علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207022
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207022 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً ) (1) .

وكذلك ما ورد في تعقيب قصص الأنبياء من سورة الشعراء من قوله تعالى:

( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (2) .

ط - أهدافٌ تربويّةٌ أُخرى:

وبيان أغراض أُخرى ترتبط بالتربية الإسلامية وجوانبها المتعدّدة، فقد استهدف القرآن بشكلٍ رئيسٍ تربية الإنسان على الإيمان بالغيب، وشمول القدرة الإلهيّة لكلِّ الأشياء، كالقصص التي تذكر الخوارق والمعاجز:

كقصّة خلق آدم، ومولد عيسى، وقصّة إبراهيم مع الطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كلّ جبلٍ جزءاً منه، وقصّة:

( ... الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا... ) (3) وإحياء الله له بعد موته مائة عام.

كما استهدف تربية الإنسان على فعل الخير والأعمال الصالحة وتجنّبه الشر والفساد، وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الأفعال: كقصّة النبي آدم وقصّة صاحب الجنّتين، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم، وقصّة سد مأرب، وقصّة أصحاب الأخدود.

وممّا استهدفه القرآن الكريم في التربية: الاستسلام للمشيئة الإلهيّة والخضوع للحكمة التي أرادها الله سبحانه من وراء العلاقات الكونيّة والاجتماعية في الحياة، وذلك ببيان الفارق بين الحكمة الإلهيّة ذات الهدف البعيد والعميق في الحياة الإنسانية والفهم الإنساني للظواهر في الحياة الدنيا، والحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، كما جاء في قصّة موسى التي جرت مع عبدٍ ( ... مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ

________________________

(1) الكهف: 55 - 56.

(2) الشعراء: 158 - 159.

(3) البقرة: 259.

٣٦١

عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ) (1) ، إلى آخر ذلك من الأغراض الوعظيّة والتربوية الأُخرى التي سوف نطّلع على بعضها في دراستنا التفصيليّة لقصّة موسى (عليه السلام).

ظواهر عامّة في القصّة القرآنية:

وفي ضوء هذه الأهداف للقصّة يحسن بنا أن ندرس ثلاث ظواهر أساسيّة برزت في مجمل القصّة القرآنية:

أ - ظاهرة التكرار في القصّة القرآنية.

ب - ظاهرة اختصاص قصص الأنبياء في القرآن بأنبياء منطقة الشرق الأوسط.

ج - ظاهرة تأكيد قصص بعض الأنبياء كإبراهيم وموسى (عليهما السلام).

أ - تكرار القصّة في القرآن الكريم:

من ظواهر القصّة في القرآن الكريم هي ظاهرة تكرار القصّة الواحدة في مواضع مختلفة من القرآن، وقد أُثيرت بعض المشاكل حول هذه الظاهرة حيث يُقال: إنّ هذا التكرار قد يشكّل نقطة ضعفٍ في القرآن الكريم؛ لأنّ القصّة بعد أن تُذكر في القرآن مرّةً واحدةً تستنفد أغراضها الدينية والتربوية والتأريخية، وقد أُثيرت هذه المشكلة في زمنٍ متقدّمٍ من البحث العلمي، لذا نجد الإشارة في مفردات الراغب الأصفهاني، وفي مقدّمة تفسير التبيان للشيخ الطوسي (2) ، والطوسي وأن كان يبدو أنّه لم يعالج المشكلة بشكلٍ رئيسٍ، ولكنّه يدلّ على الأقل أنّ المشكلة قد طُرحت على صعيد البحث القرآني.

ونحن هنا نذكر بعض الوجوه التي يمكن أن تكون تفسيراً لتكرار القصّة

________________________

(1) الكهف: 65.

(2) التبيان، مقدمّة المؤلِّف 1: 14.

٣٦٢

الواحدة في القرآن الكريم:

الأوّل:

إنّ التكرار إنّما يكون بسب تعدّد الغرض الديني الذي يترتّب على القصّة الواحدة، وقد عرفنا في بحثنا السابق لأغراض القصّة (1) أنّ أهداف القصّة متعدّدة، فقد تجيء القصّة في موضعٍ لأداء غرضٍ معيّنٍ وتأتي في موضعٍ آخر لأداء غرضٍ آخر وهكذا.

الثاني:

إنّ القرآن الكريم اتخذ من القصّة أُسلوباً لتأكيد بعض المفاهيم الإسلامية لدى الأُمّة المسلمة، وذلك عن طريق ملاحظة الوقائع الخارجيّة التي كانت تعيشها الأُمّة، وربطها بواقع القصّة من حيث وحدة الهدف والمضمون.

وهذا الربط بين المفهوم الإسلامي في القصّة والواقعة الخارجيّة المعاشة للمسلمين، قد يؤدّي إلى فهمٍ خاطئٍ للمفهوم المراد إعطاؤه للأُمّة، فيُفهم انحصاره في نطاق الواقعة التي عاشتها القصّة وظروفها الخاصّة، فتأتي القصّة الواحدة في القرآن الكريم مكرّرةً من أجل تفادي هذا الحصر والتضييق في المفهوم من أجل تأكيد شموله واتساعه لكلّ الوقائع والأحداث المتشابهة؛ ليتّخذ صفة القانون الأخلاقي أو التاريخي، الذي ينطبق على كلّ الوقائع والأحداث... إضافةً إلى فاعليّته كمنبّهٍ للأُمّة على علاقة القضيّة الخارجية التي تواجهها - في عصر النزول أو بعده - بالمفهوم الإسلامي لتستمدّ منه روحه ومنهجه.

ولعلّ هذا السبب هو ما يمكن أن نلاحظه في تكرار قصّة موسى والفرق بين روحها العامّة في القصص المكّي وروحها في القصص المدني، فإنّها تؤكّد في القصص المكّي منها العلاقة العامّة بين موسى من جانب، وفرعون وملئه من جانبٍ آخر، دون أن تُذكر أوضاع بني إسرائيل تجاه موسى نفسه، إلاّ في موردين يذكر فيهما انحراف بني إسرائيل عن العقيدة الإلهيّة بشكلٍ عام؛ وهذا بخلاف الروح

________________________

(1) لزيادة الايضاح، راجع: التصوير الفنّي في القرآن 128 - 134.

٣٦٣

العامّة لقصّة موسى في السِوَر المدنيّة، فإنّها تتحدّث عن علاقة موسى مع بني إسرائيل، وتتحدّث عن هذه العلاقة وارتباطها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية.

وهذا قد يدلّنا على أنّ هذا التكرار للقصّة في السِوَر المكّيّة إنّما كان يعني نزول القصّة لمعالجة روحيّةٍ تتعلّق بحوادث مختلفة كانت تواجه النبيَّ والمسلمين، ومن أهداف هذه المعالجة توسعة نطاق المفهوم العام الذي تعطيه قصّة موسى في العلاقة بين النبي والجبّارين من قومه أو القوانين التي تحكم هذه العلاقة، وأنّ هذه العلاقة مع نهايتها لا تختلف فيها حادثةٌ عن حادثة، أو موقفٌ عن موقف.

ولعلّ إلى هذا التفسير تُشير الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الفرقان:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً* وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً* وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً ) (1) .

فإنّ من المُلاحَظ في هذه الآيات أنّ القرآن يذكر أنّ السبب في التدرّج والترتيل في القرآن الكريم هو: التثبيت للنبي من ناحية، والإتيان بالحق والتفسير الأفضل للوقائع والأحداث والأمثال من ناحيةٍ أُخرى، ثمّ يأتي بهذا التفسير الأحسن من قصّة موسى (عليه السلام).

الثالث:

إنّ الدعوة الإسلامية مرّت بمراحل متعدّدة في سيرها الطويل، وقد كان القرآن الكريم يواكب هذه المراحل ويماشيها في عطائه وطبيعة أُسلوبه، وهذا كان يفرض أن تُعرض القصّة الواحدة بأساليب متفاوتة في الطول والقِصَر، نظراً لطبيعة الدعوة وطريقة بيان المفاهيم والعبر فيها، كما نجد ذلك في قصص الأنبياء حين تُعرض في السورة القصيرة المكّيّة، ثمّ يتطوّر العَرْض بعد ذلك إلى شكلٍ أكثر

________________________

(1) الفرقان: 32 - 35.

٣٦٤

تفصيلاً في السِوَر المكّيّة المتأخّرة أو السِوَر المدنيّة.

الرابع:

إنّ تكرار القصّة لم يأت في القرآن الكريم بشكلٍ يتطابق فيه نصّ القصّة مع نصٍّ آخر لها، وإنّما تختلف الموارد في بعض التفاصيل وطريقة العرض، وطريقة عرض القصّة القرآنية قد تستبطن مفهوماً دينيّاً يختلف عن المفهوم الديني الآخر الذي تستبطنه طريقة عرضٍ أُخرى، هذا الأمر الذي نسمّيه بالسياق القرآني، وهذا يقتضي التكرار أيضاً؛ لتحقيق هذا الغرض السياقي الذي يختلف عن الغرض السياقي الآخر لنفس القصّة، وسوف تتّضح معالم هذه النقاط بشكلٍ أكثر عند دراستنا التطبيقيّة التالية لقصّة موسى في القرآن الكريم.

ب - اختصاص القصّة بأنبياء الشرق الأوسط:

وأمّا الظاهرة الثانية: فمن الملاحّظ أنّ القرآن الكريم تحدّث عن مجموعةٍ من الأنبياء يشتركون في خصوصيّة: أنّهم يعيشون جميعاً في منطقة الشرق الأوسط، أي المنطقة التي كان يتفاعل معها العرب الذين نزل القرآن في محيطهم ومجتمعهم.

وقد تُفسَّر هذه الظاهرة لأوّل وهْلةٍ بأنّ النبوّات لمّا كانت بالأصل في هذه المنطقة، ومن خلالها انتشر الهدى في جميع أنحاء العالم، حيث كانت البشرية تعيش في البداية بهذه المنطقة ولا يوجد في المناطق الأُخرى نبوّات وأنبياء، كما قد يُفهم ذلك من خلال الاستعراض التأريخي للنبوّات وتأريخ الإنسان في التوراة، وحينئذٍ لا تعني هذه الخصوصيّة ظاهرة تحتاج إلى تفسير، بل هي قضيّة فرضتها الحقيقة التأريخية ويكفي في تفسيرها هذا الواقع التأريخي.

الرسالات الإلهيّة لا تختصُّ بمنطقة الشرق الأوسط:

ولكن توجد شواهد في القرآن الكريم تنفي هذا التفسير لهذه الظاهرة، فالقرآن يشير في بعض آياته إلى أنّ هناك مجموعة أُخرى من الأنبياء لم يتحدّث

٣٦٥

عنهم، مع أنّ حياتهم لا بُدّ وأنّها كانت زاخرةً بالأحداث، شأنهم في ذلك شأن الأنبياء الآخرين:

( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً* وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (1) .

كما أنّ هذا المضمون جاء - أيضاً - في سورة غافر: (78).

علماً بأنّ سورة النساء من السور المدنية المتأخّرة، ومن هنا فلا مجال لاحتمال أنّ هذه الآية نزلت في مدّةٍ زمنيّةٍ لم يكن القرآن قد تعرّض فيها إلى جميع قصص الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم فعلاً.

كما أنّ هناك مجموعة من الآيات تدل على أنّ الأنبياء والرسل كانوا يُبعثون إلى كلّ قريةٍ ومدينةٍ لإقامة الحجّة من الله على الناس، كما نفهم من الآية (165) من سورة النساء، التي جاءت في سياق الآيتين السابقتين:

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (2) .

إضافةً إلى موارد أُخرى لها هذه الدلالة:

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (3) .

________________________

(1) النساء: 163 - 164.

(2) النساء: 165.

(3) النحل: 36.

٣٦٦

( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ... ) (1) .

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (2) .

( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إلاّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ ) (3) .

وجاء التعبير في بعض الآيات عن ذلك بوجود الشهيد في كلّ أُمّة (4) .

تفسير الاختصاص بالمنطقة المحدودة:

ومن هنا فلا بُدّ من تفسير هذه الظاهرة بتفسيرٍ آخر، ويمكن أن يكون هذا التفسير هو: أنّ القرآن الكريم إنّما خصّ هؤلاء الأنبياء بالذكر باعتبار أنّ الغرض الأساس من القصّة - كما ذكرنا - هو انتزاع العبرة واستنباط القوانين والسنن التأريخية منها، ولم يكن الغرض من القصّة السرد التأريخي لحياة الأنبياء أو كتابة تأريخ الرسالات، ولذلك يتحدّث القرآن عن الأُمور العامّة المشتركة بين هؤلاء الأنبياء عدا بعض الموارد التي يكون هناك غرضٌ خاصٌّ في طرح بعض القضايا فيها.

ولمّا كان تأثير القصّة في تحقيق هذه الأغراض يرتبط بمدى إيمان الجماعة بواقعيّتها، وإدراكهم لحقائقها، ومدى انطباق ظروفها على ظروف الجماعة نفسها، لذا تكون القصّة المنتزعة من تأريخ الأُمّة نفسها، ومن واقعها وظروفها وحياتها، أكثر تأكيداً وانطباقاً على السنّة التأريخية.

وبذا تكون هذه القصص أكثر انسجاماً مع هذا الهدف القرآني، بلحاظ أنّ القاعدة التي يريد أن يحقق القرآن الكريم التغيير فيها في المرحلة الأُولى هي

________________________

(1) التوبة: 115.

(2) يونس: 47.

(3) فاطر: 24.

(4) النساء: 41، النحل: 84، القصص: 75.

٣٦٧

الشعوب التي تسكن هذه المنطقة، وتتفاعل مع هذا التأريخ، وهذا لا يعني أنّ القرآن تختص هدايته بهذه الشعوب، بل إنّ أحد أغراض القرآن هو إيجاد التغيير في هذه الشعوب كقاعدةٍ ينطلق منها التغيير، ويستند إليها في مسيرته إلى بقيّة الشعوب كما حصل ذلك فعلاً.

صحيح أنّه قد تكون القصّة المنتزعة من تأريخ النبوّات التي كانت في الهند أو الصين - على فرض وجودها في تلك المناطق وهو فرض منطقي ومقبول جدّاً - مؤثرة في الشعب الهندي أو الصيني، إلاّ أنّ القرآن الكريم كان مهتمّاً بشكلٍ خاصٍّ وفي مرحلة نزوله بتغيير القاعدة التي تتمثّل بالشعب العربي والشعوب المتفاعلة معه فعلاً في ذلك الوقت، وضرب الأمثال وسرد القصص عن هذه الأُمم، مع أنّها لم تكن موجودةً في المحيط الذي نزل فيه القرآن، يبعد القصّة بأكملها عن الواقعية التي كان يحرص القرآن الكريم على تأكيدها في قصصه، ولم يكن يكتفي منها أنّها مجرّد أمثال وتصوّرات، بل كان يؤكّد صدقها.

وبلحاظ أنّ التغيير العام للإنسان الذي كان يستهدفه القرآن أيضاً، أُريد له أن يُطلق من تلك القاعدة، وهذه القصص هي التي يمكن أن تساهم في تحقيقه.

وتبقى النتائج العامّة المشتركة بين الأنبياء ذات تأثير عام بالنسبة إلى مختلف الشعوب؛ فقصّة النبيِّ الواحد لها تأثيرٌ خاصّ يرتبط بالوسط الذي تواجد فيه ذلك النبي، باعتبارها حالة التجسيد المعاش في ذلك الوسط، وذات التأثير الشعوري والوجداني بالنسبة إلى ذلك الوسط، وفي الوقت نفسه يكون للقصّة تأثيرٌ عام ضمن المفاهيم العامّة والسنن التأريخية التي توحي بها القصّة، والعِبَر التي يمكن أن تُستخلَص منها، وهذا ما يمكن أن تستفيد منه كلُّ الشعوب.

وبذلك يتحقّق للقرآن الكريم بُعده العام الشامل، ويبقى حيّاً ومؤثّراً في هذا الوسط وغيره من الأوساط الإنسانية.

٣٦٨

ولكن يكون للبُعد الأوّل المتمثّل في التأثير الخاص أثره في تحقيق الهدف التغييري في خلق القاعدة التي تنطلق منها الرسالة.

نعم من الصحيح أن نقول أيضاً: إنّ أنبياء مثل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى يمثّلون الأُصول العامّة للنبوّات في كلِّ العالم، وكان خاتمهم النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) يمثّل امتداداً لتلك النبوّات، ولكن نجد أنّ القرآن لم يتحدّث عن هذه الأُصول وتفرّعاتها فحسب، بل تحدّث عن أنبياء مثل: صالح وشعيب وهود ويونس وإدريس وغيرهم ممّن يمثّلون نبوّاتٍ ليست بهذا القدْر من الأهمّيّة على الظاهرة، والله هو العالم بحقائق الأُمور.

ج - ظاهرة تأكيد دور إبراهيم وموسى (عليهما السلام):

وأمّا الظاهرة الثالثة: فمِن الملاحَظ أنّ القرآن الكريم أكّد دور بعض الأنبياء في ذكر تفاصيل حياتهم وظروفهم أكثر من دور بعضهم الآخر، وبالخصوص النبي إبراهيم وموسى (عليهما السلام)، مع أنّ الخصائص العامّة التي يُراد منها بالأصل استنباط العِبْرة والموعظة واستخلاص القانون والسنّة التأريخية متشابهة، ولذا تأتي الإشارة إلى قصص ممنوعة من الأنبياء في كثير من الموارد في سياق واحد، فهل يعني هذا التأكيد أهمّيّة شخصيّة هذا النبي وفضله بالمقارنة مع بقيّة الأنبياء فقط؟

أو يمكن أن يكون وراء ذلك - إضافة إلى هذه الأهمّيّة - مقاصد وأهداف أُخرى اقتضت هذا الّلون من التأكيد؟

قد يكون في الحقيقة أنّ بعض هؤلاء الأنبياء أفضل من بعضهم الآخر كما أنّه قد يكون هذا (البعض) هو إبراهيم وموسى، ولكن لا يعني ذلك أن يؤكِّد القرآن دور هذين النبيّين مثلاً، أو غيرهما : كعيسى الذي جاء الحديث عنه بنسبةٍ أقل لمجرّد فضلهم؛ لأنّ القرآن بالأصل ليس بصدد تقييم عمل هؤلاء الأنبياء والحديث عن التفاضل بينهم، وإنّما الأهداف الأصليّة للقصّة التي أشرنا إليها وذكرها القرآن

٣٦٩

هي: العِبْرة والموعظة والتثبيت وإقامة الحجّة والبرهان على صدق نبوّة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ومضمون رسالته:

( وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (2) .

( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) (3) .

ولذلك يمكن أن نقول بأنّ القرآن إنّما كان يؤكّد دور هؤلاء الأنبياء في حديثه عنهم؛ لأنّه كان يواجه حقيقةً، هي: أنّ لهؤلاء الأنبياء أتباعاً وأقواماً يرتبطون بهم فعلاً في المجتمع الذي كان يتفاعل القرآن معه عند نزوله، وهذا الأمر كان يفرض - من أجل إيجاد القاعدة التغييرية - أن يتحدّث عنهم القرآن بإسهاب.

أهميّة تأكيد دور إبراهيم (عليه السلام):

فالنبي إبراهيم (عليهم السلام) كان يمثّل لدى القاعدة : (المشركين، واليهود، والنصارى) أباً لجميع الأنبياء ويحظى باحترام الجميع.

وتأكيد ارتباط الإسلام وشعائره به له أهميّة خاصّة في إعطاء الرسالة الإسلامية جذراً تأريخيّاً ممتدّاً إلى ما هو أبعد من الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة، ويعطي فكرة التوحيد التي طرحها القرآن على المشركين أصلاً وانتماءً يعيشه هؤلاء المشركون في تاريخهم:

________________________

(1) هود: 120.

(2) يوسف: 111.

(3) النساء: 165.

٣٧٠

( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (1) .

ويتجلّى هذا الربط التأريخي بشكلٍ أوضح بحيث يصبح إبراهيم (عليه السلام) هو المبشِّر بالنبيّ العربيّ الأُمّي، وتكون بعثة الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) استجابةً لدعاء إبراهيم (عليه السلام) وذلك في مثل قوله تعالى:

( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (2) .

إضافةً إلى أنّه يعطي الرسالة الإسلامية شيئاً من الاستقلال عن اليهوديّة والنصرانيّة، ومن ثمَّ عدم الشعور بالتبعيّة لعلماء اليهود والنصارى:

( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (4) .

________________________

(1) الحج: 78.

(2) البقرة: 127 - 129.

(3) آل عمران: 67 - 68.

(4) البقرة: 135.

٣٧١

ومن هنا يأتي تأكيد قصّة إبراهيم في بناء الكعبة التي جاءت في عدّة موارد من القرآن الكريم، وندائه بالحج، وذلك للموقع الخاص الذي كانت تحتله الكعبة بين العرب عامّةً، وللقرار الذي كان القرآن قد اتخذه بجعل الكعبة قِبْلةً للمسلمين، تأكيداً لاستقلاليّة الرسالة في كلّ معالمها؛ لأنّ صرف الأنظار عن الأرض المقدّسة وبيت المقدس الذي كان يحظى بالقدسيّة الخاصّة - وما زال - بسبب نشوء الديانات المختلفة فيه، ووجود إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل كلّهم في هذه الأرض يحتاج إلى إعطاء هذه الأهمّيّة للبيت والكعبة المشرفة، وهذا الانتساب الأصيل إلى إبراهيم (عليه السلام).

أهمّيّة تأكيد دور موسى (عليه السلام):

وأمّا النبي موسى (عليه السلام) فإنّ موقعه من الديانة اليهوديّة والشعب الإسرائيلي والإنجاز السياسي والاجتماعي الذي حقّقه لهم، وكذلك ما تحقّق من خلال التوراة من تشريع وحكمة وقانون، إضافةً إلى معاناته الطويلة التي تشبه معاناة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سواء تجاه الطغاة الفراعنة أم المنافقين من الإسرائيليين، أم في توطيد دعائم الحكم الإلهي في الأرض، وموقعه من الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة؛ لأنّ النصرانيّة - أيضاً - كانت تعترف بالتوراة القائمة (العهد القديم) كلّ هذه الأُمور كانت تفرض هذا الّلون من التأكيد.

ونجد ملامح الظروف الموضوعيّة القائمة التي كانت تواجهها الرسالة والقرآن الكريم في موطن نزوله، والمجتمع الذي يعمل على تغييره موجودة في كلّ هذه الأُمور المرتبطة بهذين النبيّين العظيمَين؛ لأنّ القرآن كان يعايش ويتفاعل باستمرار مع أهل الكتاب وعلمائهم وأقوامهم، وكان بحاجةٍ إلى هذه التفاصيل، والحديث - أحياناً - حتّى عن الحياة الشخصيّة لموسى (عليه السلام)، لما في ذلك من التأثير في أوساطهم.

٣٧٢

خصوصاً وأنّ العرب المشركين كانوا ينظرون إلى علماء اليهود - الذين يتّصلون بهم أحياناً - أنّهم أهل الذكر والكتاب والوحي والمعرفة، كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك، وبذلك يكون القرآن الكريم أكثر تأثيراً في هذه الأوساط - أيضاً - عندما يتحدّث عن النبي موسى (عليه السلام).

كما أنّ القرآن كان يسعى جادّاً لإعطاء فكرة أنّ هذه الرسالات إنّما تمثّل امتداداً واحداً في الوحي الإلهي وانتساباً واحداً إلى السماء في الوقت الذي كان يؤكّد استقلاليّة الرسالة الإسلامية، بمعنى أنّها ليست تابعة ومتشعبة من التحرّك الرسالي أو السياسي للرسالات الأُخرى، كما أنّها ليست عملاً تغييراً في إطار تلك الرسالات، بل هي من جانبٍ مصدّقة لها، ولكنّها من جانبٍ آخر - وفي الوقت نفسه - مهيمنة عليها:

( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (1) .

ويتّضح ذلك بشكلٍ أفضل: بملاحظة سياق الآيات السابقة عليها، والتي يُشير فيها القرآن الكريم إلى نزول التوراة والإنجيل والنسبة بينهما، والتي تختلف عن نسبة القرآن إليهما.

الحديث عن عيسى (عليه السلام):

ومن الملاحَظ أيضاً - عندما ندرس ظاهرة القصّة في ضوء الهدف التغييري - أنّ القرآن الكريم تعرّض لقصص بعض الأنبياء، أو لتفاصيل فيها على الأقل، من أجل أن يزيل ما علق في أذهان الجماعة التي نزل فيها القرآن من أفكار

________________________

(1) المائدة: 48.

٣٧٣

وتصوّرات منحرفة عن الأنبياء، تنافي عصمتهم أو علاقتهم بالله أو طبيعة شخصيّتهم، كما يتّضح ذلك بشكلٍ خاصٍّ في الحديث عن عيسى (عليه السلام) الذي تحدّث القرآن الكريم عن شخصيّته وظروفها أكثر ممّا تحدّث عن أعماله ونشاطاته:

( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .

وكذلك ما جاء من الحديث في القرآن عن حياة مريم وولادة عيسى في سورة آل عمران أو سورة مريم، أو الاهتمام بمناقشة فكرة إلوهيّة عيسى التي جاءت في عدّة موارد، منها ما جاء في سورة المائدة.

________________________

(1) آل عمران: 59 - 62.

٣٧٤

دراسة قصّة موسى (عليه السلام):

بعد دراسة الظواهر السابقة للقصّة، يحسن بنا أن نتناول قصص الأنبياء: موضوعاً من موضوعات التفسير الموضوعي.

ومن هذا المنطلق نجد أمامنا أبعاداً متعدّدةً وكثيرةً لدراسة القصّة في القرآن الكريم، من أهمّها البُعد الأدبي والتصويري، وكذلك البُعد الذي يرتبط ببيان أغراض القصّة في هذا الموضع أو ذاك، إضافةً إلى الجانب التأريخي أو السنن والمفاهيم العامّة التي يمكن انتزاعها منها.

ولكن سوف نتناول هنا مثالاً واحداً للقصّة وهو: (قصّة موسى) (عليه السلام)، حيث تعتبر قصّة موسى (عليه السلام) من أكثر قصص الأنبياء وروداً في القرآن الكريم وتفصيلاً.

ونعني هنا بالموارد القرآنية لهذه القصّة: الموارد التي تحدّث القرآن الكريم فيها عن علاقة موسى مع فرعون أو علاقته مع قومه أو لحالةٍ اجتماعية قارنت عصره.

وسوف ندرس قصّة موسى في القرآن الكريم؛ لنأخذها نموذجاً لدراسةٍ تفصيليّةٍ يمكن أن تستوعب قصص جميع الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم، كما أنّنا سوف ندرسها من خلال بعض الأبعاد المهمّة ذات العلاقة بالمضمون، وبالقدْر الذي يتناسب مع هذه الدراسة من حيث الاختصار والمنهج.

1 - دراسة القصّة بحسب مواضعها في القرآن الكريم:

ونأخذ النقاط التالية بعين الاعتبار في دراستنا للقصّة هذه:

أ - التنبيه إلى أسرار تكرار القصّة الواحدة في القرآن.

ب - التنبيه إلى الغرض الذي سيقت له في كل مقام.

ج - التنبيه إلى أسرار تغاير الأُسلوب في القصّة بحسب المواضع.

٣٧٥

2 - قصّة موسى بحسب تسلسلها التأريخي.

3 - دراسة عامّة للقصّة من خلال المراحل التي مرّ بها موسى والموضوعات العامّة التي تناولها.

ونكتفي هنا بالتنبيه بشكلٍ اجماليٍّ إلى هذه النقاط، لنترك معالجة جميع التفصيلات وكذلك الأبعاد الأُخرى إلى دراسةٍ مستوعبةٍ في ظرف آخر.

وعلى هذا الأساس سوف نتناول القصّة من زاوية نحو تسعة عشر موضعاً من القرآن الكريم، ونترك المواضع الأُخرى التي جاءت فيها القصّة بشكل إشاراتٍ أو تلميحات.

1 - قصّة موسى (عليه السلام) بحسب مواضعها من القرآن الكريم:

الموضع الأوّل:

الآيات التي جاءت في سورة البقرة والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ* وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ* وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) (1) ، إلى أن يختم بقوله تعالى:

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (2) .

________________________

(1) البقرة: 49 - 51.

(2) البقرة: 74.

٣٧٦

والملاحَظ في هذا المقطع:

أوّلاً:

جاء في سياق قوله تعالى:

( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (1) .

ثانياً:

إنّه يتناول أحداثاً معيّنةً أنعم الله بها على بني إسرائيل مرّةً بعد الأُخرى، مع الإشارة إلى ما كان يعقب هذه النعم من انحرافٍ في الإيمان بالله تعالى أو في الموقف العبادي الذي تفرضه طبيعة هذا الإيمان.

ثالثاً:

إنّ القرآن الكريم بعد أن يختم هذا المقطع يأتي ليعالج المواقف الفعليّة العِدائيّة لبني إسرائيل من الدعوة، ويربط هذه المواقف بالمواقف السابقة لهم بقوله تعالى:

( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ*... وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (2) .

وعلى أساس هذه الملاحظة يمكننا أن نقول: إنّ هذا المقطع جاء يستهدف غرضاً مزدوجاً وهو تذكير بني إسرائيل بنعم الله المتعدّدة عليهم، وذلك موعظة وعبرة لهم تجاه موقفهم الفعلي من ناحية، ومن ناحيةٍ أُخرى، كشف الخصائص الاجتماعية والنفسيّة العامّة التي يتّصف بها الشعب الإسرائيلي للمسلمين، لئلاّ يقع المسلمون في حالة الشك والريب في هذه المواقف، فيتصوّر بعضهم أنّها تنجم عن رؤيةٍ موضوعيّةٍ تجاه الرسالة، الأمر الذي جعل اليهود يتوقّفون عن الإيمان بها، خصوصاً وأنّ اليهود هم أهل الكتاب في نظر عامّة المسلمين فأراد القرآن هنا أن يبيّن أنّ هذا الموقف إنّما هو موقف نفسي وذاتي ومتأثّر بهذه الخصائص الروحيّة والاجتماعية.

________________________

(1) البقرة: 40.

(2) البقرة: 75 - 122.

٣٧٧

وهذا الغرض فَرَض أُسلوباً معيّناً على استعراض الأحداث، إذ اقتصر المقطع على ذكر الوقائع التي تلتقي مع هذا الغرض وتتناسب مع هذا الهدف، دون أن يعرض التفصيلات الأُخرى للأحداث التي وقعت لموسى (عليه السلام) مع فرعون أو الإسرائيليين.

الموضع الثاني:

الآيات التي جاءت في سورة النساء، والتي تبدأ بقوله تعالى:

( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً )

إلى قوله تعالى:

( وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (1) .

والملاحَظ في هذا المقطع:

أوّلاً: إنّه جاء ضمن سياق عرضٍ عامٍّ لمواقف فئات ثلاث من أعداء الدعوة الإسلامية تجاهها، وهو: موقف المنافقين، وموقف اليهود من أهل الكتاب، وموقف النصارى من أهل الكتاب، وعَرْض الموقف الأوّل يبدأ بقوله تعالى:

( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (2) .

وعَرْض الموقف الثاني يبدأ بقوله تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) (3) .

وعَرْض الموقف الثالث يبدأ بقوله تعالى:

________________________

(1) النساء: 153 - 161.

(2) النساء: 138.

(3) النساء: 150.

٣٧٨

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ... ) (1) .

ثانياً:

إنّ المقطع يتناول بعض الأحداث ذات الدلالة على نبوّة موسى، والمواثيق الغليظة المأخوذة على اليهود بصدد الامتثال والطاعة، وموقف اليهود من ذلك والمخالفات التي ارتكبوها، سواء فيما يتعلّق بالجانب العقيدي من الفكرة أم بالجانب العملي التطبيقي منها.

وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج:

أنّ هذا المقطع من القصّة جاء ليوضح أنّ موقف اليهود من الدعوة بطلبهم المزيد من الآيات والبيّنات ليس نابعاً من الشك بالرسالة، وإنّما هو موقف شكلي ذرائعي يستبطن الجحود والطغيان، ولذا نجد المقطع يكتفي بعرض هذا الطلب العجيب الذي تقدّم به اليهود إلى موسى، ويضيف إلى ذلك المواثيق التي أُخذت منهم في الطاعة، ونكولهم عنها بمخالفاتهم العديدة، الأمر الذي يكشف عن إصرارهم على الجحود والطغيان وأنّهم يتذرّعون بمثل هذه المطالب.

وقد فرض السياق العام للسورة الكريمة: تكرار القصّة، على أساس إيضاح ومعالجة موقف اليهود من الدعوة، إلى جانب إيضاح ومعالجة موقف المنافقين والنصارى من أهل الكتاب؛ لأنّ هذه المواقف هي المواقف الرئيسة التي كانت تواجهها الدعوة الإسلامية حينذاك.

الموضع الثالث:

الآيات التي جاءت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ

________________________

(1) النساء: 171.

٣٧٩

أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ* يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ )

إلى قوله تعالى:

( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (1) .

ويُلاحَظ في هذا المقطع:

أوّلاً:

إنّه جاء في سياق دعوةٍ عامّةٍ لأهل الكتاب إلى الإيمان بالرسول الجديد، مع إيضاح حقيقة رسالته، ومناقشة ما يقوله اليهود والنصارى، وإقامة الحجّة عليهم بذلك، إذ يختم هذا السياق بقوله تعالى:

( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (2) .

ثانياً:

إنّ المقطع يكتفي بأن يذكر دعوة موسى لقومه إلى دخول الأرض المقدّسة حيث كان دخولها منتهى آمالهم، ولكنّهم يأبون ذلك فيكون مصيرهم التيه أربعين سنة.

وعلى أساس هاتين الملاحظتين يمكن أن نستنتج:

أنّ القرآن الكريم يبدو وكأنّه يريد أن يذكّر أهل الكتاب ويفتح الطريق أمامهم؛ ليحقّقوا أهدافهم الصحيحة من وراء الدين والشريعة بدخولهم دعوة الإسلام، ولا يكون موقفهم كموقف قوم موسى حين دعاهم إلى دخول الأرض المقدّسة، مع أنّها أُمنيتهم وهدفهم، فتفوتهم الفرصة السانحة، ويصيبهم التيه الفكري والعقائدي والاجتماعي في عصر نزول الرسالة، كما أصابهم التيه السياسي والاجتماعي من قبل.

ومن هنا نعرف السر الذي كان وراء اكتفاء القرآن الكريم بذكر هذا الموقف الخاص لبني إسرائيل دون غيره؛ لأنّه هو الذي يحقّق هذا الغرض، خصوصاً إذا

________________________

(1) المائدة: 20 - 26.

(2) المائدة: 19.

٣٨٠