علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207126
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207126 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وتتفاعل مع عوامله ومؤثّراته، وكيف تنعكس القاعدة التي يُقام على أساسها التفسير في التفصيلات وطريقة التحليل والاستنتاج؟

أ - ففي إقرار القرآن لعددٍ من الأعراف وألوانٍ من السلوك التي كانت سائدةً بين العرب قبل بزوغ نور الرسالة الجديدة، قد يُخيّل لمن ينطلق من قاعدةٍ خاطئةٍ ويحاول أنْ يُفسِّر القرآن بمقاييس غيره من منتجات الأرض أنّ ذلك الإقرار يعبّر عن تأثّر القرآن بالمجتمع الذي وُجد فيه، ولكنّ هذا التفسير لا معنى له حين ننطلق من القاعدة الصحيحة، ونفهم القرآن الكريم بوصفه كتاباً إلهيّاً للهداية وبناء الإنسانية، بالصورة التي تعيد إليها فطرتها النقيّة، وتوجّهها نحو أهدافها الحقيقية الكبرى.

بل نستطيع على أساس هذه القاعدة الصحيحة أن نفهم ذلك الإقرار من القرآن فهماً صحيحاً، إذ ليس من الضروري لكتاب هداية من هذا القبيل أن يشجب كلّ الوضع الذي كانت الإنسانية عليه قبله؛ لأنّ الإنسانية مهما تفسد وتنحرف عن طريق الفطرة والأهداف الحقيقية الكبرى فهي لا تفسد كلّها، بل تبقى في العادة جوانب صالحة في حياة الإنسانية تمثّل فطرة الإنسان أو تجاربه الخيّرة، فمن الطبيعي للقرآن أن يقر بعض الجوانب ويشجب أكثر الجوانب في عملية التغيير العظيم التي مارسها؛ وحتّى هذا الذي أقرّه وضعه في إطاره الخاص وربطه بأُصوله وقطع صلته بالجاهلية وجذورها.

ب - وفي تدرّج القرآن الكريم في التشريع، قد يُخيّل لمن ينطلق من القاعدة الخاطئة التي تقول ببشريّة القرآن يرتبط بطبيعة عمليّة البناء التي يمارسها القرآن؛ لأنّ القرآن لم ينزل ليكون كتاباً علمياً يدرسه العلماء، وإنّما نزل لتغيير الإنسانية وبنائها من جديد على أفضل الأُسس، وعملية التغيير تتطلّب التدرّج.

ج - وفي القرآن الكريم نجد كثيراً من التشريعات والمفاهيم الحضارية التي

٢٤١

كانت متبنّاة من قِبَل الشرائع السماوية الأُخرى: كاليهودية والنصرانية.

وقد يُخيّل لمن يدرس القرآن على أساس القاعدة الخاطئة بأنّ القرآن قد تأثّر وانفعل في ذلك بهذه الأديان، فانعكس هذا الانفصال ومن ثمَّ على القرآن نفسه.

ولكنّ الواقع - وعلى أساس المفهوم الصحيح - أنّ القرآن يمثّل الإسلام الذي هو امتداد لرسالات السماء وخاتمها، ومن الطبيعي أن تشتمل الرسالة الخاتمة على الكثير ممّا احتوته الرسالة السماوية السابقة، وتنسخ الجوانب التي لا تتلائم مع التطوّرات النفسية والفكرية والاجتماعية للمرحلة التي وصل إليها الإنسان بشكلٍ عام؛ لأنّ مصدر الرسالات هذه كلّها واحد وهو الله سبحانه.

خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار إيمان الإسلام بهذه الوحدة في مصدر الرسالات وتأكيده إيّاها.

2 - وبعد سلامة القاعدة الأساسية في فهم القرآن وتقييمه يجب أن يتوفّر في المفسِّر مستوى رفيع من الاطّلاع على اللُّغة العربية ونظامها؛ لأنّ القرآن جاء وفق هذا النظام، فإذا لم تكن لدينا صورة عن النظام العام للُّغة العربية لا نستطيع أن نستوعب معاني القرآن؛ فيحتاج المفسِّر إلى الاطّلاع على علم النحو، والصرف، والمعاني، والبيان، وغيرها من العلوم العربية؛ والقدر اللاّزم توفّره من هذا الشرط يختلف باختلاف الجوانب التي يريد المفسِّر معالجتها من القرآن الكريم، فحين يريد أن يدرس فقه القرآن مثلاً، لا يحتاج التعمّق في أسرار اللُّغة العربية بالدرجة التي يحتاجها المفسّر إذا أراد أن يدرس الفن القصصي في القرآن، أو المجاز في القرآن مثلاً.

3 - ولا بُدّ للمفسّر أن يحاول إلى أكبر درجةٍ ممكنة الاندماج كلّيّاً في القرآن عند تفسيره، ونقصد بالاندماج في القرآن أن يُدرس النص القرآني ويُستوحي معناه دون تقييدٍ مسبقٍ باتجاهٍ معيّن غير مستوحىً من القرآن نفسه، كما يصنع

٢٤٢

كثيرٌ من أصحاب المذاهب الذين يحاولون في تفسيرهم إخضاع النص القرآني لعقائدهم، فلا يدرسون النص ليكتشفوا اتجاهه بل يفرضون عليه اتجاههم المذهبي، ويحاولون فهمه دائماً ضمن إطارهم العقائدي الخاص، وهذا ليس تفسيراً وإنّما هو محاولة توجيهٍ للمذهب وتوفيقٍ بينه وبين النص القرآني، ولهذا كان من أهم الشروط في المفسّر أن يكون على درجةٍ من التحرّر الفكري تتيح له الاندماج بالقرآن، وجعله قاعدةً لتكوين أيّ إطارٍ مذهبيٍّ بدلاً من جعل الاتجاه المذهبي المحدّد قاعدةً لفهم القرآن.

4 - وأخيراً لا بُدّ للمفسِّر من منهجٍ عامٍّ للتفسير، يحدّد فيه عن اجتهاد علمي طريقته في التفسير، ووسائل الإثبات التي يستعملها، ومدى اعتماده على ظهور اللّفظ وعلى نصوص السنّة، وعلى أخبار الآحاد، وعلى القرائن العقلية في تفسير النص القرآني؛ لأنّ في كلِّ واحدٍ من هذه الأُمور خلافاً علميّاً، ووجهات نظرٍ عديدة، فلا يمكن ممارسة التفسير دون أن تُدرس تلك الخلافات درساً دقيقاً، والخروج من هذه الدراسة بوجهات نظرٍ معيّنةٍ تؤلّف المنهج العام للمفسّر، الذي يسير عليه تفسيره.

ولمّا كانت تلك الخلافات تتّصل بجوانب من الأُصول والكلام والرجال وغيرها كان لزاماً على المفسّر لدى وضعه للمنهج ودراسته لتلك الخلافات أن يكون ملمّاً إلماماً كافياً بتلك العلوم.

٢٤٣

التفسير في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) *

بالرّغم من أنّ القرآن الكريم تميّز بأُسلوبٍ فريدٍ في اللُّغة العربية، وصل به إلى مستوى الإعجاز ولكنّه جاء أيضاً وفقاً للنظام العام للُّغة العربية، وتطبيقاً لقواعدها ومناهجها في التعبير، ومتّفقاً مع الذوق العربي العام في فنون الحديث، وعلى هذا الأساس كان يحظى بفهمٍ إجماليٍّ من معاصري الوحي - على وجه العموم - ولأجل ذلك كان البيان القرآني يأخذ بأَلبابِ المشركين، ويفتح قلوبهم للنور، وكثيراً ما اتّفق للشخص أن يستجيب للدعوة، ويشرح الله صدره للإسلام بمجرّد أن يسمع عدّة آياتٍ من القرآن، فلولا وجود فهمٍ إجماليٍّ عامٍّ للقرآن، لم يكن بالإمكان أن يحقّق القرآن هذا التأثير العظيم السريع في نفوس الأفراد، الذين عاشوا البيئة الجاهلية وظلامها.

ولكنّ هذا لا يعني أنّ معاصري الوحي، وقتئذٍ كانوا يفهمون القرآن كلَّه فهماً كاملاً شاملاً من ناحية المفردات والتراكيب، بنحوٍ يُتيح لهم أن يحدّدوا المدلول اللّفظي لسائر الكلمات والجُمَل والمقاطع التي اشتمل عليها القرآن الكريم، كما زعم ابن خلدون حيث قال في مقدّمته:

(إنّ القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه، في مفرداته وتراكيبه).

فإنّ نزول القرآن بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم لا يكفي وحده دليلاً على أنّهم كانوا - على وجه العموم - يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه.

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر.

٢٤٤

ويُدركون كلَّ ما يدلّ عليه اللّفظ القرآني من أحكام ومفاهيم؛ لأنّ كون الشخص من أبناء لغةٍ معيّنةٍ لا يعني اطّلاعه عليها اطّلاعاً شاملاً، واستيعابه لمفرداتها وأساليبها في التعبير، وفنونها في القول، وإنّما يعني فهمه للّغة بالقدْر الذي يدخل في حياته الاعتيادية.

ومن ناحيةٍ أُخرى: لا يتوقّف فهم الكلام واستيعابه على المعلومات اللُّغوية فحسب، بل يتوقّف إضافةً إلى ذلك على استعدادٍ فكريٍّ خاص، ومرانٍ عقليٍّ يتناسب مع مستوى الكلام، ونوع المعاني التي سيق لبيانها، وإذا كان العرب - وقتئذٍ - يعيشون حياةً جاهليةً من القاعدة إلى القمّة، ويعبّرون عن تراثٍ جاهليٍّ سيطر على مختلف شؤون حياتهم قروناً عديدةً فمن الطبيعي أن لا يتيّسر لهم حين الدخول في الإسلام - بصورةٍ تلقائيّة - الارتفاع ذهنيّاً وروحيّاً إلى المستوى الذي يُتيح لهم استيعاب مدلولات اللّفظ القرآني، ومعاني الكتاب الكريم الذي جاء لهدم الحياة الجاهلية ويقوّض أُسسها، ويبني الإنسان من جديد.

ومن ناحيةٍ ثالثة: نحن نعرف أنّ عملية فهم القرآن الكريم لا يكفي فيها النظر إلى جملةٍ قرآنيةٍ أو مقطعٍ قرآني، بل كثيراً ما يحتاج فهم هذا المقطع أو تلك الجملة إلى مقارنةٍ بغيره، ممّا جاء في الكتاب الكريم أو إلى تحديد الظروف والملابسات، وهذه الدراسة المقارنة لها قريحتها، وشروطها الفكرية الخاصّة، وراء الفهم اللُّغوي الساذج؛ وهكذا نعرف أنّ طبيعة الأشياء تدل على أنّ العرب المعاصرين لنزول القرآن كانوا يفهمون القرآن فهماً إجماليّاً، وأنّهم لم يكونوا على وجه العموم يفهمونه بصورةٍ تلقائيّةٍ، فهماً تفصيليّاً يستوعب مفرداته وتراكيبه.

الشواهد على عدم توفّر الفهم التفصيلي:

وهذا الذي تدلُّ عليه طبيعة الأشياء أكّدته أحاديث ووقائع كثيرة، دلّت على

٢٤٥

أنّ المعاصرين لرسول الله كانوا كثيراً مّا لا يستوعبون النص القرآني ولا يفهمون معناه، إمّا لعدم اطّلاعهم على مدلول الكلمة القرآنية المفردة من ناحيةٍ لُغويّة، أو لعدم وجود استعدادٍ فكريٍّ يُتيح لهم فهم المدلول الكامل، أو لفصل الجملة أو المقطع القرآني عن الملابسات والأُمور التي يجب أن يُقرن المقطع القرآني بها لدى فهمه (1) .

وإليكم عدداً من هذه الأحاديث والوقائع:

1 - عن الحاكم في المستدرك أنّ أنس قال بينا عمر جالس في أصحابه، إذ تلا هذه الآية:

( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً* وَحَدَائِقَ غُلْباً* وَفَاكِهَةً وَأَبّاً ) (2)

ثمّ قال هذا: كلّه عرفناه فما (الأب)؟

قال وفي يده عصية يضرب بها الأرض، فقال: هذا لَعمر الله التكلّف، فخذوا أيّها الناس بما بُيّن لكم فاعملوا به، وما لم تعرفوه فَكِلُوه إلى ربِّه.

وروي أيضاً أنّ عمر كان على المنبر فقرأ: ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ... ) (3) فسأل عن معنى التخوُّف، فقال له رجل من هذيل: التخوّف عندنا التنقص.

وجاء عن ابن عبّاس أنّه قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتّى أتاني أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها يقول أنا ابتدأتها.

كما رُوي عنه في تفسير الطبري أنّه سأل أبا الجلد عن معنى البرق في الآية 12 من سورة الرعد، فذكر له أنّ معناه هنا المطر.

2 - وجاء في تفسير الطبري أنّ عمر سأل الناس عن هذه الآية:

( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ

________________________

(1) ذكرنا وجود شواهد كثيرة على هذه الحقيقة وردت في كتب الحديث والتفسير، مثل الطبرسي وصحيح البخاري والمستدرك للحاكم وغيرها.

(2) عبس : 27 - 31.

(3) النحل: 47.

٢٤٦

أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ... ) (1)

فما وجد أحداً يشفيه، حتّى قال ابن عبّاس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين: إنِّي أجد في نفسي منها شيئاً، فتلفّت إليه فقال: تحوّل هاهنا لم تحقّر نفسك؟!

قال: هذا مَثَلٌ ضرَبَهُ الله عزّ وجل، فقال أيَوَدُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتّى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخيرٍ حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعملٍ من عمل أهل الشقاء فأفسده كلّه فحرقه، وهو أحوج ما يكون إليه.

وعن البخاري: أنّ عدي بن حاتم لم يفهم معنى قوله تعالى:

( ... وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ... ) (2) وبلغ من أمره أن أخذ عقالاً أسود فلمّا كان بعض الليل نظر إليهما فلم يستبينا، فلمّا أصبح أخبر الرسول بشأنه فافهمه المراد.

3 - ورُوي أنّ عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين، فقدم الجارود على عمر فقال: إنّ قدامة شرب فسكر.

فقال عمر: من يشهد على ما تقول قال الجارود: أبو هريرة يشهد على ما أقول.

فقال عمر: يا قدامة، إنّي جالدك، قال: والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، قال عمر: ولم؟

قال: لأنّ الله يقول:

( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ ) (3) ، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثمّ اتقوا وآمنوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله بدراً وأُحداً والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله فقال ابن عبّاس: إنّ هذه الآيات أُنزلت عذراً للماضين وحجّةً على الباقين؛ لأنّ الله يقول:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) (4) .

________________________

(1) و (2) البقرة: 266 و 187.

(3) و (4) المائدة: 93 و 90.

٢٤٧

فقال عمر: صدقت.

فهذه الوقائع تدل على أن بعض الصحابة كثيراً ما كانوا لا يفهمون القرآن بصورةٍ تلقائية، ويحتاجون في فهمه إلى السؤال، والبحث، إمّا لعدم الاطّلاع على المدلول اللُّغوي للكلمة كما في القسم الأوّل، أو لعدم الارتفاع فكريّاً إلى مستوى أغراض القرآن ومعانيه كما في القسم الثاني، أو للنظرة التجزيئية التي ورّطت قدامة بن مظعون في فهمٍ خاطئٍ للآية الكريمة كما في القسم الثالث.

ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدّم نقطةً أُخرى أيضاً وهي: أنّ الآية قد تكون من الناحية اللُّغوية في مستوى معلومات الشخص، ولكنّه يبقى مع ذلك - عند محاولة استيعاب المعنى - بحاجةٍ إلى البحث والسؤال لتعيين المصداق الذي يتجسّد فيه مدلول اللّفظة، ففي قوله تعالى: ( وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) (1) من الطبيعي أن يعرف الصحابة جميعاً - بحكم نشأتهم العربية - معنى كلمة (ليال) ومعنى كلمة (عشر)، ولكن يبقى بعد ذلك أن يعرفوا المصداق، وما هي الليالي العشر التي عناها الله تعالى؟

وكذلك الأمر في قوله تعالى: ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ) (2) ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً ) (3) فالمعرفة باللُّغة وحدها لا تكفي في هذه المجالات.

وهكذا نستنتج أنّ المسلمين في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يكن الفهم التفصيلي للقرآن ميسّراً لهم على وجه العموم، بل كانوا في كثيرٍ من الأحيان بحاجةٍ إلى السؤال والبحث والاستيضاح لفهم النص القرآني.

دور الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في التفسير:

وكان من الطبيعي أن يقوم الرسول الأعظم بدور الرائد في التفسير، فكان هو

________________________

(1) الفجر: 1 و 2.

(2) العاديات: 1.

(3) الذاريات: 1.

٢٤٨

المفسّر الأوّل يشرح النص القرآني، ويكشف عن أهدافه، ويقرّب الناس إلى مستواه كلاًّ حسب قابليّاته واستعداده الخاص، ويحلُّ للمسلمين ما تعترضهم من مشاكل في فهم النص الكريم، وتحديد معطياته وما يلتبس عليهم من أحكام ومفاهيم؛ لأنّ النبي بوصفه صاحب الرسالة، ومهبط الوحي كان قد أُعد إعداداً إلهيّاً لهذه المهمّة كغيرها من مهام الدعوة والرسالة، وتكفّل الله تعالى له بالحفظ والبيان:

( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (1) .

ولا يختلف المسلمون في الدور الرائد الذي قام به النبي الأعظم، بوصفه المفسّر الأوّل للقرآن إلى جانب دوره الرائد في مجال التطبيق لمفاهيم القرآن ونظرته العامّة إلى الكون والحياة.

ولكن السؤال الذي يُطرح بهذا الصدد عادةً هو السؤال عن حدود التفسير الذي مارسه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) ومداه، فهل شمل القرآن كلّه بأن كان يفسّر الآيات تفسيراً شاملاً؟

أو اقتصر على جزءٍ منه؟ أو كان يتناول الآيات التي يستشكل الصحابة في فهمها، ويسألون عن معناها فحسب؟

فهناك من يعتقد أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يفسّر إلاّ آياتٍ من القرآن، ويستند أصحاب هذا القول في ذلك إلى رواياتٍ تنفي أن يكون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد فسّر القرآن كلّه تفسيراً شاملاً، وعلى رأس هؤلاء السيوطي (2) .

فمن تلك الروايات ما أخرجه البزّار عن عائشة قال: (ما كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يفسّر... إلاّ آياً بعدد... ) (3) .

وأهمّ ما يُعزّز هذا القول هو طبيعة الأشياء والواقع المشهود؛ لأنّ ندرة ما صح عن الصحابة من التفسير بالمأثور عن النبي (صلّى الله عليه وآله) تدل على أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يكن قد

________________________

(1) القيامة: 17 - 19.

(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 196، 200 للسيوطي، ط2، منشورات الرضي - بيدار.

(3) التفسير والمفسِّرون 1: 51، للذهبي، دار الكتب الحديثة.

٢٤٩

فسّر للصحابة على وجه العموم آيات القرآن جميعاً تفسيراً شاملاً، وإلاّ لكثرت روايات الصحابة عنه بهذا الشأن، ولما وجدنا الكثرة الكاثرة منهم أو كبار رجالاتهم يتحيّرون في معنى آية، أو كلمة من القرآن ويغيب عنهم حتّى المدلول اللفظي للنص، والعبرة المباشرة التي يستهدفها كما سبق في الروايات والوقائع المتقدّمة.

ولكن توجد في مقابل ذلك أدلّة وشواهد من القرآن الكريم وغيره تُشير إلى أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) كان يقوم بعمليّة تفسيرٍ شاملٍ للقرآن كلِّه، ولعلّ في طليعة ذلك قوله تعالى:

( كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ) (1) .

وقوله تعالى:

( ... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (2) .

وطبيعة الأشياء حين ننظر إليها من زاويةٍ أُخرى، غير الزاوية السابقة التي نظرنا من خلالها في إطار القول الأوّل تدل على أنّ النبي قد فسّر القرآن تفسيراً شاملاً كاملاً؛ لأنّنا عرفنا:

من ناحية أنّ الفهم الإجمالي للقرآن لم يكن كافياً لكي يفهم الصحابة القرآن فهماً شاملاً دقيقاً، ولم يكن انتساب الصحابة غالباً إلى اللُّغة العربية ضماناً كافياً لاستيعاب النص القرآني، وإدراك معانيه.

ومن ناحيةٍ أُخرى نحن نعرف: أنّ القرآن لم يكن في حياة المسلمين مجرّد نص أدبي أو أشياء تُرتّل ترتيلاً في عباداتهم وطقوسهم، وإنّما كان الكتاب الذي أُنزل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتزكيتهم وتثقيفهم

________________________

(1) البقرة: 151.

(2) النحل: 44.

٢٥٠

والارتفاع بمختلف مستوياتهم، وبناء الشخصية الإسلامية الواعية للفرد والأُسرة والمجتمع.

ومن الواضح أنّ هذا الدور العظيم لا يمكن للقرآن الكريم أن يؤدّيه بصورةٍ كاملةٍ شاملة، ما لم يُفهم فهماً كاملاً شاملاً، ويصل المسلمون إلى أهدافه ومعانيه، ويندمجون بمفاهيمه، ومصطلحاته.

وأما إذا تُرك القرآن بدون تفسير موجّه توجيهاً رساليّاً، فسوف يُفهم من قِبَل المسلمين ضمن إطاراتهم الفكرية، وعلى المستوى الثقافي والذهني الذي كان الناس يعيشونه - وقتئذ - وتتحكّم في تفسيره كل الرواسب، والمسبقات الذهنيّة التي كانت لا تزال تتحكّم في كثيرٍ من الأذهان.

وهكذا نجد أنفسنا أمام تناقضٍ بين قولين لكلٍّ منهما شواهده ومعزّزاته، ويحتاج هذا التناقض إلى حل.

وقد لا نجد حلاًّ منطقيّاً أقرب إلى القبول من القول: بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) فسّر القرآن الكريم على مستويين:

فقد كان يفسّره على (المستوى العام) في حدود الحاجة، ومتطلّبات الموقف الفعلي، ولهذا لم يستوعب القرآن كلّه.

وكان يفسّره على مستوى خاص، تفسيراً شاملاً كاملاً بقصد إيجاد من يحمل تراث القرآن، ويندمج به اندماجاً مطلقاً بالدرجة التي تُتيح له أن يكون مرجعاً بعد ذلك في فهم الأُمّة للقرآن، وضماناً لعدم تأثّر الأُمّة في فهمها بإطارات فكرية خاصّة، ومسبقات ذهنيّة، أو رواسب جاهلية.

ونحن إذا فسّرنا الموقف في هذا الضوء، وجدنا أنّه يتّفق مع طبيعة الأشياء من كلِّ ناحية.

فندرة ما صحّ عن الصحابة من الروايات عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في التفسير مَرَدّها إلى

٢٥١

أنّ التفسير على (المستوى العام) لم يكن يتناول جميع الآيات، بل كان يُقصر على قدر الحاجة الفعليّة.

ومسؤولية النبي (صلّى الله عليه وآله) في ضمان فهم الأُمّة للقرآن، وصيانته من الانحراف يعبّر عنها (المستوى الخاص) الذي مارسه من التفسير، فقد كان لا بُدّ للضمان من هذا المستوى الخاص، ولا يكفي المستوى العام لحصول هذا الضمان حتّى لو جاء التفسير مستوعباً؛ لأنّه يجيء عندئذٍ متفرّقاً ولا يحصل الاندماج المطلق، الذي هو شرطٌ ضروريٌّ لحمل أمانة القرآن.

ونفس المخطّط كان لا بُدّ من اتّباعه في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة، من تفسيرٍ وفقهٍ وغيرهما * .

المرجعيّة الفكريّة لأهل البيت (عليهم السلام):

وهذا الحلُّ المنطقي للموقف، تدعمه النصوص المتواترة الدالّة على وضع النبي (صلّى الله عليه وآله) لمبدأ مرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف الجوانب الفكرية للرسالة، ووجود تفصيلات خاصّة لدى أهل البيت (عليهم السلام) تلقّوها عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في مجالات التفسير والفقه وغيرهما.

أمّا النصوص التي تمثّل مبدأ مرجعيّة أهل البيت (عليهم السلام) في الجوانب الفكرية للرسالة فهي كثيرةٌ، نذكر عدّة نصوصٍ منها:

الأوّل:

حديث الثقلين، وقد جاء بصيغ عديدةٍ نذكر منها ما رواه الترمذي في صحيحه، بسنده عن أبي سعيد والأعمش، عن حبيب بن ثابت، عن زيد بن أرقم قالا: (قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم:

(إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض فانظروا كيف

________________________

(*) انتهى ما كتبه الشهيد الصدر.

٢٥٢

تخلفوني فيهما)) (1) .

الثاني:

حديث الأمان، فقد روى الحاكم في مستدرك الصحيحين بسنده عن ابن عبّاس، قال:(قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم:

(النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلةٌ من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)).

قال الحاكم هذا حديثٌ صحيح الإسناد، كما ذكر ابن حجر في صواعقه وصححه (2) .

الثالث:

حديث السفينة، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره كثير، أنّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) كان يقول:

(مثل أهل بيتي مثل سفينة نوحٍ من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق) (3) .

________________________

(1) صحيح الترمذي 2: 308.

وقد رُوي حديث الثقلين بأسانيد وطرق عديدة عن مجموعة من الصحابة والتابعين، مثل: زيد بن أرقم وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وحذيفة بن أسيد الغفاري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة، كما جاء هذا الحديث بصِيَغٍ متعدّدةٍ؛ حيث رواه الترمذي ومسلم في صحيحيهما والحاكم في مستدرك الصحيحين، وأحمد بن حنبل في مسنده، وأبو نعيم في حُلية الأولياء، والهيثمي في مجمعه، وابن حجر في صواعقه، والمتقي في كنز العمّال، والطبراني في الكبير، وابن الأثير الجزري في أُسد الغابة، وابن جرير في تهذيب الآثار، والخطيب البغدادي في تأريخ بغداد، وغيرهم كثيرون، وقال السمهوري على ما روى عنه المناوي في فيض الغدير: وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة، وقال ابن حجر في صواعقه: ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضعة وعشرين صحابيّاً لا حاجة لنا ببسطها.

راجع فضائل الخمسة في الصحاح الستّة وغيرها من كتب أهل السنّة 2: 52 - 60.

(2) مستدرك الصحيحن 3: 149، والصواعق: 140.

(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 343، وقال إنّه حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، ورواه أيضاً بطريقٍ آخر عن حنش، عن أبي ذر الغفاري في 3: 16، وذكره المتقي في كنز العمّال، وابن جرير والهيثمى والبزّار والطبراني في الكبير والأوسط والصغير وأبو نعيم في الحُلية.

٢٥٣

الرابع:

حديث الحق، فقد روى الترمذي في صحيحه عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:

(رحم الله عليّاً، اللّهم أدر الحقَّ معه حيث دار) (1) ، كما رُوي هذا الحديث بصِيَغٍ أُخرى منها:

(عليٌّ مع الحق والحقُّ مع علي، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة) (2) .

الخامس:

حديث القرآن، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره أنّ النبي قال:

(عليٌّ مع القرآن والقرآن مع علي، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض) (3) .

السادس:

حديث الحكمة، فقد روى الترمذي في صحيحه وغيره أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال:

(أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها) وقد شرح المناوي في هامش فيض القدير كلمة (علي بابها) : أي علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو الباب الذي يُدخل منه إلى الحكمة (4) .

السابع:

حديث المدينة، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله):

(أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب).

قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد (5) .

الثامن:

حديث الاختلاف، فقد روى الحاكم في المستدرك وغيره، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال لعليٍّ (عليه السلام):

(أنت تبيِّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه بعدي) قال: هذا

________________________

وأحمد بن حنبل والخطيب البغدادي والسيوطي والمناوي والمحب الطبري وغيرهم، راجع فضائل الخمسة 2: 64 - 66.

(1) الترمذي 2: 298.

(2) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 14: 321، راجع تفصيل الرواة في الفضائل الخمسة 2: 122 - 124.

(3) مستدرك الصحيحين 3: 124، وفضائل الخمسة 2: 126.

(4) الترمذي 2: 299 ورواه غيره، انظر فضائل الخمسة 2: 279 - 280.

(5) مستدرك الصحيحين 3: 126، انظر فضائل الخمسة 2: 281 - 283.

٢٥٤

حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين (1) .

التاسع:

حديث السؤال، فقد روى جماعةٌ من المحدثين منهم المتّقي في كنز العمّال، وابن سعد في طبقاته وابن جرير في تفسيره، وابن حجر في تهذيب التهذيب، وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهم بألفاظٍ مختلفةٍ أنّ علي ابن أبي طالب (واللّفظ للمتّقي في كنز العمّال)، قال:

(سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ يكون إلى يوم القيامة إلاّ حدثتكم، سلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلاّ أنا، أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل نزلت أم في جبل... ) (2) .

إضافةً إلى هذه الأحاديث وأمثالها الكثيرة، نجد أنّ الصحابة في عصر الخلافة الأُولى كانوا يرجعون إلى علي (عليه السلام) في مختلف القضايا المهمّة والمستعصية، وخصوصاً في مجال تفسير القرآن والقضاء ومعرفة الشريعة، حيث وردت النصوص الكثيرة والتي صحّحها أصحاب الحديث تؤكّد هذا الموقف العملي من الصحابة وهذه الحقيقة الناصعة.

فقد روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه في باب قوله تعالى: ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا... ) (3) بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، حديثاً قال فيه: قال عمر (واقضانا علي... ) ورواه بقيّة رجال الحديث مثل الحاكم في المستدرك، وأحمد بن حنبل في مسنده و... (4) .

كما روى ابن ماجة في صحيحه حديثاً بسندين عن أنس بن مالك قال فيه: إنّ

________________________

(1) المصدر السابق 3: 122، وانظر فضائل الخمسة 2: 284 - 285.

(2) كنز العمّال: 1: 228، راجع أيضاً فضائل الخمسة 2: 226 - 267.

(3) البقرة: 106.

(4) راجع فضائل الخمسة 2: 296 - 298.

٢٥٥

النبي قال: (وأقضاهم علي بن أبي طالب)، وفي روايةٍ أُخرى للحاكم، صحيحة على شرط الشيخين، أنّ ابن مسعود كان يقول: (إنّ أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب).

وقد روى أبو نعيم في الحُلية عن ابن مسعود قال:

(إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن، وإنّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنده علم الظاهر والباطن) (1) .

وقد كان يعترف بهذه الحقيقة حتّى أعداء علي (عليه السلام)، أمثال الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي، حيث يقول:

(إنّنا لم ننقم على عليٍّ قضاءه، قد علمنا أنّ عليّاً كان أقضاهم) (2) .

وقد رجع أبو بكر وعمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان، وحتّى معاوية بن أبي سفيان بالرّغم من العداء القائم بينهما، وكذلك الكثير من كبار الصحابة، مثل: عائشة زوج النبي (صلّى الله عليه وآله) وعبد الله بن عمر وغيرهما ممّن كان يرجعون - أو يدلّون الناس على الرجوع إلى علي (عليه السلام) - في عددٍ كبيرٍ من القضايا ذكرها كبار رجال أهل الحديث والتأريخ، أمثال: البخاري وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وابن داود والحاكم والبيهقي وغيرهم، وخصوصاً في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطّاب (3) .

لقد كانت هذه المرجعيّة حقيقةً قائمةً على مستوى الواقع العلمي لدى الخلفاء وبعض أهل المعرفة من الصحابة، ولكنّها كانت عند الضرورة ومواطن الإحراج والإشكال، ولم يتم الاّعتراف بها - مع الأسف الشديد - على المستوى الرسمي

________________________

(1) حُلية الأولياء 1: 65.

(2) راجع فضائل الخمسة 2: 296 - 298.

(3) المصدر السابق 2: 306 - 344.

٢٥٦

للخلافة والحكم، لأسباب متعدّدة لا مجال لذكرها في هذا البحث (1) ، الأمر الذي جعل الباب مفتوحاً أمام الصحابة والتابعين أو غيرهم - حتّى الأدعياء - أن يمارسوا العمليّة التفسيرية للقرآن الكريم، من خلال المستوى العام لفهم القرآن الكريم.

وقد ظهرت معالم الخلل في هذا الانفتاح الواسع على مرجعيّة الصحابة، دون التمييز بين هذه الخصائص الفريدة التي كان يختص بها أهل البيت (عليهم السلام)، وفي مقدّمتهم علي (عليه السلام) وبين بقيّة الصحابة الذين تناولوا القليل من العلم، فضلاً عن أُولئك الأشخاص الذين لم يكونوا في الحقيقة من أصحاب النبي، وإنّما كانوا من (الأدعياء) الذين حاولوا أن يتسلّقوا هذا الموقع الروحي المقدّس بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) فألصقوا أنفسهم به.

ولعلّ خير ما يصوّر لنا بدايات هذا الخلل، ووجود هذين المستويين من التفسير ما رواه الكليني والصدوق وغيرهما، عن سليم بن قيس الهلالي، عن عليٍّ (عليه السلام)، قال سليم:

(قلت لأمير المؤمنين (عليه السلام): إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبي الله (صلّى الله عليه وآله) غير ما في أيدي الناس، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن، ومن الأحاديث عن نبي الله (صلّى الله عليه وآله) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون بأنّ ذلك كلّه باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متعمّدين

________________________

(1) لقد حاول الأُمويّون أعداء أهل البيت (عليهم السلام) بعد ذلك أن يعمّقوا حالة الانحراف في الأُمّة، من خلال إصرارهم على طرح الأدعياء من الصحابة كمرجعٍ للأمّة في الشؤون الدينية، في الوقت الذي أخذوا يطاردون كلّ من يذكر عليّاً، أو يذكر الأخذ من عليٍّ (عليه السلام)، كما تُشير إلى ذلك الوقائع والأحداث والنصوص التأريخية، واستجاب لهذا الخط الانحرافي العبّاسيون، بسبب الشعور بالخوف من غلبة وظهور أبناء علي (عليه السلام) على الساحة السياسية، إذا ارتبطت الأُمّة بهم فكريّاً ومذهبيّاً.

٢٥٧

ويفسّرون القرآن بآرائهم؟

قال فأقبل عليٌّ فقال:

(قد سألتَ فافهم الجواب: إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً وصدقاً وكذباً... وحفظاً ووهماً، وقد كُذّب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على عهده حتّى قام خطيباً، فقال: (أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذّابة، فمن كَذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار)، ثمّ كُذّب عليه من بعده، وإما أتاكم الحديث من أربعةٍ ليس لهم خامس:

رجل منافق يُظهر الإيمان، متصنّع بالإسلام، لا يتأثّم ولا يتحرّج أنْ يكذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متعمّداً، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا صحب رسول الله ورآه وسمع منه، وأخذوا عنه، وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عزّ وجلّ:

( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ... ) (1) .

ثمّ بقوا بعده... فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيئاً لم يحمله على وجهه ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً، فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلو علم المسلمون أنّه وهمٌ لم يقبلوه، ولو علم هو أنّه وهمٌ لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شيئاً أمر به، ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيءٍ، ثمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ، ولو علم أنّه منسوخٌ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخٌ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مبغضٌ للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم يُنقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، فإنّ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) مثل القرآن: ناسخٌ ومنسوخ وخاص وعام ومُحْكَم ومتشابِه، قد

________________________

(1) المنافقون: 4.

٢٥٨

كان يكون من رسول الله الكلام له وجهان، كلام عام وكلام خاص مثل القرآن.

وقال الله عزّ وجلّ في كتابه:

( ... مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا... ) (1)

فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله (صلّى الله عليه وآله)، وليس كلّ أصحاب رسول الله كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه، حتّى كانوا ليحبّون أن يجيء الإعرابي والطاري، فيسأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حتّى يسمعوا، وقد كنت أدخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلّ يومٍ دخلة، وكلّ ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه لم يصنع ذلك بأحدٍ من الناس غيري، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أكثر ذلك في بيتي، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني، وأقام عني نساءه فلا يبقى عنده غيري، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ، وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكتُّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) آية من القرآن إلاّ اقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومُحْكَمها ومتشابِهها وخاصّها وعامّها، ودعا الله أن يعطيني فهمها وحفظها، فما نسيتُ آيةً من كتاب الله تعالى، ولا علماً أملاه عليّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك شيئاً علّمه الله من حلالٍ ولا حرام، ولا أمرٍ ولا نهي، كان أو يكون، ولا كتاب منزل على أحدٍ قبله من طاعةٍ أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته، فلم أنس حرفاً واحداً... )) (2) .

التفسير في عصر التكوين (*) :

عرفنا دور الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في تفسير القرآن، وتفسيره على مستويين:

________________________

(1) الحشر: 7.

(2) الكافي 1: 62، الحديث 1.

(*) كتبه الشهيد الصدر.

٢٥٩

عامٍّ وخاصٍّ، وتعيين النبي أهل البيت (عليهم السلام) للمرجعيّة الدينية بعد أن فسّره لهم بشكلٍ خاص.

ويحسن بنا - بعد ذلك - أن نرى مسيرة تكوّن علم التفسير عند المسلمين في ظل الظروف والمعطيات السياسية والاجتماعية والمواصفات التي كان يتّصف بها مجتمع المسلمين في عصر نزول القرآن الكريم وبعده، ومع غض النظر عن التخطيط الذي وضعه الرسول الأعظم.

إنّ من البديهيّات الإسلامية أنّ القرآن الكريم لم يكن كتاباً علميّاً جاء به الرسول الأعظم من أجل تفسير مجموعةٍ من النظريّات العلميّة، وإنّما هو كتابٌ استهدف منه الإسلام بصورةٍ رئيسةٍ تغيير المجتمع الجاهلي وبناء الأُمّة الإسلامية على أساس المفاهيم والأفكار الجديدة التي جاء بها الدين الجديد، وهو من أجل تحقيق هذه الغاية، والوصول إلى هذا الهدف الرئيس جاء منجماً متفرقاً من أجل أن يعالج القضايا في حينها، ويضع الحلول للمشاكل في أوقاتها المناسبة، مراعياً في ذلك كلّ ما تفرضه عمليّة التغيير والبناء من تدرّج وأناة، وليحقّق التغيير في كلِّ الجوانب الاجتماعية والإنسانية، منطلقاً مع المحتوى الداخلي للفرد المسلم ليشمل البنيات الفوقيّة للمجتمع.

وعلى هذا الأساس لم يكن شعور المسلمين بشكلٍ عام تجاه المحتوى القرآني ذلك الشعور الذي يجعلهم ينظرون إلى القرآن الكريم كما ينظرون إلى الكتب العلميّة التي تحتاج إلى الدرس والتمحيص، وإنّما هو شعورٌ ساذجٌ بسيط؛ لأنّ القرآن كان يسير معهم في حياتهم الاعتيادية، بما زخرت به من ألوان مختلفة فيعالج أزماتهم الروحية والسياسية، ويتعرّض بالنقد للأفكار والمفاهيم الجاهلية، ويناقش أهل الكتاب في انحرافاتهم العقيديّة والاجتماعية، ويضع الحلول الآنيّة للمشاكل التي تعتريهم، ويربط بين كلّ من هذه الأُمور بعرض مفاهيم الدين

٢٦٠