علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207003
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207003 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعلى هذا الأساس يجب أن لا نسرع إلى الحكم بالتعارض بين روايتين تتحدّثان عن أسباب النزول إذا ذكرت كلٌّ منهما سبباً لنزول آية يغاير السبب الذي ذكرته الرواية الأُخرى لنزول نفس تلك الآية، أو إذا تحدّثت الروايتان عن سببٍ واحدٍ فذكرت كلٌّ منهما نزول آية بذلك السبب غير الآية التي ربطتها الرواية الأُخرى به؛ لأنّ من الممكن في بعض الموارد فهم الاختلاف بين الروايتين والتوفيق ببينهما على أساس إمكان تعدّد سبب النزول لآية واحدة، أو تعدّد الآيات النازلة بسبب واحد فلا يوجد بين الروايتين تعارض على هذا الأساس.

العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب:

إذا نزلت الآية بسببٍ خاص، وكان اللّفظ فيها عامّاً فالعبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب، فلا يتقيّد بالمدلول القرآني في نطاق السبب الخاص للنزول أو الواقعة التي نزلت الآية بشأنها، بل يؤخذ به على عمومه؛ لأنّ سبب النزول يقوم بدور الإشارة لا التخصيص، وقد جرت عادة القرآن أن ينزل بعض أحكامه وتعليماته وإرشاداته على أثر وقائع وأحداث تقع في حياة الناس وتتطلّب حكماً وتعليماً من الله؛ لكي يجيء البيان القرآني: أبلغ تأثيراً وأشد أهمّيّة في نظر المسلمين وإن كان مضمونه عامّاً شاملاً؛ فآية اللّعان - مثلاً - تشرِّع حكماً شرعيّاً عامّاً لكلِّ زوجٍ يتّهم زوجته بالخيانة، وإن نزلت في شأن هلال بن أُمية، وآية الظهار تبيّن حكم الظهار بصورةٍ عامّة وإن كان نزولها بسبب سلمة بن صخر.

وعلى هذا الأساس اتفق علماء الأُصول على أنّ المتّبع هو مدى عموم النص القرآني وشمول اللّفظ فيه، وأنّ سبب النزول مجرّد سبب مثير لنزول الحكم العام، وليس تحديداً له في نطاقه الخاص؛ لأنّ مجرّد نزول حكم اللّعان عُقيب قصّة هلال ابن أُمية - مثلاً - لا يدلُّ إطلاقاً على أنّ الحكم يختص به، ولا يبطل عموم اللّفظ

٤١

وشمول النص لسائر الأزواج.

وقد جاءت نصوصٌ عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) تعزِّز هذا المعنى وتؤيّده؛ ففي تفسير العيّاشي عن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال:

(... إنّ القرآن حيٌّ لا يموت، والآية حيّة لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين كما جرت في الماضين ) (1) .

وعن الإمام جعفر بن محمّدٍ الصادق (عليه السلام) أنّه قال:

( إنّ القرآن حيٌّ لم يمت وإنّه يجري كما يجرى الليل والنهار، وكما تجري الشمس والقمر، ويجري على آخرنا كما يجري على أوّلنا ) (2) (... فلا تكونّن ممّن يقول للشيء: إنّه في شيءٍ واحد ) (3) .

________________________

(1) تفسير العيّاشي 2: 203.

(2) المصدر السابق.

(3) الكافي 2: 156، الحديث 28

٤٢

الهدف من نزول القرآن *

المقدّمة: أهمّيّة الموضوع:

يحسن بنا قبل الدخول في بحث أصل الموضوع (الهدف من نزول القرآن) أن نتناول أهمّيّة البحث فيه.

ويمكن أن نشير بهذا الصدد وبشكلٍ مختصرٍ إلى النقاط التالية:

الأُولى:

إنّ فهم القرآن الكريم يتأثّر بمجموعةٍ من القضايا:

كأن تكون الرؤية في تفسيره إسلاميّة، ومن منطلق أنّه وحيٌ إلهي وليس نتاجاً بشريّاً، وأن نعرف الظروف التي نزل فيها القرآن الكريم، وأسباب النزول التي تمثِّل القدر المتيقَن من المصداق في المفهوم القرآني.

ومن أهمّ هذه القضايا التي تؤثر في فهم القرآن الكريم، معرفة الهدف من نزوله، لأنّ الهدف بطبيعة الحال يلقي بظلاله على المعنى القرآني، بحيث يكون إحدى القرائن العامّة المنفصلة التي تكتنف النص.

فعندما يتحدّث القرآن الكريم عن الكتاب أنّه تبيان لكلِّ شيءٍ

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1)

يمكن أن نفهم (كلّ شيءٍ) هنا على ضوء (الهدف من نزول القرآن)، فالمراد من التبيان هو التبيان الشامل لما يرتبط بهذا الهدف، وهكذا في الموارد الأُخرى.

________________________

(*) لخّصنا هذا الموضوع من كتابنا: الهدف من نزول القرآن.

(1) النحل: 89.

٤٣

الثانية:

إنّ معرفة الهدف القرآني سوف تساهم في تفسير مجموعةٍ من الظواهر القرآنيّة؛ حيث قد يختلف تفسير الظاهرة باختلاف تفسير الهدف من القرآن، كما في تكرار القصّة، الذي يتّجه بعضهم إلى تفسيره على أساسٍ بلاغي، بينما قد يكون الأساس التربوي هو التفسير الصحيح.

الثالثة:

إنّ القرآن الكريم يحظى بقدسيّةٍ واهتمام بين المسلمين، باعتباره الوحي الإلهي الذي لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه، وباعتباره الصيغة والنص الإلهيين لهذا الوحي والمضمون.

ولذا لا بُدّ للمسلمين أن يبقوا متفاعلين مع القرآن دائماً، كما كانوا كذلك في مختلف عصور التاريخ الإسلامي وإن كان بمستويات متفاوتة.

ولتشخيص الهدف من نزول (القرآن) أثر كبير على طبيعة هذا الاهتمام والتفاعل ومستواه ومضمونه، إذ إنّ الاهتمام والتفاعل يكوّنان تارةً على مستوى حفظ النص القرآني، وسلامة تركيبه، وأُخرى على مستوى الاهتمام بالمضمون القرآني وفهمه، وثالثةً على مستوى التعرّف على هداية القرآن الكريم والحقائق العلميّة والتأريخية والاجتماعية و... التي احتواها القرآن الكريم، ورابعةً على مستوى طرحه كشعارٍ للإنسان المسلم، يتزيّن به ويردده في الصباح والمساء من خلال الإذاعات أو المناسبات أو المجالس الدينيّة.

يبقى الأهمُّ من ذلك أن يكون التفاعل والاهتمام بالقرآن على مستوى تحقيق الهدف الحقيقي منه، الذي يجسِّد التفاعل والاهتمام الروحي الحقيقيين، ويشمل في الوقت نفسه مختلف المستويات الأُخرى، التي هي بمنزلة المقدّمة أو الطريق للوصول إلى هذا الهدف.

٤٤

القرآن وتشخيص الهدف من نزوله:

قد يكون من الأفضل الرجوع إلى القرآن الكريم نفسه لتشخيص الهدف من نزوله، ومن خلال استعراض الآيات القرآنية التي فسرت نزول القرآن.

وفي مراجعةٍ للقرآن الكريم نجد مجموعةً كبيرة من الآيات والظواهر يمكن أن تلقي الضوء على الهدف من نزول القرآن، ولكنّ هذه الآيات قد تبدو وكأنّها تتحدّث عن أهدافٍ متعدّدة أو مختلفة، وسوف نشير إلى نماذج من هذه الآيات والاحتمالات المتعدّدة لها، ثم نستخلص من خلال المقارنة الهدف الرئيسي المركزي من نزول القرآن:

1 - ورد في القرآن الكريم بصدد تشخيص الهدف أنّه جاء (للإنذار والتذكرة) مثل قوله تعالى:

( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ... ) (1) .

2 - وفي آياتٍ أُخرى جاء القرآن لضرب الأمثال والعِبَر والدروس، مثل قوله تعالى:

( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ... ) (2) .

( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ... ) (3) .

3 - وفي مكانٍ آخر يبدو وكأنّ الهدف من القرآن هو إقامة الحجّة والبرهان والمعجزة، كما في قوله تعالى:

( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ

________________________

(1) الأنعام: 19.

(2) الإسراء: 89.

(3) الزمر: 27.

٤٥

الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا... ) (1) .

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ) (2) .

4 - وفي مواضع أُخرى يبدو القرآن وكأنّه كتاب دستورٍ وشريعة وتفصيل للأحكام:

( ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (3) .

5 - وفي مواضع أُخرى من القرآن الكريم أنّه جاء من أجل الحكم وفصل الخلاف والتفريق بين الحقِّ والباطل:

( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (4) .

6 - كما نجد في مواضع أُخرى أنّ الهدف من القرآن هو تصديق الرسالات السابقة وإمضاؤها وتصحيحها والهيمنة عليها، وبذلك يكون له دورٌ تصحيحي وتكميلي:

( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) (5) .

وبالرّغم من أنّ هذه الأهداف التي أشرنا إليها قد تكون متداخلةً يؤثِّر بعضها

________________________

(1) الأنعام: 155 - 156.

(2) النساء: 174.

(3) النحل: 89.

(4) النحل: 64.

(5) المائدة: 48.

٤٦

بالآخر ويرتبط به في وجهٍ من الوجوه، إلاّ أنّها تبدو متعددةً عندما تُطرح في الآيات الكريمة، ونريد أن نفسِّر الظاهرة القرآنيّة ونسعى إلى تشخيص الهدف الأساس لها؛ بحيث يفهم أنّ القرآن الكريم جاء لتحقيق غايات وأهداف عديدة، تتوزع على آيات القرآن وسوره ومضامينه.

ومن أجل أن نكون أكثر وضوحاً في تحديد محور البحث، لا بُدّ لنا أن نطرح السؤال كالتالي:

ما هو الهدف الأساس الذي سعت الظاهرة القرآنيّة الكريمة إلى تحقيقه من خلال وجودها، بحيث يفسِّر لنا هذا الهدف كلَّ آيةٍ في القرآن الكريم مهما كان مضمونها ومحتواها وصيغتها؟

ومن خلال استعراض الأهداف السابقة، والمقارنة بينها، يمكن أنْ نخرج بنتيجةٍ واضحة للجواب عن السؤال السابق، حيث نلاحظ أنّ القرآن الكريم استهدف من نزوله تحقيق هدف واحد رئيس، له أبعاد ثلاثة، وساهمت بقيّة الأهداف الأُخرى بشكلٍ أو بآخر في تحقيق هذا الهدف الرئيس.

بل أشار القرآن الكريم أحياناً إلى هذه المساهمة والترابط بين هذا الهدف الرئيس وبقية الأهداف، كما سنلاحظ ذلك فيما بعد.

وهذا الهدف الرئيس هو إيجاد التغيير الاجتماعي (الجذري) للإنسانيّة، من خلال رسم (الطريق والمنهج) لهذا التغيير، و(خلق القاعدة الثوريّة) التي تميّزت بهذا المنهج والتزمت وتغيّرت على أساسه.

أبعاد الهدف الرئيس من نزول القرآن:

أ - التغيير الجذري:

(فالبُعد الأوّل) هو (التغيير الجذري) وهو ما يُعبّر عنه بلغة العصر: بالثورة

٤٧

وعبّر عنه القرآن بعمليّة الإخراج من الظلمات إلى النور:

( ... يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ... ) (1)

على أساس قاعدة:

( ... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ... ) (2) .

( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ... ) (3) .

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا البعد في آياتٍ عديدة تضمّنت الهدف الأصلي من القرآن، كما تضمّنت أيضاً الهدف الأصلي من مهمّة النبي (صلّى الله عليه وآله) :

( قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (4) .

( الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (5) .

( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (6) .

ففي هذه الآيات يشير القرآن الكريم إلى أنّ عمليّة التغير الجذري التي يعبّر عنها بعمليّة الخروج من أحد القطبين المتناقضين إلى القطب الآخر (النور والظلمات)، ليست فقط من الأهداف التي يحققها ويتّصف بها، كما في الآية الأولى، بل هي الهدف من أصل نزول القرآن، كما في الآية الثانية والثالثة.

________________________

(1) البقرة: 257.

(2) الرعد: 11.

(3) الأنفال: 53.

(4) المائدة: 15 - 16.

(5) إبراهيم: 1.

(6) الحديد: 9.

٤٨

ويؤكّد هذا ما جاء في القرآن الكريم من وصف الله سبحانه بأنّه: ( نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) الذي يعني أنّ هذا النور هو (الله) سبحانه، فيكون الهدف من القرآن، تغيير هذا الإنسان تغييراً يجعله مرتبطاً بالله تعالى:

( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1) .

وممّا يُلقي الضوء على أنّ عمليّة التغيير الجذري (الإخراج من الظلمات إلى النور) هي الهدف الرئيس، ما أُشير إليه في القرآن الكريم من ربط هذه العمليّة بشكلٍ متضاد ومتعاكس بتوجّهات علاقات الإنسان المؤمن والكافر بالقطبين (الله) و(الطاغوت) في مختلف مجالات حياته وممارساته ونتائج مسيرته:

( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (2) .

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (3) .

كما جاء في القرآن الكريم أنّ الهدف الرئيس الذي وضع على عاتق الرسل هو تحقيق هذا الهدف:

( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ

________________________

(1) النور: 35.

(2) النساء: 76.

(3) الزمر: 17 - 18.

٤٩

عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) (1) .

وإنّما كان الأمر كذلك لأنّ ولاء الله يعني الخروج من الظلمات إلى النور، وولاء الطاغوت هو الخروج من النور إلى الظلمات، و(الصيرورة) إلى الجنة والنار، إنّما تكون على أساس هذا الولاء:

وإنّما كان الأمر كذلك لأنّ ولاء الله يعني الخروج من الظلمات إلى النور، وولاء الطاغوت هو الخروج من النور إلى الظلمات، و(الصيرورة) إلى الجنة والنار، إنّما تكون على أساس هذا الولاء:

( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (2) .

ولعلّ التعبير بالمفرد عن النور، وبالجمع عن الظلمات للإشارة إلى أنّ طريق الله واحد، والطريق إلى الطاغوت يأخذ اشكالاً متعدّدة، لأنّ الله واحدٌ والطاغوت متعدّد.

شموليّة عمليّة التغيير الاجتماعي:

وقد أشار القرآن الكريم إلى الأبعاد الشموليّة لعمليّة التغيير هذه، بحيث يكوّن لنا صورةً عن أعماق الجذور التي تتناولها هذه العملية التغييريّة:

( يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ )

وذلك عندما تحدّث عن مهمّة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) تجاه أهل الكتاب:

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (3) .

________________________

(1) النحل: 36.

(2) البقرة: 257.

(3) الأعراف: 157.

٥٠

وكذلك عندما تحدّث عن مهمّة النبي تجاه (الأُميّين) من الناس:

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (1) .

أولو العزم ومهمّة التغيير الاجتماعي:

ولعلّ هذا البُعد هو الذي يميِّز مهمّة الأنبياء أُولي العزم من الرسل عن غيرهم من أنبياء الرسالات، حيث قد يكون المقصود من تلاوة الآيات: ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ) هذا البُعد من العمليّة التغييريّة.

وقد تكون الآية التي وردت في سورة إبراهيم بشأن موسى (عليه السلام) تشير إلى هذه الحقيقة:

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (2) .

خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّها وردت في سياق قوله تعالى:

( الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (3) .

حيث قد يكون المقصود هو المقارنة بين المهمّة الأصليّة للنبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) من خلال القرآن ومهمّة موسى (عليه السلام) التغييرية.

ب - المنهج الصحيح للتغيير:

وهذا التغيير الجذري بطبيعة الحال يحتاج إلى (منهج صحيح) وطريق مستقيم يمثّل (البُعد الثاني) للهدف، ويتمثّل هذا المنهج بالكتاب والحكمة: ( وَيُعَلِّمُهُمُ

________________________

(1) الجمعة: 2.

(2) إبراهيم: 5.

(3) إبراهيم: 1.

٥١

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) :

(الكتاب) الذي يمثِّل الشريعة والدين و(الحكمة) التي تمثِّل معرفة الحقائق الكونيّة والروحيّة والقوانين والسُنن العامّة التي تتحكّم في الوجود، وفي تأريخ الإنسان وحركته وتطوّر، وتؤثِّر على سعادته وشقائه.

ومن هنا جاء القرآن الكريم ليرسم هذا الطريق، فهو المنهج الشامل الذي يحدِّد العلاقات العامّة في هذا الكون - ويمثِّل الإنسان المحور الرئيس فيه - ويتعرّض لكلِّ مناحي حياة الإنسان ويتناول تفاصيلها، كما أنّه يحدِّد المواقف تجاه كلِّ القضايا، ولا يختصُّ بجماعةٍ من الناس دون أُخرى، بل يتكفّل مسيرة الإنسانيّة، حاضرها ومستقبلها.

( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (1) .

( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ) (2) .

( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (3) .

وهذا المنهج الصحيح هو الذي يعبِّر عنه القرآن الكريم في مواضع عديدة: بالصراط المستقيم، والذي يمثِّل الطريق إلى الكمال الإنساني، وتمام النعمة للبشريّة، ومنتهى طموحاتها وآمالها:

( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) (4) .

________________________

(1) الإسراء: 9.

(2) الإسراء: 82.

(3) النحل: 89.

(4) الفاتحة: 6 - 7.

٥٢

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1) .

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2) .

ج - خلق القاعدة الثوريّة:

إنّ عمليّة التغيير الاجتماعي الجذري تحتاج أيضاً - بطبيعة الحال - إلى خلق (القاعدة الثوريّة) التي تمثِّل (البُعد الثاث) للهدف، ولعلّ هذا هو المراد بما أُشير إليه في عدة آيات من القرآن الكريم بالتزكية (ويزكيهم).

ولذلك سعى القرآن الكريم إلى خلق هذه القاعدة الثوريّة، وأعطى ذلك أهميّةً خاصّةً، واهتمّ بمعالجة القضايا الآنيّة والمستجدّة التي يعيشها الرسول بشكلٍ خاص، وتابع الأحداث التي كانت تواجه الرسالة، واتخذ المواقف تجاهها ليحقق هذا الهدف العظيم.

ومن الواضح أنّ خلق هذه القاعدة وتكوينها في الوقت الذي يمثِّل مهمّةً صعبة وبالغة التعقيد، كذلك يمثِّل دوراً ذا أهميّة في مستقبل الرسالة وقدرتها على البقاء والاستمرار، إضافةً إلى قدرتها على الشمول والانتشار.

فإضافة إلى البُعد الكيفي في عمليّة التغيير التي استهدفها القرآن، كان هناك بعد كمّي في الهدف يتوخّى بشكلٍ خاص أن يقوم النبيُّ ببناء القاعدة للرسالة بحيث يمكن لهذه الرسالة بعد ذلك - أي بعد وفاة الرسول وانقطاع الوحي - أن تستمر وتنتشر من خلال هذه القاعدة، التي أولاها القرآن الكريم أهميّةً خاصّة، وأعطاها قسطاً كبيراً وحظّاً وافراً، كما نلاحظ ذلك في مجمل الآيات التي تناولت الأحداث

________________________

(1) الأنعام: 161.

(2) النحل: 120 - 121.

٥٣

في عصر الرسالة وتفصيلاتها، وكذلك بعض التقاليد والعادات والقوانين، إضافةً إلى عنصر اللُّغة وأساليبها في القرآن.

فهناك توجّهٌ خاصٌّ في القرآن الكريم إلى سُكّان الجزيرة العربيّة:

( ... أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا... ) (1) من أجل أن يخلق منهم القاعدة الثوريّة للانطلاق بالرسالة.

وهذا التوجّه الخاص ليس على أساس وجود الامتياز لأبناء الجزيرة على غيرهم من البشر، وإنّما هو على أساس تحقيق الهدف الكمّي (المرحلي) للرسالة الإسلامية؛ باعتبارهم مجال عمل النبي والجماعة التي بدأت الرسالة فيها (2) :

( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) (3) .

( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) (4) .

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) (5) .

وفي مجالٍ آخر يؤكِّد القرآن استمرار مسيرة التغيير نحو الأصلح، ووراثة عباد الله الصالحين للأرض:

________________________

(1) الأنعام: 92.

(2) لتفسير نزول القرآن في هذه المنطقة دون غيرها بحثٌ آخر تناولناه في محاضراتنا القرآنيّة حول البعثة، كما أشرنا إلى ذلك في نزول القرآن باللُّغة العربيّة.

(3) الأنعام: 92.

(4) الشورى: 7.

(5) الجمعة: 2.

٥٤

( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1) .

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (2) .

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) .

ولكنّ هذه المسيرة التأريخيّة للإنسان لا تتقيّد أو ترتبط بجماعةٍ معينّةٍ من الناس أو أحدٍ من البشر:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ... ) (4) .

( ... وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) (5) .

ومن المحتمل جداً أنّ أحد خلفيّات تأكيد مجموعة من القضايا والمفردات في القرآن الكريم هو قضيّة هذا التوجّه الخاص لأبناء الجزيرة والاهتمام بهم، ويمكن أن نلاحظ ذلك في قضيّة تأكيد إبراهيم (عليه السلام)، وكذلك تأكيد (الوحي) ومعالجته بشكلٍ خاص، وتأكيد رفض الأصنام، وكذلك قضيّة اللُّغة العربيّة والأُسلوب في القرآن أهميّة خاصّة كما نشاهده في السور القصار، إلى غير ذلك من المفردات والقضايا.

وفي ضوء هذا التفسير للهدف القرآني الرئيس، يمكن أن نفهم دور الأهداف الأُخرى التي استعرضناها في تحقيق هذا الهدف، إضافةً إلى موقعها الأصلي من

________________________

(1) المجادلة: 21.

(2) المؤمن: 51.

(3) الأنبياء: 105.

(4) المائدة: 54.

(5) محمّد: 38.

٥٥

الهدف الرئيس، فضلاً عن أن يكون كلّ واحدٍ منها هو الهدف الرئيس.

1 - فالإنذار والتذكير اللّذان ورد في القرآن ذكرهما كهدفٍ لنزوله، كما في بعض الآيات التي استعرضناها، كذلك ورد ذكرهما كمهمّةٍ يتولاّها الأنبياء في عملهم، هذا الإنذار يمثِّل جزءاً من مهمّة الأنبياء، وجانباً من الهدف القرآني والأُسلوب الرئيس لتحقيق عملية التغيير الاجتماعي.

ويتّضح ذلك عندما نلاحظ (الإنذار) مذكوراً إلى جانب قضايا أُخرى يتكفّلها القرآن والنبي:

( ... قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

فالموعظة إلى جانب الشفاء والهدى والرحمة.

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ... ) (2) .

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانب تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال.

كما أنّ الإنذار يقترن في كثيرٍ من الآيات بالبشارة:

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (3) .

________________________

(1) يونس: 57.

(2) الأعراف: 157.

(3) البقرة: 213.

٥٦

ولعلّ هذه الآية الكريمة تلقي الضوء بشكلٍ واضح على دور الإنذار في القرآن وعمل النبيّين، وأنّ الإنذار مهمّة يقوم بها النبيّ إلى جانب الكتاب الذي يحكم بالحق، ويحل الاختلافات، ويهدي إلى المنهج والصراط المستقيم.

وإذا عرفنا أنّ المعادلة الأصليّة للدين تتوقّف على قضيّة (الإنذار) بالعقاب و(البشارة) بالثواب في الدار الآخرة، عرفنا السبب في تأكيد القرآن الإنذار هدفاً لنزوله ومهمّةً للأنبياء، ذلك أنّ صورة الحياة ومقاييسها التي يعتمدها الدين في القسط والميزان ترتبط بشكلٍ رئيس بقضيّة الحياة الآخرة والبشارة بالثواب والإنذار بالعذاب فيها.

وإقامة الحجّة على الناس تجاه القضايا التي يطرحها الدين والنبي تدخل كعنصرٍ أساسي في هذه المعادلة، ولذا أكّد القرآن هذا المفهوم.

كما أنّ تأكيد مهمّة النبي هي (الإنذار) أو (البلوغ) أو (إقامة الحجّة)، وحده يمكن أن يكون لمعالجةٍ نفسيّة للنبيّ الذي قد يتصوّر أنّ تحقيق التغيير - الخارجي - من مسؤوليّته، بحيث عندما لا يتحقّق هذا التغيير في الخارج يكون النبيُّ أمام موقفٍ حَرِجٍ عند الله، بالرّغم من بذله لكلِّ ما في طاقته من الجهد لتحقيقه؛ ولذا جاء تأكيد القرآن:

أنّ مهمّة النبيّ والرسول تنتهي عند تحقيق الإنذار والبلاغ الأفضل:

( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ) (1) .

وحينئذٍ يحدّد القرآن المسؤولية بـ (الإنذار)؛ وهناك فرقٌ بين المسؤولية وبين المهمّة والهدف الذي يتولاّه النبي، فالنبيُّ عليه أن يبذل كلَّ طاقته، وهو مسؤولٌ عن الإنذار وإقامة الحجّة.

________________________

(1) الشعراء: 3 - 4.

٥٧

وأمّا التغيير فهو وإن كان هدفاً له ومن المهمّات التي يسعى إليها، ولكنّه ليس مسؤولاً عن النتائج الخارجيّة له وعن تحقيق الهداية، وإنّما عليه أن ينجز (المقدّمات الأساسيّة لها) وهما الإنذار والبلاغ:

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ... ) (1) .

كما أنّ تأكيد قضيّة الإنذار أحياناً، لتوضيح أنّ النبيَّ ليس له طمعٌ في السلطان والجاه والأجر المادي، وإنّما يريد القيام بواجبه وبمسؤوليّته وهي الإنذار:

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ* فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (2) .

2 - وضرب الأمثال في القرآن إنّما جاء من أجل الإنذار والتذكير، كما أشارت إلى ذلك بعض الآيات:

( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (3) .

3 - وعندما يكون القرآن حجّةً وبرهاناً ومعجزة، فهو يساهم في عمليّة الإنذار والهداية، ولذلك نجد أنّ البرهان يقترن بالهداية والنور والصراط المستقيم في القرآن نفسه:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (4) .

________________________

(1) القصص: 56.

(2) يونس: 71 - 72.

(3) الزمر: 27.

(4) النساء: 174 - 175.

٥٨

4 - وتفصيل الأحكام يمثِّل المنهج الذي تعتمد عليه عمليّة التغيير بصورةٍ أساسيّة - كما أشرنا إلى ذلك - ولذا يقترن تبيان كلِّ شيءٍ بالهداية والرحمة في القرآن، الهداية التي تمثِّل المنهج والصراط المستقيم:

( ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1) .

5 - وهكذا هدف الفصل وحسم الخلاف والتفريق بين الحقِّ والباطل، حيث إنّ هذا جزء من المنهج العام والهدى والنور (2) .

6 - (وتصديق) الرسالات وتكميلها الذي أُشير إليه في بعض الآيات هدفاً للقرآن، لا يعني أنّ التغيير ليس (جذريّاً) في المجتمع؛ لأنّ الانحراف الاجتماعي قد يصل إلى مستوىً بحيث يكون المجتمع بعيداً عن منظور الرسالات السابقة وتأثيرها فضلاً عن الرسالة الجديدة، وهذا ما يؤكِّده القرآن الكريم في مناسباتٍ عديدة، خصوصاً عند مناقشته لأهل الكتاب وتعصّبهم وانحرافهم وشرائهم بآيات الله ثمناً قليلاً.

فالقرآن في الوقت الذي يكمّل الرسالات السابقة ويصدّقها ويهيمن عليها في عملية الإصلاح والكمال، يقوم أيضاً بعملٍ (جذري) تجاه المجتمع الذي ابتعد (عمليّاً) عن منظور تلك الرسالات ومفاهيمها، ويبيّن تلك الرسالات التي تعرّضت للتحريف على مستوى (النظرية) والأفكار والمفاهيم، إضافةً إلى بُعد المجتمع عنها على مستوى الواقع العملي، أي على مستوى (النظريّة) و(التطبيق) معاً.

وتُصبح عمليّة التصديق للرسالات والهيمنة عليها جزءاً من الهدى والصراط المستقيم، الذي يمثِّل عمل كلِّ الأنبياء والرسُل.

كما أشرنا إلى ذلك في الهدف الأساس للقرآن الكريم:

________________________

(1) النحل: 89.

(2) كما ورد في سورة البقرة: 213.

٥٩

( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1) .

وبهذا نجد أنّ كلَّ الأهداف الأُخرى على أهمّيّتها، إنّما هي أهداف فرعيّة بالنسبة إلى الهدف الأساس، وهي تساهم في تحقيقه إلى حدٍّ بعيد، وهذا ما حصل بالفعل في تأريخ القرآن.

القرآن الكريم يحقّق الهدف من نزوله (*) :

عندما نراجع مسيرة القرآن الكري في عصر النبوّة، نجد أنّه استطاع أنْ يحقِّق هذا الهدف التغييري بكلِّ أبعاده الثلاثة، حيث تمكّن أن يوجد الأُمّة الإسلامية التي هي خير أُمّةٍ أُخرجت للناس والتي حملت أعباء الرسالة إلى العالم أجمع.

أبعاد التغيير في مجتمع الجزيرة العربيّة:

ويمكن أن نلاحظ أبعاد التغيير الذي أحدثه القرآن الكريم في مجتمع الجزيرة العربيّة لنعرف هذه الحقيقة القرآنيّة، وذلك من خلال مراجعة الأبعاد الثلاثة التالية:

أ - تحرير القرآن للإنسان من الوثنيّة:

كان العرب - الذين نزل القرآن الكريم على النبي (صلى الله عليه وآله) في حوزتهم - يعتقدون في الله أنّه خالق، مدبر للعالم:

( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... ) (2)

ولكنّهم افترضوا - لضعف تفكيرهم، وبُعد عهدهم من النبوّة والأنبياء - وجود وسطاء

________________________

(1) الأنعام: 161.

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدِّس سرّه).

(2) الزخرف: 87.

٦٠