علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207105
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207105 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هذا الفراغ ويجيب عن هذه الأسئلة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ بعض أهل الكتاب ممّن رجع إليهم الصحابة في هذه التفصيلات قد أظهر الإسلام، وانسجم مع القادة المسلمين في أحكامهم وإطاراتهم، الأمر الذي أدّى إلى أن يصبحوا من المقرّبين والمستشارين لهؤلاء القادة، أمثال: كعب الأحبار.

وخير ما يشهد لنا على رجوع بعض الصحابة إلى أهل الكتاب في تفسير القرآن، هو التفصيلات التي وردت على لسان الصحابة في التفسير عن الأحداث التاريخية السابقة المرتبطة بقصص الأنبياء؛ لأنّنا نعرف أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم تسمح له ظروفه الخاصّة بأن يفسّر القرآن بهذا الشكل الواسع الدقيق وعلى المستوى العام للمسلمين، أضف إلى ذلك اتفاق تفاسيرهم مع ما جاء في التوراة والإنجيل في الخصوصيّات (1) ، ونحن حين نقول ذلك لا نعني أنّ النصوص التي تصرّح بهذا الاعتماد غير متوفّرة (2) كما أنّ العلماء اعترفوا بهذه الحقيقة التأريخية عندما تحدّثوا عن التفسير (3) .

________________________

(1) تفسير الطبري 1: 225 - 227 وغير ذلك من المواضع.

(2) راجع تفسير الطبري 1: 151، 152، 230، 231، 235.

(3) راجع الإتقان 2: 205، فقد نقل عن ابن كثير أنّ ابن عبّاس تلقّى حديثاً طويلاً من الإسرائيليّات.

٢٨١

نقد التفسير في عصر الصحابة والتابعين (*) :

يجدر بنا - ونحن نريد أن نمحّص نتاج هذه المرحلة التفسيرية - أن نستذكر حصيلة أبحاثنا السابقة، خصوصاً فيما يتعلّق بالمحتوى الداخلي لرجال المرحلة من الصحابة والتابعين؛ ذلك لأنّ المعرفة التفسيريّة تتأثّر - بطبيعة الحال - بخصائص هذا المحتوى ومقوّماته؛ لأنّها عطاؤه وتناجه.

وعندما نريد أن نتعرّف على هذا المحتوى نقسّمه إلى جانبين رئيسين:

الأوّل:

الجانب الفكري، ونعني به: مقدار الثقافة الإسلامية التي كان يتمتّع بها الصحابة، وما يستلزم ذلك من وعيٍ وشعورٍ بالمسؤولية تجاه الثقافة ومعرفة الأساليب لحمايتها.

الثاني:

الجانب الروحي، ونعني به: درجة التفاعل مع الثقافة الإسلامية، والامتزاج الروحي والوجداني بها، ومدى الإيمان بصحّتها والإخلاص لها.

________________________

(*) حينما ندرس التفسير في عصر الصحابة والتابعين لا يفوتنا أن نؤكّد أمرين، منعاً لما يمكن أن يقع فيه بعض القرّاء من الالتباس:

1 - إنّنا ندرس الصحابة على أساس المستوى العام الذي كان يتمتّع به هؤلاء الرجال، والذي كان يمثّل روح ذلك العصر من ناحيةٍ فكريّةٍ واجتماعية، وهذا لا يعني وجود بعض الرجال من الصحابة والتابعين، ممّن كانوا على درجاتٍ متفاوتةٍ وعاليةٍ من الوعي والإخلاص والعلم.

2 - لا يمكننا - بالرّغم من كلّ نقاط الضعف التي أُصيبت بها المعرفة التفسيريّة في عصر الصحابة والتابعين - أن ننكر عظيم الخدمات التي قام بها هؤلاء الرجال والعطاء الذي وهبوه للمعرفة التفسيريّة، الشيء الذي كان موضع استلهام كثير من المدارس التفسيرية حتّى عصرنا الحاضر.

٢٨٢

وبهذا الصدد عرفنا سابقاً: أنّ الصحابة بالنسبة إلى الجانب الأوّل كانوا على جانبٍ من البساطة الفكريّة، وذلك بحكم أنّ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) لم يخطّط إلى تهيئةٍ عامّة الصحابة لقيادة التجربة الإسلامية بشكلٍ رئيس؛ لأنّ مجمل الظروف لم تكن تساعده على إنجاز هذه المهمّة، وإنّما أوكل القيادة السياسية والفكريّة إلى أشخاصٍ معيّنين هيّأهم لهذه المهمّة القيادية وهم أهل البيت (عليهم السلام) (1) ولكنّهم أُقصوا عنها بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله) (2) فكان من نتائج ذلك:

أ - عدم استيعاب عامّة الصحابة للثقافة الإسلامية، نتيجةً لعدم تفسير الرسول الأعظم للقرآن بشكلٍ شاملٍ على المستوى العام.

ب - سذاجة الوسائل التي اتّبعها الصحابة في ضبط وحماية أقوال الرسول وسلوكه.

ج - بقاء الصحابة على سذاجتهم الفكرية وميلهم للبساطة وعدم التعمّق، وتأثّرهم في فهم الإسلام بإطاراتهم الفكرية الخاصّة.

وأمّا بالنسبة إلى الجانب الثاني، فقد عرفنا أنّ عامّة الصحابة كانوا مختلفين في درجة الانفعال بالثقافة الإسلامية والإخلاص لها، نتيجةً لمختلف الظروف الموضوعية التي أحاطت بظروف انتمائهم إلى الإسلام واتصالهم بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ومدى طموحهم وآمالهم، فقد كان بعضهم على مستوىً عالٍ من التأثّر الروحي والنفسي بالثقافة الإسلامية، بل يمكن أن يكون هذا التفاعل هو الطابع العام للسابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار، الذين دخلوا الإسلام عن يقينٍ ومعرفةٍ، بخلاف عامّة المسلمين الذين دخلوا الإسلام في مرحلةٍ متأخّرةٍ من الفتح أو كانوا من

________________________

(1) راجع التفسير في عصر الرسول.

(2) ذكرنا ذلك في تكوّن علم التفسير.

٢٨٣

أعراب البادية.

وقد رجعت الأُمّة - بعد اتساع دائرة الإسلام بشكلٍ كبير - إلى جميع هؤلاء دون تمييزٍ بين المخلصين منهم أو الأقل إخلاصاً أو المنافقين؛ لأنّهم طُرحوا جميعاً للأُمة على أساس أنّهم يمثّلون المرجع الفكري لها، بسبب وجود الفراغ في هذا الجانب، فكان من نتائج ذلك تأثّر الثقافة الإسلامية التي أُعطيت للمسلمين - من قِبَل الصحابة - ما يلي:

أ - بالاتجاهات السياسية المختلفة أو الثقافات الرسوبيّة التي عاشتها تلك الحقبة.

ب - بالاتجاهات المصلحيّة ذات الطابع الشخصي أو القَبَلي.

مظاهر هذه النتائج في المعرفة التفسيريّة:

وقد تأثّرت المعرفة التفسيريّة بهذه النتائج التي فرضها المحتوى الداخلي للصحابة على الثقافة الإسلامية، فاتّسمت بدورها بنفس نقاط الضعف التي اتّسمت بها الثقافة الإسلامية بشكلٍ عامٍّ في ذلك العصر.

ومن أجل أن نحدّد هذه النقاط ونوضّح مدى تأثّر المعرفة التفسيرية بها يجدر بنا أن نذكر بعض الشواهد من المعرفة التفسيرية على مظاهر نقاط الضعف، ولنأخذ كلّ واحدٍ منها بشكلٍ مستقل:

أوّلاً: عدم استيعاب عامّة الصحابة للثقافة الإسلامية:

لسنا بحاجةٍ هنا إلى أن نرجع مرّةً أُخرى لنعرف مدى صحّة هذا الحكم بعد أن عرفنا ذلك في بحث (التفسير في عصر الرسول) ولا نريد هنا إلاّ أن نبحث عن المظاهر التي أشاعتها في المعرفة التفسيرية نقطة الضعف هذه، ويمكن أن نلخّص ذلك في النقاط التالية:

٢٨٤

أ - إنّ طبيعة المرحلة التي عرفناها سابقاً وهي مواجهة القرآن الكريم كمشكلةٍ لُغويّةٍ وتأريخيّةٍ يمكن أن ترجع ببعض جوانبها إلى هذه النقطة؛ لأنّ الصحابة حين فقدوا العنصر الخارجي (1) الأصل الذي كان من الممكن أن يساهم في معرفتهم التفسيرية مساهمةً فعّالة، كان من الطبيعي أن ينحصر نتاجهم التفسيري بما يقتضيه المحتوى الداخلي لهم والمعلومات العامّة التي حصلوا عليها من خلال معاشرتهم العامّة مع النبي (صلّى الله عيه وآله وسلّم)، ولم يكن ذلك المحتوى بالمستوى الذي يمكنه أن يواجه القرآن الكريم بشكلٍ أعمق من المشكلة اللُّغويّة والتأريخية، فجاءت هذه المرحلة وهي لا تُعنى بكثيرٍ من الجوانب العقليّة والاجتماعية التي اهتمّت بها مراحل متأخّرة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار التطوّرات المهمّة التي حصلت في المجتمع الإسلامي في عصر الصحابة بسبب الفتح وانتشار الإسلام.

ب - انفتاح باب الرأي والاستحسان، الأمر الذي أدّى إلى نتائج خطيرة في المعرفة التفسيريّة، وانتهى إلى ظهور الصراع التأريخي بين مذاهب التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي.

ج - اعتماد الصحابة على أهل الكتاب في تفسير القرآن؛ لأنّ السبب الرئيس لوقوع الصحابة في مثل هذه المفارقة هو الفراغ الذي كانوا يعانونه في المعرفة التفسيريّة، نتيجةً لعدم الاستيعاب - من جانب - والمتطلّبات الفكريّة التي كانت تواجههم كقادةٍ فكريين - من جانبٍ آخر - وسوف نعرف قريباً مدى الخطأ

________________________

(1) نقصد بالعنصر الخارجي الأصيل: الوحي الإلهي الذي كان يأتي على يد النبي (صلّى الله عليه وآله) من خلال تعليمه وتفسيره، والدور التعليمي المهم الذي كان يمكن أن يقوم به الإمام علي (عليه السلام) ومدرسته، والعنصر الخارجي غير الأصيل وهم أهل الكتاب الذين كانوا يمثّلون مصدراً من مصادر التفسير.

٢٨٥

الذي وقع فيه بعض الصحابة نتيجة هذا الرجوع منهم إلى هذا المصدر في التفسير.

د - بعض المضاعفات التي سوف نتعرّف عليها في نقاط الضعف الآتية، حيث كان من الممكن تفادي هذه الأخطاء لو تهيّأت للصحابة الظروف التي تجعلهم في مستوى الثقافة الإسلامية في التفسير؛ ومن هذه المضاعفات تأثّرهم ببعض الإطارات الفكريّة الخاصّة في تفسيرهم للقرآن، أو فهمهم للاستعارة القرآنية بشكلٍ آخر لا ينسجم مع الواقع القرآني، بسبب عدم اطّلاعهم على الإطار الفكري والنظريّة العامّة لتلك الاستعارة القرآنية.

ثانياً: سذاجة الصحابة في ضبط وحماية المعرفة الإسلامية:

لم يكن أكثر الصحابة في عصر الرسول الأعظم يتمتّعون بالمقدار الكافي من الوعي للظروف والمضاعفات السلبيّة التي سوف تواجهها المعرفة الإسلامية، وما يستدعيه مرور الزمن وانتهاء عصر الوحي من مشكلات، ولذا لا نجد التخطيط المركزي الذي يتّخذ المبادرة لوضع الضمانات لحماية المعرفة التفسيريّة وغيرها من المعرفة الإسلامية وضبطها، فنجم عن هذا الإهمال مجموعةٌ من المضاعفات ونقاط الضعف، أصابت جوانب من المعرفة التفسيرية.

فقد عرفنا: أنّ المعرفة التفسيرية في عصر الصحابة والتابعين، اعتمدت على مجموعةٍ من المصادر كان منها النص القرآني، والمأثور عن الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وأقوال الصحابة الذين عاشوا الأحداث الإسلامية التي ارتبط بها النص القرآني، ومن أجل أن تكون هذه المصادر الأصيلة ذات دورٍ ايجابيٍّ في عمليّة التفسير كان يجب أن تكون موضع اهتمام في صيانتها وضبطها وحمايتها، ليمكّنها أن تؤدّي مهمّتها في تغذية المعرفة التفسيريّة.

٢٨٦

ونحن نلاحظ مجموعةً من نقاط الضعف اكتنفت عمليّة الاستفادة من هذه المصادر نتيجةً للسذاجة في الضبط والحماية، الأمر الذي نجم عنه مجموعةٌ من المشكلات:

1 - مشكلة تعدّد القراءات:

نلاحظ أنّ بعض الألفاظ القرآنية تُقرأ بأساليب مختلفة، تؤدّي في بعض الأحيان إلى الاختلاف في معنى اللّفظ ومؤدّاه، هذا الشيء الذي أدّى في نهاية تطوّره إلى ولادة علم القراءات.

وقد حاول بعضهم أن يفسِّر ظاهرة تعدّد القراءات في البحوث التفسيريّة العامّة، على أساس أنّ القرآن الكريم جاء به الوحي إلى الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بهذا الشكل المتعدّد، وأنّه نزل على عدّة حروف، وأنّ القراءات المتعدّدة هي هذه الحروف المتعدّدة.

وإذا كنّا نقبل هذه المعالجة في بعض الحالات لا يمكن أن نقبلها بشكلٍ مطلقٍ وفي جميع الحالات، خصوصاً في الحالات التي يكون لاختلاف القراءة تأثيرٌ على المعنى، ويكون المعنى بدوره مرتبطاً بحكمٍ شرعيٍّ كما في (يطهرن) بالتخفيف و(يطهرن) بالتشديد؛ إذ في مثل هذه الحالة لا يمكن أن نتعقّل الترديد في الحكم الشرعي المستفاد منها (1) .

وحينئذٍ نجد أنفسنا أمام تفسيرين لهذه الظاهرة بشكلٍ عام، أو على الأقل في بعض الحالات:

أحدهما: هو إهمال ضبط الكلمات القرآنية بشكلٍ معيّنٍ في عهد الرسول من

________________________

(1) يحسن بهذا الصدد مراجعة البيان في تفسير القرآن لآية الله السيّد الخوئي (قُدِّس سرّه) (المدخل): 102 - 117.

٢٨٧

قِبَل بعض الصحابة أنفسهم، أو نسيان الطريقة الصحيحة لنطق اللّفظ نتيجة عدم التدوين.

والآخر: تدخّل عنصر الاجتهاد والاستحسان في القراءة، بعد فقدان حلقة الوصل التي كانت تربط بين بعض الصحابة والرسول.

ومن الممكن أن يكون السببان مشتركين في نشوء هذه الظاهرة.

ويبدو لنا بشكلٍ واضحٍ تأثير اختلاف القراءات على فهم النص القرآني، إذا لاحظنا هذا النص التأريخي عن مجاهد أحد كبار مفسِّري التابعين:

(لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج إلى أن أسأل ابن عبّاس عن كثيرٍ من القرآن) (1) .

2 - ظاهرة ادّعاء نَسْخ التلاوة:

ولعلّ من أبرز مظاهر عدم الضبط وأبعدها أثراً في القرآن الكريم هو ما يقال عن نسخ التلاوة؛ حيث لا يمكن تفسير بعض النصوص التي تتحدّث عن هذا النَسْخ - إذا أردنا أن نُحسن الظن في الصحابي الذي رواها - إلاّ على أساس أنّه كان يسمع من النبي (صلّى الله عليه وآله) الحديث أو الدعاء فيتصوّره قرآناً أو يختلط عليه الأمر بعد ذلك، وإلاّ فكيف نفسّر ادّعاء عمر بن الخطاب آية الرَجْم، أو ادّعاء عائشة آية الرضاع، مع أنّها تصرّح أنّها ممّا مات عنه الرسول وهو يُقرأ من القرآن؟! (2)

________________________

(1) الترمذي 11: 6.

(2) البخاري 8: 26 طبعة بيروت، والإتقان 1: 58، وصحيح مسلم 4: 167.

وإليك الروايتين:

1 - روى ابن عبّاس أنّ عمر قال فيما قال وهو على المنبر:

(إنّ الله بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل الله آية الرَجْم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رَجم رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورجمنا بعده.

٢٨٨

وهل معنى ذلك إلاّ القول بتحريف القرآن أو الالتزام بعدم ضبط هؤلاء الصحابة للنص القرآني بشكلٍ كامل (1) .

3 - ظاهرة اختلاف الحديث والتأريخ:

وإلى جانب القرآن الكريم تعرّض المأثور عن رسول الله إلى هذه الظاهرة، ونلاحظ ذلك في اختلاف ما يُروى عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في التفسير (2) .

كما نجد مثل هذا الشيء في نقل الحوادث التأريخية، التي ارتبطت بها بعض الآيات القرآنية، حيث نلاحظ مفارقاتٍ كثيرةً في ذلك، ممّا أدّى في بعض العصور الإسلامية المتأخّرة إلى نشوء بعض الفِرَق والمذاهب المختلفة، ويظهر ذلك بمراجعة أيّ كتابٍ من كتب أسباب النزول (3) ومن الواضح أنّ تفسير هذه الظاهرة إنّما

________________________

فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرَجْم في كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضةٍ أنزلها الله، والرَجْم في كتاب الله حقٌّ على من زنى إذا أُحصن من الرجال... ).

2 - روت عمرة عن عائشة أنّها قالت: كان فيما أُنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثمّ نُسخن بـ (خمس معلومات) فتوفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهنّ فيما يُقرأ من القرآن).

(1) ذكرنا في بحث النَسْخ عدم صحّة ادّعاء نَسْخ التلاوة؛ لأنّه يؤدّي إلى القول بتحريف القرآن، وأشرنا إلى الشواهد على عدم صحّة هذه الروايات.

(2) كمثالٍ على ذلك قارن بين الروايات التي يذكرها السيوطي في الإتقان 2: 191 - 205.

(3) وبصدد أسباب النزول، نجد علماء التفسير يأخذون قول الصحابي بمنزلة المرفوع في أسباب النزول من دون تردّد، والكثير منهم يعمّم هذا الحكم إلى جوانب المعرفة التفسيريّة، في الوقت الذي يجب علينا كباحثين أن نميّز بين الصحابة الذين عاشوا هذه الأحداث عن كثبٍ وشاهدوا تفاصيلها، وبين الآخرين الذين اعتمدوا في نقلهم لها على الشائعات والأقاويل، الأمر الذي يؤدّي في أكثر الأحيان إلى الالتباس في نقل

٢٨٩

يكون بموجب نفس الأُسس السابقة التي علّلنا بها ظاهرة تعدّد القراءات، حيث يمكن إرجاع ذلك لعدم ضبط الصحابة لأقوال الرسول وسلوكه، أو إلى عدم التدوين الذي أدّى في عصر ما بعد الصحابة إلى هذا الاختلاط.

4 - ظاهرة الإسرائيليّات:

وقد تعرّضت المعرفة التفسيرية إلى نقطة ضعفٍ مهمّةٍ نتيجةً لهذه البساطة في الشعور بالمسؤوليّة وعدم التقدير الواعي لظروف الحماية وأساليبها، حيث نجد المرحلة تعتمد بشكلٍ رئيسٍ على أقوال أهل الكتاب ونظريّاتهم.

وقد وقع بعض الصحابة نتيجةً لهذا الاعتماد في مفارقاتٍ فكريّةٍ وعقيديّةٍ تختلف عن الاتجاهات الإسلامية الصحيحة، فهناك كثيرٌ من الأفكار الإسرائيليّة عن الأنبياء وعالم الآخرة والملائكة أُضيفت إلى القرآن الكريم؛ نتيجة هذا الربط التفسيري بين الوقائع التي تسردها الكتب الإسرائيليّة أو التي يرويها الإسرائيليون، والوقائع التي يُشير إليها القرآن الكريم لاستخلاص العبرة والموعظة منها.

والشواهد على هذه المفارقات في النصوص التفسيريّة (الصحيحة!) المأثورة عن الصحابة كثيرة، وإليك نماذج منها:

أ - عن أبي هريرة، في قوله تعالى:

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ

________________________

الخصوصيّات والتفصيلات، فنحن حين نشاهد بعض المسلمين يختلفون في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله) في المسجد الذي أُسّس على التقوى هل هو مسجد (قبا) أو مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ويرفعون هذا الاختلاف للرسول الأعظم ليحكم فيه... نسمح لأنفسنا أن نشكّك في ما يُروى عن الصحابة بهذا الشأن إذا لم يكن الشخص الراوي قد عاش الحادثة بنفسه، (الترمذي 11: 245 - 246) ويروي الترمذي بعد هذه الرواية نصّاً آخر يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنّ المسجد هو مسجد (قبا) في الوقت الذي نجد هذه الرواية تصرّح بأنّ المسجد هو مسجد النبي.

٢٩٠

ذُرِّيَّتَهُمْ ) (1) .

قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) :

(لمّا خلق الله آدم مسح ظهره فسقط كلّ نسمةٍ هو خالقها من ذرّيته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كلِّ إنسانٍ منهم وبيصاً(2) من نورٍ ثمّ عرضهم على آدم.

فقال آدم: أي ربّ من هؤلاء؟

قال: هؤلاء ذرّيتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي ربّ من هذا؟

فقال: رجل من آخر الأُمم من ذرّيتك يُقال له داود.

فقال ربّ كم جعلت عمره؟

قال ستين سنة.

قال: أي ربّ زده من عمري أربعين سنة.

فلمّا مضى آدم جاءه ملك الموت، فقال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟!

قال أو لم تعطها ابنك داود؟

فجحد آدم فجحدت ذرّيته، ونسي آدم فنسيت ذرّيته، وخطئ آدم فخطئت ذرّيته) (3) .

وهذا الحديث وإن كان يرويه أبو هريرة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولكنّنا نقطع بعدم صدوره من رسول الله؛ لوجود التشابه بينه وبين الإسرائيليّات في نظرتها إلى الأنبياء واتّهامها لهم بعظائم الأُمور، كما أنّه يحاول أن يصوّر بني إسرائيل على أساس أنّهم آخر الأُمم، وعدم وجود ارتباط واضح بين الفقرات الثلاث الأخيرة وواقع القصّة، إن لم نقل بتناقضها.

ب - عن ابن عبّاس أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال:

(لمّا أغرق الله فرعون قال: ( آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ... ) ، فقال جبرئيل فلو رأيتني وأنا آخذ من حال (4) البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة) (5) .

________________________

(1) الأعراف: 172.

(2) الوبيص: البريق، ابن الأثير، البداية والنهاية 4: 191.

(3) الترمذي 11: 196 - 199.

(4) الحال: الطين الأسود كالحمأة، ابن الأثير، البداية والنهاية 10: 273.

(5) يونس: 90، الترمذي 11: 271 راجع الحديث الذي بعده.

٢٩١

فإنّ هذه الرواية تصوّر لنا جبرئيل شخصاً يحب الانتقام من الناس وهلاكهم؛ فإذا قارنّا ذلك بما ينظر اليهود به إلى جبرئيل وأنّه ملك العذاب كما جاءت بذلك بعض النصوص التأريخيّة في أسباب نزول قوله تعالى:

( مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ... ) (1) ... نعتقد أنّ هذه الرواية لم تأت عن النبي وإنّما جاءت على لسانه تأييداً لوجهة النظر الإسرائيليّة، أو تأثّراً بأفكار الإسرائيليّات، وإلاّ فنحن لا نفهم لماذا يخاف جبرئيل أن تدرك رحمة الله أحداً من الناس حتّى لو كان ذلك فرعون!

ج - عن أبي هريرة رفعه (لم يكذب إبراهيم إلاّ في ثلاث: قوله: ( ... إِنِّي سَقِيمٌ... ) ولم يكن سقيماً.

وقوله لسارة: أُختي.

وقوله: ( ... بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا... ) ) (2) .

ولا يمكننا إلاّ أن ننسب هذا الحديث إلى الإسرائيليّات لما فيه من اتهام إبراهيم بالكذب على هذه الصورة المشينة، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدم ورود قصّة ادّعاء إبراهيم أنّ سارة أخته في القرآن الكريم مع وجود تفسيرٍ واضحٍ لكلٍّ من الحادثتين الأُخريين لا يتّسم بالكذب.

د - جاء في الطبري عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يحلف أنّ آدم لم يأكل من الشجرة إلاّ بعد أن شرب الخمر (3) .

وسعيد بن المسيّب هذا نجده في موضعٍ آخر لا يرضى أن يقول في القرآن شيئاً من التفسير! (4) .

فكيف يمكن أن نوفّق بين يمينه ذاك ورأيه هذا؟!

________________________

(1) البقرة: 98.

(2) الصافات: 89، الأنبياء: 63، الترمذي 12: 24.

(3) تفسير الطبري 1: 237.

(4) المصدر السابق 1: 38.

٢٩٢

هـ - عن أبي سعيد الخدري قال: (قرأ رسول الله - صلّى الله عليه وآله - ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ... ) (1)

قال: (يُؤتى بالموت كأنّه كبشٌ أملح، حتّى يُوقف على السور بين الجنّة والنار، فيقال: يا أهل الجنّة، فيشرئبّون.

ويُقال يا أهل النار، فيشرئبّون، فيقال: هل تعرفون هذا؟

فيقولون: نعم هذا الموت، فيضجع فيذبح، فلولا أنّ الله قضى لأهل الجنّة الحياة فيها والبقاء لماتوا فرحاً، ولولا أنّ الله قضى لأهل النار الحياة فيها لماتوا ترحاً)) (2) .

ويمكن أن نعرف مدى صحّة هذا النص، إذا درسنا النصوص التي تُروى عن أبي سعيد هذا، ووجدنا أنّها تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ وهي: التحدّث عن أشياء غريبة ترتبط بعالم الآخرة، وكأنّه شخصٌ اختصاصي لا يمارس إلاّ هذا اللّون من التفسير (3) .

قيمة الإسرائيليّات في المعرفة التفسيريّة:

ويجدر بنا ونحن نتحدّث عن المفارقات التي وقع فيها بعض الصحابة والتابعين، نتيجة اعتمادهم على الإسرائيليّات في التفسير أن نعرف مدى قيمة هذا المصدر من ناحيةٍ إسلاميةٍ في المعرفة التفسيريّة.

ويمكننا أن نجزم بسهولةٍ بأنّ هذا المصدر لا يمثّل في وجهة النظر الإسلامية أيّ قيمةٍ حقيقيّةٍ بعد أن نلاحظ الأمرين التاليين:

أوّلاً:

إنّ القصص والتفصيلات التي سردتها التوراة والإنجيل بوجودهما الفعلي لا يمكن الاعتماد عليها؛ لأنّها محرّفة وفيها اتجاهات أخلاقيّة وعقيديّة لا يقرّها

________________________

(1) مريم: 39.

(2) الترمذي 12: 14.

(3) يمكن ملاحظة ما رواه السيوطي في الإتقان عنه 2: 191 - 205، والترمذي في كتاب التفسير.

٢٩٣

الإسلام الحنيف، وقد صرّح القرآن الكريم في مواضع مختلفة بهذا التحريف الذي أصاب هذين الكتابين، وذمّ أهل الكتاب بصورةٍ عامّةٍ على قيامهم بهذا التحريف والتزامهم له، فكيف يصح لنا بعد هذا كلّه ان نعتمد على شيءٍ من هذه التفصيلات في تفسير القرآن الكريم؟

ثانياً:

إنّ الصحابة والتابعين حين كانوا يأخذون من أهل الكتاب هذه التفصيلات لم تكن لديهم وسائل الاطلاع على ذات التوراة والإنجيل، وإنّما كانوا يعتمدون في ذلك على بعض من دخل الإسلام من أهل الكتاب وغيرهم، وقد كان بعض هؤلاء قد تظاهر بالإسلام وهو غير مخلص له، فمن الطبيعي أن يقوم بعمليّة تشويه للمفاهيم الإسلامية بإدخال بعض الاتجاهات الفكريّة والأخلاقية فيما يرويه عن التوراة والإنجيل بصورةٍ محرّفة؛ وهذا الشيء وان كان غير واردٍ في الوقت الحاضر على أساس انتشار العهدين القديم والجديد، ولكنّه كان ذا مفعولٍ قويٍّ في تشويه الفكر الإسلامي أيّام الصحابة والتابعين.

بل نجد في ثقافة أهل الكتاب معلوماتٍ وأفكاراً كانوا يتداولونها ويتوارثونها جيلاً عن جيل، ويحرّفونها ويحوّرونها لأسبابٍ مختلفة، وهي ليست موجودة بالأصل في التوراة والإنجيل، بل هي من الثقافة العامّة لهم، ولذا كان يعاتبهم القرآن ويدعوهم - أحياناً - للرجوع إلى ما بأيديهم من التوراة والإنجيل لمعرفة الحقيقة.

وقضيّة اعتماد بعض الصحابة على الإسرائيليّات في التفسير يمكن أن تُعتبر بداية المشكلة لعصر التابعين، حيث كان هذا الاتجاه اتجاهاً رئيساً في عصرهم قامت عليه بعض المدارس التفسيريّة وتبنّته بعض الأساليب الثقافيّة كمصدرٍ مهمٍّ من مصادر التموين.

فقد ظهرت في هذه المدّة من الزمن حركةٌ اتخذت من سرد الحوادث التأريخية

٢٩٤

حرفة خاصّة (1) .

وبرزت الإسرائيليّات التي تتحدّث عن حياة الأنبياء السابقين - بصفتها جزءاً من الثقافة الإسلامية العامّة - إلى جانب السيرة النبويّة وتفصيلاتها.

بل تأثّر بهذا الأُسلوب رواة السيرة النبويّة وتأريخ الفتح الإسلامي وملاحم العرب الجاهلية، فوضعوا القصص والملاحم والكتب التي تتحدّث عن الغزوات ومعارك المسلمين والجاهليين من العرب وبشكلٍ أُسطوري له أهدافٌ سياسيّة أو ثقافيةٌ معيّنة.

كما اُختلقت قصص وأساطير وهميّة حول شخصيّاتٍ حقيقيّةٍ أُريد منها تشويه الحقائق السياسية والمذهبيّة، بل حتّى تمادى بعضهم باختلاق الشخصيّات ونسبة أدوار مهمّة لهم من أجل هذه الأهداف، مثل قصص عنترة بن شداد، أو عبد الله بن سبأ، أو القعقاع التميمي، أو أيّام العرب الجاهلية وغيرهم من الشخصيّات الوهميّة أو الحقيقية التي أُحيطت بهالات وأُطر وبطولات وهميّة.

وبعد هذا كلّه يمكننا أن ندرك بوضوحٍ مقدار ما أصاب الثقافة الإسلامية من ضياعٍ وتشويهٍ نتيجة هذه السذاجة في الضبط والحماية.

ثالثاً:

سذاجة عامّة الصحابة الفكريّة، وميلهم للبساطة، وتأثّرهم في فهم الإسلام بإطاراتهم الخاصّة.

لقد كانت السذاجة الفكرية لجمهور الصحابة، وتأثّرهم في فهم الإسلام بإطاراتهم الخاصّة إحدى النقاط المهمّة التي كانت لها نتائجها ومضاعفاتها في المعرفة التفسيريّة، ونذكر من تلك النتائج ما يلي:

________________________

(1) يشير إلى هذا ما ذكره هبة الله بن سلامة في كتابه: الناسخ والمنسوخ، المطبوع بهامش أسباب النزول للواحدي:

6 - 8.

٢٩٥

1 - فقد كان من مظاهر ذلك ما أشرنا إليه سابقاً من طبيعة المرحلة التي فرضت على الصحابة أن يعيشوا القرآن كمشكلةٍ لُغويّةٍ وتأريخيّةٍ، فإنّ ذلك كان بسبب عاملين:

أحدهما خارجي: وهو عدم استيعاب الصحابة للثقافة الإسلامية.

والآخر داخلي: وهو المستوى العقلي والفكري الذي كان يعيشه رجال المرحلة، حيث كانوا ينظرون إلى البحث والتأمّل خارج حدود المشكلة اللُّغوية والتأريخية بحثاً غير إسلامي، قد ينتهي بهم إلى الانحراف في فهم الدين والضلال عنه.

في الوقت الذي نجد القرآن الكريم يحثّ على التأمّل في الكون، والتدبّر في آيات القرآن الكريم ومفاهيمه، واستعمال العقل أداةً لإدراك بعض المفاهيم الكونيّة والاجتماعية من خلال النظريّة الإسلامية ومفاهيمها.

2 - كما كان من نتائج هذه السذاجة موقف الصحابة من القرآن الكريم - بصفته مصدراً مهمّاً من مصادر المعرفة التفسيريّة في ذلك العصر - حيث لم يتمكّنوا من الاستفادة الكاملة من العطاء القرآني في هذا المجال؛ ويلاحظ ذلك في ندرة ما ورد عنهم من محاولات تفسيريّة تعتمد في فهم القرآن الكريم على القرآن نفسه، في الوقت الذي نعرف أنّ طبيعة نزول القرآن الكريم وأُسلوبه وترابط النظريّة الإسلامية وتكاملها يحتّم علينا فهم المقطع القرآني في ضوء جميع ما ورد في القرآن الكريم بصدد معناه.

وفي بعض الموارد حاول الصحابة الاستفادة من عطاء هذا المصدر الأصيل، فتجدهم يخضعون النص القرآني لإطاراتهم الفكريّة الخاصّة.

ومن الشواهد التي تدل على ذلك تلك المحاولة التي تُنسب إلى بعض الصحابة، حين حاول التعرّف على حقيقة إبليس وماهيّته، وإنّه من الجِن أو الملائكة حيث خرج - بعد مقارنته لقوله تعالى:

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ

٢٩٦

إِبْلِيسَ أَبَى... ) (1)

مع قوله تعالى:

( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ... ) (2) - بنتيجةٍ معيّنةٍ تقول: إنّ إبليس كان ينتمي إلى قبيلةٍ من الملائكة تُسّمى بالجِن (3) .

3 - وعمليّة إخضاع النص القرآني للإطارات الفكرية الخاصّة التي كان يعيشها بعض الصحابة والتابعين هي: إحدى المظاهر التي أُصيبت بها المعرفة التفسيرية في ذلك العصر نتيجةً للسّذاجة الفكرية؛ ولدينا شواهد كثيرة على هذا التأثّر في العمليات التفسيرية المنسوبة إلى بعض الصحابة والتابعين (4) .

4 - وإلى جانب ذلك كانت تبدو البساطة في فهم المعنى القرآني، والاستعارة القرآنية واضحة المعالم في تفاسير بعض الصحابة والتابعين:

فعِكْرِمة أحد التابعين، يرى في قوله تعالى:

( ... لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (5)

على أنّه من تقديم ما حقّه التأخير؛ إذ يفهم الآية على أساس أنّ تركيبها الأصلي (لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا) حيث لا يرى عِكْرمة أنّ نسيان يوم الحساب يمكن أن يكون سبباً معقولاً للعذاب الشديد (6) .

وكذلك ابن عبّاس يرى في قوله تعالى:

( ... فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً... ) (7) أنّ (جهرة) كان حقّها التقديم في الكلام، فتأخّرت حيث لا يعقل أن تتّصف الرؤية

________________________

(1) البقرة: 34.

(2) الكهف: 50.

(3) الطبري 1: في تفسير الآية 34 من سورة البقرة، دار المعرفة - بيروت.

(4) راجع بهذا الصدد الإتقان 1: 144 و 2: 141، والترمذي 11: 246.

(5) ص: 26.

(6) الإتقان 2: 13.

(7) النساء: 153.

٢٩٧

بـ (الجهرة)؛ لأنّهم إذا رأوا فقد رأوا، وإنّما كان قولهم الذي طلبوا فيه الرؤية جهرةً وعلناً (1) .

وهكذا نجد الصحابة في هذا ونظائره، يفسّرون القرآن حسب مدركاتهم واجتهاداتهم العقليّة الخاصّة، ويُخضعون المجاز القرآني بأقسامه المختلفة لهذه المدركات على بساطتها وسذاجتها.

5 - وقد انفتح بعض الصحابة والتابعين - نتيجةً لهذه السذاجة الفكريّة - على بعض الأفكار الإسرائيلية وتفسيراتهم لبعض الألفاظ القرآنية، حين لم يجدوا فيها ما يتنافى مع أفكارهم الخاصّة ومدركاتهم العقليّة، خصوصاً ما يرتبط منها بعالم الغيب، هذا العالم الذي كانوا يجهلون الكثير من تفاصيله ودقائقه (2) ؛ فكان أن فُرضت على الثقافة القرآنية مجموعة غريبة من الأفكار والمفاهيم، ونُظر إليها في العصور المتأخّرة على أساس أنّها جزءٌ من الثقافة الإسلامية.

رابعاً: التفسير لأغراض سياسيّة وشخصية:

لقد عرفنا سابقاً أنّ تسلّم الصحابة لقيادة المسلمين فكريّاً لم يتمّ على أساس التمييز بين رفاق النبي (صلّى الله عليه وآله) الذين أخلصوا له ولرسالته، وبين الآخرين الذين لم يكونوا قد انفعلوا بدرجةٍ كافيةٍ برسالة الإسلام وامتزجوا بها روحيّاً.

وكان لهذا التوجيه الخاطئ نتائجه الكثيرة في الثقافة الإسلامية بشكلٍ عام، ولم تسلم المعرفة التفسيرية من مضاعفاته وآثاره، فتعرّضت ثقافة القرآن الكريم للتّزوير والتشويه بقصد الاستفادة السياسية أو الشخصية.

ويلاحظ الباحث في المعرفة التفسيرية لذلك العصر مواقف كثيرة كانت تتّسم

________________________

(1) الإتقان 2: 13.

(2) راجع الترمذي 11: 284، والإتقان 2: 141 وغير ذلك.

٢٩٨

بهذا الاتجاه الخاص، وتحقّق أغراضاً وأهدافاً معيّنة.

وهناك شواهد كثيرة تشير إلى اتهام أولئك الأبطال الذين اشتروا آيات الله بأثمان قليلة، فراحوا يخدمون جهاتٍ معيّنةً سياسيّةً أو شخصيّة، ويتقاضون أجر ذلك منصباً زائلاً أو ذهباً رنّاناً.

ولعلّ من أبرز هذه الشواهد هو ما نفهمه حين نقارن بين ما يذكره علماء القرآن في شأن المفسّرين من الصحابة؛ حيث يذكرون: أنّ عليّاً (عليه السلام) من أكثر الصحابة تفسيراً للقرآن، وأنّ أبا هريرة من أقلّهم تفسيراً (1) ... وبين ما يذكر في كتب التفسير (الصحيحة!) حيث نجد ما يُروى عن أبي هريرة أكثر ممّا يُروى عن عليٍّ (عليه السلام) (2) .

ولا شكّ أنّ هذه المفارقة ذات الدلالة على الظروف السياسية التي منعت من الرواية عن عليٍّ (عليه السلام) ودفعت الناس للأخذ من أبي هريرة، الأمر الذي سمح لهؤلاء نسبة ما يقولونه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والقرآن الكريم.

نماذج للتّفسير بدوافع مختلفة:

أ - نماذج من التفسير لأغراضٍ سياسيّة:

1 - أحتجّ أبو بكر على الأنصار يوم السقيفة بقوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) (3) .

وفسّر (الصادقين) في هذه الآية بالمهاجرين بقرينة قوله تعالى:

( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ

________________________

(1) الإتقان 2: 187 - 189.

(2) قارن ما ذكرناه، بالروايات المذكورة عن عليٍّ (عليه السلام) وأبي هريرة من كتابَي التفسير للبخاري والترمذي.

(3) التوبة: 119.

٢٩٩

فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (1)(2) .

إذ من الواضح أنّ هذا اللّون من التفسير لم يُقصد منه إلاّ الغرض السياسي مع ابتعاده عن الغرض القرآني الأصيل.

2 - عن علي بن أبي طالب، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا وسقانا الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة، فقدّموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون! قال: فأنزل الله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ... ) (3) .

ولا يشكّ أيُّ مسلمٍ يعرف القليل عن شخصيّة الإمام علي (عليه السلام) بوضع هذا الحديث على لسانه؛ حيث إنّ الإمام علي (عليه السلام) تربّى في حِجْر الرسول منذ أن كان طفلاً، وتخلّق بأخلاقه، فكيف يمكن أن نتصوّر وقوع هذا الشيء منه، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار نزول بعض الآيات القرآنية في ذمّ الخمر قبل هذا الوقت، وإذا لاحظنا وجود بعض النصوص التي تذكر نزول الآية في شخصٍ آخر من كبار الصحابة، ممّن كان قد اعتاد شرب الخمر في الجاهلية، عرفنا الهدف السياسي فيها.

ب - نماذج من التفسير لأغراض شخصيّة:

1 - عن عمر بن الخطّاب، قال: (قال رسول الله يوم أُحد: اللّهم العن أبا سفيان، اللّهم العن الحرث بن هشام، اللّهم العن صفوان بن أُميّة؛ فنزلت : ( لَيْسَ

________________________

(1) الحشر: 8.

(2) ذكر هذه الواقعة الزركشي في كتابه: البرهان في علوم القرآن 1: 156، ولسنا على يقينٍ من صحّة صدور هذا التفسير عن شخص أبي بكر، ولكنّ الرواية - مع ذلك - تدل على لونٍ من ألوان الوضع السياسي في عصرٍ متأخرٍ عن أبي بكر.

(3) الترمذي 11: 157، وسورة النساء: 43.

٣٠٠