علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207017
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207017 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأوّل أو الثاني من أسباب التكرار.

الموضع الخامس عشر:

الآيات التي جاءت في سورة المؤمن والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) (1)

والتي تختم بقوله تعالى:

( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (2) .

ويُلاحظ في هذا المقطع من القصّة ما يلي:

الأوّل:

إنّ السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدّث في مطلعها عن مصير من يجادل في آيات الله:

( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ ) (3) .

الثاني:

إنّ القصّة تأتي في سياق أنّ هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية لعنادهم، بعد أن تأتيهم البيّنات، فيكفرون بها:

( أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ) (4) .

الثالث:

إنّ القصّة تؤكّد بشكلٍ واضحٍ موقف مؤمن آل فرعون، والأساليب التي استعملها في دعوته لهم ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم بمصير من سبقهم من الأُمم وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم.

وقبالة هذا الموقف يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيّه حتّى حاول أن يطّلع على إله موسى.

________________________

(1) المؤمن: 23 - 24.

(2) المؤمن: 44 - 45.

(3) المؤمن: 4.

(4) المؤمن: 21.

٤٠١

وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج:

أنّ القصّة سيقت لتوضيح مصير من يجادل في آيات الله، مع إيضاح الفرق بين الأُسلوب الذي يستعمله الداعية والأُسلوب الذي يستعمله المجادل والكافر، وأنّ العذاب لا ينزل بهؤلاء إلاّ بعد أن تتمّ الحجّة عليهم.

وإنّ الهداية والحجّة من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتّى أُولئك الأشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفّذ والمترف - كما هو الحال بالنسبة إلى مؤمن آل فرعون - كما أنّها تؤكّد الدور الذي يجب أن يقوم به الإنسان تجاه هداية الآخرين، وأنّها مسؤوليّة شرعيّة وإنسانية يتحمّلها كلُّ الناس، حتّى لو كان من الوسط الضال، كما فعل مؤمن آل فرعون.

وفي هذا العَرْض القرآني للقصّة يظهر لنا - أيضاً - هذا الامتزاج بين الرحمة والغفران، وبين النقمة وشدّة العذاب:

( غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (1) .

فإنّ الله سبحانه يجعل تحت متناول عقول عباده وأنظارهم آياته وأدلّته وبراهينه، ويتوسّل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم، كلّ ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة والاستغفار، ولكنّه - مع ذلك - لا يعجزه شيءٌ عن عقابهم أو القدرة على إنزال العذاب فيهم.

الموضع السادس عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الزخرف والتي تبدأ بقوله تعالى:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (2)

والتي تختم بقوله تعالى:

( فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً

________________________

(1) المؤمن: 3.

(2) الزخرف: 46.

٤٠٢

لِلآخِرِينَ ) (1) .

ويُلاحظ في هذا الموضع من القصّة ما يلي:

إنّ هذا المقطع القرآني من القصّة جاء في سياق الحديث عن شبهةٍ أثارها الكفّار في وجه الدعوة:

( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (2) .

وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين:

الأُولى:

إنّ الرزق والمال ليس عطاءً بشريّاً أو نتيجةً للجهد الشخصي والذكاء والعبقريّة والفضل فحسب، بل هو عطاء إلهي له غاية اجتماعية تنظيمية:

( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (3) .

الثانية:

إنّ هذا العطاء الإلهي المادّي ليس مرتبطاً بالفضل والامتياز عند الله، والقربى لديه كما هو شأن العطاء البشري ومقاييسه، بل قد يكون العكس هو الصحيح:

( وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ) (4) .

فإنّ ظاهر هذه الآية الكريمة هو أنّه لولا مخافة أن يكون الناس أُمة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن... وقد يكون ذلك تعويضاً لهم عمّا يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة فإنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) (5) .

ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج:

________________________

(1) الزخرف: 55 - 56.

(2) الزخرف: 31.

(3) الزخرف: 32.

(4) الزخرف: 33.

(5) من لا يحضره الفقيه 4: 363.

٤٠٣

إنّ هذا المقطع جاء ليضرب مثلاً واقعيّاً تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها الإنسانية، وهذا المثل هو موقف فرعون من دعوة موسى؛ حيث نزلت الرسالة على شخصٍ فقيرٍ مطاردٍ ويتعرّض قومه إلى الاضطهاد، مع أنّ فرعون هو صاحب الثروة والغنى.

والذي يؤكّد هذا الاستنتاج: أنّ المقطع يتبنّى إظهار جانب ما يتمتّع به فرعون من ثروةٍ وملكٍ وغنى، في مقابل موسى الذي هو مهين، على حد تعبير فرعون، وليس في المواضع الأُخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون.

فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.

الموضع السابع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة الذاريات وهي قوله تعالى:

( وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ* فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ* فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (1) .

وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عَرْضٍ قصصيّ مشتركٍ عن الأنبياء من أجل تعداد آيات الله سبحانه، وإثبات صدق الدعوة والنبوّة، نجد أُسلوب السورة المكّيّة الذي كان يفرض طبيعة الموقف فيه ذكر القصص القرآنية بشكلٍ مختصرٍ وعابر.

الموضع الثامن عشر:

الآية التي جاءت في سورة الصف:

( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2) .

وفي هذه إشارة إلى موقفٍ معيّنٍ لبني إسرائيل تجاه موسى، حيث آذوه مع

________________________

(1) الذاريات: 38 - 40.

(2) الصف: 5.

٤٠٤

علمهم بنبوّته، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو مقارنة موقف أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله) تجاهه وموقف هؤلاء تجاه موسى، وكذلك موقف بني إسرائيل تجاه عيسى (عليه السلام) من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبيّنات، وفي هذا تذكير لأصحاب النبي وتحذير لهم من الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات، وإلاّ لساروا في طريق النفاق، وكانوا ممّن يقولون ما لا يفعلون، كما يدلّ السياق على ذلك.

الموضع التاسع عشر:

الآيات التي جاءت في سورة النازعات، وهي قوله تعالى:

( هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى* إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى* وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى* فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى* فَكَذَّبَ وَعَصَى* ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى* فَحَشَرَ فَنَادَى* فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ) (1) .

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث عن الحشر، وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيوية، وتكبره وتجبّره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعيّة عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة:

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (2) .

وهذا المقطع القرآني من القصّة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدّث

________________________

(1) النازعات: 15 - 25.

(2) النازعات: 27 - 32.

٤٠٥

عن الحشر وتصوّر قدرة الله سبحانه على تحقيقه (بزجرة) واحدة؛ لأنّ الموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ما له من القدرة الدنيويّة وتكبّره وتجبّره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأُولى، فإنّ هذا الانتقال يصوّر لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلّةٍ وجدانيّة:

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (1) .

2 - قصّة موسى (عليه السلام) في القرآن بحسب تسلسلها التأريخي (2) :

الإسرائيليّون في المجتمع المصري:

لقد عاش الإسرائيليّون في المجتمع المصري، وتكاثروا فيه: منذ هجرة يوسف وأبيه يعقوب وبقيّة أولاده إلى مصر.

وقد اضطهد الفراعنة الإسرائيليين في الحقبة السابقة على ولادة موسى، وبلغ الاضطهاد درجةً مريعةً حين اتّخذ الفراعنة قراراً بذبح أبناء الإسرائيليّين واستحياء نسائهم من أجل الخدمة والعمل، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يتفضّل على هؤلاء المستضعفين وينقذهم من حالتهم هذه، فهيّأ لهم نبيّه موسى، فعمل على إنقاذهم من الفراعنة (3) ، وهدايتهم من المجتمع الوثني إلى المجتمع التوحيدي.

ولادة موسى وإرضاعه:

وحين وُلد موسى (عليه السلام) أوحى الله سبحانه إلى أُمّه أن ترضعه وحين تخاف عليه

________________________

(1) النازعات: 27 - 32.

(2) نذكر من أحداث القصّة بمقدار ما تعرّض له القرآن الكريم.

(3) الأعراف: 141، إبراهيم: 6، القصص: 3 - 6.

٤٠٦

من الذبح العام فعليها أن تضعه في ما يشبه الصندوق وتلقيه في اليمّ، وهكذا شاءت إرادة الله أن يلقيه اليمّ إلى الساحل، وإذا بآل فرعون يلتقطونه فيعرفون أنّه من أولاد بني إسرائيل، فتدخل امرأة فرعون في شأنه وتطلب أن يتركوه لها على أن تتّخذه خادماً أو ولداً تأنس به مع فرعون.

وقد عاشت والدة موسى لحظاتٍ حرجةً من حين إلقائه في اليمّ، فأمرت أُخته أن تقصَّ أثره وتتبع سير الصندوق فتتعرّف على مصيره، ففعلت، وحين عرض الطفل على المرضعات أبى أن يقبل واحدةً منهنّ، فانتهزت أُخته هذه الفرصة، فعرضت على آل فرعون أن تدلّهم على امرأةٍ مرضعة تتكفّل رعايته وحضانته وإرضاعه، وكانت هذه المرأة بطبيعة الحال هي أُمّ موسى، وهكذا رجع الطفل إلى أُمّه ليطمئنّ قلبها وتعلم أنّ ما وعدها الله سبحانه من حفظه وإرجاعه إليها حقٌّ لا شكّ فيه.

ولقد شبّ موسى في البلاط الفرعوني حتّى إذا بلغ أُشدّه وهبه الله سبحانه العلم والحكمة (1) .

خروج موسى من مصر:

ودخل موسى المدينة في يومٍ ما ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا ) (متنكّراً) فوجد فيها رجلاً من شيعته (من الإسرائيليّين) يقاتل رجلاً آخر من أعدائه (الفرعونيّين) فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى فقضى عليه ولم يكن ينتظر موسى أن تؤدّي هذه الضربة إلى الموت، ولذلك ندم على هذا العمل المتسرّع الذي انساق إليه، فاستغفر ربّه عليه.

وأصبح موسى في المدينة خائفاً يترقّب أن ينكشف أمره فيؤخذ بدم الفرعوني، فينزل إلى المدينة مرّةً أُخرى فإذا به يواجه قضيّةً أُخرى متشابهة، وإذا الذي استنصره بالأمس فنصره يستصرخه اليوم أيضاً، فعاتبه موسى على

________________________

(1) القصص: 7 - 14، طه: 37 - 40.

٤٠٧

عمله ووصفه بأنّه غويٌّ مبين يريد توريطه وإحراجه، ثمّ لمّا ( أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا ) (موسى والإسرائيلي) ظنّ الإسرائيلي أنّ موسى يقصد البطش به لا بالفرعوني، فقال لموسى:

( أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ )

وبذلك كشف الإسرائيلي عن هويّة قاتل الفرعوني الأوّل، وفضح قتل موسى له، فعمل الملأ - وهمّ عليَّة القوم - على قتله بدم الفرعوني.

( وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) وأعاليها يُخبر موسى بالأمر، يقول له: ( إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) وطلب منه المبادرة إلى الخروج والهروب من الفرعونيين.

فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقّب أن يوافيه الطلب أو تصل إليه أيدي الفرعونيّين فدعا ربّه أن ينجيه من القوم الظالمين (1) .

موسى في أرض مَدْين:

وانتهى السير بموسى إلى أرض مدين فلمّا وصلها أحسَّ بالأمن وانتعش الأمل في نفسه فقال:

( عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ* وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ ) وهم: الرعاة يسقون

( وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ ) في حيرة من أمرهما تذودان الأغنام وتجمعانها ولا تسقيان، فأخذه العطف عليهما فقال لهما:

( مَا خَطْبُكُمَا ) ولماذا لا تسقيان؟

قالتا له: ( لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء ) وينتهوا من السقي؛ لأنّنا امرأتان ( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) لا يتمكّن من القيام بهذه المهمّة الشاقّة.

فتولّى موسى عنهما هذه المهمّة، فسقى لهما، ثمّ انصرف إلى ناحية الظل، وهو يشكو ألم الجوع والغربة والوحدة فقال:

( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) .

________________________

(1) القصص: 15 - 21، وطه: 40.

٤٠٨

ولمّا رجعت الامرأتان إلى أبيهما الشيخ وعرف منهما قصّة هذا الإنسان الغريب الذي سقى لهما، بعث إلى موسى إحداهما لتدعوه إليه فجاءته ( تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) .

فأجاب موسى الدعوة وحين انتهى إلى الشيخ طلب منه أن يخبره عن حاله، فقصّ موسى عليه قصّة هربه وسببها، وحينئذٍ آمنه الشيخ وقال له: ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .

وقد طلبت إحدى ابنتي الشيخ من أبيها: أن يستأجر موسى للعمل عنده وليقوم عنهما ببعض المهام الملقاة على عاتقهما نتيجة عجز الشيخ وضعفه؛ وذلك نظراً لقوّة موسى وقدرته على القيام بالعمل مع إمانته وشرف نفسه.

فقال له الشيخ: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ) شريطة أن تأجرني نفسك ثماني حجج (سنين) فإذا اتممتها عشراً فذلك من عندك، فوافق موسى على هذا الزواج وتمّ العقد بينهما (1) .

بعثة موسى (عليه السلام) ورجوعه إلى مصر:

وبعد أن قضى موسى الأجل (السنوات العشر) بينه وبين صهره سار بأهله فإذا به يشاهد ناراً من جانب الطور الأيمن: وهو جبل صغير، وقد كان بحاجةٍ إليها.

( فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى* فَلَمَّا أَتَاهَا )

وجد شجرةً وجاء نداء الله سبحانه من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من جانب الشجرة: ( إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ* فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) إليك.

ثم قال الله له: ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى )

قال الله له: ( أَلْقِهَا يَا مُوسَى ) فإذا هي تتحوّل إلى ( حَيَّة تَسْعَى ) ( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ )

________________________

(1) القصص: 22 - 28، طه: 40.

٤٠٩

فناداه الله: ( يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ ) ( إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (1) سنعيدها سيرتها الأُولى.

ثمّ قال له: ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ) (2)

ومرض، فأدخل يده وإذا بها تخرج بيضاء، ثمّ ردّها فعادت كما كانت.

وبعد ذلك أمره الله سبحانه أن يذهب بهاتين الآيتين المعجزتين إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى الله سبحانه، فخاف موسى من تحمّل هذه المهمّة، فقال: ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ ) وذلك من أجل أن ( يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) .

قال الله له: ( سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ) ( فَأْتِيَاهُ (فرعون) فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ) (3) .

وحينما عاد موسى إلى مصر توجّه مع أخيه هارون إلى فرعون، فقالا له: إنّا رسولا ربّك ربّ العالمين، ولا يمكن أن نقول على الله غير الحق الذي أرسلنا به وقد جئناك ببيّنةٍ من ربّك فارسل ( مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) وارفع عنهم العذاب الذي تنزله فيهم، وقد قالا له ذلك بشكلٍ ليّنٍ وبأُسلوبٍ استعطافيٍّ هادئ (4) .

وكأن فرعون قد استغرب هذه الرسالة من موسى وأخيه؛ لأنّه كان يعرف

________________________

(1) القصص: 21 والنمل: 10.

(2) النمل: 12.

(3) الإسراء: 2 - 3، طه: 9 - 47، الفرقان: 35 - 36، القصص: 29 - 35، الشعراء: 10 - 16، النازعات: 15 - 19.

(4) الأعراف: 104 - 105، الشعراء: 17 و 22.

٤١٠

موسى وأحواله، فقال لموسى:

( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ) ، ثمّ بعد ذلك ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ) بأن قتلت رجلاً من الفرعونيّين؟ فأجابه موسى: نعم لقد فعلت ذلك، ولكنّي لمّا خفتكم على نفسي فررت منكم ( فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (1) .

فرعون يجادل موسى في ربوبيّة الله:

وبعد أن رأى فرعون إصرار موسى وهارون على الرسالة ( قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا )

قال له موسى ( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) وهو ربّ السماوات والأرضين ( وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) ، قال فرعون ( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ) وما هو مصيرها؟

فأجابه موسى ( عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ، وهو ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ) مختلف ألوانه وأشكاله.

وقد استنكر فرعون هذه الدعوة الجديدة وهو يعتقد بنفسه الإلوهيّة فتوجّه لمن حوله مستنكراً، وقال: ألا تسمعون؟

ولمّا رأى الإصرار من موسى وأخيه اتّهم موسى بالجنون وهدّده بالسجن إذا اتخذ إلهاً غيره (2) .

ولم يستسلم موسى وأخوه أمام هذه التهمة والتهديد وإنّما حاولا أن يسلكا إلى فرعون طريقاً آخر لاقناعة أو إحراجه، وهذا الطريق هو استثمار السلاح الذي وضعه الله بيد موسى (معجزة العصا واليد)، فقال موسى لفرعون: إني قد جئتك من ربّي بآية تبيّن لك الحق الذي انا عليه؛ قال فرعون: إذا كنت صادقاً فأت بهذه الآية والحجّة

( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ) .

ولم يتمالك فرعون وملؤه أنفسهم أمام هذا الموقف إلاّ أن اتّهموه بالسحر والشعوذة

________________________

(1) الشعراء: 18 - 21.

(2) طه: 49 - 55، الشعراء: 24 - 29.

٤١١

وأنّه إنّما جاء بهذا السحر من أجل أن يخرجهم من أرضهم ويجلوهم عنها (1) .

مباراة موسى مع السَّحَرة:

وقد أشار قوم فرعون وخاصّته عليه بأن يواجه موسى بالسحرة من بلاده، فيجمعهم في يومٍ يشهده الناس جميعاً ليتباروا، وسوف يغلبونه وهم كثيرون فيفتضح أمره ويترك دعوته، وعمل فرعون بهذه النصيحة فطلب من موسى وأخيه أن يعطياه مهلةً إلى وقتٍ معيّن لمواجهته بالسحرة.

وجمع فرعون كيده وحشد جميع السحرة من بلادهم، وعرض عليهم الموقف وطلب منهم أن يحرجوا موسى ويغلبوه، وجمع الناس لهذه المباراة ظنّاً منه أنّه سوف ينتصر، وقد شجّعه على ذلك تأكيد السحرة أنّهم سوف يغلبون موسى وما طلب منه السحرة من أجر وأُعطيات إذا كانوا هم الغالبين.

وحين اجتمع موسى بالسحرة خيّروه بين أن يلقي قبلهم أو يكونوا هم الملقين قبله، فاختار أن يكونوا هم الملقين، فألقى السحرة ( حِبَالهُمْ وَعِصِيّهُمْ ) وإذا بها تبدو لأعين الناس - من سحرهم - كأنّها تسعى كالحيّات، وعندئذٍ أوجس موسى ( فِي نَفْسِهِ خِيفَةً ) إذ لم يكن ينتظر أن يواجه بالأُسلوب الذي اتبعه في معجزته مع فرعون فأوحى الله سبحانه له أن لا تخف فأنك أنت الذي سوف تنتصر علهيم، وإنّما عليك أن تلقي عصاك وحينئذٍ تتحوّل إلى حيّةٍ تلقف جميع ما صنعوا؛ لأنّ ما صنعوه ليس إلاّ ( كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ) .

وعندما رأى السحرة هذا الصنع من موسى انكشفت لهم الحقيقة التي أُرسل بها، وأنّ هذا العمل ليس عمل ساحر وإنّما هو معجزة إلهيّة، فآمنوا وقالوا: ( آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ) .

وأمام هذا الموقف الرائع من السحرة في هذا المشهد العظيم من الناس وجد

________________________

(1) الأعراف: 106 - 109، الشعراء: 30 - 35، يونس: 75 - 78.

٤١٢

فرعون نفسه في وضعٍ مخزٍ ومحرج، الأمر الذي اضطرّه لأن يلجأ إلى الإنذار والوعيد والتهديد باستخدام أساليب القمع والإرهاب؛ فقال للسحرة:

( آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ) ، ولم يكن موقف السحر - بعد أن انكشفت لهم الحقيقة وهداهم الله إليها - إلاّ ليزداد صلابة وثباتاً واستسلاماً لله رجاء مغفرته ورحمته (1) .

إصرار فرعون وقومه على الكفر ومجيء موسى بالآيات:

وقد أصرّ فرعون وقومه على الكفر وصمّموا على مواصلة خط اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم، حيث قال الملأ من قومه ( أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) .

وواجه موسى وبنو إسرائيل ذلك بالصبر والثبات انتظاراً للوقت الذي يحقّق الله سبحانه فيه وعده لهم بوراثة الأرض.

ولكن الله سبحانه أمر موسى أن يعلن لفرعون وقومه بأنّ العذاب سوف ينزل بهم عقاباً على تكذيبهم له وتعذيبهم لبني إسرائيل وامتناعهم عن إطلاقهم وإرسالهم، فجاءت الآيات السماويّة يتلو بعضها بعضاً فأصابهم الله بالجدب، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وكانوا كلّما وقع عليهم العذاب والرجز.

( قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (2) .

________________________

(1) الأعراف: 110 - 126، يونس: 80 - 89، طه: 57 - 76، الشعراء: 34 - 52.

(2) الأعراف: 127 - 135، غافر: 23 - 27، الإسراء: 101 - 102، طه: 59، النمل: 13 - 14، القصص:

36 - 37، الزخرف: 46 - 50، القمر: 41 - 42، النازعات: 20 - 21.

٤١٣

الائتمار بموسى (عليه السلام) لقتله وطغيان فرعون:

وأمام هذه الآيات المتتاليات التي جاء بها موسى، لم يجد فرعون وقومه أُسلوباً يعالج به الموقف، غير الائتمار بموسى لقتله وادّعاء القدرة على مواجهة آلهته، فنجد فرعون يأمر هامان بأن يتّخذ له صرحاً ليطّلع منه على أسباب السماوات ويتعرّف على حقيقة إله موسى.

ولكنّ فرعون يفشل في كلا الجانبين، فلم يتمكّن من أن يحقّق غايته من وراء بناء الصرح، كما لم تصل يده إلى موسى؛ لأنّ أحد المؤمنين من آل فرعون يقف فيعظهم ويؤنّبهم على موقفهم من موسى، ويبادر إلى إخباره بنبأ المؤامرة فينجو (1) .

خروج موسى (عليه السلام) ببني إسرائيل من مصر:

وحين واجه موسى محاولة اغتياله ورأى إصرار فرعون وقومه على اضطهاد بني إسرائيل وتعذيبهم، ووجد أنّه لم تنفع بهم الآيات والمواعظ، صمّم على الخروج ببني إسرائيل من مصر والعبور بهم إلى جهة الأرض المقدّسة، وقد نفّذ موسى هذه العملية وسار ببني إسرائيل متّجهاً إلى سيناء.

ولم يقف فرعون - وقومه معه - أمام هذه الهجرة مكتوف اليدين، بل جمع جنده من جميع المدائن وقرّر ملاحقة موسى وبني إسرائيل وإرجاعهم إلى عبوديّته بالقوّة.

ووجد موسى وبنو إسرائيل - نتيجة هذه المطاردة - أنفسهم : أنّ البحر من إمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، وارتاع بنو إسرائيل من الموقف وكادوا يكذبون ما وعدهم به موسى من الخلاص، ولكنّ موسى بإيمانه الوطيد أخبرهم أنّ الله سبحانه سوف يهديه طريق النجاة، وتحقّق ذلك إذ أوحى الله :

( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (2) ، ويظهر بينهما طريق

________________________

(1) القصص: 38، غافر: 28 - 46.

(2) الشعراء: 63.

٤١٤

يبس يعبر من خلاله بنو إسرائيل ويحاول فرعون وجنوده أنّ يتبعوهم من هذا الطريق أيضاً، وإذا بجانبي البحر يلتقيان فيغرق مع جنده (1) .

موسى مع بني إسرائيل:

وتتوالى بعد ذلك الأحداث على موسى وإذا به يواجه المشاكل الداخلية منفرداً مع قومه بني إسرائيل، فيسمع طلبهم وهم يمرّون على قومٍ يعبدون الأصنام بأن يتّخذ لهم أصناماً يعبدونها كما أنّ لهؤلاء أصناماً، ثمّ بعد ذلك يتفضّل الله سحبانه على بني إسرائيل عندما استسقوا موسى، فيأمره بضرب الحجر فتتفجّر منه العيون كما ينزل علهيم المنّ والسلوى، ويبدلهم عنه ببعض المآكل الأُخرى، ويواجه موسى ردّة من بني إسرائيل عند ذهابه لميقات ربّه لتلقّي الشريعة في ألواح التوراة، فيخبره الله تعالى بعادتهم للعجل الذي صنعه السامري، فيرجع ( إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ) ويعتب بقسوة على أخيه هارون، حيث كان قد استخلفه عليهم مدّة ذهابه، ويطرد السامري ويفرض عليه عقوبة المقاطعة، ويحرق العجل وينسفه، ثمّ يتوب الله على بني إسرائيل بعد أن فرض عليهم عقاباً صارماً.

وعلى هذا المنوال يذكر لنا القرآن الكريم أحداثاً مختلفة عن حياة موسى مع بني إسرائيل، كقضيّة البقرة ونتق الجبل والدعوة للدخول إلى الأرض المقدسة وذهابهم للمواعدة عندما طلبوا رؤية الله جهرة، وقصّة قارون وتآمره مع المنافقين على موسى، وفي بعض هذه الأحداث لا نجد القرآن الكريم يحدّد المتقدّم منها على الأحداث الأُخرى بشكلٍ واضح.

________________________

(1) الأعراف: 136 - 137، يونس: 90 - 92، الإسراء: 103 - 104، طه: 77 - 79، الشعراء: 52 - 66، القصص: 39 - 40، الزخرف: 55 - 56، الدخان: 17 - 31، الذاريات: 38 - 40.

٤١٥

وبهذا القدْر نكتفي من سرد القصّة حسب تسلسلها الزمني (1) .

3 - دراسة عامّة مختصرة لقصّة موسى (عليه السلام):

بعد أن انتهينا من بحث قصّة موسى بحسب ذكرها في القرآن الكريم وعرضها بتسلسلها التأريخي، يجدر بنا أن ندرسها من جانبين يختلفان عن جانب دراستنا السابقة للقصّة:

الجانب الأوّل:

هو ملاحظة ميزات وخصائص المراحل العامّة التي مرّ بها موسى في حياته.

الجانب الثاني:

هو ملاحظة الموضوعات التي تحدّثت عنها القصّة بشكلٍ عام.

الأوّل: مراحل حياة موسى (عليه السلام):

وبصدد الجانب الأوّل نجد موسى (عليه السلام) قد مرّ بمراحل ثلاث رئيسة خلال حياته؛ حيث تبدأ المرحلة الأُولى بولادته وتنتهي ببعثته إلى فرعون وقومه، وتبدأ الثانية من البعثة وتنتهي بالعبور، وتبدأ الثالثة بالخروج وتنتهي بنهاية حياته.

ويعتمد هذا التحديد في المراحل الثلاث على المقدار الذي تحدّث القرآن الكريم فيه عن حياة موسى (عليه السلام).

وتتمثّل المرحلة الأُولى من حياة موسى في دورين:

الأوّل:

ينتهي بخروجه من مصر خائفاً.

الثاني:

هو الذي ينتهي برؤيته النار عند بعثته.

وحين نلاحظ الظواهر العامّة في هذين الدورين يبرز لنا موسى في شخصيّته

________________________

(1) تراجع (قصص الأنبياء) لعبد الوهاب النجّار بصدد الأحداث التي وقعت لموسى مع قومه بني إسرائيل، وإن كنّا قد لا نتّفق معه في بعض الخصوصيّات التي يسردها.

٤١٦

ذلك الإنسان الذي يريد الله سبحاه أن يعدّه لأعباء مهمّة تخليص بني إسرائيل من الظلم الاجتماعي الذي حاق بهم، وتخليص شعب مصر من عبوديّة الأوثان وهدايتهم لوحدانيّة الله سبحانه.

وتتلخّص هذه الظواهر بميزات ثلاث لها دور كبير في شخصيّة الإنسان القائد، وهي كالتالي:

الأُولى:

المركز الاجتماعي الذي كان يتمتّع به موسى - دون بني إسرائيل - نتيجةً لتبنّي العائلة المالكة في مصر تربيته ورعايته.

وهذا المركزالاجتماعي الفريد وإن كان قد فقد تأثيره - إلى حدٍ كبير - بعد هروب موسى من مصر بسبب قتله الفرعوني، ولكنّنا يمكن أن نتصوّره عاملاً مهمّاً في إظهار موسى - في المجتمع بشكلٍ عام، والإسرائيلي بشكلٍ خاص - شخصيةً تتبنّى قضيّة الدفاع عن بني إسرائيل وتعمل من أجلها.

ولعلّ ضياع هذا المركز الاجتماعي المهم بسبب قتل الفرعوني، هو الذي يفسِّر لنا نظرة موسى إلى قتل الفرعوني - نظرته - إلى ذنبٍ يستحقّ الاستغفار والتوبة منه إلى الله تعالى، حيث ضيّع موسى بهذا العمل الارتجالي - الذي صدر منه بدوافع نبيلة وصحيحة - فرصةً ثمينةً كان من الممكن استثمارها في سبيل استنقاذ الشعب الإسرائيلي، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ موسى كان يتّصف بالعلم والحكمة في هذه المرحلة كما وصفه القرآن الكريم.

الثانية:

الشعور الإنساني والحس النبيل الذي كان يحسّ به موسى بوصفه إنساناً يتحلّى بالأخلاق الكاملة.

ويتمثّل لنا هذا الخلق الإنساني في ثلاثة مواقف لموسى جاءت ضمن هذه المرحلة من حياته، وهي:

قتله الفرعوني، ومحاولته لضرب الفرعوني الآخر، وتبرّعه بمعاونة ابنتي الشيخ الذي أصبح صهراً له بعد ذلك، وما يُشعر به وصف ابنة الشيخ له بأنّه قويٌّ أمين.

٤١٧

فإنّ هذه المواقف تعبّر عن المحتوى الداخلي والشعور الإنساني الذي كان يعيشه موسى (عليه السلام)، فهو يبادر لنجدة المظلوم بالرغم من تربيته في البيت الفرعوني المالك، هذه التربية التي كان من الممكن أن تعطيه الشعور بالتميّز الطبقي الذي يختلف عن عمله الإنساني هذا، ثمّ لا يكتفي بأن يرتكب ذلك مصادفةً بل يندفع ليقوم بنفس العمل حين يجد من يستصرخه إليه مع شعوره بحراجة موقفه الاجتماعي نتيجةً لهذا العمل.

وفي موقفه من ابنتي الشيخ، نجد موسى تدفعه ذاته الخيّرة النبيلة للسؤال عن تلكئهما في السقاية، ويعرض المعاونة عليهما في حالة الحاجة إليها، ونجده يخفّ إلى تنفيذ ذلك دون أن ينتظر منهما أجراً أو مثوبةً ماديّة، على الرغم من ظروفه الموضوعيّة الخاصّة الصعبة.

الثالثة:

القوّة البدنيّة والشجاعة التي كان يتمتّع بها موسى، ويكشف لنا عن ذلك موقفه من الفرعوني وقضاؤه عليه بوكزةٍ واحدة، والالتزام الذي أخذه على نفسه بأن لا يكون ظهيراً للمجرمين، حتّى بعد قتله الفرعوني الأوّل وشعوره بحراجة موقفه، ووصف ابنة الشيخ له بأنّه (قوي)، خصوصاً إذا أخذنا بالتفسير الذي يقول: إنّ موسى حين سقى لابنتي الشيخ طرد السقاة عن البئر من أجل أن يعجّل بالسقاية لهما.

وهذه الميزات الثلاث تحقّق شروطاً ضروريةً لحمل أعباء الرسالة التي أراد الله سبحانه لنبيّه موسى القيام بها، ولعلّ في الإمداد الإلهي في قصّة مولده ونجاته من الذبح عاملاً جديداً في خلق الأجواء النفسيّة والاجتماعية والروحية، والظروف المناسبة لتأهيل هذا الإنسان لقيادة شعبه المضطهد.

وتمثّل المرحلة الثانية مسؤوليتين:

إحداهما: هداية قوم فرعون إلى وحدانيّة الله والإيمان بربوبيّته.

٤١٨

والأُخرى: دعوة بني إسرائيل للخلاص من الاضطهاد والظلم الذي كانوا يعانونه في مصر.

وقد توسّل موسى من أجل تحقيق هذين الهدفين البارزين في حياة دعوته بأساليب مختلفة ومتعددة، كانت تبتدئ بالمناقشة الهادئة والكلام الليّن والحجّة التي تعتمد على المنطق والعقل، وتنتهي بالعذاب والرجز الذي أنزله الله سبحانه وتعالى عليهم في آيات عديدة.

كما أنّه من جانبٍ آخر، كان يدعو بني إسرائيل إلى الاستعانة بالله، والصبر على المكاره ومواصلة الطريق من أجل الخلاص.

والقرآن الكريم وإن كان لا يتحدّث عن المدّة التي عاشها موسى من أجل تحقيق ذلك، ولكن من الممكن أن نتبيّن أنّ هذه المدّة كانت طويلةً نسبيّاً، خصوصاً إذا لاحظنا الآيات القرآنية التي تُشير إلى المعجزات التي جاءت على يد موسى، وأنّها كانت في سنين متعددة.

كما يؤيّد ذلك - أيضاً - أمر الله سبحانه لموسى بأن يتّخذ بيوتاً مع قومه ويجعلها قبلة تنطلق منها الدعوة.

ويبدو أنّ موسى لم يصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ بصدد تحقيق الهدف الأوّل مع فرعون وقومه، لذا قرّر الهجرة ببني إسرائيل، والعبور بهم إلى الجانب الآخر من البحر.

ولا يُشير القرآن بشكلٍ قاطعٍ إلى أنّ هذه الحركة في بدايتها كانت برضا فرعون، بعد أن شاهد هذه المعجزات وآيات العذاب، أو أنّها كانت بدون رضاه، ولكن قد يكون في قصّة مطاردة فرعون بجنوده لموسى وبني إسرائيل، دلالة على أنّ الحركة كانت رغماً على فرعون وبدون رضاه.

ونحن يمكن أن نلاحظ في هذه المرحلة أُموراً ثلاثة:

٤١٩

الأوّل:

إنّ بني إسرائيل كانوا يلتفّون حول موسى دون أن يكون هناك خلاف في صفوفهم، أو دون أن يبرز هذا الخلاف إلى السطح الاجتماعي، والقرآن وإن كان لا يصرّح بشيءٍ من ذلك، ولكن تدعونا إلى هذا الحكم طبيعة الأشياء، حيث كان الإسرائيليّون بالأصل أهل كتاب ونبوّات، كما أنّهم كانوا يتعرّضون لأشدّ ألوان العذاب، وبذلك هم ينشدون الخلاص.

إضافةً إلى سكوت القرآن عن إبراز أي خلاف بين بني إسرائيل وبين موسى في هذه المرحلة، واستجابة بني إسرائيل إلى متابعة موسى في هذه الهجرة من مصر.

نعم يُشير القرآن إلى نقطتين قد يُفهم الخلاف منهما؛ هما: قلّة الأشخاص الذين آمنوا بموسى من قومه، واعتراضهم عليه بنزول الأذى، فيهم قبل موسى وبعده.

الثاني:

إنّ موسى كان يعمل بوسائل شتّى من أجل إنجاح دعوته، فكان يتوصّل إلى ذلك بالمناقشات الهادئة مرّةً، وبالمعاجز والآيات ذات الطابع الانتقامي الشديد ثانية، وبالصبر والصمود والانتظار ثالثة.

وقد توصّل نتيجةً لذلك إلى تحقيق بعض أهدافه، حيث نجد الدعوة تحقّق نجاحاً في صفوف بعض الفرعونيّين - أيضاً - كإيمان السحرة له ووجود ظاهرة مؤمن آل فرعون وإيمان زوجة فرعون.

الثالث:

إنّ موسى كان يعتمد للحماية من الغضب والانتقام الفرعوني على جهاتٍ متعدّدةٍ يمكن أن نلحظ منها التفاف بني إسرائيل حوله وهم يمثّلون أُمّةً كبيرةً من الناس وإن كانت مضطَهدة، ومركزه الاجتماعي السابق في البيت الفرعوني المتميّز، واستجابة بعض الفرعونيّين لدعوته وخصوصاً زوجة فرعون؛ ولعلّ موقف مؤمن آل فرعون من الائتمار بموسى لقتله يُشير إلى العنصر الأخير من الحماية؛ وكذلك قبول فرعون بالدخول معه في مناقشة ومباراة تمثّل العنصر الثاني، إضافةً إلى قضيّة الآيات والمعاجز وإيمان السحرة به.

٤٢٠