علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207110
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207110 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويحمي حتّى يشعر أنّه يكثر عليه، وقد يفتر عنه بل وينقطع وهو يشعر أنّه أحوج ما يكون إليه.

فقد كان الوحي ينزل على قلبه (صلوات الله عليه) في أحوال مختلفة:

إنّه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفو إغفاءةً حتّى ينهض ويرفع رأسه مبتسماً، فقد أُوحيت إليه سورة الكوثر (الخير الكثير) وإنّه ليكون وادعاً في بيته وقد بقي من الليل ثلثه، فتنزل عليه آية التوبة في الثلاثة الذين خُلِّفوا:

( لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (1) .

إنّ الوحي لينزل على قلب النبيِّ في الليل الدامس والنهار الإضحيان وفي البرد القارس أو لظى الهجير، وفي استجمام الحضر أو أثناء السفر، وفي هدأة السوق أو وطيس الحرب.

ثمّ ها هو ذا الوحي ينقطع عن النبي، وهو أشدّ ما يكون إليه شوقاً وله طلباً، فبعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق:

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) (2)

فتر الوحيُ ثلاثَ سنواتٍ فحزن النبي.

ثمّ حمى الوحيُ وتتابع فاستبشر النبيُّ وتبدَّل انتظاره الحزين فرحةً غامرة، وأيقن أنّ هذا الوحي الذي استعصى عليه ولم يوافه طوع إرادته، مستقلٌّ عن ذاته خارجٌ عن فكره، فاستقرّ في ضميره الواعي أنّ مصدر هذا الوحي هو الله علاّم الغيوب.

ومَن ذا الذي ينسى كيف أبطأ الوحي بعد (حديث الإفك) الذي رمى به

________________________

(1) التوبة: 117 - 118.

(2) العلق: 1.

١٦١

المنافقون زوج النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأثاروا به حولها الفضيحة حتّى عصفت بقلب الرسول الريبة.

من ذا الذي لا يدرك أنّ هذه المدّة التي تصرّمت على الحادثة من غير أن يتلقّى النبيُّ خلالها وحياً، كانت أثقل عليه من سنين طويلة؛ بعد أن خاض المنافقون في زوجه خوضاً باطلاً؟

فما بالُ النبيِّ الذي كان فريسةً للشكِّ والقلق، يظل صامتاً ينتظر واجماً يتربّص حتّى نزلت آيات سورة النور تُبرّئ أمّ المؤمنين؟

وما له لا يُسرِع إلى التدخّل في أمر السماء - إذا كان الوحي نفسيّاً - فيرتدي مسوح الرهبان، ويهيئ الأسجاع ويطلق البخور، ويبرئ زوجه من قذف القاذفين؟

ولقد كان النبيُّ يتحرّق شوقاً إلى تحويل القِبلة إلى الكعبة، وظلّ يُقلِّب وجهه في السماء ستّة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، لعلّ الوحي ينزل عليه بتحويل القِبلة إلى البيت الحرام، ولكنّ ربّ القرآن لم يُنزل في هذا التحويل قرآناً، رغم تلهّف رسوله الكريم إليه، إلاّ بعد قُرابة عامٍ ونصف العام:

( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... ) (1) .

فلماذا لم يُسعَف النبيُّ بوحيٍ عاجلٍ يحقِّق ما يصبو إليه ويتمنّاه؟

إنّ الوحي ينزل ويكثر على محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) حين يشاء ربُّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ويفتر إذا شاء له ربُّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) الانقطاع، فما تنفع التعاويذ والأسجاع، ولا تقدِّم عواطف محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ولا تؤخِّر في أمر السماء.

وين نلتفت إلى هذه الأشكال الثلاثة بصورها المختلفة، ونضيف إليها البُعدين الآخرين السالفين، لا يبقى لدينا مجالٌ لأيّ تردد في شأن حقيقة الظاهرة القرآنية، وانفصالها عن الذات المحمّدية، وبطلان الوحي النفسي وما إليه من شبهات قد تُثار.

________________________

(1) البقرة: 144.

١٦٢

المُحْكَم والمُتشابِه في القرآن

المُحْكَم والمُتشابِه بمعناهما اللُّغوي:

أ - المُحْكَم:

قال صاحب القاموس:

(أحكمه: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد: كحكمه حكماً وعن الأمر رجعه فحكم منعه ممّا يريد كحكمه) (1) .

وقال صاحب لسان العرب:

(أحكمت الشيء فاستحكم: صار محكماً، واحتكم الأمر واستحكم: وثق، ونقل عن الزهري ان حكمت تأتي بمعنى أحكمت) (2) .

وبملاحظة هذين النصّين اللُّغويّين نحصل على النتائج الثلاث التالية في شأن هذه المادّة لغةً:

1 - إنّ (محكم) مشتق من أحكم وحكم.

2 - إنّ (حكم) تأتي بمعنى وثق وأتقن؛فهي ذات معنىً وجودي إيجابي.

3 - إنّ (حكم) تأتي بمعنى المنع من تسرّب الفساد، وهي ذات معنىً عدميٍّ سلبي.

وقد حاول بعض الباحثين في علوم القرآن أن يرجع مادّة الأحكام بمشتقاتها

________________________

(1) القاموس - مادّة (حكمة).

(2) لسان العرب - مادّة (حكم).

١٦٣

المتعددة، كالحكم والحكمة وحكم واحكم وغيرها إلى معنى واحدٍ يجمعها وهو المنع (1) .

ولكنّ المتبادر من مادّة (الأحكام) معنىً وجوديٍّ إيجابي، هو: الإتقان والوثوق، كما يشير إلى ذلك تصريح أهل اللُّغة في تفسير أصل المادّة؛ والمنع من تسرّب الفساد يمكن أن يكون من مستلزمات هذا المعنى الإيجابي (الإتقان) الأمر الذي صحّح استعمال المادّة فيه أيضاً مجازاً، من باب استعمال اللّفظ الموضوع للملزوم في اللاّزم.

ب - المتشابه:

قال صاحب القاموس:

الشِبه (بالكسر والتحريك)... المِثل جمعه: أشباه، وشابَهَه وأشبهه: ماثلهُ، وتشابها واشتبها: أشبه كلٌّ منهما الآخر حتّى التبسا، وأُمور مشتبهة ومشبَّهة كمعظَّمة: مشكلة، والشبهة (بالضم) الالتباس والمثل، وشبه عليه الأمر تشبيهاً: لبّس عليه، وفي القرآن المحكم والمتشابه (2) .

وقال صاحب لسان العرب: الشِّبْهُ والشَّبَهُ والشَّبيْهُ: المِثلُ، والجَمعُ أشباه، وأشبه الشيءُ الشيءَ: ماثله، وأَشْبَهْتُ فلاناً وشابَهْتُهُ واشْتَبَهَ عَلَيَّ وتَشابَهَ الشيئان واشْتَبَها: أَشْبَه كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، والمُشْتَبَهاتُ من الأمور: المشكلات، والمتشابهاتُ: المتماثلات والتشبيه: التمثيل، والشُبْهَة: الالتباس، وأُمورٌ مُشتَبهةُ ومُشَبِّهةٌ: مشكلة يُشْبِهُ بعضُها بعضاً، وشَبَّهَ عَليه: خَلَّطَ عليه الأمر حتّى اشْتَبَهَ بِغَيْرِهِ (3) .

________________________

(1) راجع بهذا الصدد الفخر الرازي، التفسير الكبير 7: 179 والزرقاني، مناهل العرفان 2: 166 ورشيد رضا، تفسير المنار 3: 163.

(2) القاموس: مادّة (شبه).

(3) لسان العرب - مادّة شبه.

١٦٤

وبملاحظة هذين النصّين نجد:

1 - أنّ شابهه وأشبهه بمعنى: ماثله، وكذا تشابه واشتبه، ولكنّهما يدلاّن على وجود الوصف في الطرفين، فهو من قبيل المفاعلة.

2 - أنّ الشبه يأتي بمعنى: المثل، فهو معنىً وجودي ذو طابعٍ موضوعي واقعي، ولكنّه قد يُطلق - في نفس الوقت - على ما يستلزمه أحياناً من (الالتباس) الذي هو من المعاني ذات الطابع الذاتي القائم في عالَم النفس؛ بل قد تُطلق المادّة ويُراد منها خصوص نوع من المماثلة المؤدِّية إلى الالتباس، كما قد يرمي إلى ذلك صاحب القاموس في قوله الآنف:

(وتشابها واشتبها أشبه كلٌّ منهما الآخر حتّى التبسا).

وهذا النوع من الاستعمال نجده في كلِّ مادّةٍ تُطلق على معنىً يقبل الشدّة والضعف، حيث قد يكون أحد مصاديق المعنى مستلزماً وجود شيء آخر.

القرآن مُحكَمٌ ومتشابِه:

لقد جاء في التنزيل وصف جميع القرآن الكريم بأنّه كتابٌ مُحكَم:

( الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ... ) (1) .

وقال بعضهم في قوله تعالى:

( الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ) (2)

إنّ (حكيم) هنا بمعنى مُحكَم (3) .

كما جاء في التنزيل أيضاً وصف جميع القرآن بأنّه كتابٌ مُتشابِه:

( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ... ) (4) .

وفي مقابل هذا الاستعمال الشامل لهذين الوصفين يوجد استعمالٌ آخر لهما في

________________________

(1) هود: 1.

(2) يونس: 1.

(3) لسان العرب: مادة (حكم) 13: 53 ط، دار صادر - بيروت.

(4) الزمر: 23.

١٦٥

التنزيل يطلقهما بشكلٍ يجعل الأحكام مختصّاً ببعض الآيات القرآنية، ويجعل التشابه مختصّاً ببعضٍ آخر منها، كما جاء ذلك في قوله تعالى:

( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) (1) .

ويكاد الباحثون في علوم القرآن يتّفقون على تعيين معنى كلّ من الوصفين في استعمالهما الأوّل الشامل، حيث يجدون أنّ العلاقة التي صحّحت إطلاق وصف الأحكام على الآيات القرآنية كلِّها هي:

ما في القرآن من أحكام النظم وإتقانه، وما فيه من التماسك والانسجام في الأفكار والمفاهيم والأنظمة والقوانين.

كما يجدون أنّ العلاقة التي صحّحت إطلاق وصف (المتشابِه) عليه هي: محض (التماثُل والتشابه) بين بعضه وبعضه الآخر في الأُسلوب والهدف، وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف:

( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (2) .

ولكنّهم اختلفوا منذ البداية حين حاولوا أن يحدّدوا المعنى المراد من هذين الوصفين (المُحْكَم والمتشابِه) في الاستعمال الثاني (الآية السابعة من آل عمران)، الأمر الذي أدّى إلى ولادة علم من علوم القرآن سُمّيَ: بالمُحْكَم والمُتشابِه.

ومن الواضح أنّ البحث حين يدور حول فهم المعنى القرآني المُراد من كلمتَي: المحكم والمتشابِه في هذه الآية الكريمة لا يكون بحثاً اصطلاحيّاً ولا شبيهاً بالمعنى الاصطلاحي - كما هو الحال في البحث عن المُراد بالمكّي والمدني - لأنّه يحاول

________________________

(1) آل عمران: 7.

(2) النساء: 82.

١٦٦

أن يحقّق غايةً موضوعيّةً وهي معرفة ما أراه الله سبحانه من هاتين الكلمتين (1) .

وقد تعدّدت الاتجاهات والآراء في معنى المُحْكَم والمُتشابِه المُراد من هذه الآية، نظراً لاستمرار البحث فيها منذ العصور الأُولى للتفسير، ولأهمّيتها من ناحيةٍ مذهبيّة، حتّى إنّ بعض الباحثين ذكر ستّة عشر رأياً في حقيقة المُحْكَم والمتشابِه.

سوف نكتفي في بحثنا هذا بدراسة الاتجاهات الرئيسة المهمّة منها.

مختارنا في المُحْكَم والمُتشابِه:

وتفرض علينا طبيعة البحث: أنْ نذكر الرأي الصواب في تحديد معنى هاتين الكلمتين؛ ليتّضح - في ضوئه - مدى صحّة بقيّة الاتجاهات وانسجامها مع المدلول اللُّغوي والمحتوى الفكري للآية الكريمة.

وبهذا الصدد يجدر بنا أن نستذكر تقسيماً تعرّضنا له في بحوثنا السابقة، وهو أنّ التفسير تارةً: يكون للّفظ، وذلك بتحديد مفهومه اللُّغوي العام الذي وُضع له اللّفظ؛

وأُخرى: يكون للمعنى، وذلك بتجسيد ذلك المعنى في صور معيّنة ومصداق خاص.

وعلى أساس هذا التقسيم نتصوّر التشابه المقصود في الآية الكريمة ضمن نطاق التشابه في تجسيد صورة المعنى وتحديد مصداقه الواقعي الموضوعي، لا في نطاق التشابه في العلاقة بين اللفظ ومفهومه اللُّغوي (المعنى)، وسواء في هذا النفي التشابه الذي يكون بسبب الشك في أصل وجود العلاقة بين اللّفظ والمفهوم اللّغوي (المعنى)، كما إذا تردّد اللّفظ في استعماله بين معنيين أو أكثر قد وُضع اللّفظ لهما، أو التشابه الذي يكون بسبب الشك في طبيعة هذه العلاقة، كما إذا عرفنا بوجود العلاقة بين اللّفظ وأكثر من معنى، ولكن تردّد اللّفظ بينهما للتردّد في

________________________

(1) قارن بهذا ما ذكره الزرقاني في مناهل العرفان 2: 166.

١٦٧

استعماله بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

وهذا التفسير للتشابه لا نتبنّاه على أساس عدم صلاحيّة كلمة التشابه بحدودها اللُّغوي لاستيعاب هذا اللّون من التشابه اللُّغوي، وإنّما نقرِّر ذلك على أساس وجود قرينة خاصّة في الآية الكريمة، تجعلها تأبى الانفتاح على هذا اللّون من التشابه.

وهذه القرينة هي ما نستفيده من قوله تعالى: ( ... فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ... ) (1) .

فإنّ مفهوم (الإتّباع) المستفاد من هذه الفقرة لا ينطبق إلاّ في حالة ما إذا كان للّفظ مفهومٌ لغوي يكون أخْذه والعمل به إتّباعاً له؛ إذ ليس من اتّباع الكلام - أي كلام - أن نأخذ بأحد معانيه المشتركة أو المرددة إذا لم يكن له ظهور فيها، وإنّما يكون هذا العمل من اتّباع الهوى والرأي الشخصي في تعيين المعنى؛ لأنّ الكلام لا يعيّنه.

وحين نلاحظ استعمال كلمة الإتباع في مجالٍ آخرٍ نجد هذا الاستنساخ أمراً واضحاً فنحن نعرف وجود نصوصٍ كثيرةٍ تأمرنا بضرورة اتّباع القرآن الكريم والسنّة النبويّة والتمسّك بهما.

فهل نتوهّم فيمن يأخذ بأحد المعاني المشتركة للفظٍ خاصٍّ ورد في الكتاب الكريم أو في السنّة النبويّة أنّه متّبِعٌ للكتاب والسنّة؟

أو لابُدّ لانطباق هذا المفهوم في حقّه من الأخذ بالمعنى الذي يكون للنص ظهورٌ فيه؟

ولا شكّ بتعيين الشِّق الثاني.

إذاً فالتشابه المقصود في الآية الكريمة نوعٌ خاص، لا بُدّ فيه أن يكون قابلاً للاتّباع، وهذه القابليّة تنشأ من عامل وجود مفهوم لغوي معيّن للّفظ يكون العمل به اتّباعاً له.

فالتشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللّفظ ومفهومه

________________________

(1) آل عمران: 7.

١٦٨

اللُّغوي؛ لأنّنا فرضنا أن يكون للّفظ مفهومٌ لغوي معيّن، وإنّما ينشأ من ناحيةٍ أُخرى وهي الاختلاط والتردّد في تجسيد الصورة الواقعية لهذا المفهوم اللُّغوي المعيّن، وتحديد مصداقه في الذهن من ناحيةٍ خارجيّة.

فحين نأتي إلى قوله تعالى:

( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (1)

نجد للفظ الاستواء مفهوماً لُغويّاً معيّناً اختص به، وهو الاستقامة والاعتدال مثلاً، وليس هناك أي تشابه بينه وبين معنىً آخر في علاقته باللّفظ، فهو كلامٌ قرآنيٌّ قابلٌ للاتّباع ولكنّه متشابِه، لما يوجد فيه من التردد في تحديد صورة هذا الاستواء من ناحيةٍ واقعيّة، وتجسيد مصداقه الخارجي بالشكل الذي يتناسب مع الرحمن الخالق الذي ليس كمثله شيء.

وحين نفهم المتشابِه بهذا اللّون الخاص لا بُدّ لنا أن نفهم المُحْكَم على أساس هذا اللّون الخاص أيضاً، وهذا شيءٌ تفرضه طبيعة جعل المُحْكَم في الآية مقابلاً للمتشابِه، فليس المُحكَم ما يكون في دلالته اللُّغوية متعيّن المعنى والمفهوم فحسب، بل لا بُدّ فيه من التعيين في تجسيد صورته الواقعية وتحديد مصداقه الخارجي؛ ففي قوله تعالى:

( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... ) (2)

نجد الصورة الواقعية لهذا المفهوم متعيّنة، فهو ليس كالإنسان ولا السماء ولا كالأرض ولا كالجبال.. إلى آخره من الأشياء.

(فالمُحْكَم) من الآيات ما يدل على مفهوم معيّن، لا نجد صعوبةً أو تردداً في تجسيد صورته أو تشخيصه في مصداق معيّن.

و(المُتشابِه) ما يدل على مفهوم معيّن تختلط علينا صورته الواقعية ومصداقه الخارجي.

________________________

(1) طه: 5.

(2) الشورى: 11.

١٦٩

الاتجاهات الرئيسة في المُحْكَم والمُتشابِه:

أ - اتجاه الفخر الرازي:

الاتجاه الأوّل: إنّ المُحْكَم هو ما يُسّمّى في عُرف الأُصوليّين بالمُبيّن، والمتشابِه ما يسمى في عرفهم بالمُجْمَل؛ وقد جاءت صياغة هذا الاتجاه بأساليب مختلفة، ولعلّ ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير: هو أوضح صياغةٍ وأوفاها بالمقصود؛ قال:

(اللّفظ الذي جُعل موضوعاً لمعنى، فأمّا أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى، وأمّا أن لا يكون، فإذا كان اللفظ موضوعاً لمعنى ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص، وأمّا إن كان محتملاً لغيره فلا يخلو:

إمّا أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، وإمّا أن لا يكون كذلك، بل يكون احتماله لهما على السواء، فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر سُمّيَ ذلك اللّفظ بالنسبة إلى الراجح (ظاهراً) وبالنسبة إلى المرجوح (مؤّولاً)، وأمّا إن كان احتماله لها على السويّة كان اللّفظ بالنسبة إليهما معاً (مشتركاً) وبالنسبة إلى كلّ واحدٍ منهما على التعيين (مُجْمَلاً) فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أنّ اللّفظ إمّا أن يكون (نصّاً) أو (ظاهراً) أو (مؤّولاً) أو مشتركاً) أو (مُجملاً).

أمّا (النص) و(الظاهر) فيشتركان في حصول الترجيح، إلاّ أنّ النص راجحٌ مانعٌ من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدْر المشتَرك هو المسمّى (بالمُحْكَم).

وأمّا المُجْمل والمؤّول فهما مشتركان في أنّ دلالة اللّفظ عليه غير راجحةٍ وإن لم يكن راجحاً لكنّه غير مرجوح، والمؤّول مع أنّه غير راجحٍ فهو مرجوحٌ لا بحسب الدليل المنفرد (1) ، فهذا القدْر المشتَرك هو المُسمّى (بالمتشابه) لأنّ عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً.

________________________

(1) يُقصد بالدليل المنفرد: الدليل والقرينة الخارجيّة المنفردة عن الكلام واللّفظ.

١٧٠

وقد بينّا أنّ ذلك يسمّى متشابِهاً، إمّا لأنّ الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإمّا لأجل أنّ الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم، فأطلق لفظ المتشابِه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبّب) (1) .

ويمكن أن نُلخِّص رأي الرّازي بالشكل التالي:

اللّفظ بحسب دلالته على المعنى ينقسم إلى أربعة أقسام:

أ - النص:

هو ما كانت دلالته على المعنى بالشكل الذي لا تفسح مجالاً لاحتمال معنىً آخر.

ب - الظاهر:

وهو ما كانت دلالته على المعنى بشكلٍ راجحٍ مع احتمال معنىً آخر.

ج - (المشترك) و(المُجْمل):

وهو ما كان دالاًّ على معنيين بشكلٍ متساوٍ.

د - المؤّول:

وهو ما كان دالاًّ على المعنى بشكلٍ مرجوح، فهو عكس الظاهر.

و(المُحكَم):

ما كانت دلالته على المعنى من القسم الأوّل والثاني لوجود الترجيح فيهما.

و(المتشابِه):

ما كانت دلالته على المعنى من القِسم الثالث والرابع؛ لاشتراكهما في أنّ دلالة اللّفظ فيهما غير راجحة، وإنّما سُمِّيا متشابهاً لعدم حصول فهم المعنى فيهما.

ويمكن أن نلاحظ على هذا الاتجاه بالملاحظتين التاليتين:

1 - إنّنا انتهينا من دراستنا الآية الكريمة إلى ضرورة الالتزام بأنّ المتشابِه المقصود فيها هو: التشابه في تجسيد صورة المعنى، وتحديد مصداقه، لا التشابه في علاقة اللّفظ بالمعنى، بقرينة أخذ مفهوم الإتباع في المتشابِه، وهو لا يتحقّق في موارد الإجمال اللّغوي.

________________________

(1) الفخر الرّازي: التفسير الكبير 7: 180.

١٧١

2 - وحين نساير الفخر الرّازي، ونتصوّر التشابه بسبب علاقة اللّفظ بالمعنى، لا نجد هناك ما يُبرِّر حصر نطاق التشابه في هذه العلاقة فحسب، بل يمكننا أنْ نتصوّر سبباً آخر للتشابه وهو: التشابه بسبب تجسيد صورة المعنى وتحديد مصداقه.

والفخر الرّازي بتقسيمه السابق يحاول أن يغلق علينا هذا الطريق، حيث لا يتصوّر التشابه إلاّ من زاوية علاقة اللّفظ بالمعنى، مع أنّه يمكن أن يتصوّر أيضاً في علاقة المعنى بتشخيص مصاديقه الواقعية.

ب - اتّجاه الراغب الأصفهاني:

الاتجاه الثاني الذي ذهب إليه الراغب الأصفهاني وهو:

إنّ المتشابِه ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، سواء كان الإشكال من جهة اللّفظ أو من جهة المعنى.

وقد ذكر الراغب تفاصيل طويلة في شرح هذا الاتجاه قال:

(فالمتشابِه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابِه من جهة اللّفظ فقط ومتشابِه من جهة المعنى فقط ومتشابِه من جهتهما. والمتشابِه من جهة اللّفظ ضربان:

أحدهما: يرجع إلى الألفاظ المفردة، وذلك إمّا من جهة غرابته، نحو الأب ويزفّون، وإمّا من جهة مشاركةٍ في اللّفظ، كاليد والعين.

والثاني: يرجع إلى جملة الكلام المركّب، وذلك ثلاثة أضرب:

- ضرب لاختصار الكلام نحو:

( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء... ) (1) .

- وضرب لبسط الكلام نحو:

( ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... ) (2) ؛ لأنّه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع.

- وضرب لنظم الكلام نحو:

( ... أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا* قَيِّماً... ) (3) تقديره

________________________

(1) النساء: 3.

(2) الشورى: 11.

(3) الكهف: 1 و 2.

١٧٢

الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عِوَجاً وقوله: ( ... وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ... ) (1) إلى قوله: ( ... لَوْ تَزَيَّلُوا... ) .

والمتشابِه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة؛ فإنّ تلك الصفات لا تتصوّر لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسّه أو لم يكن من جنس ما نحسّه.

والمتشابِه من جهة المعنى واللّفظ جميعاً خمسة أضرب:

الأوّل:

من جهة الكمّيّة، كالعموم والخصوص، نحو: ( ... فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ... ) (2) .

والثاني:

من جهة الكيفيّة، كالوجوب والندب، نحو: ( ... فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم... ) .

والثالث:

من جهة الزمان: كالناسخ والمنسوخ نحو: ( ... اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ... ) (3) .

والرابع:

من جهة المكان والأُمور التي نزلت فيها نحو: ( ... وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا... ) (4) . وقوله: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ... ) (5) . فإنّ من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذّر عليه معرفة تفسير هذه الآية.

والخامس:

من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد، كشروط الصلاة والنكاح. وهذه الجملة إذا تصورت علم أنّ كل ما ذكره المفسِّرون في تفسير المتشابِه لا يخرج عن هذه التقاسيم (6) .

ويُلاحظ على هذا الاتجاه بالملاحظة الأُولى التي ذكرناها في مناقشة الاتجاه الأوّل، ولكنّه يتفادى الملاحظة الثانية حيث ينفتح على تصوّر التشابه بسبب المعنى، بغضِّ النظر عن اللّفظ وعلاقته بالمعنى.

________________________

(1) الفتح: 25.

(2) التوبة: 5.

(3) آل عمران: 102.

(4) البقرة: 189.

(5) التوبة: 37.

(6) مفردات الراغب الأصفهاني: مادّة شبه.

١٧٣

ج - اتجاه الأصم:

الاتجاه الثالث: المُحْكَم من الآيات ما كان دليله واضحاً لائحاً، كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة.

والمتشابِهات ما يحتاج في معرفتها إلى تأمّلٍ وتدبّرٍ وقد نسب الفخر الرّازي هذا الاتجاه إلى أصم (1) .

ويُلاحَظ على هذا الاتجاه:

أنّه يُرجِع الأحكام والتشابه إلى عاملٍ خارجي لا ينبع من نفس الكتاب الكريم، وهذا العامل الخارجي هو مدى وضوح الدليل وخفائه على متبنّيات القرآن الكريم ومفاهيمه، في الوقت الذي تدل الآية الكريمة على أنّ الأحكام والتشابه ينشآن من عاملٍ داخلي يرتبط بالكتاب نفسه، ولذلك ينفتح مجال استغلال اتّباع المتشابِه في الفتنة.

وحين يكون الدليل على إحدى دعاوى القرآن الكريم غير واضحٍ على سبيل الفرض لا يكون استغلاله اتّباعاً للقرآن ابتغاء الفتنة، وإنّما يكون نقداً للقرآن الكريم نفسه.

أضف إلى ذلك أنّه على أساس هذا التفسير للمُحْكَم لا يمكننا أن نفهم المحكَم على أنّه أُمّ الكتاب، بعد أن كان الدليل الخارجي هو العامل في الاتقان والوثوق لانفس الآية الكريمة.

د - اتجاه ابن عبّاس:

الاتجاه الرابع: إنّ المُحْكَم ما يُؤمَن به ويُعمل به، والمتشابِه ما يُؤمَن به ولا يُعمل به؛ وقد صيغ هذا الاتجاه بأساليب مختلفة نُسب بعضها إلى ابن عباس، وبعضها إلى ابن تيمية (2) وقد ورد هذا التفسير للمُحكَم والمتشابِه في بعض النصوص المرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام) (3) .

________________________

(1) الفخر الرّازي، التفسير الكبير 7: 172.

(2) العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 33.

(3) تفسير العيّاشي 1: 11، الحديث 6.

١٧٤

ولعلّ هذا الاتجاه يقوم على أُسس فهم حرمة العمل بالمتشابِه من الآية الكريمة، ولزوم الإيمان به فحسب، بخلاف المُحْكَم فإنّه ممّا يُؤمَن به ويُعْمَل به أيضاً.

وقد لاحظ العلاّمة الطباطبائي على هذا الاتجاه بأنّه لا يقوم بتحديد معنى المُحْكَم والمتشابِه - كما هو المقصود - وإنّما يبيّن حكماً من أحكامها، وهو لزوم الإيمان والعمل معاً بالمُحْكَم والإيمان فقط بالمتشابِه.

ونحن بحاجةٍ إلى تعيين معنى كلِّ واحدٍ من المُحْكَم والمتشابِه في المرحلة الأُولى ليمكن ترتيب الأثر عليهما، لنعمل بالأوّل ونكتفي بالإيمان بالثاني (1) .

ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنّ الآية الكريمة لا تمنع من العمل بالمتشابِه، وإنّما تحرّم اتباع المتشابِه بقصد الفتنة والتأويل، دون العمل به بعد إرجاعه إلى المُحكَم.

ولعلّ هذا هو المقصود من حرمة العمل بالمتشابِه، أي حرمة العمل به وحده دون إرجاعه إلى المُحْكَم.

هـ - اتجاه ابن تيمية:

الاتجاه الخامس: إنّ المُتشابِه هو آيات الصفات خاصّة، أعمّ من صفات الله سبحانه : كالعليم والقدير والحكيم والخبير.

وصفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم (عليهما السلام) : ( ... وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ... ) (2) .

وما يشبه ذلك (3) .

ويكاد ينهج الاتجاه الخامس المنهج الذي سار عليه الاتجاه الرابع، حيث لا يعطينا تحديداً معيّناً للمُحْكَم والمُتشابِه، وإنّما يعرفنا على المتشابِه من خلال ذكر بعض مصاديقه وأمثلته كالصفات.

أضف إلى ذلك أنّه لا مُبرر لحصر المتشابه في الصفات دون غيرها في الوقت

________________________

(1) العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 36.

(2) النساء: 171.

(3) العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 36.

١٧٥

الذي نجد أنّ أكثر المفاهيم التي تتحدّث عن عوالم يوم القيامة تشترك مع الصفات في التشابه، وكذلك بعض المفاهيم التي تتحدّث عن عالَم الغيب بشكلٍ عام، مع أنّها ليست من الصفات في شيء، على أنّ التشابه في صفات الأنبياء إنّما كان بسبب إضافة هذه الصفة إلى الله سبحانه، كما في الآية الكريمة، وأمّا صفة النبي باعتباره إنساناً فليس فيها تشابه.

و - اتجاه العلاّمة الطباطبائي (قُدِّس سرّه):

الاتجاه السادس: ما تبنّاه السيّد الطباطبائي (قُدِّس سرّه) في تفسيره (الميزان) بعد أن ناقش الاتجاهات المختلفة في تحديد معنى المُحْكَم والمُتشابِه قال:

(إنّ الذي تعطيه الآية في معنى المتشابِه أن تكون الآية - مع حفظ كونها آية - دالّة على معنىً مُريبٍ مردّد، لا من جهة اللّفظ بحيث تعالجه الطُرق المألوفة عند أهل اللِّسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصّص والمقيّد ونحو ذلك، بل من جهة كون معناها غير ملائمٍ لمعنى آيةٍ أُخرى لا ريب فيها تبيّن حال المتشابِه) (1) .

وقال في موضعٍ آخر:

(إنّ المُراد بالتشابه كون الآية لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها، بل يتردّد بين معنى ومعنى، حتّى يرجع إلى مُحْكَمات الكتاب فتعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً، فتصير الآية المتشابِهة عند ذلك مُحْكَمة بواسطة الآية المُحْكَمة، والآية المُحْكَمة مُحْكَمة في نفسها) (2) .

ويمكننا أن نوضّح رأي العلاّمة الطباطبائي في هذا البحث بالنقاط التالية:

1 - إنّ التشابه لا ينشأ من دلالة اللّفظ على المعنى، حيث يجب أن تكون الآية المتشابهة دالّة على معنىً معيّنٍ عرفي.

ويستند هذا الالتزام إلى أنّ التشابه في الآية الكريمة أخذ بالشكل الذي يمكن

________________________

(1) العلاّمة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 40.

(2) المصدر السابق 3: 19.

١٧٦

استغلاله في مجال الفتنة، وإذا لم يكن اللّفظ له ظهور في معنىً معيّن لا يمكن استغلاله في مجال الفتنة، حيث (جرى دأب أهل اللِّسان في ظرف التفاهم أن (لا يتبعوا) ما هذا شأنه من الألفاظ، فلم يقدم على مثله أهل اللِّسان، سواء في ذلك أهل الزَّيغ منهم والراسخون في العلم) (1) .

2 - أن تكون الآية المتشابِهة دالّة على معنىً يعارض مع مدلول آيةٍ أُخرى غير مُريب وهي الآية المُحْكَمة، ويستند هذا الالتزام إلى أنّ الآيات المُحْكَمة هي أُمّ الكتاب، وتعني الأُمومة هذه حل التشابه عند الرجوع إلى المُحْكَمات بالشكل الذي يتعيّن به مدلول الآية المتشابِهة على ضوء مدلول الآية الأُخرى المُحْكَمة، وهذا لا يتحقّق إذا لم يكن تعارض بين الآيتين (2) .

3 - أن يكون المعنى المدلول للآية المتشابِهة مردّداً ومُريباً.

ويستند هذا الشرط إلى ضرورة وجود المقياس الذي نرجع إليه في معرفة الآية المُحْكَمة الأُمّ من الآية المتشابِهة التي نرجع إليها - بعد وجود التعارض بينهما - وهذا المقياس هو ريب المعنى في المتشابِه واستقراره في المُحْكَم.

4 - إنّ ظاهر الآية (السابعة من آل عمران) هو انقسام الآيات القرآنية بشكل استيعابي إلى المُحْكَم والمُتشابِه بحيث تنعدم الواسطة (3) .

ويمكننا أن نُلاحظ على هذا الاتجاه بعدّة ملاحظات:

فأوّلاً:

نجد هذا الاتجاه غير قادر على تحديد الموقف تجاه الآيات التي تكون دالّةً على معنىً مُردّدٍ بين معنىً مُريبٍ ومعنىً غير مُريب؛ لأنّ هذه الآيات لا تكون واجدةً لميزان المتشابِه لفقدانها الظهور اللّفظي، كما أنّها غير مُحْكَمة لما فيها من

________________________

(1) المصدر السابق 3: 33.

(2) المصدر السابق: 43.

(3) المصدر السابق 2: 32.

١٧٧

التردُّد في الدلالة على المعنى.

وحين يعجز الاتجاه عن تحديد موقفه من هذه الآيات نجد النقطة الرابعة غير واردةٍ في المُحْكَم والمتشابِه؛ وقد يتشبّث هذا الاتجاه بالمذهب الذي يقول بضرورة أن تكون جميع الآيات القرآنية ظاهرةً في معانٍ معيّنة، على أساس أنّ القرآن الكريم كتاب هدىً ونورٍ مبين، وحينئذٍ فلا يبقى مجالٌ لمثل هذه الفرضيّة في آيات القرآن الكريم.

ولكنّ هذه الضرورة القرآنية إنّما يُلتزم بها في الحدود التي تقول بعدم وجود آية قرآنية غامضة بشكلٍ مطلق، بحيث لا يوجد في القرآن ما يوضّحها ويفسّرها، وإلاّ فمن الممكن الالتزام بوجود آيات قرآنية مجمَلة الدلالة - من ناحية مفهومها اللُّغوي - مع الالتزام بوجود ما يوضّحها في القرآن الكريم نفسه، وهذا الالتزام لا يزيد عن الالتزام - من حيث الروح - عن الالتزام الذي آمن به هذا الاتجاه بأن يكون اللّفظ ظاهراً في معنىً مُريبٍ يفسّره المُحْكَم.

وبعد هذا لا مجال لادّعاء أنّ الآية المتشابِهة لا بُدّ وأن تكون ظاهرةً في معنى، إذ يكشف هذا عن التزامٍ غريب من القرآن الكريم يتلخّص في أنّه كلّما أراد معنىً غير مُريبٍ من لفظٍ غير ظاهرٍ فيه يستعمل لفظاً ظاهراً في معنىً مُريب، ويكشف عن إرادته للمعنى غير المريب بواسطة المُحكم، دون أن يستعمل اللّفظ في معنىً مردّد بين المريب وغير المريب، ويكشف عن هذا التردّد بواسطة المحكم.

وثانياً:

إنّ هذا الاتجاه يلتزم بضرورة قيام الآية المُحْكَمة بدور إحكام الآية المتشابِهة بعد إرجاعها إليها، مع أنّ الآية المُحْكَمة لا تقوم إلاّ بدور تضييق نطاق تصوّر المعنى في الآية المتشابِهة، في ضوء ما تعطيه الآية المُحكمة من معنى، لا أن تجعل من الآية المتشابِهة آية مُحكمة، بشكلٍ تتحدّد صورة معناها ويتجسّد مصداقه.

١٧٨

إذ يكفي في صدق مفهوم الإحكام على الآية أن تقوم بدور الوقاية من تسرّب صور ومصاديق المعاني الباطلة إلى المعنى المتشابِه، وهذا يكون في بعض الأحيان نتيجةً طبيعية لتصورنا للمُحْكَم والمتشابِه، حيث أخذناه على أساس التشابه في تحديد صورة المعنى ومصداقه، لا في تحديد مدلول اللّفظ ومعناه.

وبهذا نجد الفرق بين إحكام القرينة اللّفظية لذي القرينة بشكلٍ يجعله مختصّاً بمعنىً خاص، وبين إحكام الآية المُحكَمة للآية المتشابِهة، مع أنّنا نتصوّر هذا الشيء في القرينة اللّفظية أيضاً.

وثالثاً:

إنّ هذا الاتجاه يلتزم بضرورة التعارض المفهومي بين المُحكَم والمتشابِه - كما جاء في النقطة الثانية - في الوقت الذي عرفنا أنّ الآية المتشابِهة لا تدل على مفهومٍ لُغويٍّ باطل، ليلتزم بتعارضه مع المفهوم اللُّغوي للآية المُحكمة، وإنّما ينشأ الزَّيغ من محاولة تأويل الآية المتشابِهة الذي يعني تجسيدها في مصداقٍ معيّن وصورةٍ محدّدة، الأمر الذي يفرض علينا الرجوع إلى المُحكم في محاولة تحديده وتجسيده.

وهذا الشيء هو الذي يستفاد من معنى الآية الكريمة حيث إنّ الآية المتشابِهة لو كانت دالّة - بحسب ظهورها - على معنىً باطل لكان مجرّد اتباعه زيغاً دون محاولة تأويل، مع أنّ الآية تقول: إنّهم يتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

ونخلص من مجموعة هذه الآراء والمناقشات إلى تلخيص الرأي المختار بالنقاط التالية:

1 - إنّ الآية المتشابِهة لا بُدّ وأن تكون ذات ظهور خاص في معنى لُغوي معيّن، بقرينة قوله تعالى: ( فَيَتَّبِعُونَ ) .

2 - إنّ المعنى الذي تدلّ عليه الآية المتشابِهة لا يكون بمفهومه اللُّغوي باطلاً وإنّما يكون صحيحاً، والفتنة والزَّيغ إنّما يكونان بمحاولة تجسيده في صورةٍ

١٧٩

ومصداقٍ باطلين.

3 - إنّ التشابه إنّما يكون في المعنى نفسه؛ وذلك بتحديد صورة المعنى وتجسيد مصداقه، لا في علاقة المعنى باللّفظ، والإحكام ما يكون قِبال هذا التشابه، بأن تكون صورة المعنى المُحْكَم محدّدة ومصداقه الواقعي مجسّداً، بشكلٍ يستقرّ إليه القلب ولا يتردّد فيه.

فأيّ معنى قرآني إذا لاحظناه:

فإن كنّا نتردّد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه فهو معنىً مُتشابه، والآية التي تتضمّنه آيةٌ متشابهة.

وإن كنّا لا نتردّد في تحديد صورته وتجسيد مصداقه، وإنّما يركن القلب والعقل إلى صورةٍ واضحةٍ ومصداقٍ معيّن فهو معنىً مُحْكَم، والآية التي تتضمّنه آيةٌ مُحْكَمة.

الحكمة في وجود المتشابِه في القرآن الكريم:

لقد تعرّض الباحثون في علوم القرآن لهذا البحث، وذكروا لإثارته سببين:

الأوّل:

إنّ القرآن الكريم كتاب هدايةٍ ونور مُبين، ووجود المُتشابِه فيه لا يتّفق مع هذه الحقيقة؛ لأنّ المُتشابِه لا يعلمه إلاّ الله والراسخون في العلم.

الثاني:

ما أشار إليه الفخر الرّازي ونَسَبه إلى الملاحدة: إنّ وجود المتشابِه في القرآن كان سبباً لاختلاف المذاهب والآراء، وتمسّك كلّ واحدٍ منها بشيءٍ من القرآن بالشكل الذي ينسجم مع متبنّياته؛ وهذا يناقض الأهداف التي جاء من أجلها القرآن الكريم.

ولذا عمل الباحثون في علوم القرآن على استكشاف وجوه الحكمة في وجود المتشابِهات في القرآن، وعلى هذا الأساس ذكرت وجوه متعدّدة ومختلفة تتأرجح

١٨٠