كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة0%

كربلاء الثورة والمأساة مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 346

كربلاء الثورة والمأساة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: أحمد حسين يعقوب
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 346
المشاهدات: 25028
تحميل: 6119

توضيحات:

كربلاء الثورة والمأساة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 346 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25028 / تحميل: 6119
الحجم الحجم الحجم
كربلاء الثورة والمأساة

كربلاء الثورة والمأساة

مؤلف:
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عنه قليلاً أو ازداد بنسبة صغيرة قبل المعركة؛ نتيجة لقدوم بعض الأنصار، وتحول بعض جنود الجيش الاُموي إلى معسكر الحسين.

وتقديرنا الخاص نتيجة لما انتهى إليه البحث هو أن أصحاب الحسين الذين نقدّر أنهم استشهدوا معه في كربلاء من العرب والموالي يقاربون مئة رجل أو يبلغونها، وربما زادوا قليلاً عن المئة. ولا نستطيع أن نعيّن عدداً بعينه؛ لأنه لا بدّ من افتراض نسبة من الخطأ تنشأ عن تصحيف الأسماء، ومن عدم دقة الرواة الذين نقلوا الأحداث، وأسماء رجالها، ولكن نسبة الخطأ المفترضة ليست كبيرة قطعاً »(1) .

وأي باحث يستعمل مناهج الاستقراء والاستدلال، والاستنباط والمقارنة يصل إلى شبه يقين بأن عدد الفئة الأولى التي كان يقودها الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء كان أكثر قليلاً من المئة، أو أقل قليلاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنه كان عند الحسينعليه‌السلام عشرة من الموالي، وعند ابنه علي اثنان منهم. فالموالي - وكما قال عقبة بن سمعان ( مولى الرباب ) - عبيد(2) ، وفي عداد الممتلكات.

عدد الفئة الثانية

في ست خلون من المحرم تكامل عند عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد جيوش « الخليفة » في كربلاء قرابة عشرين ألف مقاتل؛ فمع شمر أربعة آلاف، ومع يزيد بن الركاب ألفان، ومع الحصين بن نمير أربعة آلاف، ومع شبث بن ربعي ألف، ومع كعب بن طلحة ثلاثة آلاف، ومع حجار بن أبجر ألف، ومع مضاير بن رهينة المازني ثلاثة آلاف، ومع نصر بن حرشة آلفان.

ولم يزل عبيد الله بن زياد يرسل العساكر إلى عمر بن سعد حتّى تكامل عنده ثلاثون ألفاً(3) قبل أن ينشب القتال.

____________________

(1) راجع « أنصار الحسين ».

(2) راجع تاريخ الطبري 5 / 454.

(3) راجع مقتل الحسينعليه‌السلام - عبد الرزاق الموسوي المقرم / 200، نقلاً عن الأخبار الطوال للدينوري / 253، ومقتل العوالم / 15 و 45، وابن شهر آشوب 2 / 215.

٤١

ويؤكد هذا العدد « ثلاثين ألفاً » ما رواه أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام ، من أنّ الحسينعليه‌السلام دخل على الحسنعليه‌السلام في مرضه الذي استشهد فيه، فلما رأى ما به بكى، فقال له الحسنعليه‌السلام : « ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ ».

فقال: « أبكي لما صُنع بك ».

فقال الحسنعليه‌السلام : « إنّ الذي اُوتي إليَّ سمٌّ اُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله؛ وقد أزدلف إليك ثلاثون ألفاً يدعون أنهم من اُمّة جدنا محمّد، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك »(1) .

ومن المؤكّد بأنّ الأئمة الكرامعليهم‌السلام إذا حدّثوا فإنما يحدّثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينطق عن الهوى، فكافة المعلومات التي يثبت صدورها عن أئمة أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي معلومات يقينية من جميع الوجوه.

قال أبو الفداء في تاريخه(2) : إنّ عمر بن سعد بن أبي وقاص خرج في أربعة آلاف، وإنّ الحر قد خرج في ألفين، فمن المعروف أن عمر بن سعد هو القائد العام للعمليات الحربية في كربلاء، والمكلف بقيادتها وتوجيهها حسب الأوامر التي يتلقاها من عبيد الله بن زياد، ومن الخليفة يزيد بن معاوية.

ومن المعروف أن القوة التي قادها الحر هي قوة مهمتها الاستطلاع وتقييد حركة الإمام الحسينعليه‌السلام حتّى يتكامل جيش الخلافة، ومن المؤكد أن مجموعة من القبائل ككندة، وهوازن، وتميم، وبني أسد، ومذحج قد لبّت نداء ابن زياد، وخرجت للقتال بقيادة المتوجّهين من رجالاتها كقيس بن الأشعث، وشمر بن ذي الجوشن، وهلال بن الأعور.. إلخ.

ومن الطبيعي جداً أن تنظّم هذه القبائل لبقية جيش الخليفة، وأن تضع نفسها تحت تصرف القائد العام عمر بن سعد بن أبي وقاص، وأن تأتمر بأمره ليشركها في الغنائم، ولينقل لأسياده بطولة الوجوه وقبائلهم فينالوا حظوة الأسياد.

ووردت روايات بأنّ العدد أكثر من ذلك؛ ففي هامش « تذكرة الخواصّ » لسبط ابن الجوزي رواية تفيد أن عدد الفئة الثانية « جيش الخليفة » كان مئة ألف،

____________________

(1) راجع أمالي الصدوق / 71 مجلس 30.

(2) تاريخ أبي الفداء / 190.

٤٢

وفي « تحفة الأزهار » لابن شدقم إن عددها كان ثمانين إلفاً.

ولكن الأقرب إلى الحقيقة أن عدد جيش الخلافة كان يتراوح بين عشرين ألفاً وثلاثين ألفاً، وأن ابن زياد لم يتوقّف عن إرسال المدد إلى عمر بن سعد حتّى تمّت المذبحة؛ بدليل ما أجمع المؤرّخون على قول ابن زياد لعمر بن سعد: « إني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال، لا تمسِ ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية ».

بتعبير العصر: لقد أعلنت التعبئة العامة في دولة الخلافة عامة، وفي أقاليم العراق خاصة، يحشدون الخيل والرجال ويرسلونها إلى جبهة القتال في كربلاء.

وكانت الشعوب تواقة « للجهاد »، لا حباً بالله أو برسوله، ولكن طمعاً بالمغانم، وابتغاء لمرضاة الخليفة الذي بيده الأموال والنفوذ يعطي ما يشاء لمن يشاء، بلا حسيب ولا رقيب.

وبهذا المناخ فكأني بطلاب الدنيا يتهافتون تهافتاً على وجهاء قبائلهم وعرفائهم، وعلى الوالي وأركان ولايته، طالبين السماح لهم بـ « نيل شرف » قتال الإمام الحسين وآل محمّدعليهم‌السلام ، وأهل بيت النبوة، وذوي قربى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومَن والاهم.

وكأني بالخليفة والولاة وأركان دولة الخلافة وقد استغلوا هذا الانحراف أبشع استغلال ليعمّقوا الهوة بين الاُمّة وقيادتها الشرعية المتمثلة بآل محمّد وأئمة أهل بيت النبوة الأطهارعليهم‌السلام .

قال البلاذري في « أنساب الأشراف »: إن عبيد الله بن زياد خطب وقال: فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب، والتجار والسكان إلاّ خرج فعسكر معي؛ فأيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن العسكر برئت منه الذمة(1) .

____________________

(1) راجع معالم المدرستين 3 / 82 للعسكري.

٤٣

٤٤

الفصل الرابع

المواقف والأهداف النهائية لقيادتي الفئتين

موقف الإمام الحسينعليه‌السلام

منذ اللحظة التي تأكّد فيها الإمام الحسينعليه‌السلام من هلاك معاوية، ومن استخلافه رسمياً لابنه يزيد من بعده قرّر الإمامعليه‌السلام وصمّم تصميماً نهائياً على عدم مبايعة يزيد بن معاوية مهما كانت النتائج.

أساس الموقف

عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام الحسينعليه‌السلام بالإمامة والقيادة الشرعية للاُمّة، كما عهد بها من قبل لأبيه علي ولأخيه الحسنعليهما‌السلام ، فهو موقن أنه:

1 - إمام زمانه بعهد من الله ورسوله. وباستخلاف معاوية لابنه وتجاهله للإمام الحسين يكون معاوية قد غصب حق الإمام الشرعي بقيادة الاُمّة، تماماً كما فعل هو والذين من قبله بأبيه وأخيهعليهما‌السلام .

هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الاُمّة هي اُمّة محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فمحمد هو الذي كون الاُمّة وأسس دولتها، والإمام الحسين كأبيه وأخيهعليهم‌السلام أولى المسلمين بمحمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن جهة ثالثة فإن آل محمّد وذوي قرباه هم الذين احتضنوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه، وضحوا بأرواحهم لتكون الاُمّة وتكون الدولة، بالوقت الذي حاربه فيه الاُمويّون وناصبوه العداء. فهل من العدل أن يتقدم أعداء الله ورسوله على أولياء الله ورسوله، والمؤهلين لقيادة الاُمّة قيادة شرعية؟

2 - لما تمكن معاوية من هزيمة الاُمّة، والاستيلاء على أمرها بالقوة والقهر والتغلب، قطع على نفسه عهد الله أن يجعل الأمر من بعده شورى بين المسلمين ليختاروا بمحض إرادتهم من يريدون. واستخلاف معاوية ليزيد بهذه الحالة هو نقض لعهد الله.

٤٥

3 - الاُمّة كلها تعلم حال يزيد؛ فهو مستهتر، تارك للصلاة، شارب للخمر، وزانٍ، ثمَّ إنه يجاهر بفجوره ويجاهر حتّى بكفره(1) ، ومن غير الجائز شرعاً أن يتولى أمر المسلمين من كانت هذه حاله وفيهم ابن النبي المعهود إليه بالإمامة من الله ورسوله. ولا ميزة ليزيد بن معاوية سوى أنه قد ورث ملكاً مغصوباً حصل عليه وأبوه بالقوة والقهر والتغلب.

4 - إن الاُمّة كلها تعرف الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتعرف قرابته القريبة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه المعهود إليه بإمامة الاُمّة وقيادتها، وتعرف الاُمّة كلها علمه ودينه، ومكانته الدينية المميزة. فعندما يضع الإمام الحسينعليه‌السلام يده المباركة بيد يزيد القذرة النجسة ويبايعه خليفة لرسول الله على المسلمين فإن الإمام الحسين يصدر فتوى ضمنية بصلاحية يزيد للخلافة، وبشرعية غصبه لأمر المسلمين، ويتنازل ضمنياً عن حقه الشرعي بقيادة الاُمّة، وفي ذلك مس بالدين والعقيدة.

5 - إنّ من واجب الإمام الحسينعليه‌السلام أن يرشد الاُمّة إلى الطريق الشرعي، فإن سلكته الاُمّة وأخذت به فقد اهتدت، وإن تنكبت عنه فلا سلطان للحسين عليها ولا قدرة له، بل ولا ينبغي له إجبارها على الحق وجرها إليه جرّاً؛ فعاجلاً أو آجلاً ستدفع الاُمّة ضريبة تنكبها عن [الطرق] الشرعية وتهاونها بأمر الله.

6 - وبهذه الحالة فإن أقصى ما يتمناه الإمام الحسينعليه‌السلام أن لا يُجبر على البيعة، وأن يُترك وشأنه حتّى يستبين الصبح للاُمّة.

موقف قيادة أركان الحسينعليه‌السلام

أتباع الحسين - أهل بيت النبوة الكرام وأنصاره من غير بني هاشم - استناروا ببصيرة الحسين، حللوا واقعهم تحليلاً دقيقاً، وانتهوا إلى ذات الموقف النهائي الذي صمم الحسين عليه؛ فهو إمامهم وهو وليهم، وقد أمروا بنصرته واتّباعه والدفاع عنه، فإن بايع الإمام بايعوا، وإن رفض الإمام البيعة رفضوا، فما يجري على الإمام يجري عليهم.

____________________

(1) راجع المراجع التي وثقناها قبل قليل تحت عنوان « مَن هو يزيد بن معاوية ».

٤٦

الموقف النهائي ليزيد

بعد أن تمت مراسيم التتويج العملية ليزيد ملكاً على المسلمين بعد أبيه، والافتراء بصياغة تقارير تفيد أن شيخ آل محمّد، الحسين بن عليعليه‌السلام ، قد امتنع عن البيعة، وامتنع أهل بيت النبوة عن البيعة أيضاً تبعاً لامتناع شيخهم، وحتّى لا يكرهوا على البيعة خرجوا من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى العراق.

وخلفه تقارير رسمية تفيد بأن أهل المدينة يتململون، وأنهم غير راضين عنه. وبعد أن تأكدت هذه التقارير صمم يزيد بن معاوية نهائياً على ( قتل شيخ آل محمّد وإبادة أهل بيت النبوة إبادة تامّة؛ ليضع حداً نهائياً لخطرهم الدائم على دولته ) تحت مظلة امتناعهم عن البيعة، وخروجهم على « خليفة المسلمين ».

وتحقيقاً لهذا الهدف استجاب لنصيحة أبيه؛ فعيّن عبيد الله بن زياد الذي ورث عداوة أهل بيت النبوة ومَن والاهم من أبيه، وهو ابن المجرب بالقمع والإرهاب والتنكيل، وتنفيذ الرغبات الآثمة لأبيه معاوية، وابن الذي نجح بتركيع أهل العراق وإذلالهم وتحويلهم إلى أقنان وعبيد لمعاوية.

ومن الواضح أن يزيد بن معاوية أمر عبيد الله بأن يولي عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن على القوة الضاربة المعدة لقتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه، وكلاهما ناصبي وموتور، وكاره وحاقد على آل محمّد وأهل بيت النبوة، وكلاهما رجل دنيا، طامع ببعض مما في يد يزيد.

ومن المؤكد بأن يزيد كان على اتصال دائم بأركان قيادته. إنّ أركان قيادته كانوا يأتمرون بأمره وينفذون توجيهاته بدقة بالغة كأنها وحي إلهي؛ إنه قد بيّن لهم ما يريده تماماً، فلا يعقل أحد في الدنيا أن يعطي عبيد الله بن زياد أوامر خطية بقتل سبط الرسول الإمام الحسينعليه‌السلام ، وإبادة أهل بيت النبوة، وقتل من معهم والتمثيل بهم، ومنع الماء عنهم حتّى يموتوا عطشاً دون علم ومباركة يزيد بن معاوية قائده الأعلى؛ فابن زياد أقل وأذل وأحقر من أن يفعل ذلك من تلقاء نفسه.

انظر إلى كتاب ابن زياد الذي وجهه لعمر بن سعد، وجاء فيه مايلي:

٤٧

«... فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم إليّ سلماً، وإن أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره.... فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخلِّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر فإنّا قد أمرناه بذلك »(1) .

وقد روى الطبري أن عبيد الله بن زياد كتب إلى عمر بن سعد: « أمّا بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقي الزكي المظلوم، أمير المؤمنين عثمان بن عفان »(2) . فهل يعقل أن يعطي عبيد الله بن زياد أوامر خطية بهذه الخطورة دون علم ومباركة سيده وقائده الأعلى يزيد بن معاوية؟!

ثمَّ هل يعقل بأن يعلن ابن زياد التعبئة العامة في ولاية مثل العراق دون علم «الخليفة» يزيد بن معاوية ومباركته؟! قال البلاذري في « أنساب الأشراف »: إنّ ابن زياد جمع الناس وخطبهم قائلاً: فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب، والتجار والسكان إلاّ خرج فعسكر معي، وأيما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن العسكر برئت منه الذمة.

وروى البلاذري أيضاً أن ابن زياد رتّب بينه وبين عسكر عمر بن سعد خيلاً مضمرة مقدمة، فكان خبر ما قبله يأتيه في كل الأوقات(3) .

فإذا كان بإمكان عبيد الله بن زياد أن يجعل بينه وبين عمر بن سعد خيلاً مضمرة تأتيه بأخباره في كل وقت، أليس بإمكان الخليفة أن تكون له مثل هذه الخيل بينه وبين عمر بن سعد؟ ثمَّ إن كُتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد التي سبقت الإشارة إليها تفصح عن حقيقة موقفه النهائي.

ثم إنه بعد انتهاء المجزرة في كربلاء لم يوجّه يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد كلمة لوم واحدة، بل على العكس أثنى عليه ومكّن له في الأرض.

____________________

(1) راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير 4 / 23.

(2) راجع معالم المدرستين 3 / 86 كما نقلها عن الطبري.

(3) راجع انساب الأشراف للبلاذري - ترجمة الحسينعليه‌السلام .

٤٨

وأبسط ما يفعله قادة الدول مع الذين يرتكبون أعمالاً أقل وحشية من مجزرة كربلاء أن يحيلونهم على التقاعد، أو يعفونهم من مناصبهم؛ احتراماً لمشاعر المجتمعات التي يحكمونها، لكن يزيد لم يفعل ذلك، بل ولم يسمح لأحد بأن ينتقد عبيد الله بن زياد.

روى الطبري في تاريخه قال: لما وضعت الرؤوس - رأس الحسين وأهل بيته وأصحابهعليهم‌السلام - بين يدي يزيد بن معاوية قال يزيد:

يفلقن هاماً من رجالٍ أعزةٍ

علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما

فقال يحيى بن الحكم، أخو مروان:

لهامٌ بجنب الطفِّ أدنى قرابةً

من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغلِ

سمية أمسى نسلُها عددَ الحصى

وبنتُ رسول الله ليس لها نسلُ(*)

فضرب يزيد في صدر يحيى وقال له: اسكت.

فيزيد لا يسمح حتّى لابن عمه أن ينتقد فعل عبيد الله في كربلاء، أو أن ينتقد عبيد الله، لسبب بسيط هو أن ما فعله عبيد الله كان تنفيذاً حرفياً لمشيئة يزيد وموقفه النهائي القاضي بقتل آل محمّد وقتل مَن يواليهم.

ثمَّ إنّ يزيد قد اعترف أمام وفده الذي أرسله إلى ابن الزبير، إذ قال: « لن يكون أعظم من الحسين، ولا الزبير أعظم من علي... »(1) .

عيد في عاصمة يزيد

قال الخوارزمي الحنفي بروايته عن سهل بن سعد: خرجت إلى بيت المقدس حتّى توسطت الشام، فإذا أنا بمدينة مطردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقوا الستور والحجب والديباج، وهم فرحون مستبشرون وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: لعل لأهل الشام عيداً لا نعرفه نحن! فرأيت قوماً يتحدثون، فقلت: يا هؤلاء، ألكم بالشام عيد لا نعرفه نحن؟ قالوا: يا شيخ، نراك غريباً. فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله وحملت حديثه... ثمَّ أخبروه قائلين: هذا رأس الحسين عترة رسول الله يُهدى من أرض

____________________

(*) لا يخفى اختلاف حركة حرف الروي فيما بين البيتين.(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(1) راجع تاريخ الإسلام للذهبي 2 / 344، وتاريخ ابن كثير 8 / 165.

٤٩

العراق إلى الشام.

فقلت: واعجباً! أيهدى رأس الحسين والناس يفرحون...(1) .

موقف أركان قيادة يزيد

عبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد، وشمر بن ذي الجوشن، وبقية طواقم الإجرام في كربلاء هم أركان قيادة يزيد بن معاوية، وهم مجرد عبيد، ينفّذون أوامر سيدهم، ويتبنون موقفه؛ مصيباً كان أم مخطئً. فهل يعقل أن يكون - مثلاً - لرجل مثل عمر بن سعد، المتردد المريض المهزوز، موقف ينبع من قناعاته الخاصة.

معرفة الإمام الحسينعليه‌السلام بالنتائج سلفاً

قبل أن يخرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة إلى مكة قال لأخيه محمّد بن الحنفية: « يا أخي، لو كنت في جحر هام من هوام الأرض لاستخرجوني منه حتّى يقتلونني »(2) .

واقترح عليه أحد إخوته أن يبايع؛ لأنه سمع بأن الحسين سيقتل، فأجابه الإمام الحسينعليه‌السلام : « حدثني أبي أن رسول الله أخبره بقتله - أي الإمام الحسينعليه‌السلام (*) - وقتلي، وأن تربتي تكون بقرب تربته، فتظن أنك علمت ما لم أعلمه؟! وإنه لا اُعطي الدنية من نفسي أبداً، ولتلقين فاطمة أباها شاكية ما لقيت ذرّيتها من اُمّته، ولا يدخل الجنة أحد آذاها في ذرّيتها »(3) .

وقبل خروجه من المدينة أتته اُمّ سلمة، فقالت: يا بني، لا تحزني بخروجك إلى العراق؛ فإني سمعت جدك يقول: « يُقتل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرض يقال لها: كربلاء ».

فقال لها الإمام الحسينعليه‌السلام : « يا اُمّاه، أنا والله أعلم ذلك، وأني مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بد. إني والله لأعرف اليوم الذي اُقتل فيه، وأعرف مَن يقتلني، وأعرف البقعة التي اُدفن فيها، وإني أعرف مَن يُقتل من أهل بيتي، وقرابتي،

____________________

(1) راجع مقتل الخوارزمي الحنفي 2 / 60 - 61.

(2) راجع تاريخ الطبري 3 / 271، وأعيان الشيعة 1 / 888، ووقعة الطف / 85.

(*) هكذا ورد، ولعل هناك خطأً وقع أثناء النسخ؛ إذ الضمير هنا عائد على الإمام عليٍّعليه‌السلام وليس على الحسينعليه‌السلام .(موقع معهد الإمامين الحسنَين)

(3) اللهوف / 12.

٥٠

وشيعتي، وإن أردت يا اُمّاه أريك حفرتي ومضجعي... »(1) .

ولما خرج الإمام الحسينعليه‌السلام من المدينة دعا بقرطاس وكتب فيه ما يلي: « بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم. أما بعد، فإنّ مَن لحق بي منكم استشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح. والسّلام »(2) .

هذه النماذج من النصوص تدل دلالة قاطعة على أن الإمام الحسينعليه‌السلام كان يعلم علم اليقين نتائج امتناعه عن البيعة سلفاً، وكان يعلم علم اليقين بأنه سيُقتل وسيُقتل مَن معه. وليلة العاشر من محرم - أي ليلة المذبحة - أخبر أصحابه بأنه سيُقتل، وأهل بيته سيقتلون معه.

معرفة يزيد بالنتائج سلفاً

إنّه لا يخفى على ذي بصيرة بأن دولة الخلافة كانت من الدول العظمى، وقبل أن يموت معاوية وطّد الأمر لابنه يزيد، وروّض له العباد، وسلّمه عملياً مفاتيح خزائن الدولة وقيادة جيوشها؛ فهو ملك ومالك حقيقي للدولة ومواردها.

فخلال أيام معدودة يستطيع يزيد بن معاوية أن يجنّد نصف مليون جندي، وأن يزوّدهم بما يحتاجونه من مال وسلاح؛ ليقفوا على أهبة الاستعداد لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل ولحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه لو بُعث حياً.

أمّا الإمام الحسينعليه‌السلام فهو مجرد عملياً من كافة سلطاته وصلاحياته، وبالرغم من مكانته المعظمة إلاّ أنه لا يملك من الموارد التي تساعده على تجنيد بضعة عشر جندياً، وليس له عملياً إلاّ أهل بيته والقلة القليلة التي اختارت الآخرة على الدنيا.

فيزيد يعلم أنه سيجنّد ثلاثين ألف مقاتل ليواجه الحسين وأهل بيته وأنصاره الذين لا يتجاوز عددهم المئة رجل. فعندما يكون المؤمنون مئة يغلبون ألفاً،

____________________

(1) راجع بحار الأنوار 44 / 331، والعوالم / 17 - 18، وينابيع المودة / 405.

(2) بصائر الدرجات - حديث 5، واللهوف / 28، والمناقب لابن شهر آشوب، وبحار الأنوار 4 / 33 و 42 و 45 و 84.

٥١

ولكن لا طاقة لمئة مؤمن بأن يغلبوا ثلاثين ألفاً، فيزيد يعلم بأن المواجهة محسومة لصالحه، وبكل الموازين، ويعلم كذلك بأن هذه المواجهة ستسفر عن قتل الإمام الحسينعليه‌السلام وإبادة أهل بيت النبوة وأصحاب الحسين. وليس من المستبعد بأن يكون يزيد قد سمع بخبر مستفيض عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مفاده أن الحسين وأهل بيت النبوة سيُقتلون في كربلاء.

٥٢

الباب الثاني

دور الاُمّة الإسلاميّة في مذبحة كربلاء

الفصل الأوّل: حالة الاُمّة وقت خروج الحسينعليه‌السلام وموقفها منه

الفصل الثاني: الموقف النهائي لأكثرية الاُمّة الإسلاميّة من مذبحة كربلاء

الفصل الثالث: الأقلية التي وقفت مع الإمام الحسينعليه‌السلام أو تعاطفت معه

الفصل الرابع: أخبار السماء عن مذبحة كربلاء

٥٣

٥٤

الفصل الأوّل

حالة الاُمّة وقت خروج الحسينعليه‌السلام وموقفها منه

أين كانت الاُمّة؟

أين كانت الاُمّة الإسلاميّة عندما وقعت مذبحة كربلاء؟ أين كان المسلمون؟ وأين كان عقلاء الاُمّة ووجهاؤها؟ هل كانوا بالحج فشغلوا بمناسكه، أم كانوا غزاة يجاهدون في سبيل الله، أم كانوا نياماً وقد استغرقوا في نومهم فلم يسمعوا صرخات الاستغاثة، ولا قرقعة السيوف ووقع سنابك جيش « الخليفة »؟!

الأدلة القاطعة تشير بأنهم لم يكونوا بالحج، ولا كانوا غزىً، ولا كانوا مستغرقين بالنوم، بل جرت أمامهم فصول المذبحة فصلاً فصلاً، وبالتصوير الفني البطيء، وأنهم تابعوا وشاهدوا وقائع المذبحة البشعة في كربلاء بنظرات ساكنة، وأعصاب باردة، تماماً كما يشاهدون فلماً من أفلام الرعب على شاشة التلفاز.

وكان دور الأكثرية الساحقة من الاُمّة الإسلاميّة، ودور وجهائها وعقلائها مقتصراً على المتابعة والمشاهدة، باستثناء بعض التعليقات أو الانفعالات الشخصية المحدودة التي أبداها بعضهم همساً وهو يتابع ويشاهد المذبحة.

كان بإمكان عقلاء الاُمّة الإسلاميّة ووجهائها، وكان بإمكان أكثرية تلك الاُمّة على الأقل أن يحجزوا بين الفئتين المتنازعتين قبل وقوع المذبحة؛ فالوجهاء والعقلاء الذين لا دين لهم يحجزون بمثل هذه الحالات.

كان بإمكانهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فيقولون للخليفة الطاغية مثلاً: إن قتل ابن بنت النبي وآل محمّد، وأهل بيت النبوة منكر، وحاشا لمثلك يا « أمير المؤمنين » أن يقع فيه.

يمكنهم أن يقولوا للخليفة الطاغية بأن تعبئة ثلاثين ألف مقاتل وزجّهم في المعركة لمقاتلة ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيت النبوة ومواليهم، وهم لا يتجاوزون المئة رجل، أمر لا يليق بشرف العسكرية الإسلاميّة التي يمثلها جيش الخليفة.

وكان بإمكانهم أن يقولوا للخليفة

٥٥

الطاغية: وإن كنت فاعلاً يا « أمير المؤمنين » فأعط أوامرك لجيشك الجرار بأسر ابن بنت النبي وآل النبي وأهل بيت النبي، فليست هنالك ضرورة عسكرية لقتلهم.

كان بإمكان الأكثرية ووجهاء الاُمّة وعقلائها على الخصوص أن يقولوا للخليفة: إن ابن بنت النبي عالم ورث علم النبوة، أو على الأقل أحد علماء الإسلام، وليس مناسباً لـ « أمير المؤمنين » أن يقتل عالماً مهما كان جرمه. إنها لَوصمة عار في جبين الجيش الإسلامي إن قتل حبراً يهودياً، أو راهباً نصرانياً، فكيف يا أمير المؤمنين بوارث علم النبوة الإمام الحسين؟!

كان بإمكانهم أن يتداعوا من كل حدب وصوب ويقولوا لـ « خليفة المسلمين »: نرجوك يا « أمير المؤمنين »، إن الحسين وأهل بيته هم آل محمّد الذين فرض الله على كلِّ مسلم أن يصلّي عليهم في صلاته، وأنهم ذوو قربى النبي الذين أوجب الله على المسلمين مودتهم. وقتلهم بهذه الطريقة إحراج لكم ولنا ولديننا أيضاً.

كان بإمكان الوجهاء والعقلاء وأكثرية الاُمّة المسلمة أن تقول للخليفة الطاغية: يا « أمير المؤمنين »، إنّ محمداً رسول الله نفسه لم يكره أحداً من الناس على بيعته، ثمَّ إن بيعة الإمام الحسين وأهل بيت النبوة لا تزيد في ملك مولانا « أمير المؤمنين »، وإن عدم بيعتهم له لا تؤثّر عملياً في ملكه.

كان بإمكان وجهاء الاُمّة وعقلائها وأكثريتها أن تقول للخليفة الطاغية: نرجوك يا صاحب الجلالة، ونستوهبك روح الحسين وآل محمّد، وأهل بيت النبوة وذوي قربى محمّد. نحن عبيدك وعبيد أبيك من قبلك، وعلى طاعتك، فهبهم لنا؛ إنك إن قتلتهم أيها الملك فأي شيء مقدّس يبقى لدينا!

لو قال وجهاء وعقلاء المسلمين ذلك ليزيد بن معاوية لما وقعت مذبحة كربلاء، ربما كانت قلوبهم مليئة بالرعب، وكان عسيراً عليهم أن يجتمعوا ويقولوا ذلك للخليفة. وربما أن الوجهاء قد أدركوا بثاقب عيون مصالحهم الضيقة أن الحسين وأهل بيت النبوة عائق أمام مطامعهم المستقبلية بالرئاسة، فأدركوا أن فعل يزيد بن

٥٦

معاوية يصبّ في النهاية بحوض مطامعهم الضيّقة، فاستحسنوا فعله، وعبّروا عن هذا الاستحسان بالسكوت؛ « لأن السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان » كما يقول ذلك علماء البلاغة.

ليفخروا بالمنكر ولا فخر به

ليفخر وجهاء وعقلاء الاُمّة الإسلاميّة وأكثريتها الساحقة بأنهم لم يأمروا بمعروف، ولا نهوا عن منكر، ولا سمعوا من الفئتين فحدّدوا مَن هي الباغية؟ ولا حتّى حجزوا، وإنما شاهدوا المذبحة وتابعوها من أوّلها إلى آخرها دون أن يحرّكوا ساكناً، أو يوجّهوا كلمة لوم واحدة للخليفة الطاغية، بل مضوا في طاعته! ألا بعداً لهذه الوجاهة الفارغة، ولتلك الأكثرية الجاهلة كما بعدت ثمود!

حالة الاُمّة وقت خروج الحسينعليه‌السلام

عندما خرج الإمام الحسين من المدينة أو اُخرج منها كان واضحاً لجميع رعايا دولة الخلافة أن عاصفة مدمرة تتجمع بالاُفق وتتحفز للانطلاق والانفجار، وأن مواجهة عنيفة وضاربة ستنشب لا محالة بين الخليفة وأركان دولته وجيشه المطيع الجرار من جهة، وبين ابن النبي الإمام الحسين وآل محمّد وأهل بيت النبوة والقلة القليلة التي انضمت إليهم مختارة الآخرة على الدنيا.

مثلما كان واضحاً لرعايا دولة الخلافة بأن هذه المواجهة ليست متكافئة، فالخليفة يستطيع أن يجنّد خلال اُسبوع واحد نصف مليون مقاتل، وهل بإمكان الحسين ومَن معه وهم لا يزيدون عن المئة أن يقاتلوا نصف مليون جندي؟!

ومن جهة ثانية، فقد كان واضحاً لرعايا دولة الخلافة أن الخليفة المتغلب وأركان دولته يملكون بأيديهم مفاتيح المال والجاه، والسلطان والنفوذ، فلا يدخل الجيوب درهم إلاّ بإذن الدولة، ولا يخرج من الجيوب درهم إلاّ بأمرها؛ فالخليفة سلطان اقتصادي قبل أن يكون سلطاناً سياسياً، سلطاناً عسكرياً.

إقليم دولة الخلافة كله ما هو في حقيقته إلاّ ضيعة للخليفة وأقاربه بالدرجة

٥٧

الأولى، وأركان دولته بالدرجة الثانية. ورعايا دولة الخلافة ما هم في الحقيقة إلاّ أقنان يعملون جميعاً في « ضيعة الخليفة »، وعبيد يأتمرون بأمر الخليفة، ويعتمدون هم وعائلاتهم في حياتهم اليومية في معيشتهم على ما يقدّمه لهم الخليفة.

فالخليفة يقدّم عطاءً شهرياً لأفراد جيشه، وعطاء واُعطيات لرعايا دولته، بمعنى أن جميع أفراد رعايا دولة الخلافة يتلقّون رزقاً أوعطاءً شهرياً مباشراً أو غير مباشر من الخليفة، والخليفة الملك لا يعطي مجاناً؛ فهو يعتبر مال الدولة ماله الخاص؛ لذلك فإنه يقدّم الأرزاق والعطايا لجيشه ولرعاياه ليبقوا دائماً على طاعته، فلا يعمل أحد منهم إلاّ بما يرضي الخليفة، ولا يتكلم إلاّ بما يسرّ الخليفة.

فإذا خرج أحد من الرعية عن طاعة الخليفة، أو عمل عملاً يغضب الخليفة، أو تكلّم بكلام لم يسرّ الخليفة، فأول إجراء يتعرض له هذا « المواطن » هو قطع الرزق والعطاء الشهري عنه وعن أفراد عائلته، ويتبع ذلك ما يسمى « برئت منه الذمة »، أي يُهدر دمه، ومع دمه قد تهدر دماء أولاده وعائلته؛ جزاء وفاقاً لعصيانه « لخليفة رسول الله »؛ لأن الخروج على طاعة الخليفة من جرائم الخيانة العظمى.

ومع الأيام تروض أفراد الرعية، وتسابقوا لإشباع جوعهم للمال والجاه والنفوذ، وكان ميدان السباق الأرحب هو « التفنن » بطاعة الخليفة، وابتغاء رضوانه ومرضاته بأي وسيلة.

ثمَّ إنّ الناس قد خرجوا قبل قليل من حرب أهلية أشعلها معاوية بن أبي سفيان بخروجه على إلامام الشرعي، وإصراره على تحويل نظام الخلافة إلى الملك، وانتزاع هذا الملك بالقوة والقهر والغلبة، وبأي وسيلة تلزم لتحقيق غاياته، بغض النظر عن شرعيتها أو عدم شرعيتها، إنسانيتها أو وحشيتها.

وقد طالت الحرب الأهلية، ودفعت الرعية أغلى الأثمان، واستسلمت في النهاية، وتنازلت لمعاوية عن كل شيء من دون قيد ولا شرط، فما حرّمه معاوية فهو الحرام، وما أحله معاوية فهو الحلال؛ فقد أمر معاوية المسلمين بأن يسبوا علي بن أبي طالب وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ، فاستجابت الرعية على الفور، وتعبّدت بسب علي وأهل بيت النبوة.

٥٨

وقال معاوية: أضفوا هالة القداسة على كلِّ مَن صحب النبي ورآه. فاستجابت الرعية، ورددت خلف معاوية بأن كل الصحابة بمَن فيهم معاوية وأبوه ومروان بن الحكم عدول لا يصدر منهم إلاّ حقاً وصواباً.

لقد ملّت الاُمّة فكرة المقاومة والدفاع عن الحق، وقررت أن تطلب الحياة والسلامة والعافية ولو بالقيود والأغلال. فضلاً عن ذلك فإن المناهج التربوية والتعليمية والسلوك العام للخلفاء وأركان دولتهم كان منصبّاً بالدرجة الأولى على إنكار أيّ حق لأهل بيت النبوة بقيادة الاُمّة، وعلى تصغير مكانة أهل بيت النبوة.

وتأويل النصوص الشرعية التي نجت من حصار الخلفاء تأويلاً يخرجها عن معناها، وعلى محاصرة أهل بيت النبوة ومَن والاهم، وإظهارهم بمظاهر الطامعين بالسلطة، والمنازعين لأمر أهله، وبمظهر المتربّصين بوحدة الاُمّة، والمتأهبين لشق عصا الطاعة، والخروج على الجماعة.

لقد نجحت دولة الخلافة بإرساء هذه المفاهيم الظالمة في نفوس الأكثرية الغافلة من رعاياها. فضلاً عن ذلك فإن عامة ابناء بطون قريش الـ 23، والبطن الأموي خاصة صاروا هم ومَن والاهم أركاناً لدولة الخلافة من بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحتّى عهد يزيد وما بعده. وهذه البطون هي نفسها التي حاربت محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وحاربت دينه طوال الـ 21 عاماً، ولم تسلم إلاّ مكرهة؛ ونتيجة معاناة الحرب التي استمرت 21 عاماً كرهت محمداً وبني هاشم، وأضمرت الحقد لهم.

ولما انتصر الإسلام وصار له ملك ودولة صار الدين طريق ملك؛ فأدّعت البطون حبها لمحمد وقرابتها منه، وأعلنت اعترافها بالنبوة، وتفاخرها بهذه النبوة لغاية توطيد ملكها على العرب وعلى العالم.

وبالوقت نفسه الذي أبقت فيه بطون قريش كراهيتها وحقدها على آل محمّد خاصة والهاشميِّين عامة، وأخذت هذه البطون حذرها التام من كل من يواليهم ويحبهم من المسلمين، وجردت الهاشميِّين ومَن والاهم عملياً من كافة حقوقهم السياسية.

وبالوقت نفسه الذي تزعم فيه البطون إسلامها وإيمانها، وتحكم الناس باسم الدين إسلاماً وإيماناً؛

٥٩

مجموعة هذه الاُمور أماتت الشعور بالانتماء للاُمّة، والإحساس العام، وخلقت حالة من التقوقع على الذات، ومن الشعور بالانفصال العملي التام عن المجتمع؛ فانتصارات المجتمع العسكرية تُقابل بالفتور، وهزائمه تُقابل بقليل من الأسف.

صحيح أن الاُمّة كانت تعرف الحق من الباطل، ولكن لا حوافز لديها ولا رغبة بنصرة الحق أو محاربة الباطل، إنها تتمنى أن ينتصر الحق وأن يُهزم الباطل، ولكن ليست لدى أي فرد من أفراد الرعية العزيمة والرغبة للاشتراك بنصرة الحق أو هزيمة الباطل وهو مقتنع أن في يوم من الأيام سيأتي غيره فينصر الحقَّ أو يهزم الباطل دون ان يكلّفه عناء المواجهة.

كان هذا الشعور بالتواكل سائداً عند الرجال والنساء، ولكن بنسب متفاوتة. قال الطبري في تاريخه: إنّ المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام(1) .

بهذا المناخ المعقد مات معاوية، وخلفه يزيد، وامتنع الإمام الحسينعليه‌السلام عن البيعة فاضطر حفاظاً على حياته وموقفه للخروج.

موقف الاُمّة الإسلاميّة من خروج الحسينعليه‌السلام

موقف الأكثرية الساحقة

لم يقف يزيد بن معاوية وحده في وجه الإمام الحسين وأهل بيت النبوةعليهم‌السلام ، إنما وقفت مع يزيد ابن معاوية واستنكرت موقف الإمام الحسين وأهل بيت النبوة مجموعة من القوى الكبرى التي كانت تكوّن رعايا دولة الخلافة أو ما عرف باسم « الاُمّة الإسلاميّة ».

وهذه القوى هي:

1 - بطون قريش الـ 23 وأحابيشها وموالوها، وهي القوة نفسها التي كذبت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقاومته وتآمرت على قتله، وحاربته 21 عاماً حتّى أحاط بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستسلمت واضطرت مكرهة لإعلان إسلامها وهي تخفي في صدورها غير الإسلام.

____________________

(1) راجع تاريخ الطبري 5 / 370.

٦٠