علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207068
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207068 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وهميّين بينهم وبين الله تعالى، وزعموا لهؤلاء الوسطاء الذين تخيلوهم قدرة على النفع والضر، فجسدوهم في أصنام من الحجارة، وأشركوا هذه الأصنام مع الله في العبادة، والدعاء حتى تطورت فكرة الوساطة في أذهانهم إلى الاعتقاد بإلوهية الوسطاء، ومشاركة تلك الأصنام لله في تدبير الكون:

( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ... ) (1) .

وكادت تمحى بعد ذلك فكرة التمييز بين الوسطاء والله تعالى، وسادت الوثنية بأبشع أشكالها، وانغمس العرب في الشرك وعبادة الأصنام، وتأليهها، فكان لكل قبيلة أو مدينة صنم خاص، بل كان لكل بيت صنم خصوصي، فقد قال الكلبي:

(كان لأهل كل دار من مكّة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسّح به، وإذا قدم من سفر كان أوّل ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسّح به أيضاً) (2) ، وقد كان في جوف الكعبة وفي فنائها ثلاثمائة وستّون صنماً.

وأدّى الأمر بالعرب إلى تقديس الحجارة بصورةٍ عامّة، وإسباغ الطابع الإلهي عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال:

(كنّا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو خير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثمّ جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثمّ طفنا به) (3) .

وقال الكلبي:

(كان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربّاً

________________________

(1) الزمر: 3.

(2) الأصنام للكلبي: 33.

(3) صحيح البخاري 5: 216.

٦١

وجعل ثلاث أثافي لقدره وإذا ارتحل تركه) (1) .

ولم يقتصر العرب على عبادة الأحجار، بل كان لهم آلهة شتّى، من الملائكة والجن والكواكب، فكانوا يعتقدون أنّ الملائكة بنات الله، واتخذوا من الجن شركاء له وآمنوا بقدرتهم وعبدوهم:

( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ) (2) .

ويروى عن حمير عبادة الشمس، وعن كنانة عبادة القمر، وعن لخم وجذام عبادة المشتري، وعن أسد عبادة عطارد، وعن طي عبادة سهيل (3) .

وكان في العرب يهود ونصارى إلى جانب تلك الكثرة من المشركين، ولكن اليهودية والنصرانية لم يكن بإمكانها أنْ تصنع شيئاً بعد أن منيت هي نفسها بالتحريف والزيغ، وأصبحت مجرد شعارات وطقوس، وبعد أن امتزجت المسيحية العالمية بوثنية الرومان، وأضحت لوناً من ألوان الشرك؛ فلم تكن النصرانية أو اليهودية في بلاد العرب الا نسختين من اليهودية في الشام، والنصرانية في بلاد الروم والشام، تحملان كل ما منيت بها هاتان الديانتان من نكسات وزيف.

وهذه الصورة العامة عن الوثنية والشرك في بلاد العرب، تكفي لكي نتصور ما بلغه الإنسان الجاهلي من ضعة، وميوعة، وتنازل عن الكرامة الإنسانية، حتى أصبح يدين بعبادة الحجر، ويربط وجوده وكل آماله وآلامه بكومة من تراب.

________________________

(1) الأصنام: 33.

(2) سبأ: 40 - 41.

(3) الأصنام: 22 للكلبي.

٦٢

وما من ريب في أنّ عبادة الأصنام، والإحساس بالعبودية والذلّة بين يديها، والسجود أمامها، كلّ ذلك يترك في النفس من الآثار الروحيّة والفكرية ما يفقد الإنسان كرامته، ويجمّد فيه طاقاته المتنوعة، ويجعله أقرب للخضوع والخنوع والاستسلام، لكلّ قوّة أو قوى ما دام يستسلم لأخس الكائنات وأتفهها.

ولم يكن وضع العقيدة والعبادة، في سائر أرجاء العالم أحسن حالاً منه في بلاد العرب، لأنّ الوثنيّة بمختلف أشكالها كانت هي المسيطرة، إمّا بصورةٍ صريحة، كما في الهند والصين وإيران، أو بصورة مبطّنة، كما في أوروبّا المسيحية التي تسلّلت فيها وثنية الرومان إلى النصرانية وشوّهت معالمها.

والعبادة للأصنام، أو للملوك، ولأرباب الأديان، كانت في كلّ مكان، فلا تجد إلاّ إنساناً يعبد نظيره أو ما هو أخس منه من الكائنات، أو إنساناً يزعم لنفسه العبادة والحقّ الإلهي في الطاعة والسيادة.

في هذا الجو الوثني المسعور، جاء القرآن الكريم ليرتفع بالإنسان من الحضيض الذي هوى إليه، ويحرّره من أسر الوثنيّة ومهانتها، ومختلف العبوديات المزيّفة التي مُني بها، ويركّز بدلاً منها فكرة العبودية المخلصة لله وحده لا شريك له، ويعيد للإنسان إيمانه بكرامته وربّه.

فانظروا إلى هذه النصوص القرآنية التالية، لتجدوا كيف يؤكّد القرآن فكرة العبادة لله وحده، ويهيب بالإنسان إلى التحرّر من كلّ عبادةٍ سواها:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ* مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (1) .

( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ

________________________

(1) الحج: 73 - 74.

٦٣

شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ... ) (1) .

( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2) .

وقد استطاع القرآن أن ينتصر على الوثنيّة وألوانها المختلفة، ويصنع من المشركين أُمّةً موحّدة تؤمن بالله، لا إيماناً نظريّاً فحسب بل إيماناً يجري مع دمائها وينعكس في كلّ جوانب حياتها.

وقد كان لهذا الإيمان الذي زرعه القرآن في النفوس، مثل فعل السحر؛ فما يدخل في قلب الإنسان إلاّ حوّله إنساناً آخر، في مشاعره وعواطفه وقوّة نفسه، وعظمة أهدافه، وإحساسه بكرامته؛ وفي المثالين التاليين نستطيع أن نتبيّن ذلك بوضوح.

1 - عن أبي موسى قال: (انتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن يساره والقسّيسون جلوس سماطين وقد قال له عمرو وعمارة: إنّهم لا يسجدون لك، فلمّا انتهينا، بدرنا من عنده من القسّيسين والرهبان: اسجدوا للملك، فقال جعفر: لا نسجد إلاّ لله عزّ وجلّ) (3) .

2 - أرسل سعد قبل القادسيّة ربعي بن عامر رسولاً إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وقد جلس على سريرٍ من ذهب وعليه تاجه المزيّن باليواقيت واللآلئ الثمينة، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتّى داس بها على طرف البساط، ثمّ نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه

________________________

(1) آل عمران: 64.

(2) التوبة: 31.

(3) البداية والنهاية 3: 89.

٦٤

وبيضته على رأسه.

فقالوا له: ضع سلاحك

فقال: إن تركتموني هكذا وإلاّ رجعت، فقال رستم: ائذنوا له.

فأقبل يتوكّأ على رمحه، فقال له: ما جاء بكم

فقال: الله أبتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام (1) .

هكذا استطاع القرآن عن طريق زرع الإيمان بالله، وتربية المسلمين على التوحيد، والشعور بالعبودية لله وحده، استطاع عن هذا الطريق أن يجعل من أُولئك الذين كانوا يخضعون للحجارة، ويدينون بسيادتها أُمّة موحّدة لا تخضع إلاّ لله، ولا تتذلّل لقوّةٍ على وجه الأرض ولا تستكين لجبروت الملك وعظمة الدنيا، ولو في أحرج اللحظات وتمتد بأهدافها نحو تغيير العالم، وهداية شعوب الأرض إلى التوحيد والإسلام، وإنقاذها من أسر الوثنيّة، ومختلف العبوديات للآلهة المزيّفة والأرباب المصطنعة.

ب - تحرير القرآن للعقول:

كانت الأساطير والخرافات شائعةً بين العرب، نظراً لانخفاض مستواهم الفكري، وأُمّيّتهم بصورةٍ عامّة، فكانوا يعتقدون - مثلاً - أنّ نفس الإنسان طائر ينبسط في جسم الإنسان، فإذا ما مات أو قتل يكبر هذا الطائر حتّى يصير في حجم البوم، ويبقى أبداً يصرخ ويتوحّش ويسكن في الديار المعطّلة والمقابر ويسمونه إلهام.

كما كانوا يعتقدون بالغِيلان ويؤمنون بأساطيرها، ويزعمون أنّ الغول يتغوّل لهم في الخلوات، ويظهر لخواصّهم في أنواع من الصور، فيخاطبونها وربما ضيّفوها، وكانت لهم أبيات من الرجز يتناقلون حفظها، ويعتقدون أنّ فائدتها هي طرد الغِيلان إذا اعترضتهم في طريقهم وأسفارهم، إلى غير ذلك من العقائد الخرافية التي كانوا يؤمنون بها.

________________________

(1) البداية والنهاية 7 : 46.

٦٥

وقد جاء القرآن الكريم برسالة الإسلام، فحارب تلك العقائد والخرافات، ومحا تلك الأوهام عن طريق تنوير عقول العرب والدعوة إلى التفكير الأصيل، والتدبّر والاعتماد على العقل، والمطالبة برفض التقليد، وعدم الجمود على تراث السلف، بدون تمحيص أو تحقيق؛ قال الله تعالى:

( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) (1) .

وقد أدّت هذه الدعوة من القرآن إلى تعريض كلّ الأفكار السابقة والموروثة إلى الامتحان من جديد في ضوء المنطق، والعقل، وعلى هدى الإسلام، فأسفر ذلك عن اضمحلال تلك الخرافات، وزوال تلك العقائد الجاهلية، وتحرّر العقول من قيودها، وانطلاقها في طريق التفكير السليم.

وقد حثّ القرآن بصورةٍ خاصّة على التفكير في الكون، والتأمّل في أسراره، واكتشاف آيات الله المنتشرة فيه، ووجّه الإنسان هذه الوجهة الصالحة بدلاً من التشاغل بخرافات الماضين وأساطيرهم:

( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (2) .

( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (3) .

( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (4) .

________________________

(1) البقرة: 170.

(2) يونس: 101.

(3) العنكبوت: 20.

(4) الحج: 46.

٦٦

( أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (1) .

ولم يكتف القرآن بالحث على دراسة الكون وما فيه من أسرار، بل ربط ذلك بالإيمان بالله وأعلن أنّ العلم هو خير دليلٍ للإيمان بالله وأنّ الإيمان يتأكّد كلّما ازداد اكتشاف الإنسان وتقدّم في ميادين العلم؛ لأنّه يطّلع على عظيم آيات الله، وحكيم صنعه وتدبيره، قال الله تعالى:

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (2) .

وبذلك أعطى القرآن مفهوم مواكبة الإيمان للعلم، وأنّ العقيدة بالله تتمشّى مع العلم على خطٍّ واحد، وأنّ اكتشاف الأسباب والقوانين في هذا الكون يعزِّز هذه العقيدة بأنّه يكشف عن عظيم حكمة الصانع وتدبيره.

وعلى أساس هذا الموقف القرآني، وما رفضه من التقليد، وما شجّع عليه من التفكير والتدبّر كانت الأُمّة التي صنعها الكتاب الكريم مصدر العلم والثقافة في العالم، بدلاً من خرافات البوم والغِيلان، حتّى اعترف المؤرّخون الأوربيّون بهذه الحقيقة أيضاً؛

فقال الدوري الوزير والمؤرِّخ الفرنسي:

(إنّ النبي جمع قبائل العرب أُمّة واحدة رفعت أعلام التمدّن في أقطار الأرض، وكانوا في القرون المتوسّطة مختصّين بالعلوم، من بين سائر الأُمم، وانقشعت بسببهم سحائب البربريّة التي امتدّت على أُوربّا).

ج - تحرير القرآن للإنسان من عبوديّة الشهوة:

كما حرّر القرآن عقيدة الإنسان من الوثنيّة وعقله من الخرافة كذلك حرّر إرادته من سيطرة الشهوة، فصار الإنسان المسلم - نتيجة لتربية القرآن له - قادراً

________________________

(1) الغاشية: 17 - 20.

(2) فُصّلت: 53.

٦٧

على مقاومة شهواته وضبطها والصمود في وجه الإغراء وألوان الهوى المتنوعة؛ وفيما يلي نموذج قرآني من نماذج تغذية هذا الصمود وتركيزه في نفوس المسلمين:

قال الله تعالى:

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ) (1) .

بذا وغيره من نماذج التربية والترويض، استطاع القرآن والإسلام أن يحرّرا الإنسان من العبودية لشهواته الداخلية التي تختلج في نفسه، لتُصبح الشهوة أداة تنبيهٍ للإنسان إلى ما يشتهيه، لا قوّة دافعة تسخِّر إرادة الإنسان دون أن يملك بإزائها حولاً أو طولاً؛ وقد أطلق الرسول الأعظم(صلّى الله عليه وآله) على عمليّة تحرير الإنسان هذه من شهواته الداخلية اسم: (الجهاد الأكبر .

وإذا لاحظنا قصّة تحريم الخمر في الإسلام، استطعنا أن ندرك - من خلال هذا المثال - مدى نجاح القرآن في تحرير الإنسان المسلم من أسر الشهوة، وتنمية إرادته وصموده ضدها؛ فقد كان العرب في الجاهلية مولعين بشرب الخمر، معتادين عليها، حتّى أصبح ضرورةً من ضرورات الحياة بحكم العادة والأُلفة، وشغلت الخمر جانباً كبيراً من شعرهم وتأريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكانت حوانيت الخمّارين مفتوحةً دائماً ترفرف عليها الاعلام، وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر.

في مثل هذا الشعب المغرم بالخمر نزل القرآن الكريم بقوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (2) .

________________________

(1) آل عمران: 14 - 15.

(2) المائدة: 90.

٦٨

فما قال القرآن ( اجْتَنِبُوهُ ) إلاّ وانطلق المسلمون إلى زقاق خمورهم يشقّونها بالمدى والسكاكين يريقون ما فيها، يفتّشون في بيوتهم لعلّهم يجدون بقيّةً من خمرٍ فاتهم أن يريقوها، وتحوّلت الأُمّة القرآنية في لحظة إلى أُمّةٍ تحارب الخمر وتترفّع عن استعماله، كلّ ذلك حدث لأنّ الأُمّة كانت مالكةً لإرادتها، (حرّة) في مقابل شهواتها، قادرة على الصمود أمام دوافعها الحيوانية، وأن تقول بكلّ صرامة وجدٍّ حين يدعو الموقف إلى ذلك.

وبكلمةٍ مختصرة: كانت تتمتّع (بحريّة (حقيقيّة) تسمح لها بالتحكّم في سلوكها).

وفي مقابل تلك التجربة الناجحة التي مارسها القرآن الكريم لتحريم الخمر، نجد أنّ أرقى شعوب العالم الغربي مدنيّةً وثقافةً في هذا العصر فشل في تجربة مماثلة؛ فقد حاولت الولايات المتحدة الأميركيّة في القرن العشرين أن تخلِّص شعبها من مضار الخمر فشرّعت في سنة (1920) قانوناً لتحريم الخمر، ومهّدت لهذا القانون بدعاية واسعة عن طريق السينما والتمثيل والإذاعة ونشر الكتب والرسائل، وكلّها تبيِّن مضار الخمر، مدعومة بالإحصائيّات الدقيقة والدراسات الطبيّة.

وقد قُدّر ما أُنفق على هذه الدعاية (65) مليوناً من الدولارات، وسُوّدت تسعة آلاف مليون صفحة في بيان مضار الخمر والزجر عنها، ودلّت الإحصائيّات للمدّة الواقعة بين تأريخ تشريعه وبين تشرين الأوّل (1933) أنّه قُتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نسمة، وحُبس نصف مليون نسمة، وغُرّم المخالفون له غرامات تبلغ مليوناً ونصف المليون من الدولارات، وصُودرت أموال بسبب مخالفته تُقدّر بأربعمائة مليون دولار، وأخيراً اضطرّت الحكومة الأميركيّة إلى إلغاء قانون التحريم في أواخر سنة (1933)، وفشلت التجربة.

والسبب في ذلك: أنّ الحضارات الغربية بالرغم من مناداتها بالحريّة لم تستطع بل لم تحاول أن تمنح الإنسان الغربي (الحريّة الحقيقية) التي حقّقها القرآن الكريم

٦٩

للإنسان المسلم، وهي حرّيّته في مقابل شهواته وامتلاكه لإرادته أمام دوافعه الحيوانية، فقد ظنّت الحضارات الغربية أنّ (الحرّيّة) هي أن يُقال للإنسان:

اسلك كما تشاء وتصرّف كما تريد، وتركت لأجل ذلك معركة التحرير الداخلي للإنسان من سيطرة تلك الشهوات والدوافع، فظلّ الإنسان الغربي أسير شهواته عاجزاً عن امتلاك إرادته والتغلُّب على نزعاته، بالرّغم من كلِّ ما وصل إليه من علمٍ وثقافةٍ ومدنيّة.

٧٠

المكّي والمدني *

ينقسم البحث حول المكّي والمدني من القرآن إلى عدّة بحوثٍ نشير إلى بحثين منها:

الاتجاهات في معنى المكّي والمدني:

يُقسّم القرآن في عرف علماء التفسير إلى مكّي ومدني، فبعض آياته مكّيّة وبعض آياته مدنيّة.

وتوجد في التفسير اتجاهات عديدة لتفسير هذا المصطلح:

أحدها:

الاتجاه السائد وهو تفسيره على أساس الترتيب الزماني للآيات، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة)، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة.

والاتجاه الآخر:

هو الأخذ بالناحية المكانيّة مقياساً للتمييز بين المكّي والمدني، فكلّ آيةٍ يُلاحظ مكان نزولها، فإن كان النبي (صلّى الله عليه وآله) حين نزولها في مكّة سُمّيت مكّيّة، وإن كان حينذاك في المدينة سُمّيت مدنيّة.

والاتجاه الثالث:

يقوم على أساس مراعاة أشخاص المخاطبين، فهو يعتبر أنّ المكّي ما وقع خطاباً لأهل مكّة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة.

________________________

(*) كتبه الشهيد الصدر (قُدّس سرّه).

٧١

ويمتاز الاتجاه الأوّل عن الاتجاهين الأخيرين بشمول المكّي والمدني على أساس الاتجاه الأوّل لجميع آيات القرآن، لأنّنا إذا أخذنا بالناحية الزمنيّة كانت كلّ آيةٍ في القرآن إمّا مكّيّة وإمّا مدنيّة، لأنّها إذا كانت نازلة قبل هجرة النبي إلى المدينة ودخوله فيها فهي مكيّة، وإن نزلت على النبي في طريقه من مكّة إلى المدينة، أو كانت نازلةً بعد دخول النبي مهاجراً إلى المدينة فهي مدنيّة، مهما كان مكان نزولها.

وأمّا على الاتجاهين الأخيرين في تفسير المصطلح فقد نجد آيةً ليست مكّيّة ولا مدنيّة، كما إذا كان موضع نزولها مكاناً ثالثاً لا مكّة ولا المدينة ولم يكن خطابها لأهل مكّة أو أهل المدينة، نظير الآيات التي نزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) في معراجه أو إسرائه.

ترجيح أحد الاتجاهات الثلاثة:

وإذا أردنا أن نقارن بين هذه الاتجاهات الثلاثة لنختار واحداً منها، فيجب أن نطرح منذ البدء الاتجاه الثالث؛ لأنّه يقوم على (أساسٍ خاطئ) وهو الاعتقاد أنّ من الآيات ما يكون خطاباً لأهل مكّة خاصّةً، ومنها ما يكون خطاباً لأهل المدينة؛ وليس هذا بصحيح، فإنّ الخطابات القرآنية عامةً وانطباقها حين نزولها على أهل مكّة أو على أهل المدينة لا يعني كونها خطاباً لهم خاصّة أو اختصاص ما تشتمل عليه من توجيه، أو نصح، أو حكم شرعي بهم، بل هي عامّة ما دام اللفظ فيها عامّاً كما عرفنا.

والواقع أنّ لفظ المكّي والمدني ليس لفظاً شرعيّاً حدّد النبي مفهومه لكي نحاول اكتشاف ذلك المفهوم، وإنّما هو مجرد اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير؛ وما من ريب في أنّ كلّ أحدٍ له الحق في أن يصطلح كما يشاء، لا نريد هنا أن نخطئ الاتجاه الأوّل أو الاتجاه الثاني ما دام لا يعبِّر كلّ منهما إلاّ عن اصطلاح، من حق أصحاب

٧٢

ذلك الاتجاه أن يضعوه، ولكنّا نرى أنّ وضع مصطلح المكّي والمدني على أساس الترتيب الزمني - كما يقرّره الاتجاه الأوّل - أنفع وأفيد للدراسات القرآنية؛ لأنّ التمييز من ناحية زمنيّة بين ما أُنزل من القرآن قبل الهجرة وما أُنزل بعدها، أكثر أهميّة للبحوث القرآنية من التمييز على أساس المكان بين ما أنزل على النبي في مكّة وما أُنزل عليه في المدينة، فكان جعل الزمن أساساً للتمييز بين المكّي والمدني، واستخدام هذا المصطلح لتحديد الناحية الزمنية، أوفق بالهدف.

وتتجلّى أهميّة التمييز الزمني من التمييز المكاني في نقطتين:

إحداهما: (فقهيّة) أي أنّها ترتبط بعلم الفقه ومعرفة الأحكام الشرعيّة، وهي أنّ تقسيم الآيات على أساس الزمن إلى مكّيّة ومدنيّة وتحديد ما نزل قبل الهجرة، وما نزل بعدها، يساعدنا على معرفة الناسخ والمنسوخ، لأنّ الناسخ متأخّر بطبيعته على المنسوخ زماناً، فإذا وجدنا حكمين ينسخ أحدهما الآخر، استطعنا أن نعرف الناسخ عن طريق التوقيت الزمني، فيكون المدني منهما ناسخاً للمكّي لأجل تأخّره عنه زماناً (1) .

والأُخرى هي: أنّ التقسيم الزمني للآيات إلى مكّيّة ومدنيّة يجعلنا نتعرّف على مراحل الدعوة التي مرّ بها الإسلام على يد النبي، فإنّ الهجرة المباركة ليست مجرّد حادثٍ عابر في حياة الدعوة، وإنّما هي حدٌّ فاصل بين مرحلتين من عمر الدعوة.

________________________

(1) هذه النقطة إنّما تكون مهمّة بناءً على المذهب المعروف في علوم القرآن الذي يقول بوجود النسخ بين الآيات القرآنية، من خلال افتراض وجود حكمين متخالفين أحدهما متأخر عن الآخر زماناً فيفترض أنّ الثاني ناسخ للأوّل؛ وأمّا إذا التزمنا بعدم وجود النسخ بهذا الشكل وإنّما موارد النسخ في القرآن مبيّنة من خلال نظر الآية الناسخة للآية المنسوخة في مضمونها... ، فلا تبقى قيمة لهذه النقطة وإنّما تكون مجرّد فرضيّة، وللمزيد من التوضيح يراجع بحث (النسخ)، المؤلِّف.

٧٣

وهما مرحلة العمل في ضمن المجتمع الذي تحكمه السلطة الكافرة المهيمنة على جميع الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، ومرحلة العمل ضمن دولة الإسلام، ولئن كان بالإمكان تقسيم كلٍّ من هاتين المرحلتين بدورهما - أيضاً - إلى مقاطع زمنيّة، فمن الواضح على أيّ حال أنّ التقسيم الرئيس هو على أساس الهجرة.

فإذا ميّزنا بين الآيات النازلة قبل الهجرة وما نزل منها بعد الهجرة، استطعنا أن نواكب تطوّرات الدعوة والخصائص العامّة التي تجلّت فيها خلال كل من المرحلتين.

وأمّا مجرّد أخذ مكان النزول بعين الاعتبار، وإهمال عامل الزمن، فهو لا يمدّنا بفكرةٍ مفصلّة عن هاتين المرحلتين، ويجعلنا نخلط بينهما، كما يحرمنا من تمييز الناسخ عن المنسوخ من الناحية الفقهية.

وسوف يتّضح أيضاً مزيد من الأهميّة عند دراستنا لخصائص المكّي والمدني؛ فلهذا كلِّه نؤثر الاتجاه الأوّل في تفسير المكّي والمدني، وعلى هذا الأساس سوف نستعمل هذين المصطلحين.

طريقة معرفة المكّي والمدني:

بدأ المفسِّرون عند محاولة التمييز بين المكّي والمدني بالاعتماد على الروايات والنصوص التأريخية، التي تؤرِّخ السورة أو الآية، وتُشير إلى نزولها قبل الهجرة أو بعدها، وعن طريق تلك الروايات والنصوص التي تتبّعها المفسّرون واستوعبوها استطاعوا أن يعرفوا عدداً كبيراً من السور والآيات المكّيّة والمدنيّة ويميّزوا بينها.

وبعد أن توفّرت لهم المعرفة بذلك، اتّجه كثيرٌ من المفسّرين الذين عنوا بمعرفة المكّي والمدني إلى دراسةٍ مقارنةٍ لتلك الآيات والسور المكّيّة والمدنيّة التي اكتشفوا

٧٤

تأريخها عن طريق النصوص، وخرجوا من دراستهم المقارنة باكتشاف خصائص عامّة في السور والآيات المكّيّة وخصائص عامّة أُخرى في المدني من الآيات والسور، فجعلوا من تلك الخصائص العامّة مقاييس يقيسون بها سائر الآيات والسور التي لم يؤثر توقيتها الزمني في الروايات والنصوص، فما كان منها يتّفق مع الخصائص العامّة للآيات والسور المكّيّة حكموا بأنّه مكّي، وما كان أقرب إلى الخصائص العامّة للمدني وأكثر انسجاماً معها أدرجوه ضمن المدني من الآيات بالسور.

وهذه الخصائص العامّة التي حدّدت المكّي والمدني، بعضها يرتبط بأسلوب الآية والسورة، كقولهم:

إنّ قِصَر الآيات والسور وتجانسها الصوتي من خصائص القسم المكّي، وبعضها يرتبط بموضوع ومضمون النص القرآني، كقولهم مثلاً:

إنّ مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم من خصائص السور المكّيّة، ومحاورة أهل الكتاب من خصائص السور المدنيّة.

ويمكن تلخيص ما ذكروه من الخصائص الأسلوبيّة والموضوعيّة للقسم المكّي فيما يأتي:

1 - قِصَر الآيات والسوَر وإيجازها وتجانسها الصوتي.

2 - الدعوة إلى أُصول الإيمان بالله والوحي وعالم الغيب واليوم الآخر وتصوير الجنّة والنار.

3 - الدعوة للتمسُّك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير.

4 - مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.

5 - استعمال السورة لكلمة: ( يا أيّها الناس ) وعدم استعمالها لكلمة: ( يا أيّها الذين آمنوا ) .

وقد لوحظ أنّ سورة الحد تُستثنى من ذلك؛ لأنّها استعملت الكلمة الثانية.

٧٥

بالرّغم من أنّها مكّيّة، فهذه الخصائص الخمس يغلب وجودها في السور المكّيّة (1) .

وأمّا ما يشيع في القِسم المدني من خصائص عامّة، فهي:

1 - طول السورة والآية وأطنابها.

2 - تفضيل البراهين والأدلّة على الحقائق الدينية.

3 - مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى عدم الغلو في دينهم.

4 - التحدّث عن المنافقين ومشاكلهم.

5 - التفصيل لأحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين السياسيّة والاجتماعية والدولية.

موقفنا من خصائص السور المكّيّة والمدنيّة:

وما من ريب في أنّ هذه المقاييس المستمدّة من تلك الخصائص العامّة تلقي ضوءاً على الموضوع، وقد تؤدّي إلى ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر في السوَر التي لم يرد نصٌّ بأنّها مكّيّة أو مدنيّة، فإذا كانت إحدى هذه السور تتفق مثلاً مع السور المكّيّة في أُسلوبها وإيجازها وتجانسها الصوتي وتنديدها بالمشركين وتسفيه أحلامهم، فالأرجح أن تكون سورةً مكّيّة؛ لاشتمالها على هذه الخصائص العامّة للسورة المكّيّة.

ولكنّ الاعتماد على تلك المقاييس إنّما يجوز إذا أدّت إلى العلم، ولا يجوز الأخذ بها لمجرّد الظن؛ ففي المثال المتقدِّم حين نجد سورةً تتفق مع السور المكّيّة في أُسلوبها وإيجازها لا نستطيع أن نقول بأنّها مكّيّة لأجل ذلك، إذ من الممكن أن تنزل سورة مدنيّة وهي تحمل بعض خصائص الأسلوب الشائع في القسم المكّي، كما في سورة

________________________

(1) سورة الحج مدنيّة وليست مكيّة، وتُستعمل فيها الكلمة الأُولى والثانية، ولكنّ الأُولى أكثر، كما أنّ سورة الحجرات مدنيّة بلا اشكال وتُستعمل فيها كلمة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى... ) الحجرات: 13، المؤلِّف.

٧٦

النصر وغيرها، صحيح أنّه يغلب على الظن حينذاك أنّ السورة مكّيّة لقِصَرها وإيجازها، ولكنّ الأخذ بالظن لا يجوز لأنّه قولٌ من دون علم:

( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ... ) (1) .

وإذا ما أدّت تلك المقاييس إلى الاطمئنان والتأكّد من تأريخ السورة وأنّها مكّيّة أو مدنيّة فلا بأس بالاعتماد عليها عند ذاك.

ومثاله النصوص القرآنية التي تشتمل على تشريعات للحرب والدولة مثلاً، فإنّ هذه الخصّيصة الموضوعيّة تدل على أنّ النص مدني؛ لأنّ طبيعة الدعوة في المرحلة الأولى التي عاشتها قبل الهجرة لا تنسجم إطلاقاً مع التشريعات الدولية، فنعرف من أجل هذا أنّ النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة، أي في عصر الدولة.

شبهات حول المكّي والمدني

المقدّمة:

لقد كان موضوع المكّي والمدني من جملة الموضوعات القرآنية التي أُثيرت حولها الشُبهة والجدل، وتنطلق الشُبهة هنا من أساسٍ هو:

إنّ الفروق والميزات التي تُلاحظ بين القِسم المكّي من القرآن الكريم والقِسم المدني منه، تدعو في نظر بض المستشرقين إلى الاعتقاد بأنّ القرآن قد خضع لظروف بشريّة مختلفة - اجتماعية وشخصية - تركت آثارها على أُسلوب القرآن وطريقة عرضه، وعلى مادّته والموضوعات التي عنى بها.

ويجدر بنا قبل أن ندخل في الحديث عن الشُبهات ومناقشتها أنْ نلاحظ الأمرين التاليين، لما لهما من تأثير في فهم البحث ومعرفة نتائجه:

________________________

(1) الإسراء: 36.

٧٧

الأوّل:

إنّه لا بُدّ لنا أن نفرِّق منذ البدء بين فكرة تأثّر القرآن الكريم، وانفعاله بالظروف الموضوعيّة من البيئة وغيرها، بمعنى انطباعه بها، وبين فكرة مراعاة القرآن لهذه الظروف، بقصد تأثيره فيها وتطويرها لصالح الدعوة.

فإنّ الفكرة الأُولى تعني في الحقيقة: بشريّة القرآن، حيث تفرض القرآن في مستوى الواقع المعاش، وجزءاً من البيئة الاجتماعية، يتأثّر بها كما يؤثِّر فيها، بخلاف الفكرة الثانية، فإنّها لا تعني شيئاً من ذلك، لأنّ طبيعة الموقف القرآني الذي يستهدف التغيير، وطبيعة الأهداف والغايات التي يرمي القرآن إلى تحقيقها قد تفرض هذه المراعاة، حيث تحدِّد الغاية والهدف طبيعة الأسلوب الذي يجب سلوكه للوصول إليها.

فهناك فرق بين أنْ تفرض الظروف والواقع أنفسهما على الرسالة، وبين أن تفرض الأهداف والغايات التي ترمي الرسالة إلى تحقيقها من خلال الواقع أسلوباً ومنهجاً للرسالة؛ لأنّ الهدف والغاية ليسا شيئين منفصلين عن الرسالة ليكون تأثيرهما عليها تأثيراً مفروضاً من الخارج.

فنحن في الوقت الذي نرفض فيه الفكرة الأولى بالنسبة إلى القرآن، نجد أنفسنا لا تأبى التمسُّك بالفكرة الثانية في تفسير الظواهر القرآنية المختلفة، سواء ما يرتبط منها بالأسلوب القرآني، أو الموضوع والمادة المعروضة فيه.

الثاني:

إنّ تفسير أصل وجود الظاهرة القرآنية لا بُدّ أن يُعتبر هو المصدر الأساس في جميع الأحكام التي تصدر على محتوى القرآن وأُسلوب العرض فيه؛ فقد تكون النقطة الواحدة في القرآن الكريم سبباً في إصدار حكمين مختلفين نتيجةً للاختلاف في تفسير أصل وجود القرآن، وسوف نورد بعض الأمثلة لهذا الاختلاف في الحكم عندما نذكر أنّ من شروط المفسِّر للقرآن أن يكون ذا ذهنيةٍ إسلامية (1) .

________________________

(1) راجع بحث شروط المفسِّر.

٧٨

ومن أجل ذلك فنحن لا نسوِّغ لأنفسنا أن نقبل حكماً ما في تفسير نقطةٍ حول القرآن الكريم، لمجرّد انسجام هذا الحكم مع تلك النقطة، بل لا بُدّ لنا أن ننظر أيضاً - بشكلٍ مسبق - إلى مدى انسجام الحكم مع التفسير الصحيح لوجود الظاهرة القرآنية نفسها.

إنّ الظاهرة القرآنية - كما سنشرحها في البحوث القادمة - ليست نتاجاً شخصياً لمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ومن ثمَّ ليست نتاجاً بشريّاً مطلقاً، وإنّما هي نتاجٌ إلهيّ مرتبط بالسماء، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نجزم بشكل مسبق ببطلان جميع الشُبهات التي تُثار حول المكّي والمدني؛ لأنّها في الحقيقة تفسيرات لظاهرة الفرق بين المكّي والمدني على أساس أنّ القرآن الكريم نتاج بشري.

وبالأحرى يجب أن يقال:

إنّ شُبهات المكّي والمدني ترتبط في الحقيقة بالشُبهات التي أُثيرت حول الوحي ارتباطاً موضوعيّاً؛ لأنّها ترتبط بفكرة إنكار الوحي، ولكن مع ذلك - من أجل توضيح الحقيقة - قد نحتاج إلى مناقشة تفصيليّة للشُبهات التي أُثيرت حول الوحي بشكلٍ عام، وحول المكّي والمدني بشكلٍ خاص؛ لإبراز نقاط الإثارة والتلاعب التي ذكرها المستشرقون، وبيان انسجام الظواهر القرآنية المختلفة مع ظاهرة الوحي الإلهي، ولذا فسوف نناقش هذه الشبهات بعد التحدّث عنها لإيضاح بطلانها من ناحية، وتقديم التفسير الصحيح للفرق بين المكّي والمدني - بعد ذلك - من ناحيةٍ ثانية.

وللشُبهة حول المكّي والمدني جانبان:

جانب يرتبط بالأُسلوب القرآني فيها، وجانب آخر يرتبط بالمادّة والموضوعات التي عرض القرآن لها في هذين القسمين، وفي كلٍّ من القسمين تُصاغ الشُبهة على عدّة أشكال، نذكر منها صياغتين لكلِّ واحدٍ من القسمين:

٧٩

أ - أُسلوب القِسم المكّي يمتاز بالشدّة والعنف والسباب:

فقد قالوا:

إنّ أُسلوب القِسم المكّي من القرآن يمتاز عن القِسم المدني بطابع الشدّة والعنف، بل وبالسباب أيضاً؛ وهذا يدل على تأثُّر محمّد بالبيئة في مكّة التي كان يعيش فيها؛ لأنّها مطبوعةٌ بالغِلظة والجهل، ولذا يزول هذا الطابع عن القرآن الكريم عندما ينتقل محمّد إلى مجتمع المدينة الذي تأثَّر فيه - بشكلٍ أو بآخر - بحضارة أهل الكتاب وأساليبهم.

وتستشهد الشُبهة بعد ذلك لهذه الملاحظة بالسور والآيات المكّيّة المطبوعة بطابع الوعيد والتهديد والتّعنيف، أمثال: سورة (المسد) وسورة (العصر) وسورة (التكاثر) وسورة (الفجر) وغير ذلك.

ويمكن أن نناقش هذه الشبهة بما يلي:

أوّلاً:

بعدم اختصاص القِسم المكّي من القرآن الكريم بطابع الوعيد والإنذار دون القِسم المدني، بل يشترك المكّي والمدني بذلك، كما أنّ القسم المدني لا يختص أيضاً - كما قد يُفهم من الشُبهة - بالأسلوب اللّين الهادئ الذي يفيض سماحةً وعفواً، بل نجد ذلك في المكّي، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة.

فمن القِسم المدني الذي اتسم بالشدّة والعنف قوله تعالى:

( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) (1) .

وقوله تعالى:

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ... ) (2)

و ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ) (3) .

________________________

(1) البقرة: 24.

(2) (3) البقرة: 275 و 278 - 279.

٨٠