كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 25034
تحميل: 6119

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25034 / تحميل: 6119
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حتمية مقتل الحسينعليه‌السلام

كان الإمام الحسينعليه‌السلام قبل امتناعه عن البيعة بعشرات السنين على علمٍ يقينٍ بكافة أخبار السماء عن مذبحة كربلاء، وقد تلقّى هذه الأخبار من أبيه عليعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلقّاها من أخيه الحسنعليه‌السلام عن جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلقّاها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة.

وكان يعلم أنه سيموت بالعراق، وعلى شط الفرات، وفي مكان يقال له: كربلاء، أو كرب وبلاء.

وكان يعلم أنه سيُقتل في زمن خليفة مترف مستهتر يقال له: يزيد، وبإشراف عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبالاشتراك الفعلي من رجل أبقع «أبرص» عرفه في ما بعد بأنه شمر بن ذي الجوشن.

وكان يعلم أن الاُمّة المحسوبة على جدّه هي التي ستقتله؛ فهي بين مشارك بالقتل، أو مؤيد له، أو خاذل ومتفرّج عليه. كان يعلم كلَّ ذلك بالرواية الصادقة اليقينيّة الموثوقة، وهو كان يسعى إلى قتل مشرّف ينال به أعلى درجات الشهادة، ضمن إطار المعقول المنقول من نظرية الابتلاء الإلهية( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (الملك /2 )،( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (الكهف /7 ).

قال الإمام الحسينعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفيّة: « يا أخي، لو كنتُ في بطن صخرة لاستخرجوني منها فيقتلونني »(1) ، وقال: « والله، لو كنت في جحر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني منها حتّى يقتلونني »(2) .

وقالت له اُمّ سلمة قبل خروجه من المدينة: إني سمعت جدك يقول: « يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرض يقال لها: كربلاء ».

فقال لها الإمامعليه‌السلام : « يا اُمّاه، وأنا والله أعلم ذلك، وإني مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بد. وإني والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها،

____________________

(1) ينابيع المودة / 402 - 404.

(2) بحار الأنوار 44 / 99.

١٨١

وإنّي لأعرف مَن يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردتِ يا اُمّاه أريك حفرتي ومضجعي»(1) .

قالت له عمّته اُم هانيء: سيدي، أنا متطيّرة عليك من هذا المسير؛ لهاتف سمعته البارحة يقول:

وإنّ قتيلَ الطفِّ من آل هاشمٍ

أذلّ رقـاباً من قريشٍ فذلّتِ

لم يندهش الإمامعليه‌السلام من رؤى عمته، بل اقترح عليها أن تعدّل عجز البيت الأوّل فتقول: «أذلّ رقابَ المسلمين فذلّت»، ثمَّ قال الإمام بعد هذا الاقتراح:

ومـا هم بقومٍ يغلبون ابنَ غالبِ

ولكن بعلم الغيبِ قد قُدّر الأمرُ(2)

ثمّ انظر إلى كتاب الإمامعليه‌السلام لبني هاشم عندما خرج من المدينة، وهذا الكتاب يفيض باليقين، وهذا نصه: « بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم. أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي منكم استشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، والسّلام »(3) .

وعندما اقترح عليه بعضُ أهله أن يسلك طريقاً جانبياً خوفاً من جلاوزة بني اُميّة، قال الإمامعليه‌السلام بيقين الواثق: « لا سبيل لهم عليّ، ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي »(4) .

وعندما اقترح عليه عبد الله بن عمر بن الخطاب العودة إلى المدينة قال له الإمامعليه‌السلام : « هيهات يابن عمر! إن القوم لا يتركوني إن أصابوني، وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتّى اُبايع ويقتلونني »(5) .

____________________

(1) راجع بحار الأنوار 44 / 331، والعوالم 17 / 180، وينابيع المودة / 405، والموسوعة / 392.

(2) معالي السبطين 1 / 241، والموسوعة / 296.

(3) بصائر الدرجات / 481 حديث 5، واللهوف / 28، والمناقب لابن شهر آشوب 4 / 76، ومثير الأحزان / 39، وبحار الأنوار 44 / 330 و 45 / 84 و 42 / 81، والعوالم 17 / 139.

(4) بحار الأنوار 44 / 330، والعوالم 17 / 180.

(5) راجع الفتوح لابن أعثم الكوفي 5 / 36، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 196.

١٨٢

وبالثقة واليقين نفسها قال لابن عباس عندما ألحّ عليه وحاول منعه من الذهاب إلى العراق: « يابن عباس، أما علمت إن منعتني من هنالك، فإنّ مصارع أصحابي هناك؟ ».

فقال له ابن عباس: « أنّى لك ذلك؟ ».

فقال الإمامعليه‌السلام : « بسرٍّ سُرّ لي، وعلمٍ اُعطيته »(1) .

وعندما اقترح عليه ابن عباس أن يدخل في صلح القوم، قال له الإمامعليه‌السلام : « هيهات هيهات يابن عباس! إنّ القوم لن يتركوني، وإنّهم يطلبونني أين كنت حتّى اُبايعهم كرهاً ويقتلونني... إلى أن قال: وإني ماضٍ في أمر رسول الله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون »(2) .

وقال الإمام الحسينعليه‌السلام يوماً للواقدي وزرارة، وقبل خروجه إلى العراق بثلاثة أيام، وبعد أن أراهما آية كبرى: « لولا تقارب الأشياء، وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء «الملائكة»، ولكني أعلم يقيناً أن هناك مصرعي، ومصرع أصحابي، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي »(3) .

ولمّا عزم الإمامعليه‌السلام على الخروج إلى العراق قام في أصحابه خطيباً وقال: «... خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات... إلى أن قال: ولا محيص عن يومٍّ خُطّ بالقلم ».

وأثناء اجتماع الإمامعليه‌السلام مع وفود الجنِّ المؤمن، وعندما قالت له الجن: «يا سيدنا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بأمرك وما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلِّ عدوٍّ لك وأنت بمكانك لكفيناك». فجزاهم الإمام الحسينعليه‌السلام خيراً وقال لهم: « أوَما قرأتم كتاب الله المنزل على جدّيصلى‌الله‌عليه‌وآله ( أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) (النساء / 78 )،

____________________

(1) راجع دلائل الإمامة / 74، والموسوعة / 321.

(2) راجع معالي السبطين 1 / 246، والموسوعة / 321.

(3) دلائل الإمامة / 74، ومثير الأحزان / 39، وبحار الأنوار 44 / 364، والعوالم 17 / 213.

١٨٣

وقال سبحانه وتعالى:( لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (آل عمران / 154 )؟

وإذا أقمت بمكاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يُختبرون؟ ومَن ذا يكون ساكن حفرتي وقد اختارها الله تعالى يوم دحا الأرض، وجعلها معقلاً لشيعتنا، ويكون لهم أمناً في الدنيا والآخرة؟ ولكن تحضرون يوم السبت، وهو يوم عاشوراء الذي في آخره اُقتل، ولا يبقى بعدي مطلوب من أهلي ونسبي، وإخوتي وأهل بيتي، ويُسار برأسي إلى يزيد لعنه الله »(1) .

فقالت الجن: «نحن والله يا حبيب الله وابن حبيبه، لولا أنّ أمرك طاعة، وأنه لا يجوز لنا مخالفتك، قتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك».

فقال الإمامعليه‌السلام لهم: « نحن والله أقدر عليهم منكم، ولكن( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) »( الأنفال / 42 )(2) .

ثمَّ انظر إلى قول الإمامعليه‌السلام لأبي هرّة: « يا أبا هرّة، إنّ بني اُميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت. وأيمُ الله يا أبا هرة، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم الله ذلا ً شاملاً... »(3) .

ويحدد الإمامعليه‌السلام الاُمور بدقة متناهية فيقول: « هذه كتب أهل الكوفة إليّ، ولا أراهم إلاّ قاتلي، فإن فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلاّ انتهكوها، فيسلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الاُمّة »(4) .

وانظر إلى قول الإمامعليه‌السلام لأحد محدّثيه: « يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّ الله تعالى لا يُغلب على أمره. والله، لا يدعونني حتّى يستخرجوا هذه العلقة

____________________

(1) راجع نص حوار الإمامعليه‌السلام مع وفود الجن في بحار الأنوار 44 / 330، والعوالم 17 / 179، واللهوف / 78.

(2) المصدر السابق.

(3) راجع الفتوح لابن أعثم 5 / 79، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 / 226، ومثير الأحزان / 46، وبحار الأنوار 44 / 368، وأعيان الشيعة 1 / 595.

(4) تاريخ ابن عساكر - ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / 211.

١٨٤

من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَن يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ فرق الاُمم »(1) .

فالإمام الحسينعليه‌السلام يتكلّم عن حتمية مقتله بيقين النبيين والصدّيقين والشهداء، ويتعامل مع وقائع لم تخرج بعدُ إلى حيّز الوجود وكأنها حقائق ثابتة، وينظر نظرة شمولية، ويتكلّم عن الوقائع التي ستحصل وهي في عالم الغيب وملفّات القضاء الإلهي في سياق صميم نواميس الكون، ومقتضيات الابتلاء الإلهي، كلام العارف البصير بكنهها، ومداخلها ومخارجها، ومنابعها الخفية.

انظر إلى قول الإمامعليه‌السلام أمام وفود الجن « فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يُختبرون، ومَن ذا يكون ساكن حفرتي؟ ».

إنّ الإمامعليه‌السلام بهذه التساؤلات يبرز بيسر وسهولة أخطر وأجل قوانين الحياة، وتلك لغة النبيين والصدّيقين والشهداء، ويقين الإمام الحسينعليه‌السلام عين يقينهم، ويزيد وجنوده يجهلون تلك اللغة، ولا يفهمون هذا اليقين.

____________________

(1) راجع الإرشاد للشيخ المفيد / 223، والكامل لابن الأثير إلى قوله: «لا يُغلب على أمره»، وبحار الأنوار 44 / 375، والعوالم 17 / 22، وأعيان الشيعة 1 / 595.

١٨٥

١٨٦

الفصل الثالث

الإمام الحسينعليه‌السلام يشخّص أمراض الاُمّة المزمنة

تحديد أمراض الاُمّة

مَن تتبع تصريحات الإمام الحسينعليه‌السلام ، والوقوف على حقيقة تلك التصريحات، يتبيّن أن الإمام الحسينعليه‌السلام شخّص أخطر الأمراض التي ابتُليت بها الاُمّة، وحصرها في ثلاثة:

1 - الخروج على الشرعيّة الإلهية.

2 - نظام الخلافة بصورته الراهنة.

3 - الإدمان على حب الحياة وكراهية الموت.

وقدّر الإمامعليه‌السلام أنّ يقينه المميز وشهادته الفريدة ستشفي الاُمّة من أمراضها، أو على الأقل ستعطيها مناخ الشفاء، أو تصدمها صدمة عنيفة تستفيق من نومها المذل العميق.

1 - الخروج من الشرعيّة الإلهية

لقد قدّر الإمامعليه‌السلام أن أول مرض أنشب أظافره في الاُمّة هو الخروج على الشرعيّة الإلهية. والشرعيّة الإلهية تتكون من ثقلين؛ أحدهما كتاب الله المنزل، وثانيهما نبي الله المرسل، وهما متكاملان لا يُغني أحدهما عن الآخر.

فلو قال أحدهما: إنه يؤمن بالقرآن الكريم، ولكنه لا يؤمن برسوله الكريم، ولا بولايته، أو ادّعى أن القرآن وحده يكفي المسلمين، فهو ليس مؤمناً، ولا متمسكاً بالشرعيّة الإلهية، إنما هو خارج منها من أوسع الأبواب، وداخل التيه تماماً.

فهذا الثنائي (القرآن والنبي) هما عصمة الشرعيّة الإلهية، وملاذها خلال عهد النبوة. ولأن النبي بشر، وآخر الرسل، وخاتم النبيِّين، ولأن دينه هو الدين الذي ارتضاه الله نهائياً

١٨٧

لعباده، فقد أمر الله تعالى نبيّه أن يعلن للناس أن نظام الثقلين مستمر إلى يوم الدين.

فخلال حياة النبوة يشكّل القرآن ثقلاً، ويشكّل النبي الثقل الآخر، وبعد موت النبي يبقى القرآن هو الثقل الأكبر، ويكلّف أهل بيت النبوة بأن يكونوا الثقل الأصغر القائم مقام النبي؛ بالولاية والقيادة والمرجعية إلى يوم الدين.

وقد بيّن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الله تعالى هو الذي اختار الثقلين وحدّدهما، وما رسول الله إلاّ عبدٌ يُؤمر فيطيع، ويُوحى إليه فيتّبع، وأنه سبحانه وتعالى كما أهّل النبي وأعدّه، أهّل بيت النبوة وأعدّهم؛ فهم الاُمناء على سنة الرسول بفروعها الثلاثة، وهم الذين يعرفون النص الشرعي في كل مسألة من المسائل معرفة قائمة على الجزم واليقين، وهم الأعلم والأفهم والأصلح في كل زمان، وحديث الثقلين من أصح الآثار، وقد وثّقناه في الفصول السابقة.

ويبدو واضحاً بالضرورة أن المقصود بأهل بيت النبوة كثقل هو عميدهم وإمامهم المؤهّل إليها؛ بدليل قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليعليه‌السلام : « أنت الولي من بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثمَّ ابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثمَّ ابني الحسين أولى بالمؤمنين من أنفسهم »(1) .

والخلاصة: إنّ النبي الكريم قد أكّد بأن الشرعيّة الإلهية لا تتحقق في حياته إلاّ بالتمسّك بالثقلين؛ القرآن والنبي معاً، وبعد حياته لن تتحقق إلاّ بالتمسك بالثقلين؛ بالقرآن وبأهل بيت النبوة، وجزم بأن الهدى لا يدرك إلاّ بالاثنين معاً، والضلالة لا يمكن تجنّبها إلاّ بالاثنين معاً، فمَن تمسك بالقرآن وترك أهل بيت النبوة، أو ادّعى أنه متمسك بأهل بيت النبوة وترك القرآن، أو تمسك بالقرآن ورفض ولاية وقيادة أهل بيت النبوة، وفضّل عليها ولاية أو قيادة اُخرى فهو خارج من إطار الشرعيّة الإلهية.

والنصوص الشرعيّة التي وصلت إلينا بالرغم من محلات التبديل والتعليل، والتحريف والتجهيل كافية للجزم بالأحكام الشرعي لهذه الناحية، وأبرز النصوص: آية التطهير، وآية المودة في القربى، وآية المباهلة، والأمر بالصلاة على النبي بالصيغة التي بيّنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بالإضافة إلى حديث الثقلين الذي لا يختلف عليه وبه عاقلان مسلمان.

____________________

(1) راجع كتابنا الوجيز في الإمامة والولاية تجد فيه تغطية كاملة لهذا الموضوع.

١٨٨

ومع سبق الترصد والإصرار خرجت الأكثريّة الساحقة من الاُمّة الإسلاميّة من الشرعيّة الإلهية بمفهومها الآنف، حتّى والرسول على قيد الحياة. فعندما أراد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أثناء مرضه أن يكتب توجيهاته النهائية ليجنّب الاُمّة العاصفة التي تنتظر موته، قالت زعامة بطون قريش للنبي وجهاً لوجه، وفي منزله: أنت تهجر، ما باله إنه هجر، استفهموه إنه يهجر، ولسنا بحاجة لكتابك ولا لتوجيهاتك النهائية؛ لأن القرآن عندنا وهو يكفينا(1) !

هذا الكلام الخطير أخرج زعامة بطون قريش الـ 23 من إطار الشرعيّة والمشروعية الإلهية تماماً وأدخلها في التيه، وبعد ساعة واحدة من وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تمكّنت زعامة بطون قريش التي واجهت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت له ما قالت من الاستيلاء على منصب الخلافة بالقهر والغلبة وكثرة الأتباع. وكانت أوّل مشاريع تلك الزعامة منصبّة على تحجيم أهل بيت النبوة وإذلالهم وإجبارهم على الاعتراف سياسياً بالأمر الواقع المناقض تماماً للشرعية الإلهية.

ففي اليوم الذي مات فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جهّزت زعامة البطون التي استولت على منصب الخلافة بالقوة حملة عسكرية مهمتها إجبار أهل بيت النبوة على الخروج والمبايعة، والاعتراف بالأمر الواقع، وإن أبوا ذلك فعلى قادة الحملة وعناصرها أن يحرقوا بيت أهل بيت محمّد على مَن فيه، وفيه فاطمة بنت النبي، وعلي الولي الشرعي وابن عم النبي، وطفلاه الحسن والحسين حفيدا النبي (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

وشرعت الحملة العسكرية بالفعل بإحراق البيت على مَن فيه(2) ؛ إذ خلال اُسبوع واحد من وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حرموا أهل بيت النبوة من ميراث الرسول وتركته(3) ، وصادروا المنح التي أعطاها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) هذه واقعة ثابتة رواها البخاري ومسلم وابن حنبل، وقد ذكرنا المراجع ووثّقناها، وحلّلناها في كتابنا نظرية عدالة الصحابة / 287 وما بعد، وفي كتابنا المواجهة، فارجع إليهما.

(2) راجع العقد الفريد لابن عبد ربه 34 / 64، وأبو الفداء 1 / 156، وأنساب الأشراف 1 / 586، وكنز العمال 3 / 140، والرياض النضرة / 167، وكتاب السقيفة برواية ابن أبي الحديد 1 / 132، و6 / 2، وتاريخ الخميس 1 / 178، وتاريخ ابن شحنة / 113 بهامش الكامل، ومروج الذهب 2 / 100، وتاريخ اليعقوبي 2 / 105.

(3) راجع صحيح الترمذي 7 / 111باب « ما جاء في باب تركة الرسول »، ومسند أحمد 1 / 10 ح60، وسنن الترمذي 7 / 109، وطبقات ابن سعد 5 / 77، وتاريخ ابن الأثير 5 / 286، وكنز العمال 5 / 365، والطبقات 2 / 315.

١٨٩

لأهل بيته خلال حياته(1) ، وحرموا ذوي قربى النبي من السهم المخصّص لهم بآية محكمة(2) . وهكذا تمكّنت دولة البطون من تحطيم أحد ركني الشرعيّة الإلهية تحطيماً كاملاً، وزيادة في الاحتياط، وحتّى لا يحتج أهل بيت النبوة بأحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وحتّى لا تكتشف الأجيال اللاحقة جريمة زعامة البطون ومسؤوليتها عن تدمير الشرعيّة الإلهية منعت هذه الزعامة كتابة ورواية أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) ، وأحرقت المكتوب منها(4) ، وشكّكت بكل ما تعارض مع مصالحها من أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله (5) . وكيف تعجز عن فعل هذا وهي التي واجهت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله شخصياً وقالت له: أنت تهجر، وحسبنا كتاب الله(6) !

بهذه الأحداث والوقائع الأليمة تحطّمت الشرعيّة الإلهية تحطماً كاملاً، ولم يعد لها عملياً إلاّ ثقل واحد، ولم يبق للشرعية غير الاسم، والذين حطموها هم الذين قبضوا على مقاليد الاُمور، وسخّروا موارد الدولة وكلّ إمكانياتها لإثبات صحة ما ذهبوا إليه، وماعملوه، ولإقناع الناس بأنه لا توجد شرعية إلاّ شرعية ما فعلوه.

2 - نظام الخلافة أو الخليفة الحاكم بأمره

عملياً كان الخليفة مَن غلب أو عهد إليه الخليفة الغالب. تلك حقيقة لا

____________________

(1) راجع فتوح البلدان للبلاذري 2 / 34 - 35.

(2) راجع تاريخ الإسلام للذهبي 1 / 347، وكنز العمال 5 / 367، وشرح نهج البلاغة 4 / 81 نقلاًس عن الجوهري.

(3) راجع تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 2 - 3.

(4) راجع طبقات ابن سعد 5 / 140 بترجمة محمّد بن أبي بكر.

(5) راجع سنن أبي داود 2 / 126، وسنن الدارمي 1 / 125، ومسند أحمد 2 / 162 و207 و216، والمستدرك على الصحيحين للحاكم 1 / 105 و 106، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1 / 85.

(6) راجع صحيح البخاري 7 / 9، وج4 / 31، وج1 / 37، وج5 / 137، وج2 / 132، وج4 / 65 - 66، وصحيح مسلم 2 / 16، وج5 / 75، وج11 / 94 - 95 بشرح النووي، ومسند أحمد 1 / 955، وتاريخ الطبري 2 / 193، وتذكرة الخواصّ لابن الجوزي / 62، وسر العالمين وكشف ما في الدارين لأبي حامد الغزالي / 21 لتعرف مَن هم زعامة بطون قريش، وراجع كتابنا الموجهة / 260 وما بعدها، وكتابنا نظرية عدالة الصحابة / 287 وما بعدها.

١٩٠

يجادل بها إلاّ جاهل.

هذا الخليفة الغالب أو الذي عهد إليه غالبٌ صار يتمتع بكافة الصلاحيات الهائلة؛ بوصفه اسمياً على الأقل ( خليفة رسول الله ). ولمّا رست أجرانه في الأرض، وانقادت إليه الرعية صارت كل أموال الدولة تحت تصرفه، ومفاتيحها بيديه وبيد أوليائه ينفقون منها ما يشاؤون لمن يشاؤون، ويدّخرون منها ما يشاؤون بلا حسيب ولا رقيب؛ فهي بمثابة مال خاص للخليفة، ولا رقابة عليه إلاّ من ضميره، وكل نفوذ الدولة وجاهها بقبضة يديه، وكل القوة العسكرية تحت تصرفه، وكل أقاليم الدولة عملياً ملكه الخاص.

هذه الإمكانيات والطاقات الهائلة والصلاحيات الفضفاضة جعلت من الخليفة وأركان دولته الذين يوالونه ويشاطرونه اُطره وقناعاته، أو يتظاهرون بذلك قوةً رهيبة ليس مثلها على وجه الأرض قوة؛ ولأن الخليفة اسمياً هو ( خليفة رسول الله ) فقد تسلّحت تلك القوة بالدين ولبست لبوسه، وسخّرت تلك القوة الرهيبة كامل إمكانيات دولة الخلافة للمحافظة على تفرّدها بمنصب الخلافة، وعلى نظام الخلافة نفسه.

فصار الولاء للخليفة ونظامه وأعوانه، أو التظاهر بهذا الولاء، وصار تمجيد أفعال الخليفة والقبول بها أو التظاهر بذلك هو الأساس لعز الفرد، وهو الطريق لمكانة الفرد في المجتمع، وهو الاُسلوب الأنجع ليحصل الفرد على نصيب من مال الخليفة أو نفوذه أو جاهه، وليتجنّب كارثة الاصطدام بقوته الرهيبة.

فالخليفة يقدم عطاءً شهرياً لأفراد الرعية، ويستعمل عمالاً لأقاليمه وكوره، وقادة لجيشه، وموظفين لإدارته، وجنوداً لأمنه وفتوحاته، والدخول بهذه المجالات متاح لكل الذين يوالونه ويوالون نظامه، ويقبلون بما يفعل، أو يتظاهرون بذلك والخليفة يكتفي بالتظاهر.

فإذا ثبت للخليفة أو لأركان دولته أن هذا أو ذاك لا يواليه، ولا يوالي نظامه، ولا يقبل بأفعاله، فالعقوبة الآلية هي الحرمان من العطاء والرزق الشهري، وإغلاق مؤسسات الدولة بوجهه؛ فلا مكان له لا بالجيش ولا بالإدارة، ووضعه في قائمة أعداء الخليفة، أو قائمة مَن يحب ويوالي أعداء الخليفة.

وتلك جريمة من جرائم الخيانة العظمى، وعقوبتها الموت في قوانين دولة الخلافة، ولكنها مسربلة بغطاء ديني؛ فيقتله الخليفة باعتباره شاقاً لعصا الطاعة، أو خارجاً على الجماعة، أو مفرّقاً لوحدة الاُمّة بعد الاجتماع كما فعل

١٩١

معاوية مع حجر بن عدي ورفاقه؛ فقد قتلهم معاوية صبراً بتهمة عدم موالاتهم له، وموالاته لعدو أمير المؤمنين معاوية، وعدو الإسلام أبي تراب علي بن أبي طالب(1) !

وقد أوجد الخليفة له بطانة من علماء السوء مهمتهم أن يبرّروا أفعال الخليفة وتصرفاته، وأن يختلقوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الأحاديث التي تبرّر طاعة الخليفة، وتنفر الرعية من معصية الخليفة، أو عدم القبول بأفعاله المرذولة.

وتعددت مزاعمهم بهذا المجال، فقالوا: إن رسول الله قد قال: «سيكون من بعدي أئمة خلفاء، لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنس». وعندما سأل الراوي: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ فقال له الرسول: «تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»(2) .

وسخّرت دولة الخلافة كلَّ مواردها الضخمة وإعلامها العجيب لتعميم مثل هذه الأحاديث على الرعية، وإقناع الرعية بصحة صدورها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأدخلتها دولة الخلافة في مناهجها التربوية والتعليمية، وأشربتها لكل أفراد الرعية، فصارت بحكم العادة والتكرار.

وتبني دولة الخلافة تياراً غلاّباً، وقناعة مطلقة ترثها جموع الأكثريّة كما ترث المتاع، وترسلها إرسال المسلمات التي لا تحتاج إعادة نظر. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم - باب « لزوم طاعة الأمراء في غير معصية »: قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: « لا ينعزل الخليفة بالفسق، والظلم، وتعطيل الحدود، وتضييق الحقوق، ولا يُخلع، ولا يجوز الخروج عليه... ثم قال: أما الخروج عليهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين »(3) ! !

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 6 / 157، والكامل لابن الأثير 4 / 209، وتاريخ ابن كثير 8 / 130، ومحاضرات الراغب 2 / 214.

(2) راجع صحيح مسلم 6 / 20 - 22 باب «الأمر بلزوم الجماعة»، وأنت تلاحظ أن هذا الحديث مفصّل ليتّسع لجرائم رجال قلوبهم قلوب الشياطين؛ كمسلم بن عقبة، وبسر بن أرطأة، وابن زياد، والحجاج، وأمثالهم من جنود الفرعون.

(3) راجع صحيح مسلم بشرح النووي 12 / 229، وسنن البهيقي 8 / 158 - 159.

١٩٢

قال القاضي أبو بكر محمّد بن الطيب الباقلاني ما ملخّصه: قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام ( الخليفة ) بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، ولا يجوز الخروج عليه(1) .

هذا نموذج من القناعات الخاطئة التي رسّخها إعلام دولة الخلافة، وأرساها المنهج التربوي والتعليمي الذي فرضته دولة الخلافة بالنفوذ والقوة على رعاياها.

لقد نجحت وسائل إعلام دولة الخلافة بإقناع الأكثريّة الساحقة من المسلمين على أنّ محبة الخليفة وطاعته عبادة، بل من أفضل العبادات والقربات التي يتقرّب بها المسلم إلى الله، وأنه في سبيل هذه الطاعة يحلّ كل جرم مهما كانت بشاعته.

كان شمر بن ذي الجوشن يقعد حتّى يصبح ثمَّ يصلّي الصبح، ويقول في دعائه: اللّهمَّ اغفر لي. فقيل له: كيف يغفر لك وقد خرجت إلى ابن بنت الرسول فأعنت على قتله؟! فقال: ويحك! فكيف نصنع؟ إنّ أمراءنا هؤلاء أمرونا فلم نخالفهم، ولو خالفناهم كنّا شرّاً من هذه الحمر.

وكان كعب بن جابر ممن حضر قتال الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء، يقول في مناجاته: يا ربِّ، إنّا قد وفينا فلا تجعلنا يا رب كمَن غدر(2) ! فشمر الذي أعان على قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكعب بن جابر الذي قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام يعتقدان طاعة الخليفة واجب مفروض حتّى لو أمر بقتل ابن النبي وأهل بيته!

ودنا عمرو بن الحجاج يوم عاشوراء من أصحاب الحسينعليه‌السلام ونادى: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مَرق من الدين وخالف الإمام(3) ! فمَن خالف الخليفة فهو مجرم كائناً مَن كان، وقتله واجب على الرعية قبل أن يكون واجباً على الخليفة.

لقد حاولت وسائل إعلام الدولة أن تجعل من الخليفة خليفة لله وليس

____________________

(1) راجع كتاب التمهيد لأبي بكر الباقلاني - باب « ما يوجب خلع الإمام » طبعة القاهرة 1366 هـ.

(2) راجع تاريخ الإسلام للذهبي 3 / 18 - 19، وكتابنا الخطط السياسية / 119.

(3) المرجع السابق.

١٩٣

خليفة لرسوله؛ لأن خلافة الله أليق بجناب الخليفة من خلافة الرسول؛ فقد كتب مروان بن محمّد - وكان والياً على أرمينيا - إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك المشهور بفسقه، والذي همّ بأن يمارس اللواط مع أخيه، والذي همّ بأن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، كتب له مروان يبارك له بخلافة الله على العباد(1) ، ولما قيل عنه في مجلس الخليفة العباسي المهدي: إنه كان زنديقاً، قال الخليفة العباسي: خلافة الله عنده أجلّ من أن يجعلها في زنديق(2) .

وخطب الحجاج يوماً بالحج فقال: اسمعوا وأطيعوا لخليفة الله وصفيه عبد الملك بن مروان(3) .

واشتطّ إعلام دولة الخلافة شططاً آخر، فحاول أن يقنع المسلمين بأن الخليفة أعظم من النبي! قال الحجاج في خطبة له: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته على أهله(4) ؟

وروي أنه كتب لعبد الملك يعظّم أمر الخلافة، فزعم أن السماوات والأرض ما قامتا إلاّ بالخلافة، وأنّ الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين... إلخ(5) ! وكان يعتبر مَن يتّبع الخليفة مؤمناً، ومَن يعارض الخليفة كافراً(6) !

فنحن أمام حملة منظمة تدعمها دولة الخلافة بكل طاقاتها ومواردها لقلب كلِّ الحقائق وتزويرها؛ لإظهار عدو الله بصورة ولي الله، وإظهار ولي الله بصورة الشيطان الرجيم! إنها حملة منظّمة لتزوير وتحريف كلِّ شيء في الإسلام يقوون على تحريفه. وكان لهذه الحملة المجنونة ضحاياها من الغافلين السذّج.

____________________

(1) راجع تاريخ ابن كثير 10 / 4.

(2) راجع تاريخ ابن كثير 10 / 7 و 8.

(3) راجع سنن أبي داود 4 / 210 الحديث 4645 - باب «في الخلفاء».

(4) راجع سنن أبي داود 4 / 209 الحديث 4642، والمسعودي في مروجه 3 / 147، والعقد الفريد لابن عبد ربه 5 / 52.

(5) راجع العقد الفريد 5 / 51.

(6) راجع سنن أبي داود 4 / 209، والعقد الفريد 5 / 51، وكتابنا الخطط السياسية / 121.

١٩٤

3 - الإدمان على حب الحياة مع الذلّ وكراهية الموت

لم يغتصب الخليفة منصب الخلافة بالقوة والقهر فحسب، إنما اغتصب أيضاً كافة موارد الدولة وأموالها واعتبرها بمثابة خزانة مالية خاصة به، واغتصب أيضاً إمكانيات الدولة وإمتيازاتها وطاقاتها الهائلة، وسخّر كل ذلك لتثبيت ملكه وتوطيد سلطانه.

فالخليفة المتغلّب يستعمل عمالاً لأقاليم دولته وكورها، وقادة وجنوداً لجيشه المخصص عملياً لحفظ الأمن الداخلي لدولته، وتحقيق المجد الشخصي له من فتوحاته، ويستعمل موظفين لإدارته، وبالوقت نفسه يقدّم عطاء ورزقاً شهرياً لأفراد رعيته، ورواتب لمستخدميه.

وهي صلاحيات كانت تقوم بها دولة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت رقابة النبي المعصوم عن الوقوع في الزلل أو الانحراف وراء هوىً؛ فكان المواطن المسلم أو المتظاهر بالإسلام يأخذ عطاءه ورزقه من دون منّة ولا شروط.

وكان الرسول يضع الرجل المناسب بالمكان المناسب عندما يستعمله، ومن دون خلفيات أو أفكار مسبقة؛ فمعايير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتعيين في الوظائف العامة مبنية على القوة والأمانة؛ فحيث ما وجد صاحب القوة والأمانة استعمله، بمعنى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعطي الناس بالسوية من مال الله (مال الدولة )؛ لتشابه الحاجات الأساسية عند بني البشر.

وكان يستعمل القوي الأمين القادر على تحقيق الغاية الشرعيّة من استعماله، وفي التوزيع والاستعمال كان النبي يستند على معايير موضوعية وشرعيّة، وكان الناس سعداء زمن دولة الرسول؛ فالإمام الرسول (رئيس الدولة) يعيش هو وأفراد اُسرته بتواضع، وكأي فرد في المجتمع.

وعلى الرغم من قلّة موارد بلاد العرب التي كانت تحكم دولة الرسول إلاّ أن هذه الموارد موزّعة بصورة عادلة؛ فالشعور بالرضا والسعادة كان يغمر غالبية رعايا دولة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فكثير من الأجلاف من العرب، بل ومن قدماء الصحابة كان يحرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وينتقد بعض أعمال النبي علناً، ويجهر بعدم موافقته عليها، أو يتّخذ موقفاً مناقضاً لموقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولكن لم يصدّق على الإطلاق أن قطع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا المواطن أو ذاك رزقه أو عطاءه الشهري؛ لأن هذا الرزق أو العطاء منحة إلهية، وحق ثابت للمسلم، وليس من صلاحية النبي أن يصادر هذا

١٩٥

الحق، كذلك فإن استعمال القوي الأمين للوظائف العامة ترتيب إلهي لا يملك الرسول حق إلغائه أو تبديله أو تعديله.

لقد كانت دولة الرسول دولة شرعية تتصرف وفق قواعد شرعية، لا يملك رئيس الدولة بحكم الشرع أن يخضعها لميوله أو توجّهاته أو هواه الشخصي.

وجاء الخليفة ليحل بالقوة والتغلب والقهر محلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليقوم مقامه، ويمارس صلاحياته واختصاصاته. والمؤهل الوحيد لهذا القاهر المتغلب هو الغلبة، والغاية الوحيدة لهذا المتغلب هي المحافظة على الملك الذي غصبه، وتسخير موارد الدولة وإمكانياتها الضخمة لدوام هذا الملك خالصاً لشخصه واُسرته، أو مواليه وخاصته.

واستدعى هذا أن يخترع الخليفة معايير وموازين لم ينزل بها الله سلطاناً؛ فصار العطاء أو الرزق الشهري، وصار الدخول بالجيش والوظائف العامة مرهوناً بالولاء المطلق للخليفة والقبول بأفعاله مهما كانت، وطاعته حتّى على الكبائر، وعدم الخروج على طاعته مهما كانت الأسباب.

وتوضيحاً لموقف الأكثريّة لنفترض أن الخليفة رأى أن من مصلحة دولته إحراق بيت أهل بيت النبوة على أهله وهم أحياء. هذا الفعل جريمة وفق كل الشرائع الإلهية والوضعية، فإذا قال أحد المسلمين للخليفة: يا أمير المؤمنين، هذه جريمة، ولا يحلّ لك فعل هذا، فاتّقِ الله.

فأول ما يفعله الخليفة هو قطع العطاء والرزق الشهري الذي كان يتقاضاه ذلك الذي وصف فعل الخليفة بـ (أنه جريمة)، وثاني ما يفعله الخليفة هو حرمانه من وظائف الدولة، وثالث ما يفعله الخليفة هو وضعه في قائمة المشبوهين الذين لا يوالون دولة الخليفة ويوالون أعداءها.

هذه القرارات الثلاثة لا تشمل الرجل وحده، بل تشمل زوجته وأولاده، وقد تؤثر على بطنه وعشيرته فتحرق حاضر الجميع ومستقبلهم. وقد يستبد الغضب بالخليفة أو بعامله فيقتل هذا المعترض على ما فعله، ويهدم داره، ففي مثل هذه الأحوال مَن يجرؤ على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر؟ ومَن يجرؤ على قول كلمة «لا»؟ فحياة كل فرد، وحياة كل اُسرة، وحياة كل بطن وكل عشيرة عملياً بيد الخليفة وأركان دولته؛ فقد تزهق روح الفرد قبل أن يرتد إليه طرفه.

١٩٦

ورزق الجميع؛ مجتمعين ومنفردين بيد الخليفة وأركان دولته، وقد يكون الرزق أو العطاء الشهري هو الدخل الوحيد للأكثريّة الساحقة من أفراد رعايا دولة الخلافة.

صحيح أن هنالك من الناس لا يتجاوز عددهم المئة، يملك كل واحد منهم الملايين بل المليارات من الدنانير الذهبية؛ كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، ولكن بقية أفراد الاُمّة يحصلون على رغيفهم المجبول بالذل والهوان يوماً بيوم بعد أن يدفعوا أعلى الضرائب؛ دينهم وشرفهم وكرامتهم ثمناً لهذا الرغيف. ومن الطبيعي بأن تكون على كلِّ واحد منهم التزاماته الخاصة لمحبيه، وأطفاله الذين يحبهم، ورغبته الجامحة بأن يبقى إلى جانبهم ليحميهم ويطعمهم.

في هذا المناخ ذلّت رقاب المسلمين ذلاً لم تذق اُمّة من اُمم الأرض مرّ ذلٍّ كذل المسلمين، ومات عندهم الشعور العام، وتخدّرت كافة أحاسيسهم فاستمرؤوا الذلّ، واستمرؤوا الحياة مع الذلّ، وأدمنوا بحبها، وارتاحوا إلى القول بأن هذا قضاء الله وقدره، وأن الصبر نصف الإيمان، وأن طاعة الخليفة واجبة كطاعة الرسول.

من يتتبع تاريخ دولة الخلافة يجد أن أكبر الكبائر، بل وكل الكبائر كانت قد ارتكبت في مجتمع دولة الخلافة من قِبل الخليفة وأركان دولته، وبأعصاب باردة، ودون أن يحسبوا أي حساب لأحد.

ونادراً ما تجد رجلاً واحداً قد أنكر هذه الكبيرة أو تلك، لماذا؟ لأنّ كلَّ فرد مقيد اقتصادياً بغُلٍّ لا مثيل له، ومقيد اجتماعياً وسياسياً، فهو قنٌّ وعبد مملوك بذاته وحاضره ومستقبله، يتصرف الخليفة تصرف المالك بعبيده!

قد يندهش بعض القرّاء ويرى أن في كلامنا شيئاً من المبالغة، لكن ما قلناه هو الحقيقة بعينها؛ فقد يأمر الخليفة ولاته بأن يأخذوا البيعة له من المسلمين على أنهم أقنان وعبيد له بالفعل، يتصرف بهم تصرف المالك بأقنانه وعبيده؛ فقد أخذ مسلم بن عقبة البيعة من أهل المدينة على أنهم فيءٌ لأمير المؤمنين يفعل في أموالهم وذراريهم ما يشاء(1) ، فإذا قال أحد من المسلمين: بل اُبايعك على كتاب

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 7 / 11 - 20.

١٩٧

الله وسنة رسوله. يعتبرها الخليفة غلطة كبرى ويضرب عنقه(1) .

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: قال جابر بن عبد الله الأنصاري: لما خفت بسر بن أرطأة تواريت عنه، فقال لقومي: لا أمان لكم عندي حتّى يحضر جابر. فأتوني وقالوا: ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت، فحقنت دماءنا ودماء قومك؛ فإنك إن لم تفعل قُتلت مقاتلينا، وسُبيت ذرارينا.

فاستنظرتهم الليل، فلما أمسيت دخلت على اُمّ سلمة (إحدى زوجات الرسول) فأخبرتها الخبر، فقالت: يا بُني انطلق، احقن دمك ودم قومك، فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع، وإني لأعلم أنها بيعة ضلالة(2) .

هذه الواقعة تدلك بوضوح على طبيعة تعامل الخليفة وأركان دولته مع المسلمين، وعلى استهتاره بحياتهم ووجودهم وكرامتهم الإنسانيّة، فإن تغيّب فرد من أفراد العشيرة أو الجماعة عن تنفيذ أمر الخليفة فليس ما يمنع الخليفة من أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرّية.

فأنت أمام حالة من الإرهاب والقمع لا مثيل لها في التاريخ، لقد ضاعت الأقلّية المؤمنة وذلّت، وشلّت حركتها شللاً كاملاً، وخرج كلُّ فرد من أفرادها باجتهادٍ مفاده أن الصبر أولى، والحياة خير من الموت.

وطارت الأكثريّة خلف مصالحها الدنيوية كلّ مطار، وضحّت من أجل تلك المصالح بنعمة الحرية التي كانت تتمتع بها حتّى في الجاهليّة، وضحّت بالكرامة، وبالكثير من القيم الإنسانيّة التي كانت تفخر بها حتّى في الجاهليّة، مثل: النخوة، والشهامة، والإباء، وإغاثة الملهوف.

لقد اختلطت الأوراق اختلاطاً عجيباً، فالاُمّة كلها تقف مع الخليفة الغالب أو تتظاهر بالوقوف معه، والاُمّة كلّها تخشى الخليفة وأركان دولته خشية الموت. لقد مات إحساسها، ولا فرق عندها أأصاب الخليفة أم أخطأ، أكان على الحق أو على الباطل، تماماً كقوم فرعون!

وما يميز قوم فرعون عن رعية الخليفة أنه كان في قوم فرعون رجال يكتمون إيمانهم، وينصحون فرعون وقومه علناً، ويخوّفون

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 7 / 11 - 20.

(2) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 157.

١٩٨

من عاقبة السوء، أمّا رعايا دولة الخلافة فلا تكاد تحسّ أن فيهم رجلاً واحداً يكتم إيمانه، وإن وُجد مثل هذا الرجل فهو مصاب بالخرس فلا ينطق، وأعمى فلا يرى، ويداه مقطوعتان فلا يقوى حتّى على الإشارة كما يفعل.

لقد نجح الخلفاء بإذلال المسلمين إذلالاً تاماً، وفي مناخ الذل أدمن المسلمون بالحياة مع الذل وتعوّدوا عليها؛ فيمكن للخليفة أن يهدم الكعبة، وقد هدمها بالفعل مرتين، ويمكن أن يدوس أقدس المقدسات، وأن يقتل حتّى أهل بيت النبوة ولا يجرؤ أحد من الناس أن يقول له كلمة «اُفٍّ»؛ لأنه لا عطاء ولا رزق ولا مكان في دولة الخلافة لمن يقول للخليفة أو لأركان دولته: لا.

لقد سيطرت دولة الخلافة على وسائل الإعلام، ووضعت مناهج التربية والتعليم التي تخدم غاياتها، وفرضت تلك المناهج على الرعية، وشكّلت الفهم العام عن الإسلام، ثمَّ فرضت كلَّ ذلك على المسلمين بقوّتها ونفوذها، وعبر إعلامها ومناهجها التربوية والتعليمية. وبتعبير أدق فإن الغاية عند دولة الخلافة تبرر الوسيلة، فأي وسيلة تخدم الخليفة ودولته وتساعده على الاحتفاظ بملكه وما في يديه مباحة بغض النظر عن شرعيتها أو عدم شرعيتها!

ولقد عمل الخليفة جاهداً على تجهيل رعيته بالإسلام الحقيقي، وحرص كلّ الحرص على أن لا يفهموا من الإسلام الحنيف إلاّ قشوره، وقدّمت وسائل إعلام دولة الخلافة الرجال الذين وقفوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقاموا الدولة والاُمّة على أكتافهم بصورة أعداء الله، وقدّمت تلك الوسائل اُولئك الأشرار الذين حاربوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجمعوا عليه الجموع وألّبوا العرب عليه بصورة الملائكة الأخيار!

لقد قلبت دولة الخلافة الدين والتاريخ والجغرافيا رأسا على عقب مع سبق الترصد والإصرار، وجهلت الرعية تجهيلاً كاملاً، وسخّرت كلّ موارد الدولة وطاقاتها وإعلامها لفرض مفاهيمها المعكوسة عن الإسلام، وجعل تلك المفاهيم مقدّسة، ومن المسلّمات التي لا داعي لإعمال العقل فيها.

قدرٌ لا مفر منه

قاد الخلفاء الدين والاُمّة والدولة إلى نفق مظلم، إذا أخرجت يدك منه لم تكد تراها.

١٩٩

لقد خلط خلفاء البطون كلَّ الأوراق خلطاً عجيباً، فخلطوا الإسلام مع الشرك، والإمامة الشرعيّة مع الملك، والظلم مع العدل، والحق مع الباطل، والذلّ مع العز، والطاعة مع المعصية، وفرضوا على المسلمين بالقهر والقوة أن يتناولوا هذه المتناقضات معاً، وخيّروهم بين تناولها والحياة، أو بين رفضها والموت، فاختار المسلمون الحياة مع تناول هذه المتناقضات.

لقد غيّر الخلفاء مكان كل شيء ووضعوه في غير موقعه، لقد استدعت الضرورة إلى انتفاضة أو ثورة من نوع خاص لتنقذ ما تبقّى من الإسلام، ولتوقظ المسلمين من سباتهم العميق، وترفع الخلط الذي أوجده الخلفاء، وتفتح أمام الاُمّة أبواب التحرر والأمل والخلاص من الذلّ.

الدواعي الملحّة لإنتفاضة الإمام الحسينعليه‌السلام وثورته

رأينا أنّ بطون قريش الـ 23 التي قاومت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحاربته 23 عاماً بقيادة أبي سفيان وولديه: يزيد ومعاوية حتّى اضطرها الرسول للاستسلام، وأعلنت يوم استسلامها إسلامها مكرهة، رأيناها قد تمكّنت من إلغاء الترتيبات الإلهية المتعلقة بمنصب الإمامة أو الخلافة من بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنها قد تمكّنت من الاستيلاء على هذا المنصب بالقوة والقهر، فصارت الخلافة الشرعيّة ملكاً لمَن غلب، أو لمَن يعهد إليه ذلك الغالب.

وعموماً فإن الخليفة الغالب كان غير مؤهّل للقيادة؛ فهو طليق أو ابن طليق، أو اُلعوبة بيد الطلقاء الذين لا يعرفون من الدين إلاّ اسمه أو قشوره.

وباستيلاء بطون قريش الـ 23 على منصب الخلافة استولت تبعياً على موارد الدولة وسلطاتها وطاقاتها ونفوذها، وحازت كل شيء حيازة تامة، وسخّرت كلّ موارد الدولة للمحافظة على هذا الملك الذي غصبته، وتوسيع رقعته، وحرمان أهل بيت النبوة ومَن والاهم من الصحابة المخلصين من هذا الملك ومن منافعه، أو من المشاركة؛ بحجة أن النبي من بني هاشم، وقد أخذ الهاشميّون النبوة، وهي تكفيهم؛ فتكون الخلافة حقاً خالصاً للبطون، وتشترك مع أوليائها في منافع الدولة وامتيازاتها على سبيل التفّرد والاختصاص!

وفي البداية أعلنت دولة الخلافة ضمنياً أنها لن تعطي لأي مسلم أيّ حقٍّ من حقوقه، ولن تستعمله لعملها،

٢٠٠