علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207026
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207026 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و(الأخطار) التي تهددها.

وهذا الإدراك والوعي يكشف عنه الدور العظيم الذي قام به النبي منذ البعثة حتّى وفاته (عليه الصلاة والسلام)؛ فقد عاش حياة الاضطهاد والضغط اللذين كانا وليدي قيامه بالدعوة إلى الله - سبحانه - وعمله على تغيير الأُمّة، وقلب واقعها الفكري والسياسي والاجتماعي؛ ومثل هذا الدور يحتاج إلى مهارةٍ عظيمة وإدراكٍ دقيقٍ لواقع المجتمع، وتقديرٍ للآثار والنتائج مع فهم للنفس البشرية وما تنطوي عليه من خيرٍ وشر.

ثُمَّ عاش حياة القيادة، وسياسة الأُمّة، وإدارة شؤونها في أصعب الظروف التاريخية، حيث إنشاء الدولة وتوطيد التشريع والنظام في مجتمع كان لا يعرف - إلاّ لوناً باهتاً - عن كلِّ ما يمتّ إلى المجتمعات البشرية المنظّمة بصلة، كما كان يؤمن بمفاهيم وأفكار بعيدة عن المفاهيم والأفكار الجديدة التي جاء بها الإسلام فمارس الحرب والجهاد، وبلى المكر والخداع والنفاق والارتداد، إلى غير ذلك من الأساليب والظروف المختلفة في أبعادها وآثارها.

وكان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أيضاً على معرفة بتأريخ الرسالات الإلهيّة ونهايتها على يد المزوّرين والمحرِّفين وتجّار الدين، كما يُصرِّح بذلك القرآن الكريم، وينعى على أهل الكتاب هذا التحريف والتزوير.

فالإنسان الذي يكون قد خبر الحياة الإنسانية بهذا الشكل، وحمل أعباء الرسالة والدعوة وقاد الإنسان في مجاهل الظلام، حتّى أورده مناهل النور والحق لا يمكن أن نشك في إدراكه لمدى ما يمكن أن يتعرّض له النص القرآني من (خطر) حينما يربط مصيره بالحفظ والاستظهار في صدور الرجال.

د - إن إمكانات التدوين والتسجيل كانت متوفرةً لدى الرسول (صلّى الله عليه وآله) حيث لا تعني هذه الإمكانات حينئذ إلاّ وجود أشخاص قادرين على الكتابة، يتوفّر فيهم الإخلاص في العمل إلى جانب توفُّر أدوات الكتابة، وليس هنا من يشك

١٠١

تاريخيّاً في تمكُّن المسلمين من كلِّ ذلك.

هـ - ولا بُدّ أن نعترف بوجود عنصر الإخلاص للقرآن الكريم وأهدافه، إذ لا يمكن أن نجد من يشك في توفّر ذلك لدى النبي (صلّى الله عليه وآله) مهما بلغ ذلك الشخص من التطرّف في الشك والتفكير؛ لأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى على أسوأ التقادير والفروض التي يفرضها الكافرون برسالته والمنكرون لنبوّته، لا يمكن إلاّ أن يكون مخلصاً للقرآن الكريم؛ لأنّه يؤمن بأنّ القرآن معجزته وبرهان دعوته الذي به تحدّى المشركين وهو على هذا الإيمان بالقرآن لا بُدّ وأن يحرص على حفظه وصيانته، ويكون مخلصاً في ذلك أبعد الإخلاص.

وهذه العناصر الخمسة:

(أهمّيّة القرآن الكريم، والخطر في تعرّضه للتحريف بدون التدوين وإدراك النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الخطر، ووجود إمكانات التدوين، وحرص النبي (صلّى الله عليه وآله) على القرآن والإخلاص له) هي التي تكوِّن اليقين بأنّ القرآن الكريم قد تمّ جمعه وتدوينه في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ أهميّة القرآن، الذاتية، مع وجود الخطر عليه، والشعور بهذا الخطر، وتوفّر أدوات التدوين والكتابة، ثمّ الإخلاص للقرآن حين تجتمع لا يبقى مجال للشك بتدوين القرآن في عهد رسول الله وكتابته في زمانه.

الشبهة حول طبيعة الأشياء:

وليس عندنا في مقابل دلالة طبيعة الأشياء على هذه الحقيقة، غير الروايات التي جاءت تذكِّر أنّ القرآن الكريم قد جُمع في عهد أبي بكر، حيث جمع القرآن من العسب والرقاق واللخاف ومن صدور الناس بشرط أن يشهد شاهدان على أنّه من القرآن، كما جاء ذلك في قصّة جمع القرآن المرويّة عن زيد بن ثابت (1) أو غيرها من النصوص التي تتحدّث عن هذا الأمر بطريقة أُخرى.

________________________

(1) البخاري، باب جمع القرآن 6: 89.

١٠٢

والواقع أن النصوص والروايات التي جاءت تتحدّث عن قصّة الجمع ليست متفقةً على صيغةٍ واحدة ولا على مضمونٍ واحد، فهي تنسب الجمع إلى أشخاص مختلفين، كما أنّها تختلف في زمان الجمع وطريقته والعهد الذي تمّ فيه (1) .

وهي من أجل ذلك كلِّه لا يمكن الأخذ بمضمونها الفعلي للتّعارض الذي يسقطها عن الاعتبار والحجيّة - كما ذكر علماء الأُصول - وإنّما يمكن أن نفسِّر وجودها بأحد تفسيرين:

الأوّل:

أنّ هذه الروايات جاءت بصدد الحديث عن جمع القرآن بشكل (مصحف) منتَظَم الأوراق والصفحات، الأمر الذي تمّ في عهد الصحابة، وليست بصدد الحديث عن عمليّة أصل تدوين وجمع القرآن بمعنى كتابته عن بعض الأوراق المتفرِّقة أو صدور الرجال كما تشير إليه بعض هذه الأحاديث.

وهذا التفسير يقوم على أساس فرض الالتزام بصحّة المضمون الإجمالي الذي تؤكِّده الروايات بأكملها وهو حدوث عمليّة جمع للقرآن الكريم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله).

الثاني:

أنّ هذه الروايات إنّما هي قصص وُضعت في عهودٍ متأخِّرة عن عهد الصحابة لإشباع رغبة عامّة لدى المسلمين في معرفة كيفيّة جمع القرآن.

ونحن نعرف من دراستنا للتأريخ الإسلامي أنّ حركةً أدبيّة واسعة ظهرت في التاريخ الإسلامي لتفسير الوقائع والأحداث التي عاشها المسلمون في الصدر الأوّل على شكل قصّة تتّسم بالحيوية والبراعة والإثارة، بل امتدّ ذلك إلى الأحداث الجاهلية، والقصّة حين بدأت فإنّما بدأت تعيش الإطار الديني، وكان ذلك في أواخر عهد الصحابة، وتطوّرت في عهد التابعين ونمت في عصور متأخِّرة، واعتمدت بشكلٍ رئيس على الإسرائيليّات، وعلى الوضع والخيال الذي يحاول أن يحقِّق أغراضاً اجتماعية أو سياسية أو نفسية أو ثقافية معينّة.

________________________

(1) السيّد الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 247 - 249.

١٠٣

وهذه الحركة القصصيّة ليست بدعاً في التاريخ الإسلامي فحسب بل هي رغبة عامّة عاشت في مختلف العصور التاريخية القديمة منها والحديثة، وما زلنا نشاهد القصّة التي تعتمد على أحداث ووقائع حقيقيّة وتختلط بصور وتفاصيل خياليّة وتستمد مقوماتها واتجاهاتها وأغراضها من الواقع الاجتماعي المعاش.

ونحن وإن كنّا نرغب أن نتّجه في تفسير هذه الأحاديث إلى الطريقة الأُولى، ولكن لا نجد مانعاً من طرح هذا التفسير الآخر كأساسٍ للدراسة الموضوعيّة المفصّلة لهذه الأحاديث وغيرها.

وإضافةً إلى ذلك كلِّه نجد نصوصاً أُخرى تُصرِّح بأنّ القرآن الكريم قد تمّ جمعه في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بحيث تصلح أن تقف في مواجهة هذه النصوص (1) .

ومن هذه النصوص ما رواه جماعةٌ من المحدّثين والحفّاظ منهم: ابن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والضياء المقدسي، عن ابن عبّاس، قال:

(قلت لعثمان بن عفّان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر: ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ؟

ووضعتموهما في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟

فقال عثمان: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان ممّا يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوّل ما أُنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها، فظننت أنّها منها، وقُبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم يبيِّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) ووضعتها

________________________

(1) راجع البيان: 250 - 252.

١٠٤

في السبع الطوال) (1) .

وروى الطبري، وابن عساكر عن الشعبي، قال:

(جمع القرآن على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ستّة نفرٍ من الأنصار:

أُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وسعيد بين عبيد، وأبو زيد، وكان مجمع ابن جارية قد أخذه إلاّ سورتين أو ثلاثاً) (2) .

وروى قتادة قال:

(سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله)؟

قال: أربعة كلّهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد) (3) .

وروى مسروق:

ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود، فقال:

(لا أزال أُحبه، سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبي بن كعب) (4) .

وأخرج النسائي بسندٍ صحيح، عن عبد الله بن عمر، قال:

(جمعت القرآن فقرأت به كلّ ليلة، فبلغ النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: اقرأه من شهر... ) (5) .

ولابُدّ أن يكون المراد من (الجمع) في هذه الروايات (التدوين) وإلاّ فلا يعقل أن يكون عدد الحفاظ هذا العدد المحدود.

إذاً فمن الضروري أن نلتزم بأن القرآن الكريم قد تمّ جمعه وتدوينه زمن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بشكلٍ كامل متْقَن، يمنع من تسرُّب التشويه والتزوير إليه.

________________________

(1) منتخب كنز العمّال 2: 48.

(2) كنز العمّال 2: 589.

(3) صحيح البخاري - باب القرّاء من أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) 6: 202.

(4) المصدر السابق.

(5) الإتقان، النوع 20 / 1: 124.

١٠٥

تحريف القرآن:

لا شكّ أنّ القرآن الكريم أصبح معروفاً ومتداولاً بشكلٍ واسع ومدوّناً بشكل مضبوط بعد عهد الخليفة عثمان، حيث تمّت كتابة مجموعة من نُسخ المصحف الشريف، وأُرسل إلى الآفاق الإسلامية بشكلٍ رسميٍّ من أجل العمل بها وتداولها، حيث أُصدرت الأوامر الواضحة والمشدّدة بالمنع من تداول أي نُسخة أُخرى غير هذه النُسخ.

ولا بُدّ لنا من أجل إيضاح سلامة النص القرآني من التحريف أن نذكر الحالات التي يمكن أن نفترض وقوع التحريف فيها، مع مناقشة كلِّ واحدةٍ منها:

1 - أن يقع التحريف في عهد الشيخين بصورة عفويّة دون قصد حذف شيءٍ من القرآن، وذلك بسبب الغفلة عن بعض الآيات، أو عدم وصولها إلى أيديهم، كما تفرضه قصّة جمع القرآن الكريم التي رواها البخاري.

2 - أن يقع التحريف في عهد الشيخين مع فرض الإصرار منهما عليه بشكل مسبق ومدروس.

3 - أن يقع التحريف في عهد الخليفة عثمان.

4 - أن يقع التحريف في عهد الأمويّين، كما نُسب ذلك إلى الحجّاج بن يوسف الثقفي.

وهناك حالة خامسة لا مجال أن نتصوّر وقوع التحريف فيها، وهي أن نفرض وقوعه من قِبَل بعض أفراد الرعيّة من الناس؛ لأنّ هؤلاء لا قدرة لهم على مثل هذا العمل مع وجود السلطة الدينيّة التي تعرف القرآن الكريم وتحميه من التلاعب، والتي هي المرجع الرسمي لتعيين آياته وكلماته لدى الناس.

أمّا الحالة الأُولى:

فيمكن أن تُناقش من ناحيتين:

أ - النتيجة السابقة التي توصّلنا إليها في دراستنا لتاريخ جمع القرآن وهي: أنّ

١٠٦

أصل عملية الجمع والتدوين تمّت في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وحينئذٍ فإنّ القرآن الذي تمّ جمعه في عهد الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لا يمكن أن يكون إلاّ دقيقاً ومتْقَناً لرعاية الرسول لجمعه، ومع وجود هذا القرآن لا مجال لأن نتصوّر وقوع الغفلة أو الاشتباه من الشيخين أو من غيرهما، كما لا يمكن أن نحتمل عدم وصول بعض الآيات إليهم.

ب - توفُّر عوامل عديدة لوجود القرآن الكريم بأكمله لدى جماعةٍ كبيرة من المسلمين، وهذا يُشكِّل ضمانةً حقيقية لوصول القرآن الكريم بكامله إلى الدولة في عهد الشيخين دون نقيصة؛ وهذه العوامل يمكن أن نُلخِّصها بالأسباب التالية:

1 - إنّ القرآن الكريم يعتبر من أروع النصوص الأدبيّة وأبلغها تعبيراً ومضموناً، وقد كان العرب ذوي اهتمام بالغ بهذه النصوص؛ لأنّها تكوّن ثقافتهم الخاصة سواء في الناحية التعبيرية أو في الناحية الفكرية والاجتماعية.

ونجد آثار هذا الاهتمام ينعكس على حياتهم الخاصّة والعامّة، فيحفظون الشعر العربي والنصوص الأدبيّة الأُخرى ويستظهرونها، ويعقدون الندوات والأسواق للمباراة والتنافس في هذه المجالات، وقد يصل بهم الاهتمام إلى درجة الاحتفاظ ببعض النصوص في أماكن مقدّسة تعبيراً عن التقدير والإعجاب بهذا النص، كما يُذكر ذلك بالنسبة إلى المعلقات السبع أو العشر في الكعبة الشريفة.

وقد دفعت هذه العادة الشائعة بين العرب المسلمين - حينذاك - كثيراً منهم إلى لفظ القرآن الكريم واستظهاره.

2 - إنّ القرآن الكريم كان يشكّل بالنسبة إلى المسلمين حجر الزاوية الرئيسة في ثقافتهم وأفكارهم وعقيدتهم، وقد تعرّفنا على ذلك في النقطة الأولى من طبيعة الأشياء التي سقناها لإبراز مدى اهتمام المسلمين بالقرآن.

وكما أنّ هذا الأمر دفع النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) لتدوين القرآن الكريم لحفظه من الضياع.

١٠٧

كذلك دفع المسلمين إلى استظهار القرآن الكريم وحفظه بدافع الاحتفاظ بأفكاره وثقافته ومفاهيمه والتعرّف على السُنن والتشريعات الإسلامية التي تضمّنها.

3 - إنّ القرآن الكريم - على أساس ما يحتويه من ثقافة - كان يعطي الجامع له امتيازاً اجتماعيّاً بين الناس، يشبه الامتياز الذي يحصل عليه العلماء من الناس في عصرنا الحاضر.

وتُعتبر هذه الميزة الاجتماعية إحدى العوامل المهمّة لتدارس العلوم وتحصيلها في جميع العصور الإنسانية؛ فمن الطبيعي أن تكون إحدى العناصر المؤثِّرة في استظهار القرآن الكريم وحفظه.

وقد حدّثنا التاريخ عن الدور الذي كان يتمتّع به القرّاء في المجتمع الإسلامي بشكلٍ عام، وعن القداسة التي كان ينظر إليهم بها المسلمون.

4 - لقد كان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) رائداً للأُمّة الإسلامية وموجِّهاً لها يحرّض المسلمين ويحثّهم على حفظ القرآن واستظهاره.

ونحن نعرف ما كان يتمتّع به النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) من حبٍّ عظيمٍ في نفوس كثيرٍ من المسلمين، وما كان يملكه من قدرةٍ على التأثير في حياتهم وسلوكهم، الأمر الذي كان يدفع المسلمين إلى الاستجابة له في كثيرٍ من التوجيهات، دون الالتفات إلى مدى لزومها الشرعي.

5 - الثواب الجزيل الذي وضعه الله - سبحانه - لقرّاء القرآن وحَفَظَته، ورغبة كثيرٍ من المسلمين حينذاك في الاستزادة من هذا الثواب، خصوصاً أنّهم كانوا جديدي عهدٍ بالإسلام، فهم يحاولون أن ينعكس الإسلام على جميع تصرُّفاتهم.

وقد كان لبعض هذه العوامل أو جميعها تأثيرٌ بالغ الأهميّة في حياة المسلمين، حيث حدّثنا التاريخ الإسلامي عن وجود جماعاتٍ كثيرة من المسلمين عُرفوا بالقُرّاء من ذوي العقيدة الصّلْدة، كان لهم دورهم في الحياة الاجتماعية، وميزتهم في

١٠٨

ترجيح جانبٍ على آخر عند الخلافات السياسية التي عاشها المسلمون.

6 - وإضافةً إلى ذلك تفرض طبيعة الأشياء أن يكون قد دوّن القرآن الكريم وكتبه كلُّ مسلمٍ عنده القدرة على التدوين والكتابة؛ لأنّ أيّ جماعةٍ أو أُمّة تهتمّ بشيءٍ وترى فيه معبِّراً عن جانبٍ كبير من جوانب حياتها، فهي تعمل على حفظه بوسائل شتّى، ولا شكّ أنّ الكتابة - عند من يتقنها - من أيسر هذه الوسائل وأسهلها.

ولذلك نجد بعض النصوص تُشير إلى وجود عددٍ من المصاحف أو قطعات مختلفة منه عند كثيرٍ من الصحابة.

ولا بُدّ لنا أن ننتهي إلى أنّ القرآن الكريم بسبب هذه العوامل كان موجوداً في متناول الصحابة، ولم يكن من المعقول فرض التحريف نتيجة الغفلة أو الاشتباه، أو عدم وصول بعض الآيات القرآنية.

وأمّا الحالة الثانية:

فهي فرضيّةٌ غير صادقةٍ إطلاقاً؛ لأنّ دراسة عهد الشيخين والظروف المحيطة بهما تجعلنا ننتهي إلى هذا الحكم، وتكذيب هذه الفرضيّة.

ذلك لأنّ التحريف المتعمَّد يمكن أن يكون لأحد السببين التاليين:

أوّلاً:

أن يكون بسبب رغبة شخصيّة في التحريف.

ثانياً:

أن يكون بدافع تحقيق أهداف سياسية؛ كأن يفرض وجود آيات قرآنية تنقص على موضوعات ومفاهيم خاصّة تتنافى مع وجودهما أو متبنياتهما السياسية مثل النص على عليٍّ (عليه السلام) أو الطعن بهما.

أمّا بالنسبة إلى السبب الأوّل، فنلاحظ عدّة أُمور:

1 - إنّ قيام الشيخين بذلك يعني في الحقيقة: نسف القاعدة التي يقوم عليها الحكم حينذاك، حيث إنّه يقوم على أساس الخلافة لرسول الله والقيمومة على

١٠٩

الأُمّة الإسلامية، وليس من المعقول أن يقدما على تحريف القرآن، ويعملا على معاداة الإسلام دون تحقيق أي مكسب ديني أو دنيوي، وهل يعني ذلك إلاّ فتح الطريق أمام المعارضة التي كانت موجودةً لتشنَّ هجوماً مركَّزاً يملك أقوى الأسلحة التي يمكن استخدامها حينذاك؟!

2 - إنّ الأُمّة الإسلامية كانت تشكِّل حينذاك ضمانةً اجتماعية وسياسية قويّة تمنع قيام أيّ أحدٍ من الناس مهما كان يملك من قدرةٍ وقوّة بمثل هذه العمل المضاد للإسلام، دون أن يكون لهذا العمل ردُّ فعلٍ قويٍّ في صفوفها؛ لأنّ المسلمين كانوا ينظرون إلى القرآن الكريم على أنّه شيءٌ مقدّس غاية التقديس، وأنّه كلام الله سبحانه الذي لا يقبل أي تغيير أو تبديل حتّى من قِبَل الرسول نفسه كما أكَّد ذلك القرآن الكريم (1) .

كما أنّهم ناضلوا وجاهدوا في سبيل مفاهيم القرآن وآياته وأحكامه التي كانت تعايش حركتهم لمدّة ثلاثة وعشرين عاماً، وضحّوا بأنفسهم من أجل هذا الدين الجديد الذي كان يشكل التصرّف في القرآن - في نظرهم - خروجاً عنه وارتداد عن الالتزام به.

3 - إنّ الحكم في عهد الشيخين لم يسلم من وجود المعارضة التي كانت ترفع أصواتها أحياناً من أجل خطأٍ يقع فيه الخليفة في تطبيق بعض الأحكام، ومع هذا لا نجد في التاريخ أية إشارة إلى الاحتجاج أو ما يشبه الاحتجاج ممّا يشير إلى وقوع هذه الفرضيّة، فكيف يمكن أن تسكت المعارضة في كلامها وأقوالها زمن الشيخين أو بعدهم عن كلِّ ذلك؟!

ومن هنا يتّضح موقفنا من السبب الثاني:

فأوّلاً:

إنّ وعي الأُمّة ونظرتها المقدّسة للكتاب وصلته بالله بشكلٍ لا يقبل التغيير والتبدّل لا يسمح بوقوع مثل هذا العمل مطلقاً.

________________________

(1) ( ... قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ... ) يونس: 15.

١١٠

ثانياً:

إنّ المعارضة لا يمكن أن تترك هذه الفرصة تمرّ دون أن تستغلّها في صراعها مع العهد والخليفة، مع أنّنا لا نجد إشارةً إلى ذلك في كلامهم.

ثالثاً:

إنّ هناك نصوصاً سياسية واسعة تضمنت ملاحظات حول تصرّفات الخليفة أبي بكر وعمر، مثل المناقشة السياسية التي شنّتها الزهراء (عليها السلام) ومن بعدها أمير المؤمنين (عليه السلام) وجماعته المؤمنون بإمامته لم تتناول أيّ نصٍّ قرآني غير مدوّن في القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، ولو كان مثل هذا النص موجوداً في القرآن لكان من الطبيعي أن يستعملوه أداةً لكسب المعركة إلى جانبهم وإظهار الحقِّ الذي ناضلوا من أجله.

وأمّا الحالة الثالثة:

فهي تبدو أكثر استحالةً وبُعداً عن الحقيقة التاريخية من سابقتيها، وذلك للأسباب التالية:

أوّلاً:

إنّ الإسلام - وإلى جنبه القرآن الكريم - قد أصبح منتشراً بشكل كبير بين الناس وفي آفاق مختلفة، وقد مرَّ على المسلمين زمن كبير يتداولونه أو يتدارسونه، فلم يكن في ميسور عثمان - لو أراد أن يفعل ذلك - أن ينقص منه شيئاً، بل ولم يكن ذلك في ميسور من هو أعظم شأناً من عثمان، وقد اعترض المسلمون بالفعل على عثمان وقتلوه لأسباب مختلفة.

ثانياً:

إنّ النقص إمّا أن يكون في آياتٍ لا مساس فيها بخلافة عثمان، وحينئذٍ فلا يوجد أيّ داعٍ لعثمان أن يفتح ثغرةً كبيرةً في كيانه السياسي، وإمّا أن يكون في آياتٍ تمس خلافة عثمان وإمامته السياسية، فقد كان من المفروض أن تؤثِّر مثل هذه الآيات في خلافة عثمان نفسه، فتقطع الطريق عليه في الوصول إلى الخلافة.

ثالثاً:

إنّ الخليفة عثمان لو كان قد حرّف القرآن الكريم لاتّخذ المسلمون ذلك أفضل وسيلةٍ لتسويغ الثورة عليه وإقصائه عن الحكم أو قتله، مع أنّنا لا نجد في مبرِّرات الثورة على عثمان شيئاً من هذا القبيل، ولمّا كانوا في حاجةٍ للتذرّع في

١١١

سبيل ذلك بوسائل وحُجج أُخرى ليست من الوضوح بهذا القَدْر.

رابعاً:

إنّ الخليفة عثمان لو كان قد ارتكب مثل هذا العمل لكان موقف الإمام علي (عليه السلام) تجاهه واضحاً، ولأصرّ على إرجاع الحقّ إلى نصابه في هذا الشأن؛ فنحن حين نجد الإمام عليّاً (عليه السلام) يأبى إلاّ أن يُرجع الأموال التي أعطاها عثمان إلى بعض أقربائه وخاصّته ويقول بشأن ذلك:

(والله لو وجدتّه قد تزوّج به النساء، وملك به الإماء، لرددته؛ فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) (1) .

وكذلك نجد منه نفس الموقف الحازم مع ولاة عثمان المنحرفين، فلا بُدّ أن نجزم باستحالة سكوته عن مثل هذا الأمر العظيم على فرض وقوعه.

ومن هذه المناقشة التفصيليّة للحالات الثلاث السابقة يتّضح موقفنا من الحالة الرابعة؛ فإنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي أو غيره من الولاة لا يمكن أن نتصوّر فيهم القدرة على تحريف القرآن الكريم بعد أن عمَّ شرق الأرض وغربها.

كما لا نجد المسوِّغ الذي يدعو الحجّاج أو الأُمويّين إلى مثل هذا العمل الذي يحمل في طيّاته الخطر العظيم على مصالحهم ويقضي على آمالهم.

جَمْعُ القرآن على عَهْد النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

جمع القرآن له معنيان:

أحدهما:

حفظه في الصدور على سبيل الاستيعاب لجميع آياته، ومنها قولنا جمّاع القرآن أي حفّاظه.

والمعنى الآخر لجمعه:

كتابته وتسجيله في أوراق بشكلٍ كامل.

فأمّا جَمْع القرآن بمعنى حفظه في القلب واستظهاره فقد أُوتيه رسول الله قبل الجميع، فكان (صلّى الله عليه وآله) سيّد الحفّاظ وأوّل الجُمّاع كما كان يُرغِّب المسلمين باستمرار في

________________________

(1) شرح نهج البلاغة 1: 269 فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان.

١١٢

حفظ القرآن وتدارسه واستظهاره، ويدفع كلَّ مهاجرٍ جديد إلى أحد الحفّاظ من الصحابة ليعلِّمه القرآن، ويستعمل مختلف أساليب التشجيع لتعميم حفظ القرآن وإشاعة تلاوته، حتّى أصبح مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) عامراً بتلاوة القرآن يضجُّ بأصوات القرّاء، فأمرهم النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أن يخفظوا أصواتهم لئلاّ يتغالطوا.

فعن عبادة بن الصامت:

(كان الرجل إذا هاجر دفعه النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) إلى رجلٍ منّا يعلّمه القرآن، وكان يُسمع لمسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ضجّة بتلاوة القرآن، حتّى أمرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن يخفضوا أصواتهم لئلاّ يتغالطوا) (1) .

وشاعت قراءة القرآن في كلِّ مكانٍ في المجتمع الإسلامي، وافتُتن المسلمون بتلاوته وشُغفوا بقراءته والاستماع إليه، وكان همّهم الذي ملك عليهم قلوبهم، حتّى رُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:

(إنّي لأعرف أصوات رفقة الأشعريين حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار) (2) .

وكان تدارس القرآن واستظهاره رائجاً بين الرجال والنساء.

أمّا جمعه بمعنى كتابته وتسجيله فقد عرفنا في بحث ثبوت النص القرآني أنّ القرآن الكريم قد تمّ جمعه زمن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، ولكنّ الرأي السائد في أبحاث علوم القرآن أنّ جمعه قد تمّ في عهد الشيخين، وقد عرفنا أنّه يمكن التوفيق بين الرأيين في أنّ أصل الجمع تمّ في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وجمعه على شكل مصحفٍ منتَظَم الأوراق فهو ممّا تمّ في عهد الشيخين، وقد عرفنا أيضاً سلامة النص القرآني من دون فرق بين الفرضيّة الأُولى والثانية وأشرنا إلى بعض الشُبهات التي أُثيرت حول الجمع بناءً على الفرضيّة الثانية وناقشناها.

________________________

(1) البيان لآية الله السيّد الخوئي، ح255 نقلاً عن مناهل العرفان: 324.

(2) كنز العمّال 12: 56، الأشعريون.

١١٣

شبهتان حول الجمع في عهد الشيخين ومناقشتهما:

وهناك بعض الشُبهات الأُخرى (1) تُثار حول فرضيّة الجمع في عهد الشيخين أيضاً، نذكر منهما الشُبهتين التاليتين.

ولعلّ من الجدير بالذكر أنّ هاتين الشبهتين قد أُثيرتا في الأبحاث الإسلامية كما أُثيرتا في أبحاث المستشرقين ومقلِّديهم من الباحثين.

الشبهة الأولى:

إنّ بعض النصوص التاريخية المرويّة عن أهل البيت (عليه السلام) وغيرهم تذكر وجود مصحف خاصٍّ لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يختلف عن المصحف الموجود المتداوَل بين المسلمين في الوقت الحاضر، ويشتمل هذا المصحف على زيادات وموضوعات ليست موجودة في المصحف المعروف.

وتتحدّث هذه النصوص عن مجيء علي بن أبي طالب (عليه السلام) بهذا المصحف إلى الخليفة الأوّل أبي بكر، بقصد أن يأخذ المصحف المذكور مكانه من التنفيذ بين المسلمين، ولكنّ أبا بكر لم يقبل ذلك ورفض هذا المصحف.

ولمّا كان عليُّ بن أبي طالب أفضل الصحابة علماً وديناً والتزاماً بالإسلام، وحفاظاً عليه، فمن الواضح حينئذٍ أن يكون المصحف الموجود فعلاً قد دخل عليه التحريف والنقصان، نتيجةً للطريقة الخاطئة التي أُتبعت في جمعه والتي عرفنا بعض تفاصيلها.

ومن أجل إيضاح هذه الشبهة يورد أنصارها بعض هذه النصوص التاريخية، وهي:

1 - النص الذي جاء في احتجاج علي (عليه السلام) على جماعةٍ من المهاجرين والأنصار:

فقال له علي (عليه السلام) : (يا طلحة إنّ كلَّ آيةٍ أنزلها الله - جلّ وعلا - على محمّد

________________________

(1) اعتمدنا بصورة رئيسة في هذا البحث عل ما كتبه أُستاذنا الكبير آية الله السيّد الخوئي (قُدِّس سرّه) في البيان:

222 - 234.

١١٤

عندي بإملاء رسول الله وخط يدي؛ وتأويل كل آية أنزلها الله على محمّدٍ وكل حرام وحلال أو حد أو حكم أو شيء تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخط يدي حتّى ارش الخدش (1) .

2 - النص الذي يتحدّث عن احتجاج علي (عليه السلام) على الزنديق، والذي جاء فيه:

أنّه أتى بالكتاب على الملأ مشتملاً على التأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف ألف ولا لام فلم يقبلوا منه (2) .

3 - النص الذي رواه محمّد بن يعقوب الكليني في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنّه قال:

(ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه، ظاهره وباطنه غير الأوصياء) (3) .

4 - النص الذي رواه محمّد بن يعقوب الكليني أيضاً في الكافي عن الباقر (عليه السلام) أنّه:

(ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب - عليه السلام - والأئمّة من بعده - عليهم السلام -).

وتُناقش هذه الشبهة: أنّه قد يُفترض وجود مصحفٍ لعليٍّ (عليه السلام) يختلف مع المصحف الموجود فعلاً من حيث الترتيب، بل قد يختلف عنه أيضاً لوجود إضافات أُخرى فيه.

ولكنّ الكلام في حقيقة هذه الزيادة، إذ لا دليل على أنّه زيادات قرآنية، وإنّما تفسير هذه الزيادات على أنّها تأويلات للنص القرآني، بمعنى ما يؤول إليه الشيء أو أنّها تنزيلات من الوحي الإلهي نزلت على صدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في تفسير وشرح القرآن وعلّمها أخاه علي بن أبي طالب (عليه السلام).

________________________

(1) احتجاج الطبرسي 1: 223.

(2) تفسير الصافي المقدّمة السادسة: 11.

(3) أُصول الكافي 1: 228.

١١٥

وليست كلمتا التأويل والتنزيل تعنيان في ذلك الوقت ما يُراد منهما في اصطلاح علماء القرآن، حيث يُقصد من التأويل حمل اللّفظ القرآني على غير ظاهره والتنزيل خصوص النص القرآني، وإنّما يُراد منهما المعنى اللُّغوي الذي هو في الكلمة الأُولى ما يؤول إليه الشيء ومصداقه الخارجي، وفي الثانية ما أنزله الله وحياً على نبيّه سواء كان قرآناً أو شيئاً آخر.

وعلى أساس هذا التفسير العام للموقف تتضح كثير من الجوانب الأُخرى حيث يمكن أن تحمل الروايات التي أشارت لها الشُبهة على معنىً ينسجم مع هذا الموقف أيضاً، كما فعل العلاّمة الطباطبائي ذلك في بعض هذه الروايات (1) .

وإضافةً إلى ذلك نجد بعض هذه الروايات ضعيفة السند، لا يصحُّ الاحتجاج أو الاعتماد عليها في مقابل ثبوت النص القرآني.

الشبهة الثانية:

إنّ مجموعةً كبيرة من الروايات الواردة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) دلّت على وقوع التحريف في القرآن الكريم، الأمر الذي يجعلنا نعتقد أنّ ذلك كان نتيجةً للطريقة التي تمّ بها جمع القرآن الكريم، أو لأسباب طارئة أُخرى أدّت إلى هذا التحريف.

وتُناقش هذه الشبهة: بأنّ الموقف تجاه هذه الروايات المتعدّدة يتّخذ أُسلوبين رئيسين:

الأوّل:

مناقشة أسانيد وطُرُق هذه الروايات؛ فإن الكثير منها قد تمّ أخذه من كتاب أحمد بن محمّد الباري، الذي تمّ الاتفاق بين علماء الرجال على فساد مذهبه وانحرافه (2) ، وكتاب علي بن أحمد الكوفي الذي رماه علماء الرجال بالكذب (3) .

________________________

(1) المصدر نفسه.

(2) و (3) جامع الرواة 1: 67 و 553.

١١٦

وبعض هذه الروايات وإن كان صحيح السند إلاّ أنّه لا يشكِّل قيمةً كبيرة، وإن كان مجموع هذه الروايات قد يُوجب حصول الاطمئنان - كما يقول السيّد الخوئي - بصدور بعضها عن الإمام (عليه السلام).

الثاني:

مناقشة دلالتها على وقوع التحريف في القرآن بمعنى وقوع الزيادة أو النقيصة، ومن ثمَّ لا يمكن الاستدلال بها حتّى لو تمّ سند بعضها أو التزمنا بالاطمئنان بصدور بعضها إجمالاً فيه.

ومن أجل أن يتّضح الأُسلوب الثاني من المناقشة يجدر بنا أن نقسِّم هذه النصوص إلى أقسامٍ أربعة؛ تبعاً لاختلافها في المضمون وما تطرحه من دعاوى وأحكام.

القسم الأوّل:

النصوص التي جاء التصريح فيها بوقوع التحريف في القرآن الكريم عن طريق استعمال كلمة (التحريف) فيها ووصف القرآن بها؛ ومن هذه النصوص الروايات التالية:

1 - عن أبي ذر قال: لمّا نزلت هذه الآية ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ) (1) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): ترد أُمتي عليّ يوم القيامة على خمس رايات... ثمّ ذكر أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يسأل الرايات عمّا فعلوا بالثقلين فتقول الراية الأُولى:

أمّا الأكبر فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا؛ وأمّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه؛ وتقول الراية الثانية أمّا الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه، وأمّا الأصغر فعاديناه وقاتلناه.

2 - عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى فقال:

(أيّها الناس إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي والكعبة والبيت الحرام، ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام) أمّا كتاب الله فحرفوا، وأمّا الكعبة

________________________

(1) آل عمران: 106.

١١٧

فهدموا وأمّا العترة فقتلوا، وكل ودائع الله قد نبذوا ومنها قد تبرؤا).

3 - عن علي بن سويد قال كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهو في الحبس كتاباً... إلى أن ذكر جوابه (عليه السلام) بتمامه وفيه قوله (عليه السلام): (اؤتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه).

4 - عن عبد الأعلى قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

(إنّ أصحاب العربية يحرّفون كلام الله عزّ وجلّ عن مواضعه).

ولا دلالة في هذه الروايات جميعها على وقوع التحريف في القرآن الكريم بمعنى الزيادة والنقيصة، وإنّما تدل على وقوع التحريف فيه بمعنى حمل بعض ألفاظه على غير معانيها المقصودة لله سبحانه ومن ثمَّ تحريفها عن أهدافها ومقاصدها.

ونحن في الوقت الذي لا نشك بوقوع مثل هذا التحريف في القرآن الكريم من قبل بعض المسلمين عن قصد أو بدون قصد، نظراً لاختلاف تفاسير القرآن وتباينها، لا نرى فيه ما يضر عظمة القرآن أو يفيد في تأييد هذه الشبهة، بل إنّ القرآن في الآية السابعة من آل عمران التي تحدّثت فيها عن المحكم والمتشابه، أشار إلى هذا النوع من التحريف، كما دلّت الرواية التي رواها الكليني في الكافي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رسالته إلى سعد الخير:

(وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يرونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية... ) (1) .

وقد يدل بعضها على تحريف بعض الكلمات القرآنية بمعنى قراءتها بشكل يختلف عن القراءة التي أُنزلت على صدر رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهذا ينسجم مع الرأي الذي ينكر تواتر القراءات السبع ويرى أنها نتيجة لاختلاف الرواية أو الاجتهاد، أو لأسباب أُخرى ذاتية أو مذهبية أو سياسية.

________________________

(1) الروضة من الكافي - رسالة سعد الخير 11: 352 شرح المازندراني، ط: طهران.

١١٨

القسم الثاني:

الروايات التي تدل على أنّ القرآن الكريم قد صرّح بذكر بعض أسماء أئمّة أهل البيت (عليه السلام)، أو تحدّث عن خلافتهم بشكلٍ واضح، ومنها النصوص التالية:

1 - عن محمّد بن الفضيل عن الحسن (عليه السلام) قال:

(ولاية علي بن أبي طالب مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً إلاّ بنبوّة محمّدٍ وولاية وصيِّه صلّى الله عليهما وآلهما).

2 - رواية العيّاشي عن الصادق (عليه السلام)

(لو قُرئ القرآن كما نزل لألفيتنا فيه مسمّين) (1) .

3 - رواية الكافي والعيّاشي عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

(القرآن نزل على أربعة أرباع: ربع فينا وربع في عدوِّنا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام ولنا كرائم القرآن) (2) .

والموقف تجاه هذا القِسم من النصوص يتّخذ أشكالاً ثلاثة:

الأوّل:

إنّنا قد ذكرنا سابقاً أنّ بعض التنزيل ليس من القرآن الكريم، وإنّما هو ممّا أُوحي إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) ولعلّ هذا هو المقصود من هذه الروايات، حيث جاء ذكرهم في التنزيل تفسيراً لبعض الآيات القرآنية لا جزءاً من القرآن الكريم نفسه.

الثاني:

أنّنا نكون مضطرين لرفض هذه الروايات إن لم نوفَّق لتفسيرها بطريقةٍ تنسجم مع القول بصيانة القرآن الكريم من التحريف للسببين التاليين:

أ - مخالفة هذه الروايات للكتاب الكريم، وقد وردت نصوصٌ عديدة من طريق أهل البيت تدل على ضرورة عرض أخبار أهل البيت على القرآن الكريم

________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 13.

(2) المصدر السابق: 9.

١١٩

قبل الأخذ بمضمونها، مثل قول الصادق (عليه السلام):

(الوقوف عند الشُبهة خيرٌ من اقتحام الهلكة، إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) (1) .

ب - مخالفة هذه الروايات للأدلّة المتعدّدة التي تحدّثنا عنها في بحث ثبوت النص القرآني.

الثالث:

أنّ هناك نصوصاً وقرائن تاريخية تدل على عدم ورود أسماء الأئمّة في القرآن الكريم بشكل صريح.

ومن هذه القرائن: حديث الغدير، حيث نعرف منه أنّ الظروف التي أحاطت بقضيّة الغدير تنفي أن يكون هناك تصريح من القرآن باسم عليّ (عليه السلام)، وإلاّ فلماذا يحتاج النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) إلى تأكيد بيعة علي (عليه السلام)، وحشد هذا الجمع الكبير من المسلمين من أجل ذلك، بل لماذا يخشى الرسول الناس في إظهار هذه البيعة إذا كان قد صرّح القرآن بتسميته ومدحه، الأمر الذي أدّى إلى أن يؤكِّد القرآن الكريم عصمة الله له من الناس في قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ... ) (2) .

ومن هذه القرائن أيضاً:

أن التاريخ لم يحدّثنا أنّ عليّاً أو أحداً من أصحابه احتجَّ لإمامته بذكر القرآن لاسمه، مع أنّهم احتجّوا على ذلك بأدلّةٍ مختلفة، ولا يمكن أن نتصوّر إهمال هذا الدليل لو كان موجوداً.

ومن هذه القرائن: هذا النص الذي يتحدّث عن عدم وجود اسم عليّ في القرآن:

________________________

(1) الوسائل 8: 86 الحديث 35، وسيأتي مزيد من التوضيح لهذا الموضوع في التفسير عند أهل البيت (عليهم السلام).

(2) المائدة: 67.

١٢٠