علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207072
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207072 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجديد عن الكون والمجتمع والأخلاق.

كلّ ذلك قام به القرآن الكريم ولكن بشكلٍ تدريجي، يسمح لعامّة المسلمين أن ينظروا إليه كأحداثٍ تُشكِّل جزءاً من حياتهم الاجتماعية، وقد كان المسلمون يفهمون القرآن من خلال هذه النظرة وعلى أساس ما لديهم من خبرةٍ عامّة، وهي تعني جميع المعلومات التي تحصل لدى الإنسان في مجرى حياته الاعتيادية؛ وهذه الخبرة العامّة التي كان المسلمون يفهمون النص القرآني بموجبها في ذلك العصر ذات عناصر مختلفة نعرف من خلالها أنّهم كانوا يمتازون بها علينا وعلى العصور الأُخرى المتأخِّرة بالرّغم من بساطتها، ويمكن أن نُلخّصها بالأُمور التالية:

أ - الثقافة اللُّغوية العامّة؛ فالقرآن نزل باللُّغة العربية التي كانت تمثِّل لغة المسلمين في ذلك العصر؛ لأنّ الوجود الإسلامي حينذاك لم يكن قد انفتح على الشعوب الأُخرى، وهذه الثقافة اللُّغوية كانت تمنح المسلمين فهماً إجماليّاً للقرآن من ناحيةٍ لُغويّة.

ب - تفاعل المسلمين مع الأحداث الإسلامية وأسباب النزول، ذلك أن القرآن - كما نعرف - نزل في كثيرٍ من الأوقات بسبب حوادث معيّنة أثارت نزول الوحي، والمسلمون بحكم ارتباطهم بهذه الحوادث، واطّلاعهم على ظروفها الخاصّة المحيطة بها كانوا يتعرّفون بشكلٍ إجماليٍّ أيضاً محتوى النص القرآني ومعطياته وأهدافه.

ج - الفهم المشترك للعادات والتقاليد العربية؛ فنحن نعرف أنّ القرآن الكريم حارب بعض العادات والتقاليد العربية وندّد بها، والعرب بحكم ظروفهم الاجتماعية كانوا على اطّلاعٍ بما تعنيه هذه العادات، ومن ثمَّ على المفهوم الجديد عنها، فمن الطبيعي أن يفهموا قوله تعالى:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ... ) (1)

________________________

(1) التوبة: 37.

٢٦١

وقوله تعالى:

( ... وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا... ) (1) وقوله: ( ... إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ... ) (2) ؛ لأنّهم يعرفون (النَّسِيءُ) (واتيان البيوت من ظهورها) (وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ) أُموراً كانت قائمةً في المجتمع الجاهلي، وكانوا يعيشونها.

د - دور الرسول (صلّى الله عليه وآله) في التفسير، فقد كان الرسول الأعظم يُباشر التفسير أحياناً في مجرى الحياة الاعتيادية للمسلمين - كما عرفنا - فكان يجيب على الأسئلة التي تدور في أذهان المسلمين عن القرآن ومعانيه، ويشرح النص القرآني في المناسبات التي يفرضها الموقف القيادي الذي كان يضطلع به الرسول من موعظةٍ أو توجيهٍ أو حثٍّ على العمل في سبيل الله والإسلام.

وهذه العناصر في الحقيقة تمثّل ما كان عليه المسلمون من فهمٍ بسيطٍ وساذجٍ للقرآن؛ لأنّها عناصر كانت تعيش مع المسلمين في مجرى حياتهم الاعتيادية دون أن تكلّفهم مجهوداً ذهنيّاً، أو عناءً علميّاً.

ولدينا عدّة نصوصٍ، تؤكّد هذا الفهم الساذج للقرآن الذي كان عليه المسلمون في هذه المرحلة من حياتهم الفكرية، فنحن نجد عمر بن الخطاب في مرحلةٍ متأخِّرةٍ عن هذا الوقت يجد في فهم كلمة (أبّا) تكلّفاً ونجد عَدي بن حاتم يقع في حيرةٍ حين يحاول أن يفهم: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ) ويشاركه في هذه الحيرة جماعةٌ من المسلمين، ولا ترتفع حيرتهم إلاّ بعد أن يراجعوا الرسول (صلّى الله عليه وآل وسلّم) (3) ونجد ابن عبّاس لا يعرف معنى (فاطر) حتّى يطّلع

________________________

(1) البقرة: 189.

(2) المائدة: 90.

(3) راجع البخاري، فتح الباري 9: 249 وغيره من النصوص التي ذكرناها في فصل التفسير في عصر الرسول (صلّى الله عليه وآله).

٢٦٢

عليه من قِبَل أعرابي (1) .

فهذه الأحداث على ضآلتها تعكس لنا المرحلة التي كان يعيشها المسلمون عصر نزول القرآن.

ولعلّ من الدلائل على هذا الفهم الساذج للقرآن من قِبَل المسلمين ما نلاحظه في القراءات المتعدّدة للقرآن، الشيء الذي قد يكون ناتجاً عن سذاجة بعض القرّاء من الصحابة في ضبط الكلمة القرآنية، وقراءتها بالشكل الذي يتّفق مع بعض الاتجاهات اللُّغوية التي عاصرت نزول القرآن، ثمّ تداولها المسلمون على أساس أنّها قراءةٌ إسلامية تَمُتُّ بالنَّسَبِ إلى شخص النبي (صلّى الله عليه وآله).

ومن الممكن أن يكون أحد العوامل التي كان لها تأثيرٌ فاعلٌ في هذا الفهم الساذج للقرآن هو حياة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) المثقلة بالأعمال والأحداث، ومن ثمَّ تأثّر حياة المسلمين بشكلٍ عام من جرّاء ذلك، وقد أشار الإمام علي (عليه السلام) في حديثه المتقدّم الذي رواه ثقة الإسلام الكليني، إلى هذه الظاهرة العامّة التي كانت تشمل الصحابة حيث قال:

(ورجل سمع من رسول الله فلم يحفظه على وجهٍ ووهم فيه، ولم يتعمّد كذباً... ورجل ثالث سمع من رسول الله شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيءٍ ثمّ أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ... ) (2)

ولسنا بحاجةٍ لأن نؤكّد هنا أنّ هذا الفهم الساذج للقرآن الكريم من قِبَل عامّة المسلمين لم يكن يتنافى مع الدور القيادي الذي يضطلع به الرسول الأعظم، بعد أن عرفنا أنّ حياته (صلّى الله عليه وآله) كانت مثقلةً بالأعمال والأحداث، الأمر الذي لم يكن يُتيح له الفرصة الكافية للقيام بدور المفسِّر لعامّة المسلمين.

________________________

(1) راجع الفصل السابق (التفسير في عصر الرسول).

(2) الكافي 1: 62، الحديث 1.

٢٦٣

بذور تكوّن علم التفسير:

وإلى جانب هذا الفهم الساذج للقرآن الذي لا يسمح لنا بإطلاق اسم (العلم) عليه نلاحظ ملامح خبرةٍ خاصّةٍ بدأت بالنمو والتجمّع عند عددٍ من الصحابة، نتيجة عوامل متعدّدةٍ ذاتيّةٍ وموضوعيّة، من قبيل حرص بعضهم بشكلٍ أكثر من غيرهم على الاستفادة من مجالس الرسول وحفظ ما يرد في كلامه من شرحٍ للنص القرآني أو تعليقٍ عليه، ومحاولة الواعين منهم التعرّف على تفصيلاتٍ أكبر مقدارٍ ممكنٍ من المعاني القرآنية، أو بسبب ظروفهم الموضوعيّة التي كانت تفرض وجودهم مع الرسول في المدينة، وفي غزواته المتعدّدة؛ ولدينا عدّة نصوصٍ تشير إلى هذا المعنى في عددٍ من الصحابة:

1 - عن عبد الرحمن السلمي قال: حدّثنا الذين كانوا يقرؤن القرآن؛ أنّهم كانوا إذا تعلّموا من النبي (صلّى الله عليه وآله) عشر آياتٍ لم يتجاوزوها حتّى يعلموا ما فيها من العلم والعمل... قالوا فتعلّمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون مدّةً في حفظ السورة (1) .

2 - عن شقيق بن سلمة، خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من فيِّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّي من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم (2) .

3 - عن أبي الطفيل: قال شهدت عليّاً (عليه السلام) يخطب وهو يقول:

(سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلاّ أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آيةٍ إلاّ وأنا أعلم أبليلٍ نزلت أم بنهارٍ، أم في سهلٍ أم في جبل).

4 - عن نصير بن سليمان الأحمسي عن أبيه عن عليٍّ (عليه السلام) قال:

(والله ما نزلت

________________________

(1) الإتقان 2: 176، ط 1368.

(2) البخاري، فتح الباري 1: 423.

٢٦٤

آيةٌ إلاّ وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، إنّ ربي وهب لي قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً) (1) .

فنحن نلاحظ في هذه النصوص أنّ بذور المعرفة التفسيريّة القائمة على العناية والتخصّص، إنّما كانت على مستوىً خاصٍّ من الصحابة، الأمر الذي أدّى إلى ولادة التفاوت بين المسلمين في جميع المعارف الإسلامية، الأمر الذي أدّى إلى ولادة التفاوت بين المسلمين في جميع المعارف الإسلامية، ومن ثمَّ في خصوص المعرفة التفسيريّة.

بعد هذا يمكننا أن نتصوّر بوضوحٍ التطوّر الذي سارت به هذه المعرفة الخاصّة، حتّى انتهت إلى الفارق الكبير الذي أخذ يفصل مستوى الخبرة الخاصّة عن مستوى الخبرة العامّة الأمر الذي سمح للباحثين أن يطلقوا (علم الفسير) على هذه الخبرة الخاصّة التي كان يتمتّع بها هؤلاء الأشخاص، ومن أجل أن نتعرّف على ملامح هذا الفاصل لا بُدّ من ملاحظة العاملين التاليين:

أ - إنّ المسلمين بصورةٍ عامّة، أخذت معرفتهم التفسيريّة تتضاءل بسبب تضاءل خبرتهم العامّة؛ لأنّ التوسّع الإسلامي جعل كثيراً من الأفراد والشعوب تنضمّ إلى الجماعة الإسلامية وهم لا يملكون ذلك المستوى العام من الخبرة، ففقدوا بعض العناصر التي كانت تعتمد عليها الخبرة العامّة، سواء كانت مرتبطةً بالجانب اللُّغوي للقرآن أم بالجانب الاجتماعي والحياتي لهم، فلم يكن الأفراد الجدد تتوفّر فيهم المعرفة اللُّغوية التي كانت متوفّرةً لدى عامّة المسلمين الذين عاصروا نزول الوحي، كما لم يكونوا مطّلعين على الحوادث التاريخية التي ارتبطت بها بعض الآيات القرآنية والعادات والتقاليد العربية، كما هو الحال بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا هذه الأحداث والعادات والتقاليد.

ب - وفي الجانب الآخر نجد أنّ الخبرة الخاصّة أخذت بالتضخّم والنمو نتيجة

________________________

(1) المصدر نفسه 2: 187.

٢٦٥

الشعور المتزايد بالحاجة إلى فهم القرآن، ومواجهة المشاكل الجديدة على ضوء مفاهيمه وأفكاره، وكثرة طلب تفهّم القرآن من قِبَل المسلمين الجدد، الذين يريدون أن يتعرّفوا الإسلام بجوانبه المتعدّدة، من خلال تعرّفهم القرآن الكريم الذي يقوم بدور المعبّر الصحيح عنه.

ولعلّنا نجد في النص التأريخي التالي ما يُعبِّر لنا عن هذا التفاوت في المعرفة بين الصحابة، هذا الشيء الذي نريد أن نتصوّره كبدايةٍ لتكوّن علم التفسير.

عن مسروق: (جالست أصحاب محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) فوجدتهم كالإخاذ (الغدير) فالإخاذ يروي الرجل والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة والإخاذ يروي المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم) (1) وهكذا تكوّن التفسير في بدء بدئه.

________________________

(1) نقل هذا الحديث في (التفسير والمفسّرون) 1: 36.

٢٦٦

٢٦٧

التفسير في عصر الصحابة والتابعين

1 - طبيعة التفسير في هذا العصر:

من خلال البحث السابق عرفنا أنّ علم التفسير تكوّن ووُجد في عصر الصحابة، وتطوّر بشكلٍ واضحٍ في عصر التابعين، ومع ذلك فنحتاج من أجل الإحاطة بأبعاد التفسير في هذا العصر أن نتعرّف على الطبيعة العامّة للتفسير والمصادر الرئيسة له ونقد هذه المرحلة وتقويمها.

ومن الممكن أن نجزم بأنّ الظاهرة التي كانت تعمّ التفسير في هذه المرحلة هي مواجهة القرآن الكريم كمشكلةٍ لُغويّةٍ وتاريخية، ومن أجل أن نكون أكثر إدراكاً لطبيعة هذه المرحلة؛ لا بُدّ لنا أن نعرف ما تعنيه (المشكلة اللُّغوية والتأريخية) من معنى:

فالكلام في اللُّغة - وعلى الأخص اللُّغة العربية - تشترك في تحديد معناه عوامل مختلفة يمكن أنْ نلخّصها بالأُمور التالية:

أ - الوضع اللُّغوي للّفظ، فإنّ كلَّ لفظٍ في اللُّغة نجد في جانبه معنىً خاصّاً محدّداً له.

ب - القرائن اللّفظيّة ذات التأثير الخاص على الوضع اللُّغوي والتي تسبّب صرف اللّفظ عن معناه الحقيقي، وهذا هو الشيء الذي يحصل في الاستعمالات المجازية، بما للمجاز من مدلولٍ عام يشمل الاستعارة والكناية وغيرهما.

ج - القرائن الحاليّة التي يكون لها - أيضاً - تأثيرٌ خاصٌّ على المدلول اللّفظي.

٢٦٨

ونعني بها الظروف الموضوعيّة التي يأتي الكلام بصددها أو يكون مرتبطاً بجانبٍ من جوانبها.

فهذه العوامل الثلاثة تشترك في تكوين المدلول العام للّفظ والكلام.

وحين نواجه الكلام من أجل التعرّف على مدلوله ونصطدم بشيءٍ من هذه الأُمور الثلاثة في سبيل ذلك فنحن نواجه مشكلةً لُغويّة.

وحين نحاول أن نتعرّف خصوصيّات الظروف الموضوعيّة لعصر نزول القرآن الكريم، أو التي تحدّث عنها فيما قبل نزول القرآن، مثل قصص الأنبياء والأقوام الماضين، أو التي تنبّأ بوقوعها في المستقبل فإنّ ذلك يمثّل مشكلةً تأريخية.

وفي ضوء هذا المفهوم للمشكلة اللُّغوية والتأريخية، يمكننا أن نتبيّن طبيعة المرحلة التفسيريّة التي مرّ بها الصحابة والتابعون حين واجهوا الكلام الإلهي (القرآن الكريم) وحاولوا معرفة معانيه ومدلولاته.

فنحن - حين نتصفّح التفسير الذي وصلنا من هذا العصر - نجد أموراً ثلاثةً رئيسة كانت موضع اهتمام الصحابة والتابعين ومن بعدهما، وهي كالتالي:

أ - التعرّف على ما تعنيه المفردات القرآنية من معنىً في اللُّغة العربية، مع مقارنة الكلام القرآني بالكلام العربي؛ لتحديد الاستعارة القرآنية.

ب - تتبّع أسباب النزول أو الأشخاص والحوادث التأريخية أو القضايا التي ارتبطت ببعض الآيات القرآنية.

ج - التفصيلات التي وردت في بيانات الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) أو التي أوردتها النصوص الإسرائيلية عن قصص الأنبياء أو غيرها من الحوادث التي أشار إليها القرآن الكريم.

وهذه الأُمور الثلاثة لها علاقةٌ وثيقةٌ في تحديد المعنى، من ناحيةٍ لُغويّةٍ أو تأريخية؛ لأنّها تنتهي إلى العوامل المؤثّرة في تكوين مدلول اللّفظ والكلام أو

٢٦٩

تشخيص الظروف والأوضاع في حركة التأريخ.

ولعلّ من الشواهد على ما نذكره عن طبيعة هذه المرحلة، هو ما نعرفه عن ابن عبّاس الذي يُعتبر من أبرز الصحابة في التفسير، حيث كان يعتمد في تفسيره للقرآن - في أغلب الأحيان - على ما يعرفه من مفردات اللُّغة العربية وما يحفظه من شعر العرب أو أسباب النزول.

وقد اُعتبر هذا الاطّلاع الواسع على مفردات اللُّغة من قِبَل ابن عبّاس أساس امتيازه في التفسير وعلوّ شأنه.

وهذا الطابع العام نجده أيضاً في محاولات بقيّة الصحابة والتابعين أيضاً، فإذا لاحظنا صحيح البخاري - وهو أحد الكتب التي تتعرّض للتفسير في هذه المرحلة - نجده يذكر التفسير في حدود هذه المشكلة ذاتها ولا يكاد يتعدّاها، وهذا الشيء نفسه نجده عندما نلاحظ الكتب التفسيرية الأُخرى التي تنقل إلينا آراء الصحابة والتابعين بدقّة.

وإلى جانب هذا الاستقراء توجد لدينا بعض الشواهد التأريخية ذات الدلالة البيّنة على طبيعة المرحلة، والتزام الصحابة لحدودها في محاولاتهم التفسيرية؛ فقد رُوي أنّ رجلاً يقال: (ابن صبيغ) قَدِم المدينة - في زمن عمر بن الخطّاب - فجعل يسأل عن مُتشابِه القرآن، فأرسل إليه الخليفة وضربه بعراجين النخل حتّى ترك ظهره دبره، ثمّ تركه حتّى يُرى، ثمّ عاد وبعد أن تكرّر ذلك للمرّة الثالثة دعا به ليعود، فقال ابن صبيغ ضارعاً! إن كنتَ تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً أو ردّني إلى أرضي بالبصرة، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألاّ يجالسه أحدٌ من المسلمين (1) .

وهذه الرواية تدلّنا على مدى استنكار الصحابة للدخول في مشاكل عقليّة

________________________

(1) جولد تسيهر، مذاهب التفسير الإسلامي: 74، نقلاً عن لوائح الأنوار البهيّة.

٢٧٠

حول فهم القرآن الكريم وتفسيره؛ لأنّ البحث في المتشابِهات يتّصف بالطابع العقلي دون اللُّغوي (1) .

ويمكن أن نفهم الشيء ذاته من جميع النصوص التي وردت في النهي عن تفسير القرآن بالرأي، أو تفسير القرآن بشكلٍ مطلق (2) ، إذ لا نشك في مزاولة الصحابة للتفسير في حدود المشكلة اللُّغوية والتأريخية، وهو في هذه الحدود ليس من تفسير القرآن بالرأي أو القول بغير علم، ولا يبقى في نطاق الشك والنهي غير مواجهة القرآن بشكلٍ أعمق، لا يتّفق وطبيعة المرحلة ولا يعيش حدود المشكلة اللُّغوية.

وعلى هذا الأساس يمكن أنْ نشكّك في كلِّ محاولةٍ تفسيريّةٍ تُنسب إلى الصحابة، ولا تعيش حدود هذه المشكلة وجوانبها، ولا تتّسم بسماتها وطابعها.

فمن المعقول أنْ يداخلنا الشكُّ في صحّة ما يُنسب إلى ابن عبّاس في تفسيره لسورة (النصر) حين يحاول أن يحمّل السورة معنىً فوق طاقتها اللُّغوية، ويجعل

________________________

(1) لم يكن اسم السائل (ابن صبيغ) بل اسمه (صبيغ بن عسل التميمي) ولم يكن السؤال عن متشابِه القرآن وإنّما كان السؤل عن ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً ) (نقش أئمه در احياء دين 6: 117) وهو بحث عن تفسيرٍ لُغوي.

وإذا رجعنا إلى قوله تعالى: ( ... فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ... ) (الكهف: 45) عرفنا تفسير اللّفظ.

كما أنّ الخليفة عمر قرأ على المنبر: ( فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً.. وَأبّاً ) قال: كلّ هذا قد عرفاه، فما الأب؟

ثمّ رفض عصا كانت في يده فقال: لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن لا تدري ما الأب، اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب، فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه (الدر المنثور 6: 317).

وكذلك عندما سئُل أيضاً عن (فاكهة وأبّا) أقبل عليهم بالدّرة (الدر المنثور 6: 317) مع أنّ تفسير اللّفظين ورد بعدهما في قوله تعالى: ( مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ ) (عبس: 32).

(2) راجع بصدد هذه النصوص الترمذي 11: 68.

٢٧١

من الفتح فيها رمزاً وعلامةً لمجيء أجل الرسول (صلّى الله عليه وآله) كما جاء في البخاري (1) .

ويمكننا أن نؤاخذ على هذا الحديث إضافةً إلى خروجه عن نطاق طبيعة المرحلة، هذا اللّون الخاص من محاولة تمجيد ابن عبّاس، ولو كان ذلك على حساب القرآن الكريم، الأمر الذي يدعونا أن نلحقه بموضوعات العصر العبّاسي (2) .

________________________

(1) أخرج البخاري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأنّ بعضهم وجد في نفسه، فقال لم يدخل هذا معنا وإنّ لنا أبناءً مثله؟! فقال عمر إنّه ممّن علمتهم، فدعاهم ذات يوم فادخلني معهم، فما رأيت أنّه دعاني فيهم يومئذ إلاّ ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: ( إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي أكذلك تقول يابن عبّاس؟ فقلت لا، فقال ما تقول؟ فقلت هوأجل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) اعلمه له، فقال: ( إذا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) فذلك علامة أجلك ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) فقال عمر لا أعلم منها إلاّ ما تقول)، الإتقان 2: 187.

(2) من الملاحَظ في التفسير تأكيد دور ابن عبّاس فيه مع أنّ ابن عبّاس لم يعاصر الرسول إلاّ مدةً قصيرةً من حياته، ويحاول بعضهم أن يعلّل ذلك بأنّ النبيَّ قد دعا له بالعلم والفهم، فكان هذا الإنتاج الكبير.

ومع غض النظر عن هذا التفسير الغيبي، يمكن أن نفسِّر هذه الظاهرة بأحد أُمورٍ ثلاثة، ومن خلالها لا بُدّ من دراسة ما ورد عن ابن عبّاس:

الأوّل: إنّ العبّاسيين حاولوا - لأهدافٍ سياسية - أن يركّزوا على دور ابن عبّاس في مجال التفسير والعلوم الدينية، في مقابل أهل البيت ودورهم في هذا المجال، وهذا هو ما أشرنا إليه في المتن.

الثاني: إنّ ابن عبّاس كان من تلامذة الإمام علي (عليه السلام) - كما تُشير إلى ذلك مجموعةٌ من النصوص والقرائن الأُخرى - وإنّ ما أُثر عنه في التفسير إنّما تلقّاه من الإمام علي (عليه السلام)، إلاّ أنّه لم يُنسب للإمام علي (عليه السلام) بسبب ظروف الاضطهاد الأُموي والعبّاسي، وبعد ذلك نُسب إلى ابن عبّاس مباشرةً.

٢٧٢

ويمكن أن يعترينا مثل هذا الشك أيضاً حين ننظر إلى المحاولة التفسيرية التي جاءت على لسان ابن عبّاس - أيضاً - حين يريد أن يعيّن (ليلة القدر) المذكورة في القرآن الكريم على أنّها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ويفهم ذلك على أساس اهتمام الإسلام بالعدد (سبعة) حيث أخذ في متعلّق بعض الأحكام الإسلامية (1) .

فإنّ هذا الاستنتاج إضافةً إلى بُعْده عن المنطق الصحيح لا يتّفق مع البساطة والذوق العربي اللذين كان يعيشهما ابن عبّاس.

ولقد كان من الطبيعي أنّ يُنظر إلى القرآن في هذه المرحلة على أساس أنّه (مشكلة لُغويّة)؛ لأنّ هذه المرحلة تمثّل بداية التطوّر في المعرفة التفسيرية عند

________________________

الثالث: إنّ ابن عبّاس كانت لديه تجربة واسعة في الممارسة العلمية والسياسية والاجتماعية، خصوصاً في عهد عمر الذي كان يقرّبه لأسباب سياسية وعلمية، وأنّ ما رود عنه في التفسير إنّما هو اجتهاده الخاص وليس روايةً عن النبي (صلّى الله عليه وآله).

ونحن نميل إلى الاحتمال الثالث لما أشرنا إليه من النصوص والقرائن، وإن كان العامل الأوّل والثاني بشكلٍ خاص لا يمكن إنكار تأثيرهما في مجمل ما ورد عن ابن عبّاس.

(1) (أخرج أبو نعيم، عن محمّد بن كعب القرظي، عن ابن عبّاس، أنّ عمر بن الخطّاب جلس في رهطٍ من المهاجرين من الصحابة، فذكروا ليلة القدر، فتكلّم كلٌّ بما عنده، فقال عمر: ما لك يا ابن عبّاس صامت لا تتكلّم، تكلّم لا تمنعك الحداثة.

قال ابن عبّاس: قلت يا أمير المؤمنين إنّ الله وتْرٌ ويحب الوتْر، فجعل أيام الدنيا تدور على سبع، وخلق أرزاقنا من سبع، وخلق الإنسان من سبع، وخلق فوقنا سماوات سبعاً، وخلق تحتنا أرضين سبعاً، وأعطى من المثاني سبعاً، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسّم المواريث في كتابه على سبع، ونقع في السجود من أجسادنا على سبع، فطاف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالكعبة سبعاً، وبين الصفا والمروة سبعاً، ورمى الجمار بسبع... فأراها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فتعجّب عمر، فقال ما وافقني فيها أحدٌ إلاّ هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه، ثمّ قال يا هؤلاء من يؤديني في هذا كأداء ابن عبّاس؟!) الإتقان 2: 188.

٢٧٣

المسلمين، بعد أن كانوا يفهمون القرآن فهماً ساذجاً وفي مستوى الخبرة العامّة المتوفّرة لديهم حينذاك (1) .

2 - مصادر المعرفة التفسيريّة في هذا العصر:

وفي ضوء معرفتنا لطبيعة هذه المرحلة يمكن أن نتعرّف أيضاً على المصادر التي كانت تعتمد عليها المرحلة في معرفة مدلول النص القرآني، والأدوات التي كانت تستعملها لمواجهة المشكلة اللُّغوية والتاريخية؛ ويمكن أن نلخّص هذه المصادر بالأُمور التالية:

أ - (القرآن الكريم نفسه)؛ لأنّ القرآن الكريم بحكم طريقة نزوله، والأهداف التي كان يتوخّاها من وراء هذه الطريقة التدريجية جاء - في بعض الأحيان - مبيّناً لما قد أجمله سابقاً أو مقيّداً أو مخصّصاً لما كان مطلقاً أو عامّاً، أو ناسخاً لحكمٍ كان ثابتاً في وقتٍ سابق؛ وهذه الطريقة من القرآن الكريم تسمح لنا أن نستفيد من بعض الآيات القرآنية لنفهم بها بعض الآيات الأُخرى.

وقد سلك المفسِّرون هذا المنهج في طريقهم للتّعرف على المعاني القرآنية واكتشاف أسرارها، ويمكن أن نعتبر الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) - بما لدينا من شواهد - الرائد الأوّل لهذه الطريقة التي سار عليها بعض الصحابة من بعده، واتخذها بعض المفسِّرين منهجاً عامّاً لتفسير القرآن.

فقد روى عبد الله بن مسعود أنّه لمّا نزل قوله تعالى:

( الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ) (2) شقّ ذلك على أصحاب رسول الله

________________________

(1) يُراجع الإتقان 1: 115 - 142، ففي هذه الصفحات نجد أنّ جميع ما يُروى عن ابن عبّاس أو غيره يعيش هذه المشكلة.

(2) الأنعام: 82.

٢٧٤

وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟

فقال: إنّه ليس بذاك، إنّما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان: ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (1) .

كما أنّ التأريخ يحدّثنا - أيضاً - أنّ علي ابن أبي طالب (عليه السلام) اتخذ مثْل هذه الطريقة للتعرّف على بعض المعاني القرآنية؛ فقد أخرج الحافظان ابن أبي حاتم، والبيهقي عن الدئلي: أنّ عمر بن الخطاب رُفعت إليه امرأة ولدت لستّة أشهر، فهمّ برجمها، فبلغ ذلك عليّاً، فقال: ليس عليها رجم، فبلغ ذلك عمر (رضي الله عنه) فأرسل إليه فسأله، فقال: قال تعالى:

( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ... ) (2) وقال: ( ... وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً... ) (3) فستّة أشهرٍ حمله، وحولين رضاعه، فذلك ثلاثون شهراً، فخلّى عنها (4) .

فقد فسّر الإمام علي (عليه السلام) مدّة الحمل بستّة أشهر على أساس الآية الأُخرى التي تحدّد مدّة الرضاع بـ (حولين كاملين).

ب - المأثور عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في تفسير القرآن؛ فقد كان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يقوم بتفسير القرآن الكريم على المستوى العام - كما عرفنا ذلك في بحث التفسير في عصر الرسول - وهو على هذا المستوى وإن لم يكن قد فسّر القرآن كلّه إلاّ أنّه كان يفسّر بمقدار ما تفرضه ظروفه بصفته صاحب رسالة، وقائد دولة تواجهه مشاكل المسلمين وأسئلتهم، وبمقدار ما تقتضيه الدعوة إلى الله وتبيان المفاهيم العامّة عن الإسلام وتشريعاته، فكان هذا الشيء - الذي يصدر منه بهذا الصدد - يتلقّاه المسلمون ويحفظه الكثير منهم، واعتمدوا عليه من بعده في إيضاح بعض جوانب

________________________

(1) لقمان: 13، رواه البخاري بصورة مختلفة راجع فتح الباري 1: 95 و 10: 131.

(2) البقرة: 233.

(3) الأحقاف: 15.

(4) الغدير 6: 93.

٢٧٥

القرآن بالنسبة إلى غيرهم.

وفي كتب الحديث شواهد كثيرة على ذلك، فعن سعيد بن جبير: في تأويل قوله تعالى:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ) (1) .

(قال: قلت لابن عبّاس: إنّ نوفاً يزعم أنّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل.

فقال ابن عبّاس: حدّثني أُبي بن كعب أنّه سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:

(إنّ موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئُل: أي الناس أعلم؟

فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه [إلى الله]، فأوحى الله إليه: إنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب فكيف لي به؟

قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مِكْتَل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ... ) (2) .

فمن أجل أن يظهر ابن عبّاس خطأ نوفٍ في دعواه استند إلى رواية أُبي بن كعب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ج - حديث بعض الصحابة الذين عاصروا أحداث نزول القرآن؛ لأنّ من المعروف أنّ بعض القرآن الكريم ارتبط في نزوله ببعض الأحداث التي عاشتها الدعوة الإسلامية في مراحلها المختلفة، وبما أنّ هذه الأحداث تشكّل جزءاً من عوامل تحديد المعنى القرآني، وتساهم في حل المشكلة اللُّغوية والتأريخية ذات الجوانب المتعدّدة التي واجهت المسلمين بعد الرسول فمن الطبيعي أن يلتفت المسؤولون عن حلّ هذه المشكلة إلى الأشخاص الذين عاصروا الأحداث ليتعرّفوا منهم على ظروفها وخصوصيّاتها، ومن ثمَّ على ما تمنحه للمعنى القرآني من إيضاحٍ وتبيين.

وقد اهتمّ الباحثون بمعرفة (أسباب النزول) على أساس الارتباط الوثيق بينها

________________________

(1) الكهف: 60.

(2) رواه البخاري، فتح الباري 10: 24.

٢٧٦

وبين تحديد المعاني القرآنية، واعتبروا فهم القرآن الكريم متوقّفاً على معرفتها.

فقد قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصّتها، وبيان النزول طريقٌ قويٌّ في فهم معاني القرآن.

وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يُعين على فهم الآية (1) .

والشواهد في حياة الصحابة على هذا الارتباط بين أسباب النزول وفهم الآية القرآنية كثيرة، عرفنا منها قضيّة قدامة بن مظعون (2) .

وقد ذكر السيوطي لذلك بعض الأمثلة (3) .

د - معرفة اللُّغة العربية المتداولة في الكلام العربي على اختلاف لهجاتها؛ فإنّ القرآن الكريم - كما نعرف - نزل بلغة العرب، ولم يكن الصحابة على اطّلاعٍ كاملٍ بمفردات اللُّغة العربية، ولذا كانوا يتوقّفون في بعض الأحيان عند بعض الكلمات القرآنية لعدم معرفتهم معناها، حتّى يقع في أيديهم شيءٌ من كلام العرب يتّضح به ما غمض لديهم من القرآن.

وقد أشرنا إلى بعض الشواهد التي حصل فيها مثل هذا الشيء في بحثٍ سابق (4) .

كما أنّ طبيعة المرحلة، وهي: مواجهة القرآن كمشكلةٍ لُغويّةٍ تفرض أن يكون من أبرز المصادر للتفسير هو اللُّغة العربية نفسها، كشرطٍ أساسيٍّ في محاولة تفسير القرآن الكريم (5) .

________________________

(1) نقل هذه الأقوال السيوطي في مقدّمة كتابه أسباب النزول: 3.

(2) راجع بحث التفسير في عصر الرسول.

(3) الإتقان 1: 29.

(4) التفسير في عصر الرسول.

(5) البرهان للزركشي 2: 160 و 164.

٢٧٧

ويبدو أنّه قد أُثير الجدل في مدّةٍ متأخّرةٍ عن هذا العصر حول صحّة الاعتماد على نصوص اللُّغة العربية لمعرفة معاني القرآن وخصوصيّات أُسلوبه، وقد أشار السيوطي إلى ذلك في كلامٍ نقله عن أبي بكر بن الأنباري، هذا نصّه:

(قد جاء عن الصحابة والتابعين كثيراً الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله بالشعر، وأنكر جماعةٌ لا علم لهم على النحويين ذلك، وقالوا إذا فعلتم ذلك جعلتم الشعر أصلاً للقرآن، قالوا: وكيف يجوز أن يحتج بالشعر على القرآن وهو مذمومٌ في القرآن والحديث؟!

قال: وليس الأمر كما زعموه من أنّا جعلنا الشعر أصلاً للقرآن، بل أردنا تبيين الحرف الغريب من القرآن بالشعر؛ لأنّ الله تعالى قال: ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (1) وقال: ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (2) .

وقال ابن عبّاس:

(الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه) (3) .

ففي هذا النص نجد ابن الأنباري يناقش المسألة على أساس طبيعة الموقف التفسيري، وتصرّف الصحابة والتابعين الذين كانوا يعتمدون على نصوص اللُّغة العربية عند محاولتهم التعرّف على المعاني القرآنية، ويستشهد بما روى عن ابن عبّاس في ذلك.

والشواهد العملية في حياة الصحابة وتفسيرهم على ذلك كثيرة، ويكفينا أن نذكر منها ما رواه السيوطي في الإتقان بسنده المتّصل عن حميد الأعرج وعبد الله ابن أبي بكر بن محمّد عن أبيه قالوا:

________________________

(1) الزخرف: 3.

(2) الشعراء: 195.

(3) الإتقان 1: 119 طبعة المكتبة التجارية الكبرى.

٢٧٨

(بينا عبد الله بن عبّاس جالس بفِناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه، فقالا:

إنّا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسّرها لنا وتأتينا بمصادقةٍ من كلام العرب، فإنّ الله تعالى إنّما أنزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبين؛ فقال ابن عبّاس: سلاني عمّا بدا لكما.

فقال نافع: أخبرني عن قول الله تعالى: ( عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ عِزِينَ ) (1) قال: العزون الحلق الرقاق.

قال: وهل تعرف العرب ذلك؟

قال: نعم؛ أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:

فجاؤوا يهرعون إليه حتّى

يكونوا حول منبره عزينا (2)

وعلى هذا الشكل يستمرّ نافع في السؤال، ويستمرّ ابن عباس في الجواب حتّى يصل العدد إلى نحو مائتي مسألة (3) .

ويدخل في مفردات اللُّغة العربية بعض المصطلحات والأسماء التي كانت

________________________

(1) المعارج: 37.

(2) الإتقان 1: 120.

(3) من المعقول أن يأخذنا الشكّ في صحّة هذه الرواية بتفاصيلها المرويّة في الإتقان على أساس استبعاد وقوع مثل هذه المناقشة الطويلة في مجلسٍ واحد، واستحضار ابن عبّاس لكلِّ هذه النصوص العربية - كما تحاول الرواية ادّعاء ذلك - ولكن من المعقول - أيضاً - أنْ يكون لهذه الرواية أصل يقتصر على بعض هذه المناقشة، وأضيف إليها بعد ذلك الأجزاء الأُخرى ممّا روى عن ابن عبّاس تكملةً للفائدة أو لأغراض سياسيّة أشرنا إليها سابقاً.

خصوصاً إذا لاحظنا أنّ المحدّثين الذين أخرجوها في وقتٍ سابقٍ على السيوطي لم يخرجوها بهذا التفصيل، كما يصرّح السيوطي نفسه بذلك؛ والذي نريد إثباته هنا بهذه الرواية هو أنّ نصوص اللُّغة العربية كانت مصدراً لتفسير القرآن، وفي هذا يكفي أن نثبت أصل هذه الرواية.

٢٧٩

متداولةً ويعرفها المعاصرون من الصحابة أو العارفون باللُّغة العربية، مثل: الأنصاب والأزلام واللاّت والعزّى ومناة، أو غير ذلك من العادات والتقاليد.

هـ - أقوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ ذلك لأنّ القرآن الكريم عالج موضوعين مهمّين لهما صلة بأهل الكتاب؛ وهما ما يلي:

أحدهما: تحدّث القرآن الكريم عن الحوادث والوقائع التي وقعت لبعض الأنبياء والشعوب التي سبقت الإسلام، من أجل أن يستخلص العبرة والموعظة للمسلمين من خلال ذلك؛ ولذلك جاء الحديث القرآني عنها غير مستوعبٍ للتفاصيل والجزئيات التي لا تمتّ إلى هذه الغاية بصلة، في الوقت الذي تتحدّث فيه التوراة والإنجيل المتداولان عند أهل الكتاب فعلاً عن هذه الأُمور حديث المؤرخ للقضايا والوقائع، فتسرد فيهما الحوادث بشكلٍ تفصيليٍّ ومحدّد.

والأُخرى: انتقد القرآن الكريم أهل الكتاب في الكثير من عاداتهم وتقاليدهم وأساليبهم، كما كشف التحريفات التي تعرّض لها كتاب التوراة والإنجيل، وكان في بعض الأحيان يخاطب أهل الكتاب أنفسهم مشيراً إلى انحرافاتهم:

( مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (1) .

وقد كان من الطبيعي أن يلجأ الصحابة إلى أهل الكتاب؛ لاستيضاح هذه الجوانب ومعرفة التفصيلات - بعد إقصاء أهل البيت عن المرجعيّة الفكرية (2) - عندما تواجههم الأسئلة عنها، ولا يجدون فيما لديهم من معرفةٍ تفسيريّةٍ ما يسد

________________________

(1) المائدة: 103.

(2) أُشير إلى نصوصٍ دلّت على أنّ النبيَّ أرجع المسلمين في معرفة القرآن والإسلام إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنّهم بعده لم يرجعوا إلى أهل البيت بشكلٍ عام، بل رجعوا إلى عموم الصحابة وبشكلٍ جزئيٍّ إلى أهل البيت؛ لأسباب لا مجال للحديث عنها في هذا البحث.

٢٨٠