علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207137
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207137 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مرتفعة) وتفسير المعنى هو: أنْ ندرس حقيقة هذا الإنزال، ونوع تلك (الجهة العالية) التي هبط منها الكتاب والحديد والماء، وهل هي جهةٌ مادّيّة أو معنويّة؟

التفسير بوصفه علماً:

وأمّا التفسير بوصفه علماً فهو علمٌ يُبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاماً لله تعالى (1) .

وتوضيح ذلك: أنّ القرآن الكريم له عدّة اعتبارات:

فهو تارةً يُلحظ بوصفه حروفاً كتابيّة تُرسَم على الورق.

وأُخرى: يُلحظ بوصفه أصواتاً نقرؤها ونردّدها بلساننا.

وثالثة: يُلحظ باعتباره كلاماً لله تعالى.

والقرآن الملحوظ بأيّ واحدٍ من هذه الاعتبارات يقع موضوعاً لعلمٍ يتكوّن من بحوث خاصّة به.

فالقرآن من حيث إنه حروفٌ تُكتب: موضوعٌ لعلم الرسم القرآني الذي يشرح قواعد كتابة النص القرآني.

والقرآن من حيث إنّه يُقرأ: موضوع لعلم القراءة وعلم التجويد.

والقرآن من حيث إنّه كلام الله: يقع موضوعاً لعلم التفسير.

فعلم التفسير يشتمل على جميع البحوث المتعلّقة بالقرآن بوصفه كلام الله، ولا يدخل في نطاقه البحث في طريقة كتابة الحرف، أو طريقة النطق بصوته؛ لأنّ الكتابة والنطق ليسا من صفات نص القرآن بوصفه كلاماً لله، إذ ليس لكونه كلاماً لله دخل في كيفية كتابته أو قراءته.

وإنّما يدخل في علم التفسير في ضوء ما ذكرناه له من تعريف البحوث الآتية:

أوّلاً:

البحث عن مدلول كلّ لفظٍ أو جملةٍ في القرآن الكريم؛ لأنّ كون هذا

________________________

(1) قارن هذا التعريف بما ذكره الزركشي في البرهان 1: 13، وما نقله الذهبي عن بعضهم في (التفسير والمفسّرون) 1: 15، وما ذكره الزرقاني في (مناهل العرفان) 1: 481.

٢٢١

المعنى أو ذاك مدلولاً للّفظ القرآني من صفات القرآن بوصفه كلاماً لله، وليس من صفات الحروف أو أصواتها بما هي حروف أو أصوات.

ثانياً:

البحث عن إعجاز القرآن والكشف عن مناحي الإعجاز المختلفة فيه، فإنّ الإعجاز من أوصاف القرآن باعتباره كلاماً دالاًّ على المراد.

ثالثاً:

البحث عن أسباب النزول؛ لأنّ الآية حين ندرس سبب نزولها نلاحظها بما هي كلام، أي بما هي لفظٌ مفيدٌ دالٌّ على معنى؛ لأنّ ما لا يكون كلاماً ولا يدل على معنى، لا يرتبط بحادثةٍ معيّنةٍ لتكون سبباً لنزول الآية.

رابعاً:

البحث عن الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمقيَّد والمطلق، فإنّ كلّ ذلك يتناول النص القرآني بوصفه كلاماً دالاًّ على معنى.

خامساً:

البحث عن أثر القرآن في التاريخ، ودوره العظيم في بناء الإنسانية وهدايتها، فإنّ أثر القرآن ودوره مردّهما إلى فعّالية القرآن بوصفه كلاماً لله، لا بوصفه مجرّد حروف تُكتب أو صوت أو أصوات تُقرأ.

إلى غير ذلك من البحوث التي ترتبط بالقرآن باعتباره كلاماً لله تعالى.

ومن خلال تعريف علم التفسير نحدد موضوعه أيضاً وهو (القرآن) من حيث كونه كلاماً لله تعالى.

وفي هذا الضوء نعرف أنّ إطلاق اسم علم (الناسخ والمنسوخ) أو علم (أسباب النزول) أو علم (إعجاز القرآن): على البحوث المتعلِّقة بهذه الموضوعات، لا يعني عدم إمكان اندراجها جميعاً في نطاق علمٍ واحدٍ باسم علم: (التفسير) فهي في الحقيقة جوانب من هذا العلم، لُوحظ في كلّ جانبٍ منها تحقيق هدفٍ خاص يتعلَّق بالبحث في ناحيةٍ خاصّةٍ من كلام الله؛ ففي علم (إعجاز القرآن) يُدرس كلام الله في القرآن مقارناً بالنتاج البشري أو بالإمكانات البشرية، ليدلّل على أنّه فوق تلك الإمكانات وهو معنى الإعجاز، وفي علم (أسباب النزول) يُدرس

٢٢٢

كلام الله في القرآن من حيث ارتباطه بالأحداث والوقائع التي لابست نزوله، وهكذا الأمر في سائر الجوانب الأُخرى.

وإنّما أُفردت هذه الأسماء وأُعطيت عناوين مستقلّة، باعتبار أنّ العلماء بعد التوسّع في علم التفسير أفردوها أحياناً بالبحث للتركيز على الأهداف التفصيليّة لها، كما صنعوا ذلك في آيات الأحكام وفي القصص والأمثال وأُسلوب القرآن وغيرها، مع أنّ هذه الأبحاث وُجدت وترعرعت في أحصان علم التفسير.

التأويل (*) :

والتأويل كلمةٌ أُخرى ظهرت إلى جانب كلمة: (التفسير) في بحوث القرآن عند المفسِّرين، واعتبروها متفقةً بصورةٍ جوهريّةٍ مع كلمة التفسير في المعنى، فالكلمتان معاً تدلاّن على بيان معنى اللّفظ والكشف عنه؛ قال صاحب القاموس:

(أوّل الكلامَ تأويلاً: دبّره وقدّره وفسّره) (1) .

والمفسّرون الذين كادوا اتفقوا على التوافق بين الكلمتين بشكلٍ عام، اختلفوا في تحديد مدى التطابق بين الكلمتين.

ونحن هنا نذكر بعض الاتجاهات والمذاهب في ذلك:

1 - الاتجاه العام لدى قدماء المفسّرين الذي يميل إلى القول بالترادف بينهما، فكلّ تفسيرٍ تأويل، والعكس صحيحٌ أيضاً، وعلى هذا فالنسبة بينهما هي التساوي؛ ولعلّ منه قول مجاهد: إنّ العلماء يعلمون تأويله، وقول ابن جرير الطبري عند تفسيره للآية (القول في تأويل قوله كذا... واختلف أهل التأويل في الآية... ).

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

(1) القاموس: مادّة (أول).

٢٢٣

2 - الاتجاه العام لدى من تأخّر عنهم من المفسِّرين الذي يميل إلى القول بأنّ التفسير يخالف التأويل في بعض الحدود:

إمّا في طبيعة المجال المفسَّر والمؤوَّل، أو في نوع الحكم الذي يصدره المفسِّر والمؤوِّل، أو في طبيعة الدليل الذي يعتمد عليه التفسير والتأول؛ فهنا مذاهب نذكر منها ثلاثة:

أ - التمييز بين التفسير والتأويل في طبيعة المجال المفسَّر، ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأنّ التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص؛ فالتأويل يصدق بالنسبة إلى كلِّ كلامٍ له معنىً ظاهر، فيُحمل على غير ذلك المعنى فيكون هذا الحمل تأويلاً، والتفسير أعمّ منه؛ لأنّه بيان مدلول اللّفظ مطلقاً أعم من أن يكون هذا المدلول على خلاف المعنى الظاهر أو لا.

ب - التمييز بين التفسير والتأويل في نوع الحكم، ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأنّ التفسير والتأويل متباينان؛ لأنّ التفسير هو: القطع بأنّ مراد الله كذا؛ والتأول: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، وهذا يعني أنّ المفسّر أحكامه قطعية، والمؤوّل أحكامه ترجيحية.

ج - التمييز بينهما في طبيعة الدليل: ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأنّ التفسير هو:

بيان مدلول اللّفظ اعتماداً على دليلٍ شرعي، والتأويل هو بيان اللّفظ اعتماداً على دليلٍ عقلي.

موقفنا من هذه الاتجاهات:

والبحث في تعيين مدلول كلمة التأويل، والمقارنة بينها وبين كلمة التفسير يتّسع - في الحقيقة - بقبول كلِّ هذه الوجوه حين يكون بحثاً اصطلاحياً يستهدف تحديد معنى مصطلحٍ معيّن لكلمة التأويل في علم التفسير؛ لأنّ كلّ تلك المعاني داخلة في نطاق حاجة المفسّر، فيمكنه أن يصطلح على التعبير عن أي واحدٍ منها بكلمة التأويل لكي يشير إلى مجالٍ خاصٍّ أو درجة معينّة من الدليل، ولا حرج عليه في

٢٢٤

ذلك، ولكنّ الأمر يختلف عندما يكون البحث عن معنى كلمة (التأويل) عندما ترد في الكتاب والسنّة، فإنّ الخطر يكمن في اتخاذ المعنى المصطلح معنىً وحيداً للّفظ، وفهم كلمة (التأويل) على أساسه إذا جاءت في النص الشرعي (القرآن أو السنّة).

ونحن إذا لاحظنا كلمة التأويل وموارد استعمالاتها في القرآن نجد لها معنىً آخر، لا يتّفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير ولا يميّزها عنه إلاّ في الحدود والتفصيلات، فلكي نفهم كلمة التأويل يجب أن نتناول إضافةً إلى معناها الاصطلاحي معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم.

وقد جاءت كلمة التأويل في سبع سورٍ من القرآن الكريم:

الأُولى:

سورة آل عمران، ففيها قوله تعالى:

( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ... ) (1) .

والثانية:

سورة النساء، ففيها قوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (2) .

والثالثة:

سورة الأعراف، ففيها قوله تعالى:

( وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ... ) (3) .

والرابعة:

سورة يونس، ففيها قوله:

( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا

٢٢٥

يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ... ) (1) .

والخامسة:

سورة يوسف، جاء فيها قوله:

( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ... ) (2) .

والسادسة والسابعة:

سورتا الإسراء والكهف (3) ، إذ جاءت فيهما كلمة التأويل على هذا المنوال أيضاً.

وبدراسة هذه الآيات نعرف أنّ كلمة التأويل لم ترد فيها بمعنى التفسير وبيان مدلول اللّفظ، بل يبدو عدم إمكانيّة ورودها بهذا المعنى إلاّ في الآية الأُولى فقط؛ لأنّ التأويل في الآية الأُولى أُضيف إلى الآيات المتشابِهة، ولهذا ذهب كثيرٌ من مفسِّري الآية إلى القول:

بأنّ تأويل الآية المتشابِهة هو تفسيرها وبيان مدلولها، وتدل الآية عندئذٍ على عدم جواز تفسير الآية المتشابِهة، ومن ثمَّ على أنّ قِسماً من القرآن يستعصي على الفهم ولا يعلمه إلاّ الله أو الله والراسخون في العلم، على الاحتمالين في الوقف والوصل، وأمّا ما يُتاح للإنسان الاعتيادي: فهمه وتفسيره ومعرفة معناه من القرآن فهو الآيات المُحْكَمة منه فقط.

وهذا الموقف الذي وقفه أُولئك المفسّرون من هذه الآية الكريمة، وحملهم لكلمة التأويل على ضربٍ من التفسير يأتي نتيجةً لانسياقهم مع المعنى الاصطلاحي لكلمة التأويل، ونحن بإزاء موقفٍ من هذا القبيل يجب أن نعرف قبل كلّ شيءٍ أنّ المعنى الاصطلاحي هل كان موجوداً في عصر القرآن؟

وهل جاءت كلمة التأويل بهذا المعنى وقتئذ؟

ولا يكفي مجرّد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لنحمل كلمة التأويل فيها عليه.

________________________

(1) يونس: 39.

(2) يوسف: 6.

(3) الإسراء: 35، والكهف: 78.

٢٢٦

وملاحظة ما عدا الآية الأُولى من الآيات التي جاءت فيها كلمة التأويل تدل على أنّها كانت تُستعمل في القرآن الكريم بمعنىً آخر غير التفسير، ولا نملك دليلاً على أنّها استعملت بمعنى التفسير في موردٍ ما من القرآن.

والمعنى الذي يناسب تلك الآيات هو أن يكون المراد بتأويل الشيء هو ما يؤول وينتهي إليه في الخارج، والحقيقة، كما تدل عليه مادّة الكلمة نفسها، ولهذا أُضيف التأويل إلى الرد إلى الله والرسول تارةً، وإلى الكتاب أُخرى، وإلى الرؤيا، وإلى الوزن بالقسطاس المستقيم.

وهذا نفسه هو المراد - كما عرفنا سابقاً - من كلمة التأويل في الآية الأُولى التي أُضيف فيها التأويل إلى الآيات المتشابِهة في قوله تعالى:

( ... فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ... ) (1) .

فتأويل الآيات المتشابِهة ليس بمعنى بيان مدلولها وتفسير معانيها اللُّغوية، بل هو ما تؤول إليه تلك المعاني؛ لأنّ كلّ معنىً عام حين يريد العقل أن يحدّده ويجسّده ويصوّره في صورةٍ معيّنة، فهذه الصورة المعيّنة هي تأويل ذلك المعنى العام.

وعلى هذا الأساس يكون معنى التأويل في هذه الآية هو ما أطلقنا عليه اسم تفسير المعنى؛ لأنّ الذين في قلوبهم زيغٌ كانوا يحاولون أنْ يحدّدوا صورةً معيّنةً لمفاهيم الآيات المتشابِهة إثارةً للفتنة؛ لأنّ كثيراً من الآيات المتشابِهة تتعلّق معانيها بعوالم الغيب، فتكون محاولة تحديد تلك المعاني وتجسيدها في صورةٍ ذهنيّةٍ خاصّة - ماديّة أو منسجمة مع هوى ورأي المؤوّل - عرضةً للخطر وللفتنة.

ونستخلص من ذلك أمرين:

أحدهما: التأويل جاء في القرآن بمعنى ما يؤول إليه الشيء لا بمعنى التفسير، وقد استُخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى لا تفسير اللّفظ، أي على تجسيد

________________________

(1) آل عمران: 7.

٢٢٧

المعنى العام في صورةٍ ذهنيّةٍ معيّنة.

والآخر: إنّ اختصاص الله سبحانه والراسخين في العلم بالعلم بتأويل الآيات المتشابِهة لا يعني أنّ الآيات المتشابِهة ليس لها معنىً مفهوم، وأنّ الله وحده الذي يعلم بمدلول اللّفظ وتفسيره، بل يعني أنّ الله وحده الذي يعلم بالواقع الذي تُشير إليه تلك المعاني، ويستوعب حدوده وكنهه.

وأمّا معنى اللّفظ في الآية المتشابِهة فهو مفهومٌ بدليل أنّ القرآن يتحدّث عن اتّباع مرضى القلوب للآية المتشابِهة، فلو لم يكن لها معنىً مفهوم لما صدق لفظ (الاتّباع) هنا، فما دامت الآية المتشابِهة يمكن أن تُتّبع فمن الطبيعي أن يكون لها معنىً مفهوم، وكيف لا يكون لها معنىً مفهوم وهي جزءٌ من القرآن الذي أُنزل لهداية الناس وتبيان كلِّ شيء!

والواقع أنّ عدم التمييز بين تفسير اللّفظ وتفسير معنى اللّفظ هو الذي أدّى إلى الاعتقاد بأنّ التأويل المخصوص علمه بالله هو تفسير اللّفظ ومن ثمَّ إلى القول بأنّ قِسماً من الآيات ليس لها معنىً مفهوم؛ لأنّ تأويلها مخصوصٌ بالله، ونحن إذا ميّزنا بين تفسير اللّفظ وتفسير المعنى نستطيع أنْ نعرف أنّ المخصوص بالله هو تأويل الآيات المتشابِهة، بمعنى تفسير معانيها لا تفسير ألفاظها.

وهكذا يمكننا في هذا الضوء أن نضيف إلى المعاني الاصطلاحية التي مرّت بكلمة التأويل معنىً آخر يمكن استنباطه من القرآن الكريم هو: تفسير معنى اللّفظ، والبحث عن استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام، ويتجسّد به من صورةٍ ومصداق.

٢٢٨

التدبُّر والتفسير بالرأي:

ومن خلال هذا الفهم للتفسير والخلفية الذهنية التي يجب أن يتمتّع بها المفسِّر، يمكن أن نميّز بين التفسير الصحيح، الذي يعتمد على القرآن الكريم والسنّة النبويّة، والذي يمكن أن نسمّيه عملية (التدبّر)، وبين التفسير الباطل الذي يُطلق عليه اسم التفسير بالرأي.

وهذا الموضوع من القضايا ذات البُعد التاريخي، الذي يرجع إلى عهد الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ فقد ورد عنه (صلّى الله عليه وآله) النهي عن التفسير بالرأي، فعنه (صلّى الله عليه وآله):

(من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار) (1) .

ولعلّ الآية الكريمة:

( ... فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ... ) (2) تُشير إلى أحد مصاديق هذا النوع من التفسير أيضاً.

إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من الأحاديث الواردة عن المعصوم (عليه السلام) والمرويّة عن طرق الفريقين، والتي تدل على هذا المعنى (3) .

________________________

(1) أخرجه الترمذي 11: 67 بألفاظ مختلفة عن ابن عبّاس، ورواه الصدوق في الغُنْية في حديثٍ طويلٍ عن النبي (صلّى الله عليه وآله) بلفظٍ آخر.

وقد أورد الحرُّ العاملي في كتابه المعروف (وسائل الشيعة) مجموعة من الأحاديث في الجزء 18، الباب 13، من أبواب صفات القاضي، منها الحديث القدسي:

(ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه) الحديث 28، و(من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب) الحديث 37، و(من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يُؤجر وإن أخطأ فقد خرّ أبعد من السماء) الحديث 66، وأحاديث عديدة أُخرى.

(2) آل عمران: 7.

(3) تناول علماء الأُصول هذا البحث بشكلٍ مفصّلٍ مرتبطاً مع موضوع آخر في بحث (حجّيّة الظاهر).

ولعلّ أفضل من تناول هذا البحث هو أُستاذنا الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه) من المتأخّرين، كما جاء في تقريراته التي كتبها الحجّة السيّد محمود الهاشمي (حفظه الله).

٢٢٩

ومن أجل توضيح المقصود من التفسير بالرأي الذي يُعتبر أمراً مهمّاً يحسن بنا أن نبحث هذا الموضوع.

وهناك احتمالات ثلاثة في معنى (التفسير بالرأي) الذي يكون موضوعاً لذاك النهي الوارد عن المعصوم (عليه السلام) في رواياتٍ متواترةٍ في مضمونها (بالتواتر الإجمالي) ولا بُدّ من تمحيصها؛ وهذه الاحتمالات الثلاثة هي:

الأوّل:

أنّ المراد من التفسير بالرأي هو أن يُفسِّر الإنسان النص القرآني اعتماداً على رأيه وذوقه الشخصي، في مقابل الفهم العام للقرآن المتمثّل بالظهور العرفي والذي يعتمد على القرائن السابقة.

وتوضيح ذلك: أنّ علماء الأُصول يذكرون أنّ ظهور الكلام يمكن أن يكون على نحوين:

أحدهما: (الظهور النوعي): وهو أن يكون ظهور الكلام ظهوراً قائماً لدى العرف العام ويفهمه (نوع الناس) وعامّة الناس.

والآخر: (الظهور الشخصي): وهو الفهم الذي يختص به شخصٌ ما من الناس والذي يعتمد عادةً على الظروف الذهنيّة والنفسية والذوقية لذاك الإنسان، حيث تجعله تحت تأثيرات معيّنة بحيث يفهم من الكلام معنىً خاصّاً لا يفهمه غيره من الناس.

وهذا النحو من الفهم للقرآن الكريم وهو الفهم الشخصي له، والمعتمد على الظهور الشخصي لدى المفسّر هو تفسير للقرآن بالرأي، وهو التفسير المنهي عنه، مثل تفسير المتصوّفة أو بعض أصحاب العقائد الفاسدة الذين لهم ذهنيّات ومصطلحات خاصّة تكوّنت ضمن ثقافتهم، ويفسّرون القرآن على أساس تلك التصوّرات والمصطلحات.

________________________

وقد تناولناه هنا مختصراً وبالمقدار الذي يناسب البحث.

٢٣٠

وهذا النحو من التفسير يختلف تماماً عن فهم القرآن وتفسيره اعتماداً على الخلفيّة الذهنيّة والعقائدية الصحيحة للمفسّر؛ لأنّ هذا التفسير تفسيرٌ معتمدٌ على رأي شخصي ووفق ظروف الشخص وأوضاعه، وأمّا ذلك فهو رأيٌ وفهمٌ للقرآن الكريم بقرينة العقيدة الصحيحة المأخوذة من القرآن ذاته، كما ذكرنا سابقاً.

الثاني:

أن يكون النهي الوارد على لسان الرسول (صلّى الله عليه وآله) عن التفسير بالرأي هو معالجة لظاهرة برزت في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تفسير القرآن وبشكلٍ محدّد، ثمّ تطوّرت وبشكلٍ واسعٍ حتّى تكوّنت على أساسها مدارسٌ في المجتمع الإسلامي.

حيث ورد النهي آنذاك عن البحث في تفسير الآيات العقائدية أو التاريخية تأثُّراً بالديانات السابقة، وفلسفاتها وتأريخها: كاليهودية والنصرانية والبوذية وغيرها، الأمر الذي أدّى إلى ابتعاد بعض المسلمين عن المفاهيم القرآنية.

ونتيجةً لذلك، فقد حاول بعض المسلمين الأوائل أن يفرضوا مثل هذه الآراء على القرآن، ويفسّروا بها على خلاف مضمونه ومعناه الصحيح، متأثّرين في ذلك بالمتبنّيات الذهنيّة والفكرية والعقائدية المسبقة على القرآن:

( ... وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ... ) (1) .

( ... يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ... ) (2) .

ولا شكّ أنّ هذا النوع من التفسير يختلف عن تفسير القرآن على أساس العقائد المستنبَطة من القرآن نفسه.

الثالث:

وهو المعنى الذي ينسجم مع معنى (الرأي) في (مدرسة الرأي) في الفقه الإسلامي، ففي الفقه الإسلامي يوجد اتجاهان في (الاستنباط):

أحدهما: الاتجاه الذي يعتمد في الاستنباط وفهم الحكم الشرعي على القرآن

________________________

(1) البقرة: 75.

(2) المائدة: 13.

٢٣١

وسنّة المعصوم (عليه السلام) باعتبارهما المصدرين الأساسيّين، وإليهما يرجع (العقل) و(الإجماع) أيضاً.

والآخر: اعتماد الفقيه في استنباط الحكم الشرعي - إذا لم يجد نصّاً يدل عليه في الكتاب والسنّة - على (الاجتهاد) و(الرأي) بدلاً من النص، و(الاجتهاد) هنا يعني: الرأي الشخصي للفقيه، مثل: القياس والاستحسان والمصالح المرسَلة وغيرها.

وحينئذٍ يكون (الاجتهاد) دليلاً من أدلّة الفقه ومصدراً من مصادره، إضافةً إلى الكتاب والسنّة.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي، وقامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسةٌ فقهيّةٌ كبيرةٌ كانت تحمل اسم مدرسة (الرأي والاجتهاد)، حيث إنّه لم يصح لدى أبي حنيفة صاحب هذه الدروس إلاّ عدد محدود من الأحاديث قيل: إنّها دون العشرين.

وقد انتقد الأئمّة (عليهم السلام) هذه المدرسة واتجاهها انتقاداً شديداً؛ وقد يشكّل هذا الانتقاد الشديد للأئمّة (عليهم السلام) قرينةً على أنّ المراد من (التفسير بالرأي) المنهي عنه هو (الرأي) في هذه المدرسة باعتبار أنّها تشكّل اتجاهاً خطيراً في الفكر الإسلامي، لا من ناحية النتائج التي انتهت إليها فقهيّاً فقط، وإنّما باعتبار الاتجاه والطريق الخاطئ الذي انتهجته في عملية الاستنباط، والمعتمد بالأساس على القياس والاستحسان والمصالح المرسَلة، وما أشبه ذلك من قضايا مرجعها إلى الرأي، والتي تنتهي في نهاية المطاف إلى انحرافٍ خطيرٍ في فهم القرآن والسنّة (1) .

________________________

(1) وهذه النتائج الخطرة هي التي انتهت بعد ذلك إلى سدّ باب الاجتهاد في تلك المدارس نفسها، حيث لم يكن خط الانحراف واضحاً في البداية، ولكن عندما امتدّ الزمن بنشاط هذه المدرسة أصبح من الواضح مقدار ما تسبّبه هذه المدرسة من المشاكل والانحراف عن المنهج الإسلامي الأصيل في الفقه.

٢٣٢

وعلى هذا الأساس كان النقد الذي وجّهه أهل البيت إلى هذا الاتجاه أكبر من نقد المذاهب الفقهية الأُخرى، والتي لم تلتزم بهذا الطريق الخطير في عمليّة الاستنباط وإن كانت نتائجها غير صحيحةٍ أيضاً.

وحينئذٍ قد يُراد من التفسير بالرأي، هذا النوع من الرأي هو الاعتماد في فهم المضامين القرآنية على الذوق والاستحسان فيرى أنّ هذا النوع من المضمون هو الأقرب إلى النفس أكثر من غيره.

وفرق هذا الرأي عن الرأي الأوّل، هو أنّ الحالة الذاتية كان لها دورٌ في فهم (تفسير اللّفظ) في الرأي الأوّل، بينما كان لها دورٌ في فهم و(تفسير المعنى، وتشخيص المصداق) بناءً على هذا الرأي.

وعلى هذا الأساس نجد أنّ الكثير من المفسِّرين وقع في خطأٍ حينما فسّروا بعض مفاهيم القرآن، متأثّرين بكثيرٍ من القضايا الغربية التي أنشأت في أنفسهم استحسانات معيّنة، ففسّروا آية الشورى مثلاً تفسيراً يجعل مفهوم الشورى في الإسلام مفهوماً مطابقاً لمفهوم (الديمقراطية) أو الانتخابات البرلمانية الغربيّة، وهكذا.

إنّ هذا النوع من الاستحسان والقياس والاعتماد على الجانب الشخصي في تفسير (المعنى) هو في الواقع من تفسير القرآن بالرأي، ومن ثمَّ يكون واقعاً في طريق النهي الوارد بخصوص التفسير بالرأي.

وهذا الاحتمال الثالث لا يكون متضارباً مع ما ذكرناه من صحّة تفسير القرآن اعتماداً على الخلفيّة العقائدية الصحيحة؛ لأنّ هذه العملية ليست عملية استحسانٍ وقياس، وإنّما هي تصوّرات عقائدية مأخوذة من القرآن الكريم ومفاهيمه.

وقد حاول بعض المفسِّرين أن يُعطي لقضيّة (التفسير بالرأي) ومفهوم (الرأي) دائرةً أوسع، بحيث تشمل كلَّ جهدٍ يمارسه الإنسان الباحث والمفسِّر العالم في فهمه للقرآن الكريم، ويفترض بأنّ هذه النتائج هي (رأي)؛ لأنّه انتهى

٢٣٣

إليه من خلال جهده ونظره ومن ثمَّ يكون مصداقاً لذلك الحديث: (من فسّر القرآن برأيه فقد هوى).

وبهذه الطريقة يحاول هذا (البعض) أن يعطِّل البحث في القرآن الكريم وتفسيره، ويقول بأنّ الشيء الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في تفسير القرآن الكريم إنّما هو النصوص الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).

وقد أكّد هذا الاتجاه بعض النصوص المرويّة عن أهل البيت والتي حاول أن يفهمها أصحاب هذا الاتجاه على أنّها تمانع من ممارسة التفسير ما لم يعتمد على النصوص الواردة عن المعصومين (1) .

ولعلّ من الآثار التي تركها وجود هذا النوع من التفكير في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هو: عدم تطوّر حركة التفسير في هذه المدرسة تطوّراً يناسب التطوّرات المهمّة في المجالات الأُخرى لهذه المدرسة المعطاءة ذات المستوى العالي، والذي يمكن ملاحظته من خلال ما وصلت إليه بحوث علم الفقه والحديث والأُصول

________________________

(1) البحث حول هذه النصوص يتمّ عادةً في علم الأُصول تحت عنوان: (حجّيّة ظواهر القرآن) وهناك يُستدل بشكلٍ واضحٍ على عدم صحّة استنباط هذا المعنى من هذه النصوص، وكنموذجٍ لها قال أبو عبد الله في رسالة:

(فأمّا ما سألت عن القرآن فذلك أيضاً من خطراتك المتفاوتة... فليس يعلم ذلك أبداً ولا يوجد... ) وسائل الشيعة 18: 141 الحديث 38، باب 13، من أبواب صفات القاضي.

مع أنّ أئمّة أهل البيت أوضحوا ذلك في نصوص أُخرى منها عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّ رجلاً قال له أنت الذي تقول: ليس شيءٌ من كتاب الله إلاّ معروف، قال:

(ليس هكذا قلت، إنّما قلت: ليس شيءٌ من كتاب الله إلاّ عليه دليلٌ ناطقٌ عن الله في كتابه ممّا لا يعلمه الناس، إلى أن قال: إنّ للقرآن ظاهراً، وباطناً، ومعانياً، وناسخاً، ومنسوخاً، ومُحْكَماً، ومتشابِهاً، وسنناً، وأمثالاً، وفصلاً، ووصلاً، وأحرفاً، وتصريفاً، فمن زعم أنّ الكتاب مبهم فقد هلك وأهلك... ) وسائل الشيعة 18: 141 الحديث 39، الباب 13، من أبواب صفات القاضي.

٢٣٤

والكلام فيها، بل بقي التفسير فيها مواكباً للحركة العامّة للتفسير لدى المسلمين.

إلاّ أنّ هذا الفهم للتفسير بالرأي فهمٌ خاطئ، وهناك مجموعة من الأدلّة والبراهين تُشير إلى عدم صحّته، كما أن هناك طريقين يمكن اتّباعهما لإثبات ذلك، وهما:

أوّلاً:

البحث في الروايات والنصوص الواردة في موضوع التفسير بالرأي تفصيلاً، حيث نتوصّل من خلال ذلك إلى أنّ ما ذُكر فيها لا ينطبق على هذا المفهوم الواسع المذكور للتفسير بالرأي، وهذا البحث نؤجّله إلى بحث المُحْكَم والمتشابِه في الأبحاث التفسيرية.

ثانياً:

أن يتم من خلال الرجوع إلى مجموعة القرائن والأدلّة والشواهد الموجودة في الكتاب والسنّة الشريفة، ممّا لا يمكن أن ينسجم مع افتراض أن يكون (الرأي) المقصود بهذه الروايات هو هذا المعنى (الواسع) الشامل لحالة الجهد الشخصي الذي يتّخذ مسيراً صحيحاً، وينتهي إلى رأيٍ تفسيريٍّ معيّن، حتّى وإن لم يكن هذا التفسير مرتبطاً بالرواية عن المعصومين (عليهم السلام)، ومن هذه القرائن والأدلّة ما يلي:

الدليل الأوّل:

ما ورد من الآيات القرآنية المؤكّدة: أنّ القرآن الكريم قد نزل بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وأنّه نورٌ وهدىً للعالمين، وأنّه فيه تبيان كلِّ شيءٍ : كقوله تعالى:

( ... لسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (1) .

( ... قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) (2) .

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3) .

________________________

(1) النحل: 103.

(2) المائدة: 15.

(3) الشورى: 52.

٢٣٥

( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) (1) .

( ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ... ) (2) .

فإن هذه الآيات وآيات كثيرة وإن جاءت بأساليب ومضامين متعدّدة، كلها تصب في مصبٍّ واحدٍ، هو: أنّ القرآن الكريم وبحسب طبيعته يمكن أن يتفاعل معه الإنسان العادي، ويشكّل القرآن حينئذٍ مصدر الهداية ويكون تبياناً لكلِّ شيء، ممّا يدل على إمكانيّة فهم الكثير من المضامين والمعاني والهداية والنور الموجود فيه، وبشكلٍ مباشر، ولا يكون هذا الفهم من التفسير بالرأي حتّى إذا كان بدون الاستناد إلى روايةٍ أو حديثٍ معيّن، وإنّما نتيجة لجهد الإنسان الشخصي من خلال مراجعته لمجموعة المعلومات والقرائن المتوفّرة عنده.

وتأكيد القرآن: أنّه: ( ... لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) (3) يؤكّد هذه الحقيقة، إذ إنّ هذه الإبانة لا يمكن أن تُفترض في كتابٍ لا يمكن فهمه إلاّ بالرجوع إلى الروايات الموجودة في كتب الحديث؛ لأنّ الإبانة حينئذٍ لا تكون - في الواقع - إبانةً للقرآن الكريم، بل للأحاديث وهي التي ستكون (المبيّن)، وهذا هو خلاف الافتراض في أنّ القرآن بنفسه فيه حالة الإبانة والتوضيح والهداية.

خصوصاً وأنّ هذه الإبانة أحياناً تُنسب إلى النص القرآني من قبيل قوله تعالى: ( لِسَانٌ عَرَبِيٌّ ) واللسان يعبّر عن حالة النص والجانب المرتبط باللّفظ لا الجانب المرتبط بالمضمون.

ولذا فلا مجال لادّعاء أنّ هذا المضمون القرآني لا نفهمه إلاّ من خلال الروايات

________________________

(1) البقرة: 2.

(2) النحل: 89.

(3) النحل: 103.

٢٣٦

عن الأئمّة (عليهم السلام)، وحينئذٍ يكون مبيّناً بعد فهمه من خلال الروايات.

الدليل الثاني:

وهو ما ورد في آيات الحثِّ على التدبُّر والتأمُّل وفهم القرآن وأخذ معانيه والاهتداء بهديه، كقوله تعالى:

( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (1) .

( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (2) .

( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) (3) .

إنّ هذه الآيات تختلف عن تلك الآيات التي تُشير إلى وجود النور والهدى في القرآن الكريم، لاحتوائها على أمر المسلمين بالتدبّر والتفكّر في معاني ومفاهيم القرآن.

ومثل هذه الأوامر تكون أوامر لا فائدة منها لو فرضنا بأنّ القرآن الكريم لا يمكن أن يُفهم مباشرة، إلاّ بالاستعانة بالروايات والأحاديث الشريفة، خصوصاً وأنّ هذه الروايات لم تأت إلاّ في عصورٍ متأخِّرة.

الدليل الثالث:

هي الروايات المتواترة عن الأئمّة (عليهم السلام) والتي وردت في طلب عرض أخبارهم، وكذلك الشروط التي تشترط في (العقود) و(المعاملات) على القرآن، من أجل التعرّض على أنّ مضمون هذا الشرط أو الخبر هل هو منسجم مع الشريعة أم لا؟

فعن الصادق (عليه السلام): (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف) (4) .

وعنه (عليه السلام): (الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة، إن على كلِّ

________________________

(1) محمّد: 24.

(2) ص: 29.

(3) النساء: 82.

(4) وسائل الشيعة 18: 78 الباب 9، أبواب صفات القاضي الحديث: 12.

٢٣٧

حقٍّ حقيقة، وعلى كلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه) (1) .

(وكلّ شرطٍ خالف كتاب الله فهو رد) (2) .

(فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو ردّ إلى كتاب الله عزّ وجلّ) (3) .

بحيث جعلوا (عليهم السلام) القرآن الكريم ميزاناً وفرقاناً لمعرفة الشرط الصحيح من غيره والأخبار الصحيحة (مضموناً) من غيرها.

وهذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ بافتراض إمكانيّة فهم النص القرآني والتفاعل معه بشكلٍ مباشر، وافتراض صحّة هذا التعامل والنتائج التي يتوصّل إليها حتّى وإن احتيج في هذا إلى إعمال نظرٍ وبذلٍ وجهد؛ كما أنّ في هذا الأمر دلالة على أنّ الروايات نفسها تحتاج إلى أن يؤيّد النص القرآني مضامينها، فكيف يمكن حصر طريق فهم النص القرآني بها فقط؟!

وهذا الأمر من الأُمور الواضحة جدّاً عند مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بل عند المسلمين جميعاً.

والدليل الرابع:

هو السيرة الواضحة والمتواترة للأئمّة (عليهم السلام) في تعليمهم المسلمين في أنّ يأخذوا من القرآن الكريم مباشرة.

فقد ورد في كثيرٍ من أحاديث الأئمّة (عليهم السلام) استشهادهم على الأحكام التي يصدرونها بآيةٍ قرآنية، ممّا يدلُّ على إمكانيّة فهم هذا الحكم وبشكلٍ مباشرٍ من الآية القرآنية، إذ لو كان النص القرآني مغلقاً لما كان لهذا الاستشهاد معنى، ولَكان على الإمام (عليه السلام) أن يقول: أنا أفهم من الآية هكذا...

________________________

(1) المصدر السابق: حديث 35.

(2) وسائل الشيعة 13: 43 الباب 15 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.

(3) المصدر السابق: 165 الباب 4 من أبواب الصلح، الحديث 1.

٢٣٨

فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثلاً:

(يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزّ وجلّ ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ... ) ) (1) .

فقد استشهد الإمام (عليه السلام) بهذه الآية في مقام استنباط حكمٍ شرعيٍّ من قاعدةٍ كلّيّةٍ وهي قاعدة (لا حرج).

وقد علّم الإمام (عليه السلام) السائل كيف يستنبط هذا (الحكم) من تلك (القاعدة) الكلّيّة.

وهذا معناه أنّ الآية المباركة: ( ... وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ... ) يمكن أن يفهمها هذا الإنسان وبشكلٍ مباشرٍ، ممّا يدل على صحّة فهم المعنى من النص القرآني مباشرةً، وإن اعتمد على جهد الباحث.

وخلاصة القول: أنّ (التفسير بالرأي) المنهي عنه قد يشتمل على أحد الاحتمالات الثلاثة المذكورة سابقاً، وليس لهذا علاقة بقضية التدبّر في القرآن وفهم معانيه، والتي تؤدّي بالإنسان إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم (2) ، الأمر الذي أمر القرآن الكريم نفسه بهذا التدبّر، كما قرأناه في الآيات السابقة.

المُفَسِّر (*) :

الشروط التي يجب توفّرها في المفسِّر:

والتفسير بوصفه علماً تتوقّف ممارسته على شروطٍ كثيرةٍ لا يمكن بدونها أن

________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 327 الباب 39 من أبواب الطهارة الحديث 5 (الحج: 78).

(2) لا يعني هذا الكلام الاستغناء عن أحاديث النبي وأهل البيت التي وردت في التفسير، حيث يمكن أن تشكّل تلك الأحاديث قرينةً منفصلةً شأنها في ذلك شأن القرائن الأُخرى، ولا بُدّ من معرفتها ليمكن فهم القرآن بشكلٍ كاملٍ، ولكن لا يعني ذلك أيضاً أنّنا لا يمكن أن نفهم القرآن إلاّ من خلال الرواية.

(*) كتبه الشهيد الصدر.

٢٣٩

ينجح البحث في القرآن ويُوفّق المفسِّر في مهمّته، ويمكن أن نلخِّص تلك الشروط في الأُمور الأربعة التالية:

1 - يجب على المفسِّر أن يدرس القرآن ويفسّره بذهنيّةٍ (إسلامية) أي: ضمن الإطار الإسلامي للتفكير، فيقيم بحوثه دائماً على أساس أنّ القرآن كتابٌ إلهي، أُنزل للهداية وبناء الإنسانية بأفضل طريقةٍ ممكنة، ولا يخضع للعوامل والظروف والمؤثّرات التي يخضع لها النتاج البشري في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، فإن هذا الأساس هو الأساس الوحيد لإمكان فهم القرآن وتفسير ظواهره بطريقةٍ صحيحة.

وأمّا حين يستعمل المفسِّر في دراسة القرآن نفس المقاييس التي يدرس في ضوئها أيّ كتاب دعوة أُخرى أو أيّ نتاجٍ بشري، فهو يقع نتيجةً لذلك في أخطاء كبيرة واستنتاجات خاطئة، كما يتّفق ذلك لبحوث المستشرقين الذين يدرسون القرآن في ضوء نفس المقاييس التي يدرسون بها أيّ ظاهرةٍ من ظواهر المجتمع التي تنشأ فيه، وترتبط بمؤثّراته وعوامله وتتكيّف بموجبها.

وهذا الشرط تفرضه طبيعة الموقف العلمي؛ لأنّ المفهوم الذي يكوّنه المفسِّر عن القرآن ككل يشكّل القاعدة الأساسية لفهم تفصيلاته، ودرس مختلف جوانبه، فلا بُدّ أن يُبنى التفسير على قاعدةٍ سليمةٍ ومفهومٍ صحيحٍ عن القرآن، يتّفق مع الإطار الإسلامي للتفكير، لكي يتّجه اتجاهاً صحيحاً في الشرح والتحليل؛ وأمّا إذا أُقيم التفسير على أساس تقييمٍ خاطئٍ للقرآن ومفهومٍ غير صحيحٍ عنه، فسوف ينعكس انحراف القاعدة على التفصيلات، ويفرض على اتجاه البحث انحرافاً في التحليل والاستنتاج.

وفيما يلي نذكر بعض الأمثلة التي يتجلّى فيها مدى الفرق في الاتجاه بين دراسة القرآن بوصفه كتاباً إلهيّاً للهداية، ودراسته بوصفه ظاهرة في مجتمعٍ تتأثّر به

٢٤٠