علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207000
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207000 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عن التوحيد) (1) .

وبعد هذا كلّه، لا نجد مجالاً للتشكيك في فكرة البداء، إذا أخذناها في حدود فكرة النّسْخ مطبقةً على التكوين، ولا يكون اتّهام الإماميّة بالانحراف لأنّهم قالوا بهذه الفكرة، إلاّ شبيهاً بالاتهام الذي وجّهه اليهود والنصارى إلى عامّة المسلمين؛ لأخذهم بفكرة النّسْخ.

النّسْخ في الشريعة الإسلامية:

وأمّا النّسْخ في الشريعة الإسلامية فهو أمرٌ ثابتٌ لا يكاد يشكّ فيه أحدٌ من علماء المسلمين، سواء في ذلك ما كان نَسْخاً لأحكام الشرائع السابقة، أو ما كان نسْخاً لبعض أحكام الشريعة الإسلامية نفسها، ومن هذه النّسخ ما صرّح به القرآن الكريم، حيث نَسَخ حكم التوجّه في الصلاة إلى القِبلة الأُولى وأمر بالتوجّه شطْر المسجد الحرام، ولكن مع ذلك نجد النّسْخ مثاراً للخلاف في علوم القرآن؛ حيث وقع الجدال في أنّ شيئاً من الأحكام الثابتة في القرآن الكريم منسوخ بالقرآن الكريم نفسه أو بالسنّة النبويّة المتواترة.

وهذا الخلاف جاء على صياغتين:

الأُولى:

الخلاف الذي أثاره أبو مسلم الأصفهاني المتوفى سنة (322 هـ) حيث ذهب - على أحسن الاحتمالات في كلامه - إلى عدم جواز وقوع النّسْخ في القرآن الكريم، مستدلاًّ على ذلك بقوله تعالى في وصف القرآن:

( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (2) .

فهذه الآية تقول:

إنّ القرآن لا يعتريه البطلان، ولمّا كان النّسْخ إبطالاً لما في

________________________

(1) كتاب الغيبة: 430، مؤسسة المعارف الإسلامية.

(2) فصلت: 42.

٢٠١

الآية من حكمٍ فهو لا يرد على القرآن الكريم، ولكنّ هذه الآية الكريمة لا يمكن أن تكون دليلاً لمذهب أبي مسلم؛ لأنّ النّسْخ ليس باطلاً حتّى يكون وروده على القرآن الكريم خلافاً لمنطوق الآية، وإنّما هو محض حقٍّ وموافقٌ لواقع الحكمة والمصلحة على أساس ما ذكرناه عن حقيقته؛ وإذا كان النسخ باطلاً فلا نحتاج في رفضه إلى الاستعانة بالآية الكريمة بل يكفي بطلانه سبباً لذلك.

ففكرة أبي مسلم هذه تقوم في الحقيقة على أساسٍ من المغالطة والإيهام، حيث يقصد من الباطل هنا ما يكون قِبالة الحق، سواء في العقيدة أو في النظام أو الأُسلوب البياني، والقرآن الكريم لا يأتيه شيءٌ من الباطل في كلِّ هذه الجوانب، ولا يُقصد منه الإبطال والإزالة اللذين هما بمعنى النّسْخ.

والثانية:

الخلاف الذي أثاره بعض علماء القرآن، حيث ذهبوا إلى عدم وقوع النّسْخ في القرآن الكريم خارجاً، وإن كان لا يوجد مانعٌ عقليٌّ أو شرعي عنه.

ويكاد يقول آية الله السيّد الخوئي (رحمه الله) في كتابه (البيان في تفسير القرآن) بهذا الرأي، حيث ذكر لذلك مناقشةً واسعة، أشار فيها إلى الآيات التي يحتمل فيها النّسْخ، ونقد مبدأ النّسْخ فيها على هدي دراسةٍ علميّةٍ دقيقة - عدا آية النجوى - وخلص إلى الرأي الآنف الذكر.

هل للنّسْخ أقسام؟

ويجدر بنا أن نتعرّف أقسام النّسْخ التي ذكرها الباحثون في علوم القرآن، قبل أن ندخل في البحث التفصيلي حول الآيات المنسوخة؛ وذلك من أجل أن نعرف أيّ قسمٍ منها هو الهدف الرئيس من هذا البحث.

فقد قسّموا النّسْخ إلى ثلاثة أقسامٍ، نوجزها بما يلي:

الأوّل:

نَسْخ التلاوة دون الحُكْم:

ويُقصد بهذا النّسْخ أن تكون هناك آية

٢٠٢

قرآنية نزلت على الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ثمّ نُسخت تلاوتها ونصّها اللّفظي مع الاحتفاظ بما تضمّنه من أحكام.

وقد مثّلوا لهذا القِسم بآية الرّجْم التي رُوي عن عمر بن الخطاب نصُّها:

(إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيم) حيث قيل إنّها كانت آيةً في القرآن الكريم، نُسخت تلاوتها مع الاحتفاظ بحكمها.

وهذا القِسم وإن كاد يعترف به أكثر الباحثين من علماء الجمهور في علوم القرآن، إلاّ أنّه لا يكاد يعترينا الشكُّ ببطلانه وعدم ثبوته في القرآن الكريم عندما ندرسه بشكلٍ موضوعي؛ وذلك لأنّه:

أوّلاً:

نجد أنّ الاعتراف بهذا اللّون من النصوص والروايات التي أوردتها بعض الكتب الصحيحة (السنّيّة) يؤدّي بنا إلى الالتزام بالتحريف؛ لأنّ منطوق هذه الروايات يصرُّ على ثبوت هذه الآية وغيرها في القرآن الكريم حتّى وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وأنّها سقطت منه في المدّة المتأخِّرة من حياته.

وثانياً:

نجد أنّ هذه الروايات لم تصل إلينا إلاّ بطريق الآحاد، ولا يجوز لنا أن نلتزم بالنّسْخ على أساس رواية الآحاد؛ لإجماع المسلمين على ذلك، مضافاً إلى طبيعة الأشياء التي تحكم بضرورة شيوع الأُمور المهمّة بين الناس ومن هذه الأُمور المهمّة نَسْخ آيةٍ من القرآن الكريم؛ فكيف يقتصر النقل فيه على خبر الآحاد؟

الثاني:

نَسْخ التلاوة والحُكْم معاً:

ويُقصد بهذا القِسم أن تكون آية قرآنية ثابتة لفظاً ومعنىً في وقتٍ من أيّام الشريعة، ثمّ تُنسخ تلاوتها ومضمونها.

وقد مثّلوا لهذا القِسْم بآية الرضاعة المرويّة عن عائشة بهذا النص:

(وكان فيما أُنزل من القرآن (وعشر رضعات يحرمن) ثمّ نُسخن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهنّ فيما يُقرأ من القرآن) (1) .

________________________

(1) صحيح مسلم 4: 167.

٢٠٣

ويُناقش هذا القِسم بنفس المناقشتين اللّتين ذكرناهما في القِسم الأوّل من النّسْخ.

الثالث:

نَسْخ الحكم دون التلاوة:

ويُقصد به النّسْخ الذي ينصبُّ على جانب المضمون في الآية القرآنية، مع الاحتفاظ بصياغتها وطريقة التعبير فيها.

وهذا القِسم هو ما اشتهر بين العلماء والمؤلِّفين، حتّى ألّفوا كتباً مستقلّةً فيه.

والنّسْخ في هذا القِسم يمكن أن نتصوّره على أنحاء ثلاثة:

أ - أن يُنسخ الحكم الثابت في القرآن الكريم بالسنّة المتواترة أو بالإجماع القطعي الذي يكشف عن صدور النّسْخ من المعصوم.

ب - أن يُنسخ الحُكْم الثابت في القرآن الكريم بآيةٍ أُخرى من القرآن، ناظرة في طريقة عرضها وبيانها إلى الحكم المنسوخ؛ وهذان النحوان لا إشكال فيهما من ناحيةٍ واقعيّة، وإن كان الشكُّ في وقوعهما بحسب الخارج.

ج - أن يُنسخ الحكم الثابت بالقرآن الكريم بآيةٍ أُخرى، غير ناظرة إلى الحكم المنسوخ ولا مبيِّنة لرفعه وإنّما يلتزم بالنّسْخ على أساس التعارض بين الاثنين، فيلتزم بنسخ الآية المتقدّمة زماناً بالآية المتأخِّرة.

وقد ناقش السيّد الخوئي (رحمه الله) في جواز هذا النحو من النّسْخ على أساس أنّه يتنافى ومنطوق الآية القرآنية التي تقول:

( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (1) .

وحين يقع التنافي بين الآيتين يتحقّق هذا الاختلاف الذي نفاه الله سبحانه عن القرآن، ولا تنفع لتفادي الاختلاف دعوى النّسْخ؛ لأنّ مثل هذه الدعوى يمكن أن تُقال في كلّ اختلافٍ يقع في كلام غير الله سبحانه.

وإضافةً إلى هذه المناقشة نجد السيّد الخوئي (رحمه الله) يكاد يذهب إلى أنّه ليس هناك

________________________

(1) النساء: 82.

٢٠٤

حكمٌ ثابتٌ في القرآن الكريم منسوخ بشيءٍ من القرآن ولا بغيره.

ونحن وإن كنّا نختلف مع أُستاذنا السيّد الخوئي (رحمه الله) في بعض الجوانب التي جاءت في مناقشته هذه، وقد نختلف معه من ثمَّ في شمول مبدئه للآيات القرآنية كلّها، ولكنّنا سوف نقتصر في دراستنا هذه على مناقشة بعض الآيات بالطريقة التي سار عليها تقريباً.

نماذج من الآيات التي أُدّعي نَسْخها مع مناقشاتها:

الآية الأُولى:

قوله تعالى:

( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (1) .

وقد روى جماعةٌ من الصحابة والتابعين وغيرهم (2) القول بأنّها آيةٌ منسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى:

( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (3) .

فإنّ الآية الأُولى تأمر بالعفو والصفح عن أهل الكتاب، مع أنّهم يودّون من صميم قلوبهم أن يردّوا المؤمنين كفاراً، والآية الثانية تأمر بقتال أهل الكتاب حتّى يُعطوا الجِزْية عن يدٍ وهم صاغرون، ولمّا كانت الآية الثانية متأخِّرةً عن الآية الأُولى كان الالتزام بنَسْخ آية السيف لآية سورة البقرة أمراً لا مناص منه.

________________________

(1) البقرة: 109.

(2) تفسير مجمع البيان 1: 185.

(3) التوبة: 29.

٢٠٥

وقد ناقش السيّد الخوئي (رحمه الله) القول بالنّسْخ هذا بمناقشتين:

الأُولى:

أنّه لا يمكن القول بنَسْخ الآية بالآية الثانية بعد أن كان الحكم في الآية المدّعى نسخها له غاية ووقت، وهما وإن كانا مذكورَين فيها على سبيل الإجمال لا التعيين إلاّ أنّ هذا المقدار يكفي في عدم الالتزام بالنّسْخ فيها، حيث إنّ النّسْخ لا يكون في حكم المؤقت الذي يرتفع بانتهاء وقته، وإنمّا يكون في الحكم الذي يكون ظاهره الاستمرار والتأبيد بحسب إطلاق اللّفظ دون أن يكون صريحاً في ذلك، وعلى هذا الأساس يكون دور الآية الثاني هو: بيان الوقت والغاية للحكم المذكور في الآية الأُولى دون أن تكون ناسخةً له.

الثانية:

أنّ آية السيف لا تأمر بقتل أهل الكتاب بشكلٍ مطلق حتّى تصبح معارضِةً للآية الأُولى، وإنّما هي تأمر بقتالهم عند عدم دفعهم للجزية (1) .

وحينئذٍ فمجرّد أن يكونوا من أهل الكتاب لا يكفي في جواز قتالهم، وإنّما يُشترط في قتالهم توفّر إحدى حالاتٍ ثلاث، كما يُستفاد ذلك من مجموع الآيات القرآنية، وهي:

أ - مبادأة أهل الكتاب المسلمين بالقتال:

( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ) (2) .

ب - محاولتهم فتنة المسلمين عن دينهم: ( ... وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ... ) (3) .

ج - امتناعهم عن إعطاء الجزية للآية المتقدّمة.

وفي غير هذه الحالات لا يجوز قتال أهل الكتاب، وإنّما يُكتفى بالصّفْح والعفو عنهم، كما جاء في الآية الأُولى المُدّعى نَسْخها، فتكون الآية الثانية مقيّدةً لإطلاق الآية الأُولى لا ناسخةً لها.

________________________

(1) البيان: 288.

(2) و (3) البقرة: 190 و 191.

٢٠٦

الآية الثانية:

قوله تعالى:

( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً* وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً ) (1) .

وقد رُوي عن جماعةٍ من الصحابة والتابعين وغيرهم أنّ الآية الأُولى من هاتين الآيتين مختصّة بزنا النساء، والعقاب فيها هو الإيذاء بالشتم والإهانة وضرب النعال - كما جاء عن ابن عبّاس (2) ذلك - وهما في كلا الموردين تشملان البكر والثيّب منهما.

وقد نُسخت كلتا الآيتين بحكم الجلد مائة مرّة للبكر من النساء والرجال، كما في قوله تعالى:

( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ) (3)

وبحكم الرّجْم للمُحْصَن من النساء والرجال، كما ثبت ذلك في السنّة النبويّة.

وقد ناقش السيّد الخوئي (رحمه الله) مبدأ النّسْخ في هذه الآية، على أساس أنّ كلَّ واحدةٍ من هذه الآيات تبيِّن حكماً يختلف عن الحكم المبيَّن في الآية الأُخرى، ولا مانع من الأخذ بهذه الأحكام كلّها لاختلاف موضوعاتها.

ومن أجل أن تتّضح هذه المناقشة لا بُدّ من أن نستعرض بعض الأُمور التي لها ارتباطٌ وثيقٌ في تفسير الآيتين المُدّعى نسخهما، لنعرف بعد ذلك مدى صحّة دعوى النّسْخ فيهما:

________________________

(1) النساء: 15 - 16.

(2) تفسير مجمع البيان 2: 21.

(3) النور: 2.

٢٠٧

1 - إنّ للفظ الفاحشة في اللُّغة والقرآن الكريم معنىً واسعاً شاملاً، ينطوي تحته كلّ ما تزايد قبحه وتفاحش، دون أن يكون مختصّاً بعملية الزنا وحدها؛ فقد تكون لواطاً أو سحاقاً أو زنا، ولا ظهور ولا انصراف للفظ الفاحشة في خصوص الزنا.

2 - إنّ المقصود بالسبيل في الآية الكريمة هو المخرج والمخلص الذي يكون في حقيقته وواقعه أقل كلفةً وضرراً على المرأة من الحبس في الدار؛ لأنّ الآية تجعل السبيل للمرأة لا عليها، وحينئذٍ فلا يمكن تفسير السبيل بالعقوبة التي وضعها الإسلام الحنيف بالنسبة إلى الزانية والزاني - البكر منهما والثيّب - لأنّ هذه العقوبة ليست سبيلاً للمرأة تخلص به من شدّة الحبس وعقابه، وإنّما هو أشدّ وأقسى من الحبس نفسه.

3 - إنّ لفظ الإيذاء في الآية الكريمة ليس له ظهور في الشتم والسب والإهانة وضرب النعال، وإنّما هو معنىً شاملٌ لهذه الأُمور ولغيرها من ألوان الإيذاء الأُخرى كالجَلْد والرّجْم وغيرهما.

وبعد ملاحظة هذه النقاط الثلاث يمكن أن نذهب في خصوص الآية الأُولى إلى أنّ المقصود بالفاحشة: (المساحَقة) وحكمها الثابت بالآية هو الحبس حتّى الموت، أو السبيل الذي يهيئه الله سبحانه لها بأن تتوفّر الظروف التي تجعل المرأة في مأمنٍ من ارتكاب المنكر، كأن تتزوّج أو تبلغ العمر الذي تموت فيه طاقتها الجنسيّة أو تخمد أو تتوب وتصلح.

وبهذا اللّون من التفسير يمكننا أن نلتزم بعدم النّسْخ في هذه الآية لبقاء حكمها، في الوقت الذي يُلتزم به الجلد والرجم بالنسبة إلى الزاني.

وإضافةً إلى ذلك يمكننا أن نذهب إلى أنّ الحكم بالحبس ليس عقاباً وحدّاً لارتكاب الفاحشة، وإنّما هو عملٌ وقائي رادع عن العودة لارتكاب المنكر مرّةً أُخرى، ويجب في كلِّ الحالات التي يُستشعر فيها الخطر من الوقوع في المنكر حتّى قبل وقوعه، وحينئذٍ فلا

٢٠٨

ضرورة للالتزام بالنّسْخ حتّى مع الالتزام بأنّ المقصود من الفاحشة في الآية الكريمة خصوص زنا النساء؛ لأنّ الالتزام بالجَلْد والرّجْم يمكن أن ينسجم مع الالتزام - في الوقت ذاته - بثبوت الحكم الوقائي الرادع.

وفي خصوص الآية الثانية يكون المقصود بالفاحشة اللواط، وحكمه الإيذاء، سواء فسرنا الإيذاء بالشكل الذي روي عن ابن عبّاس، أم بالشكل الآخر الواسع؛ فإنّه في كلٍّ من الفرضين يمكن أن نلتزم بالحد الشرعي الثابت في الشريعة المقدّسة، على أنّ تفسير مفهوم الإيذاء بشكلٍ يشمل الجلد والرّجْم يجعل آية الجَلْد وغيرها في موقف المفسِّر المحدِّد لنوعيّة الإيذاء المتّخَذ ضد الزاني من الرجال والنساء، دون أن يكون ناسخاً للآية الأُولى.

وهناك قرينة لفظيّة في الآية تدل على أنّ المراد من الاسم الموصول (اللّذان) هو خصوص الرجلين دون الرجل والمرأة، كما هو التفسير القائل بالنّسْخ، وهذه القرينة هي ملاحظَة سياق الآيتين الذي يقرِّر أنّ المراد من ضمير الجَمْع المخاطب المذكور فيهما ثلاث مرّات من جنسٍ واحد، بحيث لا يختلف الثالث عن الأوّليَّين.

ولمّا كان المراد بالأوّليَّين منهما خصوص الرجال، لإضافة النساء في إحداهما للضمير وربط الشهادة بالرجال في الثاني؛ ويجب أن يكون المُراد من الثالث خصوص الرجال أيضاً، وهذا ينتهي بنا إلى أنّ المراد بالاسم الموصول خصوص الرجال؛ ومع هذه القرينة لا بُدّ من الالتزام بأنّ المراد من الفاحشة هي اللواط بالخصوص.

الآية الثالثة:

قوله تعالى:

( ... فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً... ) (1) .

ولا بُدّ من معرفة مفاد الآية الكريمة قبل البحث عن كونها آيةً منسوخة الحكم.

________________________

(1) النساء: 24.

٢٠٩

وبهذا الشأن فقد جاءت الروايات الكثيرة من طريق أهل السنّة والإماميّة تذكر أنّ المقصود من الآية الكريمة نكاح المتعة (الزواج المؤقّت).

ولذلك اشتهر بين علماء العامّة أنّ الآية منسوخة؛ حيث ذهب هؤلاء إلى أنّ حلّيّة نكاح المتعة قد نُسخت بعد تشريعه لمدّةٍ من الزمان في الشريعة المقدّسة، وقد وقع الاختلاف بين الباحثين في أمر الناسخ لهذه الآية الكريمة، وبهذا الصدد ذُكرت أقوالٌ أربعة:

الأوّل:

إنّ الناسخ لها قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... ) (1)

على أساس أنّ نكاح المتعة لا طلاق فيه، وإنّما تنفسخ عقدة النكاح فيه بانتهاء المدّة المضروبة في النكاح أو هبة الباقي منها، كما أنّ عدّته تختلف عن عدّة الطلاق في النكاح الدائم، ولمّا كانت هذه الآية تذكر الطلاق طريقاً لانفصال الزوجية؛ كانت ناسخةً للنكاح الذي يكون انفصال الزوجيّة فيه عن طريقٍ آخر، في الوقت الذي تختلف عدّته عن عدّة النكاح الذي يقع فيه الطلاق.

وهذا القول يكاد يكون أوهن الأقوال وأبعدها عن الفهم القرآني الصحيح؛ لأنّ الآية الثانية لا تُشير - لا من قريبٍ ولا من بعيد - إلى موارد الطلاق؛ وأنّه لا بُدّ في كلِّ زواجٍ أن يقع الانفصال فيه بالطلاق، وإنّما هي بصدد بيان ضرورة العدّة في حالة وقوع الطلاق.

على أنّ نكاح المتعة تجب العدّة فيه أيضاً، ولا تعرّض في الآية مقدار إلى مقدار العدّة ومدّتها؛ فهي بعيدة عن النّسْخ كلّ البُعد وليست لها علاقة بآية المتعة.

الثاني:

إنّ الناسخ هو قوله تعالى: ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ... ) (2) على

________________________

(1) الطلاق: 1.

(2) النساء: 12.

٢١٠

أساس أنّ نكاح المتعة لا توارث فيه وهذه الآية تقرّر بإطلاقها وراثة الزوج لكلّ زوجة، فيدور الأمر بين القول بوراثة الزوج للزوجة في نكاح المتعة - وقد ثبت عدمه - وبين القول بنَسْخ المتعة، ليبقى إطلاق الآية على حاله، وهو المطلوب من دعوى النّسْخ.

وهذا القول كسابقه من حيث مجافاته للواقع والفهم العرفي؛ لأنّه يمكن الالتزام بأنّ الدليل الذي دلّ على عدم التوارث بين الزوجين في نكاح المتعة يكون مخصِّصاً لمفاد الآية الكريمة، دون اللجوء إلى القول بنسْخ آية المتعة، كما يلتزم بذلك المسلمون في بعض الموارد الأُخرى من الإرث، فإنّ الزوجة إذا كانت كافرةً لا ترث زوجها، أو إذا كان أحد الزوجين قاتلاً للآخر فإنّه لا إرث بينهما أيضاً.

الثالث:

أنّ الناسخ هو النصوص التي تدل على أنّ نكاح المتعة قد نُسخ بعد تشريعه في الإسلام؛ وقد رُويت هذه النصوص بطُرُقٍ مختلفة كان ينتهي بعضها إلى الإمام علي (عليه السلام)، وبعضها إلى الربيع بن سبرة، وبعضها إلى سلمة وغير ذلك (1) .

ولكن تُناقش هذه النصوص بالوجوه الثلاثة التالية:

أولاً:

إنّ النّسْخ لا يثبت بخبر الواحد، لما أشرنا إليه سابقاً من الإجماع على ذلك، وإنّ طبيعة النّسْخ تقتضي شيوع النّسْخ واشتهاره بين المسلمين.

ثانياً:

إنّ هناك نصوصاً متواترةً مرويّةً عن طريق أهل البيت، تعارض بمضمونها هذه النصوص وتكذّبها، الأمر الذي يفرض علينا الأخذ بنصوص أهل البيت خاصّة؛ لأنهم الثقل الثاني للكتاب الذي ثبت عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّهم لا يفترقون عنه.

ثالثاً:

النصوص الكثيرة التي وردت في الصحاح التي توكّد بقاء حلّيّة هذا النكاح حتّى وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، والنّسْخ لا يجوز من غير النبي؛ وقد ذكر السيّد

________________________

(1) البيان: 317، السيّد الخوئي (رحمه الله).

٢١١

الخوئي (رحمه الله) بعض هذه النصوص، والتي وردت في صحيح مسلم وسنن البيهقي ومسند أحمد وغيرهم، ومن هذه الروايات ما رواه مسلم عن أبي الزبير قال: (سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيّام على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأبي بكر، حتّى نهى عنه (نكاح المتعة) عمر في شأن عمرو بن حريث) (1) مع مناقشته للنصوص الأُخرى الدالّة على النّسْخ في كتابه: (البيان).

الرابع:

أنّ الناسخ هو إجماع الأُمّة على حُرْمة نكاح المتعة.

وهذا الدليل يمكن مناقشته بالأمرين التاليين:

الأوّل:

أنّ دعوى الإجماع غير صحيحة فإنّ جماعةً من المسلمين، ومنهم جمعٌ من أصحاب رسول الله كانوا يقولون بجواز المتعة، وقولهم هذا موافق لقول أهل البيت (عليهم السلام) الذين هم ثقل الكتاب، وقد أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً، ومن هؤلاء الصحابة: علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله ابن مسعود، وعبد الله بن عباس.

الثاني:

أنّ هذا الإجماع لو تمّ فهو ليس بحجّة؛ لأنّ حجّيّة الإجماع - كما تمّ تحقيقه في علم الأُصول - تتوقف على كشفه عن رأي المعصوم، ولم يكن تحريم نكاح المتعة على عهد رسول الله ولا بعده إلى أن مضت مدّة من عهد عمر؛ ولا يصح بأيّ حالٍ الإعراض عن كتاب الله وسنّة نبيّه لمجرد إجماع جماعةٍ من المسلمين لم يُعصموا عن الخطأ والاشتباه، وإلاّ لأمكن نَسْخ كلِّ الأحكام الشرعية بهذه الطريقة.

________________________

(1) صحيح مسلم: باب نكاح المتعة 4: 141، راجع البيان: 318 - 324.

٢١٢

القسم الثالث

التفسير والمفسِّرون

التفسير والتأويل.

التفسير في عصر الرسول.

التفسير في عصر الصحابة والتابعين.

التفسير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

٢١٣

التفسير والتأويل

التفسير (*) :

1 - التفسير بمعناه اللُّغوي:

التفسير في اللُّغة: البيان والكشف (1) .

وفي القرآن الكريم بهذا المعنى؛ قال تعالى:

( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (2)

فتفسير الكلام - أيّ كلام - معناه: الكشف عن مدلوله، وبيان المعنى الذي يُشير إليه اللّفظ.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نطرح السؤال التالي:

هل يُعتبر بيان المعنى الظاهر من اللّفظ الذي يتبادر منه تفسيراً، بحيث يصدق عليه لفظ التفسير بمعناه اللّغوي أولا؟

فهناك اتجاهٌ يقول:

إنّ الكشف والبيان الذي أخذناه في معنى التفسير يستبطن افتراض وجود درجةٍ من الخفاء والغموض في المعنى؛ ليُكشف ويُزال الغموض عنه بعمليّة التفسير، فلا يصدق التفسير حينئذٍ إلاّ في حالة الغموض والخفاء، فمن يسمع كلاماً له معنىً ظاهر يتبادر من ذلك الكلام، فيعلن عن ذلك المعنى لا يكون مفسِّراً للكلام؛ لأنّه لم يكشف عن شيءٍ خفي، وإنّما يصدق التفسير على الجهد الذي يبذله الشخص في سبيل اكتشاف معنى الكلام المُكْتَنِف بشيءٍ من الغموض

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

(1) لسان العرب: مادّة (فسر).

(2) الفرقان: 33.

٢١٤

والخفاء.

وبتعبيرٍ آخر:

إنّ من أظهر معنى اللّفظ يكون قد فسّره، وأمّا حيث يكون المعنى ظاهراً ومتبادراً بطبيعته فلا إظهار ولا تفسير.

وسيراً مع هذا الاتجاه لا يكون من التفسير إلاّ إظهار أحد محتملات اللّفظ، وإثبات أنّه هو المعنى المراد، أو إظهار المعنى الخفي غير المتبادر، وإثبات أنّه هو المعنى المراد بدلاً من المعنى الظاهر المتبادر، وأمّا ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللّفظ فلا يكون تفسيراً.

وهذا الاتجاه يمثّل الرأي السائد لدى الأُصوليين.

ولكنّ الصحيح هو أنّ ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيراً أيضاً، وإظهاراً لأمرٍ خفي، كما أنّه - في بعض الحالات الأُخرى - قد لا يكون تفسيراً؛ لأنّه يفقد عنصر الخفاء والغموض، فلا يكون إظهاراً لأمرٍ خفيٍّ أو إزالةً لغموض.

ومن أجل تعرّف موارد الظهور التي ينطبق عليها (التفسير) والموارد التي لا ينطبق عليها معنى (التفسير) نقسِّم الظهور إلى قسمين:

أحدهما: الظهور البسيط: وهو الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظواهر الأُخرى.

والآخر: الظهور المعقّد: وهو الظهور المتكون نتيجةً لمجموعةٍ من الظهورات المتفاعلة.

ولأجل توضيح هذا التقسيم، نضرب مثالاً لذلك من العرف، بأن يقول شخصٌ لولده: اذهب إلى البحر في كلّ يوم، أو يقول له: اذهب إلى البحر في كلّ يوم، واستمع إلى كلامه.

فبالنسبة إلى القول الأوّل نعتبر الظهور ظهوراً بسيطاً، إذ لا توجد في الكلام إلاّ صورة واحدة تتبادر إلى الذهن وهي: صورة بحر من الماء، يطلب الأب من

٢١٥

ولده أن يذهب إليه في كلّ يوم.

وأمّا بالنسبة إلى القول الثاني فالظهور معقّد؛ لأنّه مُزْدوج، فهناك نفس الظهور السابق، إذ يتبادر إلى الذهن من كلمة البحر: البحر من الماء، يذهب إليه الولد في كلِّ يوم.

ويقابله ظهورٌ آخر وهو ظهور الاستماع إلى كلام البحر، إذ يتبادر إلى الذهن من ذلك: أنّ البحر ليس بحراً من ماءٍ بل هو بحرٌ من العلم؛ لأنّ بحر الماء لا يُستمع إلى كلامه؛ لأنّه ليس له كلام، وإنّما يُستمع إلى صوت أمواجه.

وهكذا نواجه في القول الثاني ظهروين بسيطين متعارضين، وحين نلاحظ الكلام بصورةٍ كاملةٍ متفاعلةٍ يجب أنْ ندرس نتيجة التفاعل بين ذينك الظهورين، وما ينجم عنهما من ظهور بعد تصفية التناقضات الداخلية بينهما؛ وهذا الظهور الناجم عن ذلك نسمّيه: بالظهور المعقّد أو المركّب.

وإذا ميّزنا بين الظهور البسيط والظهور المعقّد أمكننا أن نعرف أنّ إبراز الظهور المعقّد، وتحديد معنى الكلام على أساسه يُعتبر (تفسيراً)؛ لأنّ تعقيده وتركيبه يجعل فيه درجةً من الخفاء والغموض جديرةً بالكشف والإبانة، فيصدق عليه اسم: (التفسير)، وأمّا الظهور البسيط، ففي الغالب لا يُعتبر إبراز معنى الكلام على أساسه تفسيراً؛ لأنّ المعنى ظهر بطبيعته فلا يحتاج إلى إظهار.

والنتيجة أنّ في صدق التفسير على بيان المعنى في موارد الظهور اتجاهين:

أحدهما: القائل بعدم صدقه مطلقاً، سواء كان الظهور بسيطاً أو معقداً.

والآخر: - وهو الاتجاه الصحيح - القائل بأنّ التفسير ليصدق على بيان المعنى في موارد الظهور المعقّد، دون بعض موارد الظهور البسيط.

أهمّيّة التمييز بين تفسير اللّفظ وتفسير المعنى:

والتمييز بين تفسير اللّفظ على صعيد المفاهيم، وتفسير المعنى بتجسيده في صورةٍ محدّدةٍ على صعيد المصاديق، يُعتبر نقطة جوهريّة جدّاً في تفسير القرآن

٢١٦

الكريم، وأداةً لحلِّ التناقض الظاهري الذي قد يبدو بين حقيقتين قرآنيتين وهما:

الحقيقة الأُولى:

إنّ القرآن كتاب هدايةٍ للبشريّة، أنزله الله سبحانه لإخراجها من الظلمات إلى النور، وإرشادها إلى الطريقة الفُضلى في جوانب حياتها؛ وقد وصف نفسه بأنّه:

( ... هُدًى لِّلنَّاسِ... ) (1) و ( نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (2) ( ... تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ... ) (3) .

وهذه الحقيقة تفرض أن يجيء القرآن مُيسّرَ الفهم، وأن يُتاح للإنسان استخراج معانيه منه، إذ لا يحتاج للقرآن أن يحقّق أهدافه ويؤدّي رسالته لو لم يكن مفهوماً من قِبَل الناس.

والحقيقة الثانية:

إنّ كثيراً من الموضوعات التي يستعرضها القرآن أو يُشير إليها لا يمكن فهمها بسهولة، بل قد تستعصي على الذهن البشري، ويتيه في مجال التفكير فيها لدقتها وابتعادها عن مجالات الحس والحياة الاعتيادية التي يعيشها الإنسان؛ وذلك نظير ما يتعلّق من القرآن باللّوح، والقلم، والعرش، والموازين، والملك، والشيطان، وإنزال الحديد، ورجوع البشرية إلى الله، والخزائن، وملكوت السماء، وتسبيح ما في السماوات والأرض وما إلى ذلك من موضوعات.

إذاً فحقيقة أهداف القرآن الكريم ورسالته تفرض أنْ يكون مُيسّرَ الفهم، وواقع بعض موضوعاته يستعصي على الفهم ويتيه فيها الذهن البشري.

وحلُّ التناقض الظاهري بين هاتين الحقيقتين إنّما يكون بالتمييز بين تفسير اللّفظ وتفسير المعنى؛ لأنّ الحقيقة الأُولى أهداف القرآن ورسالته إنّما تفرض أن يكون القرآن مُيسّر الفهم، بوصفه كلاماً دالاًّ على معنى: أي بحسب تفسير اللّفظ.

________________________

(1) البقرة: 185.

(2) المائدة: 15.

(3) النحل: 89.

٢١٧

وهو بهذا الوصف ميسّر الفهم، سهلٌ على الناس استخراج معانيه، وإنّما الصعوبة في تحديد الصور الواقعية لمعانيه ومفاهيمه.

فكلّ الآيات التي استعرضت تلك الموضوعات التي أشرنا إليها في الحقيقة الثانية تُعتبر مفهومةً من ناحيةٍ لُغويّة، ولا صعوبة في التفسير اللّفظي لها، وإنّما الصعوبة تكمن في تفسير معنى اللّفظ لا في تفسير اللّفظ نفسه؛ لأنّ تلك الموضوعات ترتبط بعوالم أرقى من عالم الحس الذي يعيشه الإنسان، فيكون من الطبيعي أن يواجه الإنسان صعوباتٍ كبيرةً إذا حاول تحديد المعنى في مصداقٍ معيّن، وتجسيد المفهوم في الذهن ضمن واقعٍ خاص.

وقد يُتساءل هنا عن الضرورة التي دعت القرآن الكريم إلى أن يتعرّض لمثل هذه المعاني التي يستعصي تفسيرها على الذهن البشري، فيخلق بذلك صعوبات ومشاكل هو في غنىً عنها.

ولكنّ الواقع أنّ القرآن الكريم لم يكن بإمكانه أن يتفادى هذه الصعوبات والمشاكل؛ لأنّ القرآن بوصفه كتاب دين يستهدف بصورةٍ رئيسةٍ ربط البشرية بعالم الغيب، وتنمية غريزة الإيمان بالغيب فيها، أو تقريب صورته إلى الذهن الإنساني المادّي (1) ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ عن طريق تلك الموضوعات التي تنبّه الإنسان إلى صلته بعالمٍ أكبر من العالم المنظور، وإن كان غير قادر على الإحاطة بجميع أسراره وخصوصيّاته.

2 - التفسير معنى إضافي أم موضوعي:

وعلى ضوء الاتجاه الصحيح نعرف: أنّ التفسير معنىً (إضافي)؛ لأنّ التفسير بيان المعنى وإيضاحه حتّى في مورد ظهور اللّفظ.

والمعنى الواحد قد يكون بحاجةٍ إلى البيان والكشف بالنسبة إلى شخص، ولا يحتاج إلى بيانٍ وكشفٍ عندما نضيفه

________________________

(1) هناك المزيد من التوضيح لهذه الفكرة في بحث المُحْكَم والمُتشابِه.

٢١٨

إلى شخصٍ آخر، فيكون بيانه - إضافةً إلى من يحتاج البيان - تفسيراً دون الشخص الآخر.

وأمّا إذا أخذنا بالاتجاه الآخر الذي يرى: أنّ التفسير لا يشمل موارد حمل اللّفظ على معناه الظاهر مهما كان الظهور معقّداً، وأنّ التقسيم مختصٌّ بحمل اللّفظ على ما يكون ظاهراً من اللّفظ فبالإمكان أن نتصوّر للتفسير معنىً (موضوعيّاً) مطلقاً لا يختلف باختلاف الأفراد؛ لأنّنا نلاحظ عندئذٍ اللُّغة نفسها، فإن كان المعنى الذي يُذكر للفظ هو المعنى الذي يقتضيه الاستعمال اللُّغوي بطبيعته فلا يكون ذلك تفسيراً، حتّى إذا كان محاطاً بشيءٍ من الخفاء والغموض بالنسبة إلى بعض الأشخاص، وإن كان المعنى معنىً آخر لا يقتضيه الاستعمال اللُّغوي بطبيعته، وإنّما عيّناه بدليلٍ خارجي هو (التفسير).

3 - تفسير اللّفظ وتفسير المعنى:

والتفسير على قسمين باعتبار الشيء المفسّر:

1 - تفسير اللّفظ.

2 - تفسير المعنى.

وتفسير اللّفظ عبارة عن (بيان معناه لغةً)، وأمّا تفسير المعنى فهو: تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى.

فحين نسمع شخصاً يقول: إنّ دول الاستكبار الكافر تملك أسلحةً ضخمة، تارةً نتساءل: ما هو معنى الأسلحة؟

ونجيب عن هذا السؤال: إنّ الأسلحة هي الأشياء التي يستعين بها صاحبها في قهر عدوّه.

وأُخرى نتساءل: ما هي نوعيّة السلاح الذي تملكه تلك الدول؟

ونجيب: إنّ سلاحها القنابل الذرّيّة أو الصواريخ بعيدة المدى أو أقمار التجسّس الفضائية أو الغواصات الذرّيّة أو...

ففي المرّة الأُولى فسّرنا اللّفظ إذ ذكرنا معناه لغةً، وفي المرّة الثانية فسّرنا المعنى

٢١٩

إذ حدّدنا المصداق الذي ينطبق عليه معنى الجملة ويشير إليه؛ فتسمّى المرحلة الأُولى بمرحلة (تفسير اللّفظ) أو التفسير اللُّغوي، وهي مرحلة تحديد المفاهيم؛ وتسمى المرحلة الثانية: مرحلة (تفسير المعنى) وهي مرحلة تجسيد تلك المفاهيم في صورٍ معينّةٍ محدّدة.

وأمثلة ذلك من القرآن الكريم كثيرة، فنحن نلاحظ في القرآن أنّ الله سبحانه يُوصف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، ونواجه بالنسبة إلى هذه الكلمات بحثين:

أحدهما: البحث عن مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللُّغوية.

والآخر: البحث عن تعيين مصداق تلك المفاهيم بالنسبة إلى الله تعالى.

فكيف يسمع سبحانه؟ وهل يسمع بجارحةٍ أو لا؟ وكيف يعلم؟ وهل يعلم بصورةٍ زائدةٍ على ذاته؟

والأوّل:

يمثّل التفسير اللّفظي للآية أو تفسير اللّفظ؛ والثاني: يمثّل التفسير المعنوي أو تفسير المعنى.

ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى:

( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ... ) (1)

وقوله: ( ... وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ... ) (2)

وقوله: ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ... ) (3) .

فنحن نجد هذه الآيات تتحدّث عن أشياء قد أُنزلت من قبيل: (الكتاب) (الحديد) (الماء) وتفسير اللّفظ يعني - بصدد هذه الآيات - أن نشرح معنى (النزول) لغةً ونحدد مفهوم كلمة (أنزلنا) الواردة في الآيات الثلاث، ونعرف أنّها تستبطن معنى:

(الهبوط من جهةٍ عالية

________________________

(1) الأنعام: 92.

(2) الحديد: 25.

(3) المؤمنون: 18.

٢٢٠