علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207133
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207133 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثلاثة أيّام، حتّى جمع القرآن، وسيأتي البحث عن ذلك في البحث عن جمع القرآن.

وما نقصده الآن من ذلك، أنّ الخوف على سلامة القرآن، والتفكير في وضع الضمانات اللاّزمة، بدأ في ذهن الواعين من المسلمين، عُقيب وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأدّى إلى القيام بمختلف النشاطات، وكان من نتيجة ذلك (علوم القرآن)، وما استلزمته من بحوثٍ وأعمال.

وهكذا كانت بدايات علوم القرآن، وأُسسها الأُولى على يد الصحابة والطليعة من المسلمين في الصدر الأوّل، الذين أدركوا النتائج المترتّبة للبُعد الزمني عن عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) والاختلاط مع مختلف الشعوب.

فأساس علم إعراب القرآن وُضِع تحت إشراف الإمام علي (عليه السلام)، إذ أمر بذلك أبا الأسود الدؤلي وتلميذه يحيى بن يعمر العدواني، رائدي هذا العلم والواضعين لأساسه؛ فإنّ أبا الأسود هو: أوّل من وضع نقط المصحف.

وتُروى قصّة في هذا الموضوع، تُشير إلى شدّة غيرته، على لغة القرآن، فقد سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى:

( ... أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ... ) بجر اللاّم من كلمة (رسوله) فأفزع هذا اللّحن أبا الأسود الدؤلي، وقال:

عزَّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، فعزم على وضع علامات معينّة تصون الناس في قراءتهم من الخطأ، وانتهى به اجتهاده إلى أن جعل علامة الفتحة نقطةً فوق الحرف، وجعل علامة الكسرة نقطةً أسفله، وجعل علامة الضمة نقطةً بين أجزاء الحرف، وجعل علامة السكون نقطتين (1) .

الحثُّ على التدبّر في القرآن:

وقد ورد الحثُّ الشديد في الكتاب العزيز، والسنّة الصحيحة على تدارس القرآن والتدبّر في معانيه، والتفكّر في مقاصده وأهدافه.

________________________

(1) سِيَر أعلام النبلاء 4: 81 - 83 للذهبي.

٢١

قال تعالى:

( أَفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (1) .

وفي هذه الآية الكريمة توبيخٌ عظيم على عدم إعطاء القرآن حقه من العناية والتدبّر.

وفي حديثٍ عن ابن عبّاس، عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:

(أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه) (2) .

وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال:

(حدّثنا من كان يقرئنا من الصحابة: أنّهم كانوا يأخذون من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عشر آياتٍ فلا يأخذون العشر الأُخرى حتّى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل) (3) .

وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جُعلت فداك، تصف جابراً بالعلم وأنت أنت.

فقال: (إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ... ) ) (4) .

ولعلّ أروع ما قيل في هذا المجال كلام الإمام علي (عليه السلام) قال:

(واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى.

واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا

________________________

(1) محمّد: 24.

(2) و (3) بحار الأنوار 92: 106.

(4) قريب منه في تفسير القمّي 2: 147 (القصص: 85).

٢٢

به خلقه أنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله... فإنه ينادي مناد يوم القيامة:

(ألا إنّ كلّ حارثٍ مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلّوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم... ) (1) .

وعن عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال:

(ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءةٍ ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفقّه) (2) .

وعن الزهري قال سمعت عليّ بن الحسين (عليه السلام) يقول:

(آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فُتحت خزائنه فينبغي لك أنْ تنظر فيها) (3) .

والأحاديث في فضل التدبّر في القرآن ودفع المسلمين نحو ذلك كثيرة، وقد ذكر شيخنا المجلسي طائفةً كبيرةً من هذه الأحاديث (4) .

ومن الطبيعي أن يتّخذ الإسلام هذا الموقف، ويدفع المسلمين بكلِّ ما يملك من وسائل الترغيب إلى دراسة القرآن والتدبّر فيه؛ لأنّ القرآن هو الدليل الخالد على النبوّة، والدستور الثابت من السماء للأُمّة الإسلامية في مختلف شؤون حياتها، وكتاب الهداية البشرية، الذي أخرج العالم من الظلمات إلى النور، وأنشأ أُمّةً، وأعطاها العقيدة، وأمدّها بالقوّة، وأنشأها على مكارم الأخلاق، وبنى لها أعظم حضارةٍ عرفها الإنسان إلى يومنا هذا.

________________________

(1) نهج البلاغة، د، صبحي الصالح، الخطبة:176

(2) بحار الأنوار 92: 211.

(3) المصدر السابق: 216.

(4) بحار الأنوار: الجزء 92، طبعة دار إحياء التراث العربي.

٢٣

نزول القرآن الكريم (*)

نزول القرآن عن طريق الوحي:

تلقّى النبي (صلّى الله عليه وآله) القرآن الكريم عن طريق الوحي، ونظراً إلى أنّه (صلّى الله عليه وآله) كان يتلقّى الوحي الإلهي من جهةٍ عليا معنويّة وهي الله سبحانه يقال عادةً:

إنّ القرآن نزل عليه، للإشارة باستعمال لفظ النزول إلى علوّ الجهة التي اتصل بها النبي عن طريق الوحي وتلقّى عنها القرآن الكريم.

والوحي لغةً هو:

(الإعلام في خفاء)، أي الطريقة الخفيّة في الإعلام، وقد أطلق هذا اللفظ (الوحي) على الطريقة الخاصّة التي يتّصل بها الله - تعالى - برسوله، نظراً إلى خفائها ودقّتها، وعدم تمكّن الآخرين من الإحساس بها.

ولم يكن الوحي هو الطريقة التي تلقّى بها خاتم الأنبياء وحده كلمات الله، بل هو الطريقة العامّة لاتصال الأنبياء بالله، وتلقّيهم الكتب السماويّة منه تعالى، كما حدّث الله بذلك رسوله في قوله عزَّ وجلَّ:

( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ... ) (1) .

________________________

(*) كتب هذا البحث آية الله الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

(1) النساء: 163.

٢٤

صور الوحي:

ويبدو من القرآن الكريم أنّ الوحي هذا الاتصال الغيبي الخفي بين الله وأصفيائه، له صور ثلاث:

الأُولى:

إلقاء المعنى في قلب النبي، أو نفثه في روعه بصورة يحسُّ بأنّه تلقّاه من الله تعالى.

والثانية:

تكليم النبي من وراء حجاب، كما نادى الله موسى من وراء الشجرة (1) وسمع نداءه.

والثالثة:

هي التي متى أُطلقت انصرفت إلى ما يفهمه المتدّين عادةً من لفظة الإيحاء، حين يلقي ملك الوحي المُرسَل من الله إلى نبيٍّ من الأنبياء ما كُلّف إلقاؤه إليه، سواء أُنزل عليه في صورة رجلٍ أم في صورته الملكية، وقد أُشير إلى هذه الصور الثلاث في قوله تعالى:

( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (2) .

وتدل الروايات على أنّ الوحي الذي تلقى عن طريقه الرسالة الخاتمة وآيات القرآن المجيد، كان بتوسيط المَلَك في كثيرٍ من الأحيان، وبمخاطبة الله لعبده ورسوله من دون واسطةٍ في بعض الأحيان، وكان لهذه الصورة من الوحي التي يستمع فيها النبي إلى خطاب الله من دون واسطة أثرها الكبير عليه؛ ففي الحديث أنّ الإمام الصادق سُئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبي أكانت عند هبوط جبرئيل؟

فقال: (لا وإنّما ذلك عند مخاطبة الله عزّ وجلّ إيّاه بغير ترجمان وواسطة).

________________________

(1) المقصود من وراء الشجرة، أنّ الكلام سُمع من الشجرة وما حولها.

(2) الشورى: 51.

٢٥

نزول القرآن الكريم على النبي (صلّى الله عليه وآله) مرّتين (*) :

في رأي عددٍ من العلماء أنّ القرآن الكريم نزل على النبي مرّتين:

إحداهما: نزل فيها جملةً واحدةً على سبيل الإجمال.

والأُخرى: نزل فيها تدريجاً على سبيل التفصيل خلال المدّة التي قضاها النبي في أُمته منذ بعثته إلى وفاته.

ومعنى نزوله على سبيل الإجمال:

هو نزول المعارف الإلهيّة التي يشتمل عليها القرآن وأسراره الكبرى على قلب النبي؛ لكي تمتلئ روحه بنور المعرفة القرآنية.

ومعنى نزوله على سبيل التفصيل هو نزوله بألفاظه المحدّدة، وآياته المتعاقبة، والتي كانت في بعض الأحيان ترتبط بالحوادث والوقائع، وفي زمن الرسالة وكذلك مواكبة تطوّرها.

وكان إنزاله على سبيل الإجمال مرةً واحدة، لأنّ الهدف منه تنوير النبي وتثقيف الله له بالرسالة التي أعدّه لحملها.

وكان إنزاله على سبيل التفصيل تدريجاً، لأنّه يستهدف تربية الأُمّة وتنويرها وترويضها على الرسالة الجديدة، وكذلك تثبيت النبي في مواقفه وتسديده فيها، وهذا يحتاج إلى التدرّج.

وعلى ضوء هذه النظريّة في تعدّد نزول القرآن، يمكننا أنْ نفهم الآيات الكريمة الدالّة على نزول القرآن بجملته في شهر رمضان، أو إنزاله في ليلة القدر بصورة خاصّة، نحو قوله تعالى:

( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ... ) (1) .

وقوله: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .

وقوله: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدّس سرّه).

(1) البقرة: 185.

(2) القدر: 1.

٢٦

فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) (1) .

فإنّ الإنزال الذي تتحدّث عنه هذه الآيات ليس هو التنزيل التدريجي الذي طال أكثر من عقدين، وإنّما هو الإنزال مرةً واحدة على سبيل الإجمال.

كما إنّ فكرة تعدّد الإنزال بالصورة التي شرحناها تفسّر لنا أيضاً المرحلتين اللتين أشار إليهما القرآن الكريم في قوله تعالى:

( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (2)

فإنّ هذا القول يشير إلى مرحلتين في وجود القرآن:

أُولاهما: إحكام الآيات.

والثانية: تفصيلها وهو ينسجم مع فكرة تعدد الإنزال فيكون الإنزال مرة واحدة على سبيل الإجمال هي مرحلة الأحكام، والإنزال على سبيل التفصيل تدريجاً هي المرحلة الثانية أي مرحلة التفصيل.

التدرّج في التنزيل*:

استمرّ التنزيل التدريجي للقرآن الكريم طيلة ثلاث وعشرين سنة، وهي المدّة التي قضاها النبي (صلّى الله عليه وآله) في أُمّته منذ بعثته إلى وفاته، فقد بُعث (صلّى الله عليه وآله) لأربعين سنةٍ من ولادته، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثمّ هاجر إلى المدينة وظل فيها عشر سنين، والقرآن يتعاقب ويتواتر عليه، حتّى مات وهو في الثالثة والستّين من عمره الشريف.

وقد امتاز القرآن عن الكتب السماوية السابقة عليه بإنزاله تدريجاً، بخلاف ما يشير إليه القرآن الكريم من إنزال التوراة على شكل ألواح دفعةً واحدة، أو في مدةٍ زمنيّة محدودة.

________________________

(1) الدخان: 3.

(2) هود: 1.

(*) كتبه الشهيد الصدر(قُدِّس سرّه).

٢٧

وكان لهذا التدرّج في إنزاله أثرٌ كبير في تحقيق أهداف وإنجاح الدعوة وبناء الأُمّة.

كما أنّه كان آيةً من آيات الإعجاز في القرآن الكريم، ويتضح كلّ ذلك في النقاط التالية:

1 - مرّت على النبي والدعوة حالات مختلفة جدّاً خلال ثلاث وعشرين سنة، تبعاً لما مرّت به الدعوة من محن، وقاسته من شدائد، وما أحرزته من انتصار، وسجّلته من تقدّم، وهي حالات يتفاعل معها الإنسان الاعتيادي، وتنعكس على روحه وأقواله وأفعاله ويتأثّر بأسبابها وظروفها والعوامل المؤثّرة فيها، ولكنّ القرآن الذي واكب تلك السنين بمختلف حالاتها في الضعف والقوّة، في العسر واليسر، في لحظات الهزيمة ولحظات الانتصار، والتنزيل تدريجاً خلال تلك الأعوام كان يسير دائماً على خطّه الرفيع، لم ينعكس عليه أيّ لونٍ من ألوان الانفعال البشري الذي تثيره تلك الحالات.

وهذا من مظاهر الإعجاز في القرآن، التي تبرهن على تنزيله من لدن عليٍّ حكيم؛ حيث لا يمكن أن توجد الانفعالات أو التأثيرات الأرضيّة على الذات الإلهيّة، ولم يكن القرآن ليحصل على هذا البرهان لولا إنزاله تدريجاً، في ظروف مختلفة وأحوالٍ متعددة (1) .

2 - إنّ القرآن بتنزيله تدريجاً كان إمداداً معنويّاً مستمرّاً للنبي (صلّى الله عليه وآله) كما قال الله تعالى:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) (2) .

فإنّ الوحي إذا كان يتجدّد في كلِّ حادثةٍ كان أقوى للقلب، وأشدّ عناية

________________________

(1) سوف نتعرّف على مزيد من التوضيح لهذا المعنى في بحث إعجاز القرآن.

(2) الفرقان: 32.

٢٨

بالمرسَل إليه، ويستلزم ذلك: نزول المَلَك إليه، وتجدّد العهد به، وتقوية أمله في النصر، واستهانته بما يستجدّ ويتعاقب من محنٍ ومشاكل.

ولهذا نجد أنّ القرآن ينزل مسلّياً للنبي مرةً بعد مرة، مهوّناً عليه الشدائد كلّما وقع في محنة، يأمره تارةً بالصبر أمراً صريحاً، فيقول:

( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) (1) .

وينهاه تارةً أُخرى عن الحزن، كما في قوله:

( وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ) (2) .

ويذكّره بسيرة الأنبياء الذين تقدموه من أولي العزم، فيقول:

( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ... ) (3) .

ويخفّف عنه أحياناً، ويعلمه أنّ الكافرين لا يجرحون شخصه ولا يتهمونه بالكذب لذاته، وإنّما يعاندون الحقَّ بغياً كما هو شأن الجاحدين في كلّ عصر، كما في قوله:

( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) (4) .

3 - إنّ القرآن الكريم ليس كتاباً كسائر الكتب التي تؤلَّف للتعليم والبحث العلمي، وإنّما هو عملية تغيير الإنسان تغييراً شاملاً كاملاً في عقله وروحه وإرادته، وهدفه الأساس هو صنع أُمّة وبناء حضارة، وهذا العمل لا يمكن أن يوجد مرةً واحدة وإنّما هو عمل تدريجي بطبيعته، ولهذا كان من الضروري أن ينزل القرآن الكريم تدريجاً؛ ليُحْكِم عملية البناء وينشئ أساساً بعد أساس، ويجتذّ جذور الجاهليّة ورواسبها بأناةٍ وحكمة.

وعلى أساس هذه الأناة والحكمة في عمليّة التغيير والبناء، نجد أنّ الإسلام تدرّج في علاج القضايا العميقة بجذورها في نفس الفرد أو نفس المجتمع، وقاوم

________________________

(1) المزّمّل: 10.

(2) يونس: 65.

(3) الأحقاف: 35.

(4) الأنعام: 33.

٢٩

بعضها على مراحل حتّى استطاع أن يستأصلها ويجتث جذورها، وقصّة تحريم الخمر وتدرّج القرآن في الإعلان عنها من أمثلة ذلك، وكذلك الموقف من مختلف قضايا الأخلاق والقتال والشريعة؛ فلو أنّ القرآن نزل جملةً واحدة بكلِّ أحكامه ومعطياته الجديدة، لنفر الناس منه، ولما استطاع أن يحقّق الانقلاب العظيم الذي أنجزه في التأريخ.

4 - إنّ الرسالة الإسلامية كانت تواجه الشبهات والاتهامات والمواقف السياسية والأطروحات الثقافية والإثارات والأسئلة المختلفة من قِبَل المشركين، وكان النبي (صلّى الله عليه وآله) بحاجة إلى أن يواجه كلَّ ذلك بالموقف والتفسير المناسبَين، وهذا لا يمكن أن يتمّ إلاّ بشكلٍ تدريجي؛ لأن طبيعة هذه المواقف والنشاطات المعادية هي طبيعة تدريجيّة، وتحتاج إلى معالجة ميدانية مستمرة، وهذا لعلّه المراد من سياق قوله تعالى:

( وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) (1) .

نزول القرآن الكريم باللُّغة العربية:

لقد نزل القرآن الكريم باللُّغة العربية دون غيرها من اللُّغات، وهذه الظاهرة قد يكون سببها الميزات التي تختص بها اللُّغة العربية من بين اللُّغات الأُخرى، ممّا يجعلها أشرف اللُّغات، وأقدرها على استيعاب أوسع المعاني أو التعبير عنها، كما قد يوحي ذلك بعض النصوص، أو تنتهي إليه دراسات علم اللُّغات وخصائصها.

ولكنّ الشيء الذي يمكن أن يستفاد من القرآن الكريم - وكذلك التأمل في هذه الظاهرة - هو تفسيرها على أساس ارتباط هذه الظاهرة - أيضاً - بالهدف التغييري الذي أشرنا إليه، ولا ينافي هذا الارتباط شرف اللُّغة العربية وخصائصها البلاغيّة.

________________________

(1) الفرقان: 33.

٣٠

فبالرّغم من أنّ القرآن نزل هدايةً للعالمين، ومن أجل أن يرسم الطريق لكلِّ البشريّة، ولا يختص بقومٍ دون قوم، ولكن باعتبار أنّ الجماعة الأُولى التي كان يراد مخاطبتها بالقرآن هم عرب، واستهدف القرآن الكريم أن يخلق ضمن هذه الجماعة القاعدة التي ينطلق منها الإسلام - كما أشرنا إلى ذلك سابقاً - اقتضى ذلك نزول القرآن باللُّغة العربية، ولولا ذلك لأمكن أن نفترض - والله العالم - نزول القرآن بلغةٍ أُخرى، وبذلك ترتبط هذه الظاهرة بقضيّة الهدف التغييري، وإلاّ لأمكن أن نفترض أنّ الهداية والمضمون يمكن أن يعطيا بأي لغةٍ أُخرى.

ولمّا كانت ضرورات التغيير - الذي يريد القرآن أن يحقّقه في البشريّة - اقتضت أن يكون منطلق هذا التغيير هو الجزيرة العربية (1) ، لذا أصبح من الضروري أن يكون القرآن باللُّغة العربية للأسباب التالية التي أشار القرآن إلى بعضها في تفسير هذه الظاهرة:

أ - اللُّغة العربية عاملٌ مؤثرٌ في استجابة العرب الأوائل للقرآن:

إنّ القرآن لو نزل بغير اللُّغة العربية لكان من الممكن أن لا يستجيب العرب لهدايته ونوره بسبب حاجز (الأنا) والتعصّب الذي كان يعيشه العرب في الجاهلية، كما تشير إلى ذلك بعض الآيات القرآنية:

( وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) (2) .

( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن

________________________

(1) هذه القضيّة لا بُدّ أن نأخذها في هذا البحث كبديهيّة مسلّمة، وإثباتها يحتاج إلى بحثٍ آخر تناولناه في بض محاضراتنا عن البعثة النبويّة واختصاص الجزيرة العربية ومكّة والمدينة بالذات بها.

(2) الشعراء: 198 - 199.

٣١

مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) (1) .

ب - التفاعل الروحي أفضل مع لُغة القوم:

إنّ التفاعل الروحي والنفسي الكامل مع الهداية والنور والمفاهيم القرآنيّة إنّما يتحقّق إذا كان الكتاب بلُغة القوم الذين يراد إيجاد التغيير الفعلي فيهم، لأنّ إثارة العواطف والأحاسيس إنّما تكون من خلال التخاطب باللُّغة نفسها، وأمّا المضمون فهو يتفاعل مع العقل والتفكير المنطقي، وتبقى العواطف والأحاسيس محدودةً - على الأقل - في مجال التفاعل وبعيدةً عن التأثير.

ولعلّ هذا السبب يمثِّل خلفيّة السنّة الإلهيّة في اختيار الأنبياء لكلِّ قومٍ من أُولئك الأفراد الذين يتكلّمون بلُغة القوم نفسها، حتّى تكون الحجّة بهؤلاء الرسُل أبلغ على أقوامهم، وحتّى تكون قدرتهم على التأثير أكثر:

( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ) (2) .

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (3) .

ج - التحدّي إنّما يكون بلُغة القوم:

إنّ القرآن الكريم كان معجزةً ببيانه وأُسلوبه - إضافةً إلى المضمون - وهذا الجانب من الإعجاز لا يمكن أن يتحقّق إلاّ إذا كان بلُغة القوم، لأنّ (التحدي) - الذي هو محتوى الإعجاز - إنّما يكون مقبولاً إذا كان باللُّغة التي يتكلّم بها الناس، وإلاّ فلا معنى لأن نتحدّى من يتكلّم بلُغة، أن يأتي بكتابٍ من لغة أُخرى:

________________________

(1) فصّلت: 44.

(2) إبراهيم: 4.

(3) الشورى: 7.

٣٢

( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) .

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (2) .

( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (3) .

وقد كان التحدّي في هذا الجانب من الإعجاز باعتبار ما كان يوليه ذلك العصر من أهميّةٍ خاصّة للبلاغة والبيان، الأمر الذي كان له أثرٌ كبير في الخضوع النفسي لهؤلاء العرب لبلاغة القرآن وبيانه.

وقد لا يكون للمضمون في منظور بعض أُولئك الجاهلين الأُميّين مثل هذه الأهميّة الخاصّة للبيان، ولعلّه لهذا كان القرآن يُتّهم بأنّه شعرٌ وسحر.

د - اللُّغة طريق التصوّر الكامل للرسالة:

إنّ التصوّر الكامل لأبعاد المضمون واستيعابه بحدوده لا يمكن أن يتمّ - خصوصاً في المرحلة الأُولى من الرسالة - بلغةٍ أُخرى للتخاطب، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الكثير من المضامين القرآنية ترتبط بقضايا وآفاق بعيدة عن تصورات وآفاق الإنسان الجاهلي المعاصر لنزول القرآن، إمّا لارتباطها بعالم الغيب أو لطرحها مفاهيم عقائديّة أو اجتماعية وإنسانية تمثِّل طفرةً في النظرة المحدودة لذلك الإنسان وللعلاقات الاجتماعية والإنسانية.

ونحن نلاحظ أنّ القرآن الكريم يضطرّ - أحياناً - من أجل أن يشرح المفهوم أو

________________________

(1) البقرة: 23.

(2) يونس: 38.

(3) هود: 13.

٣٣

يقرّبه لأذان أُولئك الجاهليين إلى أن يستخدم صوراً متعددة أو يكرّر صورةً واحدة بأساليب مختلفة.

وحينئذٍ يصبح استخدام لُغة التخاطب نفسها ضرورةً من أجل خلق القاعدة المستوعبة ولو نسبيّاً للرسالة ومفاهيمها؛ لتكون منطلقاً لنشرها في الأُمم والأقوام الأُخرى.

ولعلّ تأكيد القرآن وصفَه باللسان العربي إنّما هو باعتبار الإشارة إلى أهميّة لغة التخاطب في توضيح الحقائق والالتزام بالحجّة والتأثير النفسي:

( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ* وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) (1) .

ومن الظاهر، أنّ المراد من الذين ظلموا في هذه الآية هم المشركون من أهل الحجاز، لأنّ القرآن الكريم يعبّر عن الشرك بالظلم، كما ورد في قوله تعالى:

( يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (2) .

وكذلك ما يفهم من الإشارة إلى كتاب موسى والاتهام بالإفك.

ويزداد ذلك وضوحاً إذا لاحظنا أنّ وصف القرآن بالعربي، جاء في القسم المكّي من السور فقط؛ الأمر الذي يؤكّد التفسير القائل بأنّ قضيّة التغيير كانت منظورةً في ذلك، لأنّ مرحلة المكّي هي مرحلة تأسيس القاعدة وانطلاق التغيير.

وقد اقترن هذا الوصف بوصفٍ آخر وهو وصف (مُبين):

( وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ

________________________

(1) الأحقاف: 11 - 12.

(2) لقمان: 13.

٣٤

الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) (1) .

كما أنّه جاء في آياتٍ كثيرة وصف القرآن بأنّه الكتاب المُبين، والقرآن المُبين (2) .

وهذا ما يؤكّد قضيّة الوضوح في القرآن، التي جاءت لتتناسب في كونها بلغة التخاطب نفسها مع القاعدة التي يريد أن يحدثها في التغيير فعلاً.

ونجد النقاط الأربع السابقة كلها تصب في مهمّة الهدف التغييري للقرآن الكريم، الذي يهتم بخلق القاعدة للانطلاق كقضيّة مركزيّة وأساسيّة بالنسبة إلى المهمّات الأُخرى التي اهتمّ بها القرآن الكريم، وأشار إليها في مجمل الأهداف.

________________________

(1) الشعراء: 192 - 195.

(2) تُراجع سورة المائدة: 15، والأنعام: 59، ويونس: 61، وهود: 6، ويوسف: 1، والشعراء: 2، والنمل: 1، والقصص: 2، وسبأ: 3، ويس: 69، والزخرف: 2.

٣٥

أسباب النزول *

معنى سبب النزول:

نزل القرآن الكريم لهداية الناس وتنوير أفكارهم وتربية أرواحهم وعقولهم، وكان في نفس الوقت يحدّد الحلول الصحيحة للمشاكل التي تتعاقب على الدعوة في مختلف مراحلها، ويجيب عن ما هو جدير بالجواب من الأسئلة التي يتلقّاها النبيُّ من المؤمنين أو غيرهم، ويعلِّق على جملةٍ من الأحداث والوقائع التي كانت تقع في حياة الناس، تعليقاً يوضِّح فيه موقف الرسالة من تلك الأحداث والوقائع، كما ذكرنا آنفاً.

وعلى هذا الأساس، كانت آيات القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: الآيات التي نزلت لأجل الهداية والتربية والتنوير دون وقوع سبب معيّن - في عصر الوحي - أثار نزولها:

كالآيات التي تصوّر قيام الساعة، ومشاهد القيامة، وأحوال النعيم والعذاب، وغيرها، فإنّ الله - تعالى - أنزل هذه الآيات لهداية الناس، من غير أن تكون إجابةً عن سؤال، أو حلاً لمشكلةٍ طارئة، أو تعليقاً على حادثةٍ معاصرة.

والآخر: الآيات التي نزلت بسببٍ مثيرٍ وقع في عصر الوحي واقتضى نزول القرآن فيه:

كمشكلةٍ تعرّض لها النبيُّ والدعوة وتطلّبت حلاً أو سؤالاً استدعى الجواب عنه، أو واقعة كان لا بُدّ من التعليق عليها، وتُسمّى هذه الأسباب التي

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

٣٦

استدعت نزول القرآن، بأسباب النزول.

فأسباب النزول هي: أُمورٌ وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول الوحي بشأنها.

وذلك من قبيل ما وقع من بناء المنافقين لمسجد ضرار بقصد الفتنة؛ فقد كانت هذه المحاولة من المنافقين مشكلة تعرّضت لها الدعوة، وأثارت نزول الوحي بشأنها، إذ جاء قوله تعالى:

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ... ) (1) .

وكذلك سؤال بعض أهل الكتاب - مثلاً - عن الروح من النبي، فقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يُجاب عنه في القرآن فنزل قوله تعالى:

( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) (2) .

وبهذا أصبح ذلك السؤال من أسباب النزول.

وكذلك - أيضاً - ما وقع من بعض علماء اليهود، إذ سألهم مشركو مكّة: من أهدى سبيلاً، محمّد وأصحابه، أم نحن؟

فتملّقوا عواطفهم وقالوا لهم:

أنتم أهدى سبيلاً من محمّدٍ وأصحابه، مع علمهم بما في كتابهم من نعت النبيّ المنطبق عليه، وأخذ المواثيق عليهم أن لا يكتموه، واشتراكهم مع المسلمين بالعقيدة الإلهيّة والإيمان بالوحي والكتب السماويّة واليوم الآخر، فكانت هذه واقعة مثيرة أدّت على ما جاء في بعض الروايات إلى نزول قوله تعالى:

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ ) (3) .

وكذلك المعارك التي خاضها المسلمون وأُعدّوا في بدر وأُحد والأحزاب والحديبية وحنين وتبوك وغيرها.

________________________

(1) التوبة: 107.

(2) الإسراء: 85.

(3) النساء: 51.

٣٧

فهذه قضايا وقعت في عصر الوحي، وكانت داعيةً إلى نزول الوحي بشأنها، فكانت لأجل ذلك من أسباب النزول.

ويُلاحظ في ضوء ما قدّمناه من تعريفٍ لأسباب النزول أنّ أحداث الأُمم الماضية التي يستعرضها القرآن الكريم ليست من أسباب النزول؛ لأنها قضايا تأريخيّة سابقة على عصر الوحي وليست أُموراً وقعت في عصر الوحي واقتضت نزول القرآن بشأنها، فلا يمكن أن نعتبر حياة يوسف وتآمر أخوته عليه ونجاته وتمكّنه منهم سبباً لنزول سورة يوسف، وهكذا سائر المقاطع القرآنية التي تتحدّث عن الأنبياء الماضين وأُممهم فإنّها في الغالب تندرج في القسم الأوّل من القرآن الذي نزل بصورةٍ ابتدائيّة ولم يرتبط بأسباب نزول معينّة.

الفائدة من معرفة السبب:

ولمعرفة أسباب النزول أثرٌ كبير في فهم الآية وتعرّف أسرار التعبير فيها، لأنّ النص القرآني المرتبط بسبب معيّن للنزول تجيء صياغته وطريقة التعبير فيه وفقاً لما يقتضيه ذلك السبب، فما لم يُعرّف ويحدّد قد تبقى أسرار الصياغة والتعبير غامضة عنه، ومثال ذلك قوله تعالى:

( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا... ) (1)

فإن الآية ركّزت على نفي الإثم والحرمة عن السعي بين الصفا والمروة، دون أن تصرّح بوجوب ذلك، فلماذا اكتفت بنفي الحرمة دون أن تعلن وجوب السعي؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال يمكن معرفته عن طريق ما ورد في سبب نزول الآية من أنّ بعض الصحابة تأثّموا من السعي بين الصفا والمروة، لأنّه من عمل الجاهليّة فنزلت الآية الكريمة، فهي إذاً بصدد نفي هذه الفكرة من أذهان الصحابة

________________________

(1) البقرة: 158.

٣٨

والإعلان عن أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وليس السعي بينهما من مختلقات الجاهليّة ومفترياتها.

وقد أدّى الجهل بمعرفة سبب النزول في هذه الآية عند بعضهم إلى فهمٍ خاطئٍ في تفسيرها... إذ اعتبر اتجاه الآية - نحو نفي الإثم بدلاً من التصريح بالوجوب - دليلاً على أنّ السعي ليس واجباً وإنّما هو أمرٌ سائغ، إذ لو كان واجباً لكان الأجدر بالآية أن تعلن وجوبه بدلاً من مجرد نفي الإثم، ولو كان هذا يعلم سبب النزول والهدف المباشر الذي نزلت الآية لتحقيقه، وهو إزالة فكرة التأثّم من أذهان الصحابة لعرف السر في طريقة التعبير، والسبب في اتجاه الآية نحو نفي الإثم والتركيز على ذلك.

تعدّد الأسباب والمُنْزَل واحد والعكس:

قد يتفق وقوع عدّة أشياءٍ في عصر الوحي كلِّها تتّفق في إشارةٍ واحدة وتستدعي نزول القرآن بشأنها، كما إذا تكرّر السؤال - من النبيّ مثلاً - عن مشكلة واحدة، فإنّ كلَّ سؤالٍ يقتضي نزول الوحي بجوابه، ويُقال في هذه الحالة: إنّ الأسباب متعدّدة والمُنْزَل واحد.

ومن هذا القبيل ما يُروى في أنّ النبيَّ سُئل مرّتين عمّن وجد مع زوجته رجلاً كيف يصنع؟

سأله عاصم بن عدي مرّة، وسأله عويمر مرّةً أُخرى، واتّفق في مرّةٍ ثالثة أنّ هلال بن أُميّة قذف امرأته عند النبيّ بشريك بن سمحاء، فكانت هذه أسباباً متعدّدة تستدعي نزول الوحي لتوضيح موقف الزوج من زوجته إذا اطّلع على خيانتها، وما إذا كان من الجائز له أن يقذفها، ويتّهمها بدون بيّنة أو لا يجوز له ذلك إلاّ ببيّنة، فإن اتّهم بدون بيّنة استحق حدّ القذف، كما هو شأن غير الزوج إذا قذف امرأةً أُخرى، ولأجل ذلك نزل قوله تعالى:

( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ

٣٩

يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) (1)

فكان السبب متعدّداً والمُنْزَل واحد.

وفي حالة تعدّد السبب قد يوجد فاصل زمني كبير بين أحد السببين والآخر، فيؤدّي السبب الأوّل إلى نزول الآية فعلاً، ثمّ يتجدّد نزولها حينما يوجد السبب الثاني بعد ذلك بمدّة، فيكون السبب متعدّداً والنزول متعدّداً وإن كانت الآية النازلة في المرّتين واحدة.

ويُقال: إنّ سورة الإخلاص من هذا القبيل إذ نزلت مرّتين؛ إحداهما: بمكّة جواباً للمشركين من أهلها، والأُخرى بالمدينة جواباً لأهل الكتاب الذين جاورهم النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد الهجرة.

وكما يتعدّد السبب والمُنْزَل واحد، كذلك قد يتّفق كون السبب واحداً لآياتٍ متفرقة، فقد رُوي أنّ أمَّ سلمة قالت للنبي (صلّى الله عليه وآله) يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء؟

فنزل قوله تعالى:

( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) (2) .

ونزل قوله تعالى:

( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ... ) (3) .

فهاتان آيتان متفرّقتان نزلتا بسببٍ واحد أُدرجت إحداهما في سورة آل عمران، والأُخرى في سورة الأحزاب، وبذلك كان السبب في النزول واحداً وهو حديث أم سلمة مع النبيّ والمُنْزَل متعدّد.

________________________

(1) النور: 6.

(2) آل عمران: 195.

(3) الأحزاب: 35.

٤٠