتل تسعة عشر فارساً وعشرين راجلاً، ثمّ قُطعت أصابع يده، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه، وهي تقول: فداك أبي واُمّي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله.
فأقبل كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه، وقالت: لن أعود أو أموت معك.
فقال لها: كنت تنهينني عن القتال، والآن تحرّضينني؟!
قالت: يا وهب، لقد عفتُ الحياة منذ سمعت نداء الحسين يُنادي: «وا غربتاه! وا قلّة ناصراه! أما من ذابّ يذبّ عنّا؟! أما من مجير يجيرنا؟!».
ثمّ استعان وهب بالحسينعليهالسلام ، وقال: سيدي ردّها.
فقال الحسينعليهالسلام : «جُزيتم من أهل بيت خيراً، ارجعي إلى النساء يرحمك الله». فانصرفت، وقُتل وهب ورموا برأسه إلى عسكر الحسين.
فأخذت اُمّه الرأس فقبّلته، وجعلت تمسح الدم من وجهه، وهي تقول: الحمد لله الذي بيّض وجهي بشهادتك يا ولدي بين يدي أبي عبد الله الحسين. ثمّ رمت بالرأس، وأخذت عمود الخيمة، فقال لها الحسينعليهالسلام : «ارجعي يا اُمّ وهب، أنت وابنك مع رسول اللهصلىاللهعليهوآله ».
فذهبت امرأته تمسح الدم والتراب عن وجهه، وهي تقول: هنيئاً لك الجنّة. فبصر بها شمرٌ، فأمر غلامه فضربها بعمود فقتلها، وهي أوّل امرأة قُتلت في عسكر الحسين.
ولم يزالوا كذلك حتّى دخل وقت الظهر، فجاء أبو تمامة الصيداوي وقال: يا أبا عبد الله، أنفسنا لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، لا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك، واُحبّ أن ألقى الله (عزّ وجلّ) وقد صلّيت هذه الصلاة معك.
فرفع الحسينعليهالسلام رأسه إلى السماء وقال: «ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين. نعم، هذا أول وقتها». ثمّ قالعليهالسلام : «سلوا هؤلاء القوم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي». فأذّن الحسينعليهالسلام بنفسه، وقيل: أمر مؤذّنه ليؤذّن.
ثمّ قال الحسينعليهالسلام : «ويلك يا بن سعد! أنسيت شرائع الإسلام؟ أقصر عن الحرب حتّى نصلّي وتصلّي بأصحابك، ونعود إلى ما نحن عليه من الحرب».
فاستحى ابن سعد أن يجيبه، فناداه الحصين بن نمير (عليه اللعنة) قائلاً: صلِّ يا حسين ما بدا لك؛ فإنّ الله لا يقبل صلاتك.
فأجابه حبيب بن مظاهر: ثكلتك أمّك! ابن رسول الله صلاته لا تُقبل وصلاتك تُقبل يا خمّار؟!
فقال الحسينعليهالسلام لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله: «تقدّما أمامي حتّى أُصلّي الظهر».
فتقدّما أمامه في نحو نصفٍ من أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف، وسعيد تقدّم أمام الحسين فاستهدف لهم، فجعلوا يرمونه بالنبال؛ كلّما أخذ الحسينعليهالسلام يميناً وشمالاً قام بين يديه، فما زال يُرمى إليه حتّى سقط على الأرض وهو يقول: اللّهمّ العنهم لعن عادٍ وثمود، اللّهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح؛ فإنّني أردت بذلك نصرة ذرّية نبيّك. ثمّ مات (رحمه الله).
وخرج حبيب بن مظاهر وودّع الحسين، وجعل يُقاتل وهو يقول:
أنا حبيبٌ وأبي مظاهرُ |
فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تُسعرُ |
|
أنتم أعدُّ عدّةً وأكثرُ |
ونحنُ أوفى منكمُ وأصبرُ |
|
وأنتمُ عندَ الوفاءِ أغدرُ |
ونحنُ أعلى حجّةً وأظهرُ |
فقتل اثنين وستين فارساً ثم قُتل، فبان الانكسار في وجه الحسينعليهالسلام ، فقال الحسين: «لله درّك يا حبيب! لقد كنت فاضلاً، تختم القرآن في ليلة واحدة».
وتقدّم زهير بن القين وقاتل قتالاً لم يُرَ مثله، ثمّ رجع ووقف أمام الحسين، وجعل يضرب على منكب الحسينعليهالسلام ويقول:
فدتكَ نفسي هادياً مهديّا |
اليوم ألقى جدّكَ النبيّا |
وحسناً والمرتضى عليّا
إلى آخر [ رجزه ]، فكأنّه ودّع الحسين وعاد يُقاتل حتّى قتل مئة وعشرين رجلاً، ثمّ قُتل (رحمه الله).
ووقف عليه الحسين وقال: «لا يبعدك الله يا زهير، ولعن [ مَنْ ] قتلك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير».
وجاء عابس بن شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى آل شاكر، فقال عابس: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع اليوم؟
فقال: ما أصنع؟! اُقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتّى أُقتل.
فقال له عابس: ذلك الظنّ بك، أمّا الآن فتقدّم بين يدي أبي عبد الله حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتى أحتسبك أنا؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب.
فتقدّم شوذب، واستأذن وقاتل وقُتل.
وتقدّم عابس إلى الحسين سلّم عليه وقال: يا أبا عبد لله، والله ما أمسى على وجه الأرض قريب أو بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ إليّ منك، ولو قدرت أن أدفع عنك الضيق، أو القتل بشيء أعزّ عليَّ من نفسي ودمي لفعلته. السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هُداك وهُدى أبيك.
ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحو القوم، فصاح رجل من أهل الكوفة: هذا أسد الأسود، هذا ابن شبيب! فأخذ عابس ينادي: ألا رجل، ألا رجل؟ فلم يتقدّم إليه أحد، فنادى عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة. فرُمي بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره خلفه، ثمّ شدّ على الناس.
قال الراوي: فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مئتين من الناس، حتّى أثخنه بالجرح ضرباً وطعناً ورمياً، وقتلوه (رضوان الله عليه).
وأقبل جون مولى أبي ذرّ الغفاري يستأذن في القتال، فقل الحسينعليهالسلام : «يا جون، أنت في إذن منّي؛ فإنّما تبعتنا طلباً للعافية، فلا تبتلِ بطريقنا».
فقال جون: يا بن رسول الله، أنا في الرخاء ألحسُ قِصاعَكم وفي الشدّة أخذلكم؟! والله إنّ ريحي لنتن، وإنّ حسبي للئيم، وإنّ لوني لأسود، فتنفّس عليّ بالجنّة؛ فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ وجهي، لا والله لا اُفارقكم حتّى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.
فأذن له الحسين، فبرز يرتجز ويقول:
كيفَ يرى الكفّارُ ضربَ الأسودِ |
بالمشرفيّ والقنا المسدّدِ |
|
يذبُّ عن آلِ النبيِّ أحمدِ |
يذبُّ عنهم باللسانِ واليدِ |
فقتل خمساً وعشرين رجلاً ثمّ قُتل، فوقف عليه الحسينعليهالسلام وقال: «اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد».
وخرج غلام تركي وهو يقول:
البحرُ من طعني وضربي يصطلي |
والجوّ من نبلي وسهمي يمتلي |
|
إذا حسامي في يميني ينجلي |
ينشقُّ قلبُ الحاسدِ المبخّلِ |
فقتل جماعة ثمّ سقط، فجاءه الحسين وبه رمق يومي إلى الحسين، فبكى الحسين واعتنقه ووضع خدّه على خدّه، ففتح الغلام عينيه وتبسّم وفاضت نفسه.
ثمّ برز عمرو بن خالد الصيداوي وقال للحسين: يا أبا عبد الله، جعلتُ فداك! هممت أن ألحق بأصحابك، وكرهت أتخلّف فأراك وحيداً من أهلك قتيلاً.
فقال له الحسينعليهالسلام : «تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة». فقاتل حتّى قُتل، وبرز ابنه خالد مرتجزاً فقاتل حتّى قُتل.
ثمّ جاء حنظلة بن أسعد الشبامي فوقف بين يدي الحسينعليهالسلام يقيه السهام والرماح بوجهه ونحره.
فقال له الحسين: «يابن أسعد، إنّهم استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم إليه من الحقّ».
فقال: صدقت جُعلت فداك، أفلا نروح إلى الآخرة ونلتحق بإخواننا؟
فقال له الحسينعليهالسلام : «بلى، رُح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها، وإلى ملك لا يبلى».
فقال: السلام عليك يا أبا عبد الله، صلّى الله عليك وعلى أهل بيتك، عرّف الله بيننا وبينك في الجنّة.
فقال الحسين: «آمين آمين».
فاستقدم وقاتل قتال الأبطال، وصبر على احتمال الأهوال حتّى قُتل.
فبرز سعد بن حنظلة التميمي، وقاتل قتال الأسد الباسل، وبالغ في الصبر على الخطب النازل، حتّى سقط صريعاً بين القتلى وقد أُثخن بالجراح، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتّى سمعهم يقولون: قُتل الحسين فتحامل، وأخرج سكّيناً من خُفّه وجعل يُقاتلهم بها حتّى قُتل.
وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين فأذن له، فقاتل قتال الأسد الباسل، وكان لا يأتي إلى الحسين سهم إلاّ اتّقاه بيده، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتّى أُثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسينعليهالسلام وقال: يا بن رسول الله، أوفيت؟
فقال الحسينعليهالسلام : «نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ رسول الله عنّي السلام، وأعلمه أنّي في الأثر».
وبرز جابر بن عروة الغفاري، وكان شيخاً كبيراً قد شهد مع رسول اللهصلىاللهعليهوآله بدراً وحنيناً، فجعل يشدّ وسطه بعمامة، ثمّ شدّ جبينه بعصابة، ثمّ رفعهما عن عينيه والحسين ينظر إليه ويقول: «شكر الله سعيك يا شيخ».
فبرز وقاتل حتّى قتل ثمانين رجلاً، ثمّ قُتل.
وبرز عبد الله وعبد الرحمن الغفاريان فقالا: السلام عليك يا أبا عبد الله، أحببنا أن نُقتل بين يديك.
فقالعليهالسلام : «مرحباً بكما، أدنوا منّي». فدنوا منه وهما يبكيان، فقال: «يا بنيَّ أخي، ما يبكيكما، فوالله إنّي أرجو أن تكونا بعد ساعة قريرَي العين؟».
فقالا: جعلنا الله فداك، والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك، نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أن ننفعك.
فقال الحسينعليهالسلام : «جزاكما الله يا بنيَّ أخي بوجدكما ومواساتكما إيّاي بأنفسكما أفضل جزاء المتّقين».
ثمّ استقدما وقالا: السلام عليك يابن رسول الله. فقال: «وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته». وقاتلا حتّى قُتلا.