علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207127
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207127 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والخصوصيّة المشتركة.

وفي وقتٍ متأخرٍ من تأريخ علم التفسير أخذت تنمو بوادر منهجٍ جديدٍ في التفسير أو البحث القرآني، يقوم على أساس محاولة استكشاف النظريّة القرآنية في جميع المجالات: العقيدية والفكرية والثقافية والتشريعية والسلوكية من خلال عرضها في مواضعها المختلفة من القرآن الكريم.

فحين نُريد أن نعرف رأي القرآن الكريم في (الإلوهيّة)، يستعرض هذا المنهج الجديد الآيات التي جاءت تتحدّث عن هذا الموضوع في مختلف المجالات وفي جميع المواضع القرآنية، سواء في ذلك ما يتعلّق بأصل وجود الإله أم بصفاته وحدوده، ومن خلال هذا العرض العام والمقارنة بين الآيات وحدودها، نستكشف النظرية القرآنية في (الإله).

ونظير هذا الموقف يتّخذه في كلِّ المفاهيم والنظريّات أو بعض الظواهر القرآنية، فيبحث عن (الأُسرة) أو (التقوى) أو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (المجتمع) أو (الجهاد) أو (فواتح السور) أو (القصص القرآني) أو (الإنسان) أو غير ذلك من الموضوعات القرآنية.

وقد يقتصر البحث على مقطعٍ قرآنيٍّ واحدٍ؛ لأنّ القرآن لم يعرض لموضوع البحث إلاّ في هذا المقطع؛ ومع ذلك نجد هذا الاختلاف بين المنهج الجديد والمنهج السابق في دراسة هذا المقطع الواحد؛ حيث تكون مهمّة المنهج الجديد استخلاص الفكرة والنظرية من خلال هذا المقطع دون المنهج السابق.

فالتفسير الموضوعي - إذن - يقوم على أساس دراسة موضوعات معينة تعرض لها القرآن الكريم في مواضع متعددة أو في موضع واحد، وذلك من أجل تحديد النظرية القرآنية بملامحها وحدودها في الموضوع المعين، ومن أجل أن يتضح المراد من التفسير الموضوعي يحسن بنا أن نفهم مصطلح الموضوعية، كما شرحه

٣٤١

أُستاذنا الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه) فقد ذكر ثلاثة معانٍ لمصطلح الموضوعية:

أوّلاً:

(الموضوعيّة) في مقابل (الذاتيّة) و(التحيّز)، والموضوعية بهذا المعنى عبارة عن: الأمانة والاستقامة في البحث (1) ، والتمسّك بالأساليب العلميّة المعتمدة على الحقائق الواقعية في نفس الأمر والواقع، دون أن يتأثّر الباحث بأحاسيسه ومتبنّياته الذاتية ولا أن يكون متحيّزاً في الأحكام والنتائج التي يتوصّل إليها.

وهذه (الموضوعيّة) أمرٌ صحيحٌ ومُفْترَضٌ في كلا المنهجين (التجزيئي) و(الموضوعي) ولا اختصاص لأحدهما بها.

ثانياً :

(الموضوعيّة) بمعنى أن يبدأ في البحث من (الموضوع)، الذي هو (الواقع الخارجي) ويعود إلى (القرآن الكريم) (2) لمعرفة الموقف تجاه الموضوع الخارجي.

(فيركّز [المفسِّر في منهج التفسير الموضوعي] نظره على موضوعٍ من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونيّة، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدّمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التأريخي من أسئلةٍ ومن نقاط فراغ، ثمّ يأخذ النص القرآني... ويبدأ [معه] حواراً، فالمفسّر يسأل والقرآن يجيب... وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح... ) (3) .

وقد سمّى هذا المنهج أيضاً بالمنهج (التوحيدي) (باعتبار أنّه يوحّد بين (التجربة البشريّة) و(القرآن الكريم) لا بمعنى أنّه يحمل التجربة البشريّة على القرآن... بل بمعنى أنّه يوحّد بينهما في سياق بحثٍ واحدٍ لكي يستخرج نتيجة هذا السياق... المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدّد موقف الإسلام تجاه هذه التجربة أو

________________________

(1) المدرسة القرآنية، الدرس الثاني: 29، ط، بيروت.

(2) المصدر نفسه: 28.

(3) المصدر نفسه: 19.

٣٤٢

المقولة الفكريّة) (1) .

ثالثاً:

وقد يُراد من (الموضوعيّة) ما يُنسب إلى الموضوع، حيث يختار المفسِّر موضوعاً معيّناً ثمّ يجمع الآيات التي تشترك في ذلك الموضوع فيفسِّرها، ويحاول استخلاص نظريّة قرآنية منها فيما يخص ذلك الموضوع.

ويمكن أن يُسمّى مثل هذا المنهج منهجاً توحيديّاً أيضاً (باعتبار أنّه يوحّد بين هذه الآيات ضمن مركّب نظري واحد) (2) .

ولا شكّ أنّ المعنى الأوّل ليس موضوع البحث، إذ لا يختلف التفسير الموضوعي عن التفسير التجزيئي في ضرورةٍ توفّر هذا الوصف فيه، ويبقى عندنا المعنى الثاني والثالث.

وقد خضع هذا المنهج في البحث لقانون التطوّر الذي يحدث عادة في مناهج البحث، فمرّ بمراحل متعدّدة، حيث قام المنهج القديم للتفسير بدور الحضانة له، ثمّ بلغ رشده وانفصل عنه، فإذا بالموضوعات القرآنية المختلفة تتّخذ صفة البحث المستقل عن (الهيكل العام للتفسير القديم).

حاجة العصر إلى التفسير الموضوعي (*) :

لقد عرف الإسلام في أنظمته وتشريعاته طريقه إلى المجتمع في بداية الأمر من خلال التطبيق؛ وذلك لأنّ الجانب الاجتماعي من الإسلام لم يطرحه الرسول

________________________

(1) المدرسة القرآنية، الدرس الثاني: 28.

(2) المصدر نفسه.

(*) لمعرفة مزيدٍ من أهميّة التفسير الموضوعي وميزاته تُراجع المدرسة القرآنية للشهيد الصدر (قُدّس سرّه) - الدرس الأوّل والثاني، وكرّاس محاضرات في تفسير القرآن (مقدّمة التفسير) لمؤلّف هذا الكتاب.

٣٤٣

الأعظم (صلّى الله عليه وآله) كنظريات عامّة ومبادئ دستورية عن المجتمع وعلاقاته المختلفة، ثمّ جاء التشريع والتقنين بناءً فوقيّاً لها ليشمل جميع مناحي الحياة، وإنّما طرحه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في كثيرٍ من الأحيان من خلال التقنين والتشريع وبيان الأحكام المختلفة في قضايا المجتمع التفصيلية.

ومن هنا لا نجد البحث الموضوعي النظري يدخل في الشريعة الإسلامية إلاّ في العصور المتأخّرة من تأريخ المسلمين؛ لأنّ المجتمع الإسلامي كان يباشر التطبيق للقانون الإسلامي على أساس أنّه تشريع وأحكام من قِبَل الله سبحانه لا بُدّ من الالتزام بها ضمن نطاقها المعيّن وفي حدودها الخاصّة، بلا حاجةٍ إلى معرفة النظرية التي يقوم عليها الحكم الشرعي، وكيفيّة معالجتها لمشاكل الحياة الاجتماعية.

ويكاد يختص هذا الأمر بالشريعة فقط دون الجانب العقيدي للإسلام، فإنّه كان ولا يزال مجالاً للبحث النظري بسبب أنّ جانب التطبيق فيه هو فهم النظريّة والإيمان بها؛ وهذا ما فعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فأنّه طرح في العقيدة النظرية الإسلامية بشكلها العام.

وحين انحسر الإسلام عن التطبيق في مجتمع المسلمين وواجه النظريّات المذهبيّة المختلفة ظهرت الحاجة الملحّة إلى البحث الموضوعي القرآني في مختلف المجالات؛ لأنّ الإسلام أصبح بحاجةٍ إلى أن يُعرض كـ (نظريّة) مذهبيّة جاء بها الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) عن طريق الوحي، وذلك من أجل مواجهة النظريّات المذهبيّة الأُخرى، ومن أجل أن يتّضح مدى صلاحيّته لمعالجة مشاكل الحياة المعاصرة وصلته بتلك النظريّات المذهبّية، كما أنّ فهم الإسلام كـ (نظريّة) عامّة هو الذي يسّر لنا سبيل أن نتبنّاه نظاماً للحياة، ندافع عنه ونكافح من أجل تطبيقه وصيانته.

فالحاجة إلى التفسير الموضوعي في هذا العصر تنبع - في الحقيقة - من الحاجة إلى عرض الإسلام ومفاهيم القرآن عرضاً نظريّاً، يتكفّل الأساس الذي تنبثق

٣٤٤

منه جميع التفصيلات والتشريعات الأُخرى، حيث من الممكن أن نستكشف النظريّات العامّة من خلال التشريع والقانون الإسلامي لوجود الارتباط الوثيق بين النظريّة والتطبيق (1) .

الموضوعات التي عرض لها القرآن إجمالاً وطريقته في هذا العرض:

لقد عرض القرآن الكريم إلى موضوعاتٍ كثيرة، حيث تناول في ما تعرّض له أكثر الجوانب الفكرية والثقافية المرتبطة بالحياة والكون والمجتمع، سواء ما يتعلّق منها بالعقيدة أو بالتشريع أو بالأخلاق أو الحكم والعلاقات الاجتماعية أو التأريخ أو غير ذلك من الجوانب الأُخرى.

وهنا نُشير إلى فهرستٍ عامٍّ للنقاط الرئيسة التي تناولها القرآن الكريم، علماً بأنّ أكثر هذه النقاط تتفرّع إلى نقاطٍ أُخرى وموضوعاتٍ ثانويّة تصلح للبحث الموضوعي والدرس العلمي، وهذه النقاط هي كالتالي:

الإلوهيّة، أفعال الله، عالم الغيب، الإنسان قبل الدنيا، الإنسان في هذه الدنيا، الإنسان بعد هذه الدنيا، الأخلاق الإنسانية، التشريع الإسلامي، الكون والحياة، وحركة الدعوة الإسلامية.

وتتناول النقطة الأُولى:

كلّ المعلومات التي ترتبط بأسماء الله سبحانه وصفاته من: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها.

وتتناول النقطة الثانية:

كلّ المعلومات التي ترتبط بالخَلْق والإرادة والأمر والمشيئة والهداية والإضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط والحب وغيرها.

وتتناول النقطة الثالثة:

كل المعلومات التي ترتبط بالحُجُب واللّوح والقلم

________________________

(1) راجع بهذا الصدد (اقتصادنا) لأُستاذنا السيّد محمّد باقر الصدر (قُدّس سرّه) 2: 16.

٣٤٥

والعرض والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجن، وغير ذلك.

وتتناول النقطة الرابعة:

كلّ المعلومات التي ترتبط بآدم وكيفيّة خلقه وخلافته وخلق إبليس وعلاقته بآدم وذرّيّته وحياته في الجنّة مع زوجه وغيرها.

وتتناول النقطة الخامسة:

كلّ المعلومات التي ترتبط بتأريخ الإنسان ومزاجه النفسي والروحي والعقلي والقوانين الاجتماعية العامّة التي تتحكّم في سلوكه وعلاقاته وحركته الاجتماعية والتأريخية، ومدى صلته بالسماء وأساليب هذه الصلة من النبوّة والوحي والإلهام والدين والكتاب والشريعة، وجميع صفات الأنبياء التي تُستنبط من قصصهم.

وتتناول النقطة السادسة:

كلّ المعلومات التي ترتبط بالبرزخ والمعاد والجنّة والنار...

وتتناول النقطة السابعة:

كلّ المعلومات التي ترتبط بالقِيَم والمُثُل والصفات التي يجب أن يتحلّى بها الإنسان والتي ترتفع به في عالم الإنسانية وتوصله إلى الكمال المنشود، وكذلك الأمثال والمواعظ التي لها دورٌ في تربية هذا الإنسان وتكميله وتوجيهه.

وتتناول النقطة الثامنة:

كلّ المعلومات التي ترتبط بالشريعة الإسلامية بجوانبها : الاقتصادية والاجتماعية والفرديّة والتجارية والحربية وغيرها (1) .

وتتناول النقطة التاسعة:

كلّ المعلومات المرتبطة بالسماء والأرض والجبال والماء والحيوان والنبات والمطر والرياح، والعوالم التي تحيط بهذا الإنسان في هذا الكون الواسع.

وتتناول النقطة العاشرة:

كلّ الأحداث التي واجهها النبي والمسلمون، والمواقف

________________________

(1) راجع بهذا الصدد الميزان، مقدّمة تفسير الميزان: 11.

٣٤٦

التي اتخذها القرآن الكريم تجاهها، وكذلك الإثارات والأسئلة والشبهات والمشكلات التي كانت تُطرح من قِبَل أعداء الرسالة أو المسلمين أنفسهم ومعالجتها، والتطوّرات والمراحل التي مرّت بهذه الرسالة، والقضايا ذات العلاقة ببناء القاعدة الإنسانية الثوريّة؛ التي حملت أعباء الرسالة بعد ذلك.

وقد سلك القرآن الكريم لتبيان هذه الموضوعات منهجاً فريداً يكاد يتميّز عن سائر مناهج الكتب الدينية الأُخرى؛ حيث نرى أنّه لا تكاد تمرّ سورة من القرآن الكريم أو جزء منه إلاّ وقد تناول الكثير من هذه الموضوعات، بأُسلوبٍ غاية في التناسق والربط والانسجام.

كما نجد القرآن الكريم - من ناحيةٍ أُخرى - يعمل على إيضاح بعض المفاهيم والأفكار غير الماديّة (الغيبيّة) عن طريق الأمثلة والصور الماديّة؛ ليقرّب بذلك (الفكرة) إلى ذهن الإنسان الذي لا يدرك إلاّ من خلال هذه الصور ويحدّد الفكرة عن طريق تكرار الأمثلة وتكثير الصور، لتخلص ممّا قد يعلق بها من شوائب المادّة وحدودها، كما أشرنا إلى ذلك في بحث المُحْكَم والمُتشابِه.

ونحن نعرف أنّ الهدف الأساس الذي استهدفه القرآن الكريم في نزوله هو التربية والتغيير الاجتماعي لا التثقيف والتعليم فحسب، ولذا نجد الأُسلوب القرآني يخضع في جميع مراحله إلى هذا الهدف ويأتي بهذا الشكل الذي قد يبدو متداخلاً ولكنّه يؤدّي إلى الغاية والهدف؛ وقد أوضحنا في بعض أبحاثنا السابقة جوانب متعدّدة من هذه الطريقة في العرض والبيان.

وباعتبار أنّ موضوعات القرآن الكريم واسعةٌ وكثيرة، لذا سوف نختار في بحثنا هذا بعض النماذج من الموضوعات لبحث التفسير، حيث نكون على معرفةٍ من هذا المنهج من خلال التطبيق أوّلاً، والاستفادة من المضمون العلمي لهذه الموضوعات ثانياً، وقد اخترنا الموضوعات التالية؛ لأهميّتها في بحث علوم القرآن:

٣٤٧

1 - القصص القرآني.

2 - فواتح السور المقطّعة.

3 - خلافة الإنسان.

٣٤٨

القصص القرآني

الفرق بين القصص القرآني وغيره:

يختلف القصص القرآني عن غيره من القصص في ناحيةٍ أساسيّةٍ هي ناحية الهدف والغرض الذي جاء من أجله، ذلك أنّ القرآن الكريم لم يتناول القصّة لأنّها عملٌ (فنّي) مستقلٍّ في موضوعه وطريقة التعبير فيه، كما أنّه لم يأت بالقصّة من أجل التحدّث عن أخبار الماضين وتسجيل حياتهم وشؤونها - كما يفعل المؤرّخون - وإنّما كان عرض القصّة في القرآن الكريم مساهمةً في الأساليب العديدة التي سلكها لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينية التي جاء الكتاب الكريم من أجلها، بل يمكن أن نقول: أنّ القصّة هي من أهم هذه الأساليب.

فالقرآن الكريم - كما عرفنا في وقتٍ سابقٍ عند الحديث عن الهدف من نزول القرآن - رسالةٌ دينيّةٌ قبل كلِّ شيءٍ تهدف بصورةٍ أساسيّةٍ إلى عمليّة التغيير الاجتماعي بجوانبها المختلفة، هذه العملية التي وجدنا بعض مظاهرها وآثارها في طريقة نزول القرآن التدريجي، وفي طريقة عرض المفاهيم المختلفة، وفي ربط نزول القرآن بالأحداث والوقائع والأسئلة، وفي أُسلوب القرآن في القِصَر و الإيجاز، أو المزج بين الصور والمشاهد المتعدّدة، الأمر الذي أدّى إلى نشوء كثيرٍ من الدراسات القرآنية، عرفنا منها الناسخ والمنسوخ والمُحْكَم والمتشابِه والمكّي والمدني وغيرها.

لذا فلا بُدّ لنا - حين نريد أن ندرس القصّة القرآنية - أن نضع أمامنا هذا الهدف

٣٤٩

القرآني العام لنتعرّف من خلاله على الأُسلوب الذي اتّبعه القرآن الكريم في عرضه القصّة القرآنية مساهمةً منه في تحقيق هذا الهدف.

أغراض القصّة في القرآن الكريم (*) :

لقد جاءت القصّة في القرآن الكريم لتساهم في عملية التغيير الإنساني بجوانبها المتعددة، فما هي الأغراض ذات الأثر الرسالي التي استهدفتها القصة القرآنية؟

وبهذا الصدد نجد القصّة القرآنية تكاد تستوعب في مضمونها وهدفها جميع الأغراض الرئيسة التي جاء من أجلها القرآن الكريم (1) ، ونظراً لكثرة هذه الأغراض وتشعّبها نجد من المستحسن أن نقتصر في عرضنا لأغراض القصّة في القرآن على الأغراض القرآنية المهمّة، لنتعرّ ف - من خلال ذلك - أهميّة ذكر القصّة في القرآن الكريم والفوائد التي تترتّب عليها:

أ - إثبات الوحي والرسالة:

إنّ ما جاء به القرآن الكريم لم يكن من عند محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وإنّما وحيٌ أوحاه الله تعالى إليه وأنزله هدايةً للبشريّة.

________________________

(*) راجع في بحث أغراض القصّة ما كتبه سيّد قطب في كتابه (التصوير الفني في القرآن) : 120 - 141، وما سيجعله السيّد رشيد رضا في مواضع مختلفة من كتابه: (تفسير المنار).

(1) يمكن أن نقسّم الأغراض القرآنية للقصّة إلى قسمين رئيسين:

أوّلاً: الأغراض ذات المدلول الموضوعي، كمحاولة القرآن الكريم من وراء سرد القصّة إثبات صحّة النبوّة أو إثبات وحدة الرسالات الإلهيّة أو شرح بعض القوانين والسنن التأريخية التي تتحكّم في مسيرة المجتمع الإنساني.

ثانياً: الأغراض ذات المدلول الذاتي التربوي، كمحاولة القرآن الكريم من وراء سرد القصّة تربية الإنسان على الإيمان بالغيب أو خضوعه للحكمة الإلهيّة أو التزامه بالأخلاق الإسلامية والاعتبار أو الاقتداء بسيرة الماضين.

٣٥٠

وقد أشرنا إلى هذا الهدف القرآني من القصّة عند بحثنا لإعجاز القرآن الكريم حيث عرفنا: أنّ حديث النبي محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) من أخبار الأُمم السالفة وأنبيائهم ورسلهم بهذه الدقّة والتفصيل والثقة والطمأنينة، مع ملاحظة ظروفه الثقافية والاجتماعية كلّ ذلك يكشف عن حقيقةٍ ثابتةٍ وهي تلقّيه هذه الأنباء والأخبار من مصدرٍ غيبيٍّ مطّلعٍ على الأسرار وما خفي من بواطن الأُمور، وهذا المصدر هو الله سبحانه وتعالى.

وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ من أهداف القصّة هو هذا الغرض السامي، وذلك في مقدّمة بعض القصص القرآنية أو ذيلها، فقد جاء في سورة يوسف:

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ) (1) .

وجاء في سورة القصص بعد عرضه لقصّة موسى:

( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ* وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ* وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (2) .

وجاء في سورة آل عمران في مبدأ قصّة مريم:

( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) (3) .

وجاء في سورة (ص) قبل عرضه لقصّة آدم:

( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنتُمْ عَنْهُ

________________________

(1) يوسف: 3.

(2) القصص: 44 - 46.

(3) آل عمران: 44.

٣٥١

مُعْرِضُونَ* مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ* إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلاّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) (1) .

وجاء في سورة هود بعد قصّة نوح:

( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (2) .

فكلّ هذه الآيات الكريمة وغيرها تشير إلى أنّ القصّة إنّما جاءت في القرآن تأكيداً لفكرة الوحي التي هي الفكرة الأساس في الشريعة الإسلامية.

ب - وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء:

أكّدت القصّة أنّ الدين كلّه من الله سبحانه، وأنّ الأساس للدين الذي جاء به الأنبياء المتعدّدون هو أساس واحد لا يختلف بين نبيٍّ وآخر، فالدين واحدٌ ومصدر الدين واحدٌ - أيضاً - وجميع الأنبياء أُمّة واحدة تعبد هذا الإله الواحد وتدعو إليه.

وهذا الغرض، من الأهداف الرئيسة للقرآن الكريم، حيث يهدف القرآن من جملة ما يهدف إليه: إبراز الصلة الوثيقة بين الإسلام الحنيف وسائر الأديان الإلهيّة الأُخرى التي دعا إليها الرسل والأنبياء الآخرون؛ ليحتلّ الإسلام منها مركز الخاتميّة التي يجب على الإنسانية أن تنتهي إليها، ويسد الطريق على الزيغ الذي يدعو إلى التمسّك بالأديان السابقة على أساس أنّها حقيقيةٌ موحاة من قِبَل الله تعالى.

إضافةً إلى ذلك تظهر الدعوة على أنّها ليست بدعاً في تأريخ الرسالات، وإنّما هي وطيدة الصلة بها في أهدافها وأفكارها ومفاهيمها: ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ... ) (3) ، بل إنّها تمثّل امتداداً لهذه الرسالات الإلهيّة وتلك الرسالات تمثّل

________________________

(1) ص: 67 - 70.

(2) هود: 49.

(3) الأحقاف: 9.

٣٥٢

الجذر التأريخي للرسالة الإسلامية، فهي رسالة أخلاقية وتغييرية لها هذا الامتداد في التأريخ الإنساني، ولها هذا القدْر من الأنصار والمضحّين والمؤمنين.

وعلى أساس هذا الغرض تكرّر ورود عددٍ من قصص الأنبياء في سورةٍ واحدةٍ ومعروضة بطريقة خاصّة؛ لتؤكّد هذا الارتباط الوثيق بينهم في الوحي والدعوة التي تأتي عن طريق هذا الوحي، ولنضرب لذلك مثلاً، ما جاء في سورة الأنبياء (1) :

( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ* وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ) .

( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ) .

إلى قوله:

( وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) .

( وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ* وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) .

( وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ )

( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ* وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ) .

________________________

(1) الأنبياء: 48 - 92.

٣٥٣

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ* وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) .

( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) .

( وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ* وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ ) .

( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) .

( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) .

( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) .

( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (1) .

ويبدو أنّ القرآن الكريم يريد أن يُشير إلى الغرض الأصيل من هذا الاستعراض لقصص الأنبياء بالآية الخاتمة المعبّرة عن هذه الوحدة العميقة الجذور في القِدَم للأُمّة المؤمنة بالإله الواحد، وتأتي بقيّة الأغراض الأُخرى في ثنايا هذا الغرض.

ومثالٌ آخر يوضّح وحدة العقيدة الأساسية التي استهدفها الأنبياء في تأريخهم الطويل وفي نضالهم المتواصل، هذه العقيدة التي تدعو إلى الإيمان بالله سبحانه إلهاً واحداً لا شريك له في ملكه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف:

________________________

(1) الأنبياء: 81 - 92.

٣٥٤

( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ) (1) .

( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ) (2) .

( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ) (3) .

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ) (4) .

فالإله واحد، والعقيدة واحدة، والأنبياء أُمّةٌ واحدة، والدين واحدٌ وكلّه لواحدٍ هو الله سبحانه.

ج - تشابه طُرُق الدعوة والمجابهة:

من أغراض القصّة بيان أن وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة، وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة، وأنّ القوانين والسنن الاجتماعية التي تتحكّم في تطوّر الدعوة وسيرها واحدةٌ أيضاً، فالأنبياء يدعون إلى الإله الواحد ويأمرون بالعدل والإصلاح، والناس يتمسّكون بالعادات والتقاليد البالية، ويصرّ على ذلك أصحاب المنافع الشخصيّة والأهواء الخاصّة بشكلٍ خاص، والطواغيت والجبابرة منهم بشكلٍ أخص.

وتبعاً لهذه الأهداف ترد قصصٌ كثيرةٌ من الأنبياء مجتمعة مكرّرة، فيها طريقة الدعوة على نحو ما جاء في سورة هود:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ* فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ

________________________

(1) الأعراف: 59.

(2) الأعراف: 65.

(3) الأعراف: 73.

(4) الأعراف: 85.

٣٥٥

كَاذِبِينَ )

إلى أن يقول:

( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ... )

وإلى أن يقولوا له:

( ... يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) (1) .

( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ* يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )

إلى قوله:

( قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ ) (2) .

( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ* قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) (3) .

ومثل هذه المواقف نجدها في سورة الشعراء أيضاً.

د - النصر الإلهي للأنبياء:

بيان نصرة الله لأنبيائه، وأنّ نهاية المعركة تكون في صالحهم مهما لاقوا من العنت والجور والتكذيب - كل ذلك تثبيتاً لرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأصحابه، وتأثيراً في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان.

وقد نصّ القرآن الكريم على هذا الهدف الخاص - أيضاً - بمثل قوله تعالى:

( وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ

________________________

(1) هود: 25 - 32.

(2) هود: 50 - 55.

(3) هود: 61 - 62.

٣٥٦

وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

وتبعاً لهذا الغرض وردت بعض قصص الأنبياء مؤكّدةً على هذا الجانب بل جاءت بعض هذه القصص مجتمعةً ومختومةً بمصارع من كذّبوهم وقد يتكرّر عرض القصّة نتيجةً لذلك، كما جاء في سورة هود والشعراء والعنكبوت، ولنضرب مثلاً من سورة العنكبوت:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (2) .

إلى أن يقول:

( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (3) .

( وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ) (4) .

إلى أن يقول:

( إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ* وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

( وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) .

( وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

________________________

(1) هود: 120.

(2) العنكبوت: 14 - 16.

(3) العنكبوت: 24.

(4) العنكبوت: 28.

٣٥٧

( وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ) .

( فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (1)

فهذه هي النهاية الحتميّة التي يريد أن يصوّرها القرآن الكريم لمعارضي الأنبياء والمكذِّبين بدعوتهم.

هـ - تصديق التبشير والتحذير:

فقد بشّر الله - سبحانه - عباده بالرّحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم، وحذّرهم من العذاب الأليم لمن عصاه منهم.

ومن أجل إبراز هذه البشارة والتحذير بصورةٍ حقيقيّةٍ متمثّلةٍ في الخارج؛ عرض القرآن الكريم لبعض الوقائع الخارجية التي تتمثّل فيها البشارة والتحذير؛ فقد جاء في سورة الحجر: التبشير والتحذير أوّلاً، ثمّ عرض النماذج الخارجية لذلك ثانياً:

( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ) (2) .

وتصديقاً لهذه أو ذلك جاءت القصص على النحو التالي:

( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ* إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ* قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) (3) ... وفي هذه القصّة تبدو الرحمة والبشارة، ثمّ :

( فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ* قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ* قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ* فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ* وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ

________________________

(1) العنكبوت: 34 - 40.

(2) الحجر: 49 - 50.

(3) الحجر: 51 - 53.

٣٥٨

هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ) (1) .

وفي هذه القصّة تبدو (الرحمة) في جانب لوطٍ ويبدو (العذاب الأليم) في جانب قومه المهلَكين.

ثمّ: ( وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ* وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ* وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ* فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (2) .

وفي هذه القصّة يبدو (العذاب الأليم) للمكذِّبين، وهكذا يصدق الإنباء ويبدو صدقه في هذه القصص الواقع بهذا الترتيب.

و - اللُّطف الإلهي بالأنبياء:

بيان نعمة الله على أنبيائه ورحمته بهم وتفضّله عليهم وذلك توكيداً لارتباطهم وصلتهم معه، كبعض قصص سليمان وداود وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى.

ذلك أنّ الأنبياء يتعرّضون - عادةً - إلى مختلف ألوان الآلام والمحن والعذاب، فقد يتوهّم السُذّج والبسطاء من الناس أنّ ذلك إعراضٌ من الله تعالى عنهم، فيأتي الحديث عن هذه النعم والألطاف الإلهيّة التي شملتهم تأكيداً لعلاقة الله سبحانه وتعالى بهم، ولذلك نشاهد أنّ بعض الحلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتّى، ويكون إبرازها هو الغرض الأوّل منها وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضاً.

ز - عداوة الشيطان:

بيان غواية الشيطان للإنسان وعداوته الأبديّة له وتربّصه به الدوائر والفرص، وتنبيه بني آدم لهذا الموقف المعيّن منه، ولا شكّ أنّ إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصّة يكون واضحاً وأدعى للحذر والالتفات، لذا نجد قصّة آدم تُكرّر بأساليب مختلفة؛ تأكيداً لهذا الغرض، بل يكاد أن يكون هذا الغرض هو الهدف

________________________

(1) الحجر: 61 - 66.

(2) الحجر: 80 - 84.

٣٥٩

الرئيس لقصّة آدم كلِّها.

ح - أهداف بعثة الأنبياء:

بيان أنّ الغايات والأهداف من إرسال الرسل والأنبياء، هي: من أجل هداية الناس وإرشادهم وحلّ الاختلافات، والحكم بالعدل بينهم، ومحاربة الفساد في الأرض، وفوق ذلك كلِّه، هو: إقامة الحجّة على الناس، ولذا جاء استعراض قصص الأنبياء بشكلٍ واسعٍ لبيان هذه الحقائق.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف من القصّة في عدّة مواضع:

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ... ) (1) .

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (2) .

( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (3) .

فإنّها وردت في سياق قوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ... ) (4) .

( وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً* وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ

________________________

(1) البقرة: 213.

(2) النساء: 165.

(3) الأنعام: 48.

(4) الأنعام: 42.

٣٦٠