علوم القرآن

علوم القرآن0%

علوم القرآن مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 531

علوم القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الحكيم
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
تصنيف: الصفحات: 531
المشاهدات: 207040
تحميل: 18720

توضيحات:

علوم القرآن
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 531 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 207040 / تحميل: 18720
الحجم الحجم الحجم
علوم القرآن

علوم القرآن

مؤلف:
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقوله تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ* قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (1) .

إلى غير ذلك من الآيات التي سوف نشير إلى بعضها قريباً.

كما نجد في القسم المكّي لِيناً وسماحةً، نحو قوله تعالى:

( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ* وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (1) .

وقوله تعالى:

( فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ* وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ* إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) (3) .

وقوله تعالى:

( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ* لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (4) .

________________________

(1) آل عمران: 10 - 12.

(2) فُصّلت: 33 - 35.

(3) الشورى: 36 - 43.

(4) الحجر: 87 - 88.

٨١

وقوله تعالى:

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (1) .

وثانياً:

إنّه ليس في القرآن الكريم سبابٌ وشتمٌ، كيف وقد نهى القرآن نفسُه في القِسم المكّي عن السب والشتم، حيث قال تعالى:

( وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ... ) (2) .

وليس في سورة (المسد) أو (التكاثر) سبٌ أو بذاءة - كما يحاول المستشرقون أن يقولوا ذلك - وإنّما فيهما تحذير ووعيد بالمصير الذي ينتهي إليه أبو لهب والكافرون بالله.

نعم، يوجد في القرآن الكريم تقريع وتأنيب عنيف، وهو موجود في المدني كما هو في المكّي - وإن كان يكثر وجوده في المكّي - بالنظر لمراعاة ظروف الاضطهاد والقسوة التي كانت تمرُّ بها الدعوة، الأمر الذي اقتضى أن يواجه القرآن ذلك بالعنف والتقريع - أحياناً - لتقوية معنويّات المسلمين من جانب، وتحطيم معنويّات الكافرين من جانبٍ آخر، كما سوف نشير إليه قريباً.

ومن هذا التقريع في السور المدنيّة قوله تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ* وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) (3) .

وقوله تعالى:

( وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ

٨٢

يَعْتَدُونَ ) (1)

وقوله:

( بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (2) .

وقوله تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ ) (3) .

وقوله تعالى:

( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) (4) .

وقوله تعالى:

( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ) (5) .

وقوله تعالى:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ... ) (6) .

ب - أُسلوب القِسم المكّي يمتاز بقِصَر السور والآيات:

وقالوا أيضاً:

إنّ من الملاحَظ قِصَر السور والآيات في القِسم المكّي على عكس القِسم المدني الذي جاء بشيءٍ من التفصيل والإسهاب؛ فنحن نجد أنّ السور المكّيّة جاءت قصيرةً ومعروضةً بشكلٍ موجَز، في الوقت الذي نجد في القِسم المدني سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها من السور الطوال.

________________________

(1) و(2) و(3) البقرة: 61 و 90 و 159.

(4) آل عمران: 55 و 56.

(5) و (6) المائدة: 60 و 64.

٨٣

وهذا يدل على انقطاع الصلة بين القِسم المكّي والقِسم المدني، وتأثّرهما بالبيئة التي كان يعيشها محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ مجتمع مكّة لمّا كان مجتمعاً أُمّيّاً لم يكن النبي بقدرته التبسُّط في شرح المفاهيم وتفصيلها، وإنّما واتته القدرة على ذلك عندما أخذ يعيش مجتمع المثقّفين المتحضِّر في يثرب.

وتُناقش هذه الشُبهة بالأمرين التاليين:

الأوّل:

إنّ القِصَر والإيجاز ليسا مختصّين بالقسم المكّي، بل توجد في القِسم المدني سور قصيرة أيضاً: كالنصر والزلزلة والبيّنة وغيرها، كما أنّ الطول والتفصيل ليسا مختصّين بالقِسم المدني، بل توجد في المكّي أيضاً سور طويلة: كالأنعام والأعراف.

وقد يُقصد من اختصاص المكّي بالقِصَر والإيجاز: أنّ هذا الشيء هو الغالب الشائع فيه.

وقد يكون هذا صحيحاً، ولكنّه لا يدل بوجهٍ من الوجوه على انقطاع الصلة بين القسمين المذكورين من القرآن الكريم؛ لأنّه يكفي في تحقيق هذه الصلة أن يأتي القرآن الكريم ببعض السور الطويلة المفصِّلة في القِسم المكّي، كدليلٍ على القدرة والتمكُّن من الارتفاع إلى مستوى التفصيل في المفاهيم والموضوعات.

إضافةً إلى أنّ من الملاحَظ وجود آياتٍ مكيّة قد أُثبتت في السور المدنيّة والعكس يصح أيضاً، وفي كلا الحالتين نجد التلاحم والانسجام في السورة، وكأنّها نزلت مرةً واحدة، الأمر الذي يدل بوضوحٍ على وجود الصلة التامّة بين القسمين.

الثاني:

إنّ الدراسات اللُّغوية التي قام بها العلماء المسلمون وغيرهم دلّت على أنّ الإيجاز يُعتبر مظهراً من مظاهر القدرة الخارقة على التعبير، وهو من ثمَّ من مظاهر الإعجاز القرآني، وليس نقصاً أو عيباً في القسم المكّي؛ خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ القرآن قد تحدّى العرب بأن يأتوا بسورةٍ من مثله، حيث يكون

٨٤

التحدّي بالسورة القصيرة أروع وأبلغ منه حين يكون بسورةٍ مفصّلة.

ج - لم يتناول القِسم المكّي في مادّته التشريع والأحكام:

وقالوا:

إنّ القِسم المكّي لم يتناول - فيما تناول من موضوعات - جانب التشريع من أحكام وأنظمة، بينما تناول القِسم المدني هذا الجانب من التفصيل.

وهذا يعبِّر عن جانبٍ آخر من التأثُّر بالبيئة والظروف الاجتماعية، حيث لم يكن مجتمع مكّة مجتمعاً متحضِّراً، ولم يكن قد انفتح على معارف أهل الكتاب وتشريعاتهم، على خلاف مجتمع المدينة، الذي تأثَّر إلى حدٍّ بعيد بالثقافة والمعرفة للأديان السماوية كاليهودية والنصرانية.

وتُناقش هذه الشُبهة بالأمرين التاليين أيضاً:

أوّلاً:

إنّ القِسم المكّي لم يهمل جانب التشريع، وإنّما تناول أُصوله العامّة وجملة مقاصد الدين، كما جاء في قوله تعالى:

( قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ... ) (1) .

كما طُرحت من خلاله مجمل النظريّات والتصوّرات القرآنية حول الكون والحياة والمجتمع والإنسان...

إضافةً إلى أنّنا نجد في القسم المكّي، وفي سورة الأنعام (2) بالخصوص، مناقشةً لكثيرٍ من تشريعات أهل الكتاب والتزاماتهم، وهذا يدل على معرفة القرآن الكريم بهذه التشريعات وغيرها مسبقاً.

________________________

(1) الأنعام: 151 - 152.

(2) الآيات: 119 - 121 و 138 - 146.

٨٥

وثانياً:

إنّ هذه الظاهرة يمكن أن نطرح في تفسيرها نظريّةً أُخرى، تنسجم مع الأساس الموضوعي لوجود الظاهرة القرآنية نفسها، وهذه النظريّة هي أن يقال:

إنّ الحديث عن تفاصيل التشريع في مكّة كان شيئاً سابقاً لأوانه، حيث لم يستلم الإسلام حينذاك زمام الحكم بعد، بينما الأمر في المدينة على العكس، فلم يتناول القسم المكّي تفاصيل التشريع؛ لأنّ ذلك لا يتفق مع المرحلة التي تمرُّ بها الدعوة، وإنّما تناول الجوانب الأُخرى التي تنسجم مع الموقف العام، كما سوف نشرح ذلك قريباً.

د - لم يتناول القِسم المكّي في مادّته الأدلّة والبراهين:

وقالوا: إنّ القسم المكّي لم يتناول أيضاً الأدلّة والبراهين على العقيدة وأُصولها، على خلاف القسم المدني؛ وهذا تعبير آخر أيضاً عن تأثُّر القرآن بالظروف الاجتماعية والبيئيّة، إذ عجزت الظاهرة القرآنية - بنظر هؤلاء - عن تناول هذا الجانب الذي يدل على عمق النظر في الحقائق الكونيّة، عندما كان يعيش محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) في مكّة مجتمع الأُمّيّين، بينما ارتفع مستوى القرآن في هذا الجانب عندما أخذ محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) يعيش إلى جانب أهل الكتاب في المدينة، وذلك نتيجةً لتأثُّره بهم؛ لأنّهم أصحاب فكرٍ وفلسفةٍ ومعرفة بالديانات السماوية، ولتطوّر الظاهرة القرآنية نفسها أيضاً.

وتُناقش هذه الشبهة من وجهين:

الأوّل:

أنّ القسم المكّي لم يخلُ من الأدلّة والبراهين بل تناولها في كثيرٍ من سوره، والشواهد القرآنية على ذلك كثيرة وفي مجالات شتّى، فمن نماذج وموارد الاستدلال على التوحيد قوله تعالى:

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ* وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ

٨٦

عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) (1) .

وقوله تعالى:

( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (2) .

وقول تعالى:

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ* لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ* أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ ) (3) .

وبصدد الاستدلال على نبوّة محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وارتباط ما جاء به بالسماء:

( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ* وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ

________________________

(1) الأنعام: 74 - 83.

(2) المؤمنون: 91.

(3) الأنبياء: 22 - 24.

٨٧

آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (1) .

وبصدد الاستدلال على البعث والجزاء قوله تعالى:

( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيد* رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ... أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (2) .

وقوله تعالى:

( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (3) .

وقوله تعالى:

( أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) (4) .

وهكذا تتناول الأدلّة جوانب أُخرى من العقيدة الإسلامية والمفاهيم العامّة، بل إنّ القرآن الكريم تناول أكثر قصص الأنبياء والمناقشات والأدلّة التي دارت بينهم وبين أقوامهم في القسم المكّي من القرآن على ما سوف نعرف.

الثاني:

أنّه لو تنازلنا عن ذلك فمن الممكن تفسير هذا الفرق على أساس مراعاة طبيعة موقف المواجهة من الدعوة، حيث كانت تواجه الدعوة في مكّة مشركي العرب وعَبَدة الأصنام، والأدلّة التي كان يواجه القرآن بها هؤلاء أدلّة وجدانيّة، من الممكن أن تستوعبها مداركهم ويقتضيها وضوح بطلان العقيدة الوثنيّة، والقرآن - كما عرفنا - إنّما هو كتاب هداية وتغيير وتزكية، وليس كتاباً

________________________

(1) العنكبوت: 48 - 51.

(2) ق: 9 - 11 و 15.

(3) المؤمنون: 115.

(4) الجاثية: 21 - 22.

٨٨

علميّاً، فهو كان يواكب تطوّر الدعوة الإسلامية ومسيرتها في آياته ونزوله؛ وحين اختلفت طبيعة الموقف، وأصبحت الأفكار المواجهة تمتاز بكثيرٍ من التعقيد والتزييف والانحراف - كما هو الحال في عقائد أهل الكتاب - اقتضى الموقف مواجهتها، بأُسلوبٍ آخر من البرهان والدليل أكثر تعقيداً وتفصيلاً (1) .

الفروق الحقيقيّة بين المكّي والمدني:

ولم نجد في الشبهات التي تناولناها - ولا نجد في غيرها - ما يمكنه أن يصمد أمام النقد العلمي أو الدرس الموضوعي ولكن مع كلِّ ذلك يجدر بنا أن نقدِّم تفسيراً منطقيّاً لظاهرة الفرق بين القِسم المكّي والقِسم المدني، وإن كنّا قد ألمحنا إلى جانبٍ من هذا التفسير عندما تناولنا الشبهات بالنقد والمناقشة.

ويحسن بنا - قبل ذلك - أن نذكر الفروق الحقيقية التي امتاز بها المكّي عن المدني، سواء ما يتعلّق بالأسلوب أو بالموضوع الذي تناوله القرآن، ثم نفسِّر هذه الفروق على أساس الفكرة التي أشرنا إليها في صدر البحث، والتي تقول:

إنّ هذه الفروق كانت نتيجةً لمراعاة ظروف الدعوة والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها؛ لأنّ الهدف والغاية يلقيان - في كثيرٍ من الأحيان - بظلّهما على أُسلوب العَرْض والمادة المعروضة.

وتُلخّص هذه الفروق والخصائص التي يمتاز بها المكّي عن المدني غالباً بالأُمور التالية (2) :

1 - إنّ القِسم المكّي عالج بشكلٍ أساسي مبادئ الشِّرْك والوثنيّة، وأُسسها النفسية والفكرية، ومؤدّاها الأخلاقي والاجتماعي.

________________________

(1) للمزيد من التفصيل في عَرْض الشبهات ومناقشتها، راجع ما ذكره الزرقاني في (مناهل العرفان) 1: 199.

(2) سبق أن أشرنا إلى هذه الميزات وغيرها عند البحث عن المكّي والمدني.

٨٩

2 - وقد أكّد ما في الكون من بدائع الخِلْقة وعجائب التكوين، الأمر الذي يشهد بوجود الخالق المدبِّر لها.

كما أكّد (عالم الغيب) و(البعث والجزاء) و(الوحي) و(النبوّات) وشرح ما يرتبط بذلك من أدلّة وبراهين، كما خاطب الوجدان الإنساني، وما أودعه الله فيه من عقل وحكمة وشعور.

3 - وإلى جانب ذلك تحدّث عن الأخلاق بمفاهيمها العامّة، مع ملاحظة مصاديقها الخارجية والجانب التطبيقي منها في المجتمع، وحذّر من الانحراف، وذلك مثل:

الكفر والعصيان، والجهل والعدوان، والكبر، وسفك الدماء، ووأد البنات، واستباحة الأعراض، وأكل أموال اليتامى، ونقص الموازين، وقطيعة الأرحام، إلى غير ذلك من موارد الطغيان والهوى.

وعرض إلى جانب ذلك الوجه الصحيح للأخلاق:

كالإيمان بالله والطاعة له، والعلم والعقل والمحبّة والرحمة والعفو والصبر والإخلاص والعزم والإرادة والشكر، واحترام الآخرين، وبرّ الوالدين، وإكرام الجار، وطهارة القلب واللسان، والصدق في المعاملة، والتوكّل على الله، وغير ذلك من موارد الخير والصلاح.

4 - وقد تحدّث عن قصص الأنبياء والرسل، والمواقف المختلفة التي كانوا يواجهونها من قِبَل أقوامهم وأُممهم في معركة الإيمان والكفر، وما يستنبط من ذلك من العِبَر والمواعظ.

5 - إنّه سلك طريق الإيقاع الصوتي، والإيجاز في الخطاب، سواء في الآيات أو السور.

ويكاد يكون المدني بخلاف ذلك في هذه الأُمور على الغالب، وإن كان قد امتاز بالأُمور التالية:

1 - دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام مع مناقشتهم، وبيان انحرافهم عن العقيدة والمناهج الحقّة التي أُنزلت على أنبيائهم.

٩٠

2 - بيان التفصيلات في التشريع، التي تتناول الفرد والجماعة ونظام الحكم، ومعالجة مشاكل العلاقات المختلفة في المجتمع الإنساني، مثل علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المؤمنين ببعضهم وعلاقتهم مع أعدائهم الداخليين والخارجيين ومع المحايدين، والعلاقات الزوجية والدولية، والحرب والهِدْنة والمعاهدات وغيرها، وتحديد المواقف السياسية والقانونية والأخلاقية منها.

3 - تناول حركة النفاق في المجتمع الإسلامي وخلفيّاتها الأخلاقية والسياسية، وأهدافها وظواهرها والموقف السياسي منها.

التفسير الصحيح للفَرْق بين المكّي والمدني:

وحين نريد أن ندرس ظاهرة الفرق بين المكّي والمدني من خلال هذه الخصائص والميزات، نجد:

أوّلاً:

إنّ هذه الفروق لا تشكِّل حدّاً فاصلاً بين هذين القسمين في القرآن الكريم، وإنّما هي طابعٌ عام لكلٍّ من القسمين، وإلاّ فنحن نلاحظ أنّ كلاًّ من القسمين تناول بعض أو كلّ الجوانب الأُخرى للقِسم الثاني - بشكلٍ أو بآخر - انسجاماً مع الأسلوب القرآني العام، الذي تميّز بمزج الأفكار والمفاهيم ليوجد منها هذا التركيب الفريد المؤثِّر في عمليّة التغيير كما أسلفنا.

ثانياً:

إنّ الدعوة الإسلامية بدأت في مكّة وعاشت فيها ثلاث عشرة سنة، وهذه المدّة منسوبة إلى زمن نزول القرآن، تُعتبر في الحقيقة مدّة إرساء أُسس القواعد والمفاهيم العامّة عن العقيدة الإلهيّة، أو عالم الغيب أو الأخلاق أو السُنن والقوانين التأريخيّة التي تحكم مسيرة التأريخ والمجتمع الإنساني.

وسواء ما يتعلّق بالجانب الإيجابي من ذلك، كعرض مفاهيم الإسلام عن الكون والحياة والأخلاق والمجتمع، أو ما يتعلّق بالجانب السلبي، كمناقشة الأفكار الكافرة أو المنحرفة والباطلة التي كانت تسود المجتمع آنذاك.

٩١

وهذه الحقيقة تفرض - بطبيعة الحال - أن يكون القِسم المكّي مرتبطاً - بمادته وموضوعاته - بالأُسس والركائز للرسالة الجديدة، بحيث يكون أكثر شمولاً واتساعاً في تناوله لهذا الجانب من جانب آخر، وهذا هو الذي يفسّر لنا أيضاً غلبة المكّي على المدني من الناحية الكمّيّة، مع أنّ المدّة المدنيّة تبدو - تأريخيّاً - وكأنّها زاخرةٌ بالأحداث الجسام، والمجتمع المدني أكثر تعقيداً ومشاكل؛ لأنّ القرآن في القِسم المدني لم يكن بحاجةٍ كبيرة إلى تناول تلك الأُسس والركائز، بعد أن كان قد تناولها في القِسم المكّي باستيعاب.

ثالثاً:

إنّ عمليّة التغيير الاجتماعي كانت بحاجة - على أساس الفكرة التي أشرنا إليها في بداية هذا الفصل - إلى أن تهتم بمراعاة الظروف، وطبيعة المجتمع التي تتناوله عمليّة التغيير، وتركِّز على القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، والأمراض الأخلاقية التي يعيشها ذلك المجتمع، حتّى يتحقّق هذا التغيير بشكل مناسب.

وبذلك يمكن تفسير الخصائص السابقة التي أشرنا إليها في الفَرْق بين المكّي والمدني.

فأمّا بالنسبة إلى الخصّيصة الأُولى:

نلاحظ أنّ المجتمع المكّي كان مجتمعاً يتّسم بطابع الوثنيّة في الجانب العقيدي، فكان من الطبيعي تأكيد فكرة رفض الشرك والوثنيّة، والدخول في مناقشة طويلة معها بأساليب وطُرُق شتّى.

إضافةً إلى أنّ إيضاح الموقف تجاه العقيدة الوثنيّة يشكِّل نقطةً أساسيّةً في القاعدة للرسالة الجديدة، لأنّها تتبنّى التوحيد الخالص أساساً لكلِّ جوانبها وتفصيلاتها الأُخرى.

وبالنسبة إلى الخصّيصة الثانية:

نلاحظ أنّ المجتمع المكّي لم يكن يؤمن بفكرة الإله الواحد، كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي، وغير ذلك من شؤون عالم الغيب، والتأثير المتبادل بينه وبين عالم الطبيعة وحياة الإنسان

٩٢

الاجتماعية، وهذه الأفكار من القواعد الأساسية للرسالة والعقيدة الإسلامية.

إضافةً إلى أنّ مجتمع أهل الكتاب كان يؤمن بهذه الأُصول جميعها مع بعض الاختلاف في تفصيلها، فكان من الضروري أن يؤكِّد القِسم المكّي تأسيس هذه الأُصول، وتوضيح المفاهيم العامّة عنها، انسجاماً مع طبيعة المرحلة المكّيّة التي تُعتبر مرحلةً متقدِّمة، كما أنّ بيانها في هذه المرحلة يجعل المرحلة الثانية المدنيّة في غِنىً عن بيانها مرةً أُخرى، وتكون الحاجة حينئذٍ إلى تناول التفصيلات الأُخرى التي هي محل الاختلاف مع أهل الكتاب.

وبالنسبة إلى الخصّيصة الثالثة:

فلعلّ تأكيد دور الأخلاق في القِسم المكّي دون المدني كان بسبب العوامل الثلاثة التالية:

أ - إنّ الأخلاق تُعتبر قاعدة النظام الاجتماعي في نظر الإسلام، إضافةً إلى أنّها هدف رسالي في تغيير الإنسان وتربيته وتكامله، فتأكيد دورها يعني - في الحقيقة - إرساء لقاعدة النظام الاجتماعي الذي يستهدفه القرآن، وتحقيقاً للهدف في تربية الإنسان ورقيّه.

ب - إنّ الدعوة كانت بحاجةٍ - من أجل نجاحها - إلى استثارة العواطف الإنسانية الخيّرة والفطرة السليمة، ليكون نفوذها في المجتمع وتأثيرها في الأفراد عن طريق مخاطبة هذه العواطف؛ والأخلاق هي الأساس الحقيقي لكلِّ هذه العواطف، وهي الرصيد الذي يمدّها بالحياة والنمو.

ج - إنّ المجتمع المدني كان يمارس الأخلاق من خلال التطبيق الذي كان يباشره الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) بنفسه، من خلال موقعه في قمّة المجتمع الإسلامي، وبذلك يكون القدوة الطبيعية لهذا المجتمع، أو من خلال تطبيقه لهذه الأخلاق عمليّاً في العلاقات الاجتماعية القائمة، بعد أن تكوّن المجتمع الإسلامي وقامت أركانه، فلم يكن بحاجة - بنفس الدرجة - إلى تأكيد المفاهيم الأخلاقية، على

٩٣

العكس من المجتمع المكّي الذي كان يعيش فيه المسلمون حياة الاضطهاد، وكان المجتمع يمارس التطبيق فيه للأخلاق الجاهلية، حيث يكون المجتمع بحاجة إلى التأكيد المفاهيمي للأخلاق.

وبالنسبة للخصّيصة الرابعة:

نجد القصص تتناول - من حيث الموضوع - أكثر القضايا والنواحي التي عالجها القرآن الكريم، من العقيدة بالإله الواحد وعالم الغيب والوحي والأخلاق والبعث والجزاء، إضافةً إلى أنّها تُصوِّر المراحل المتعدّدة للدعوة والمواقف المختلفة منها، والقوانين الاجتماعية والتأريخية التي تتحكّم فيها وفي نتائجها، والمصير الذي يواجهه أعداؤها.

وإلى جانب ذلك تُعتبر القصّة في القران أحد أسباب الإعجاز فيه، وأحد الأدلّة على ارتباطه بالسماء، كما سوف نتعرّف على ذلك.

وكلّ هذه الأُمور لها صلة وثيقة بالظروف التي كانت تمرّ بها الدعوة والرسالة الإسلامية في مكّة، ولها تأثيرٌ كبير في تطويرها لصالح الدعوة وأهدافها الرئيسة.

ومع كلِّ هذا لم يهمل القِسم المدني القصّة مطلقة، بل تناولها بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة المرحلة التي تمرّ بها، كما سوف نتعرّف على ذلك عند دراستنا للقصّة.

وبالنسبة إلى الخصّيصة الخامسة:

فقد كان لها ارتباط وثيق بجوانب مرحليّة وإعجازيّة؛ لأنّ المرحلة كانت تفرض كسر طوق الأفكار الجاهلية، الذي كان مضروباً على المجتمع، فكان لهذا الأسلوب الصاعق الحاد تأثيرٌ فعّال في تذليل الصعوبات، وتحطيم معنويات المقاومة المضادّة العنيفة.

وحين يتحدّى القرآنُ الكريم العرب في أن يأتوا بسورةٍ منه، يكون الإيجاز في السورة أبلغ في إيضاح الإعجاز القرآني، وأعمق تأثيراً وأبعد مدى.

وقد كانت المعركة - إضافةً إلى ذلك كلِّه في أوّلها - معركة شعارات وتوطيد مفاهيم عامّة عن الكون والحياة، والإيجاز والقِصَر، ينسجم مع واقع المعركة

٩٤

وإطارها، أكثر من الدخول في تفصيلات واسعة، ولهذا نشاهد السور القصيرة تمثِّل المرحلة الأُولى تقريباً من مراحل القِسم المكّي.

وهذه الأبعاد لم تكن تتوفّر في مجتمع المدينة بعد أن أصبح الإسلام هو الحاكم المسيطر على المجتمع، وبعد أن أصبحت مسألة الوحي والاتصال بالسماء مسألة واضحة، وبعد أن جاء دورٌ آخر للمعركة يفرض أُسلوباً آخر في العرض والبيان.

ومن هذا الدرس لخصائص ومميّزات القِسم المكّي تتضح مبرّرات خصائص القِسم المدني، من الدخول في تفصيلات الأحكام الشرعية، والأنظمة الاجتماعية، أو مناقشة أهل الكتاب في عقائدهم وانحرافاتهم، حيث فرضته ظروف الحكم في المدينة.

وكذلك معالجة موقف المشركين، وقضيّة الجهاد والقتال معهم، واتّخاذ المواقف السياسية والاجتماعية تجاههم.

والحديث عن ظاهرة النفاق في المجتمع الإسلامي، وأسبابها والمواقف تجاهها، وتوضيح طبيعة العلاقات السياسية في المجتمع، وموقع وليّ الأمر فيها، والحاجة إلى تنظيم العلاقات بين الناس، كلّ ذلك يفرض الحاجة إلى بيان هذه التفصيلات في التشريعات والأنظمة.

كما أنّ المعركة في المدينة انتقلت من الأُصول والأُسس العامّة للعقيدة إلى جوانب تفصيليّة منها، ترتبط بحدودها واشكالها وبالعمل على تقويم الانحراف الذي وضعه أهل الكتاب فيها، والأمراض التي يُبتلى بها المجتمع في ظل الحكم الجديد، والضغوط التي يواجهها من قِبَل الأنظمة الأُخرى.

وبهذا نفسِّر الفرق بين المكّي والمدني، بالشكل الذي ينسجم مع فكرتنا عن الهدف الأصيل للقرآن، وفكرتنا عن مراعاته للظروف، من أجل تحقيق أهدافه وغاياته.

٩٥

٩٦

ثبوت النص القرآني

من البحوث القرآنية المهمّة، هذا البحث الذي نحن بصدده؛ لأنّ نتيجة هذا البحث سوف تؤكِّد لنا سلامة المضمون في النص القرآني، وسلامة الأُسس والمفاهيم والأحكام المذكورة فيه.

والنكتة في موضوع البحث هي مدى مطابقة هذا النص القرآني - المثبّت في المصحف الشريف - للوحي الذي نزل على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بوصفه كلاماً إلهيّاً متعبّداً بتلاوته، ومدى سلامة الطريقة التي وصلنا بها هذا النص، الأمر الذي يجعله في منجاة عن التحريف والتشويه.

وحين نريد أن نرجع إلى تأريخ هذا البحث، نجده من البحوث القرآنية التي تناولها الباحثون منذ العصور الأُولى للبحث القرآني، خصوصاً إذا نظرنا إليه من خلال النصوص والأحاديث التي تناولته.

ولكنّ الآراء العلميّة تكاد تتّفق على نتيجةٍ واحدة وهي قطعيّة التطابق بين النص القرآني المتداول والوحي الذي نزل على الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) بعنوانه قرآناً.

ومع كلِّ هذا نجد أنّ خلافاً نُسب إلى علماء الإماميّة وغيرهم في هذا الموضوع، حيث قيل عنهم:

إنّهم يقولون بتحريف القرآن الكريم.

كما أنّ شُبهة التّحريف، أصبحت - فيما بعد - مجال الاستغلال المتنوِّع للطعن في القرآن الكريم، من قِبَل مختلف التيارات الكافرة التي واجهها المسلمون في

٩٧

عصورهم القديمة والحديثة، وكانت آخرها محاولات التبشير التي قادها المستشرقون وغيرهم للتّشكيك في سلامة النص القرآني.

وعلى أساس كلٍّ من الخلافين نجد البحث حول هذه النقطة يواجه مسؤوليّتين:

الأُولى:

مسؤولية مناقشة هذه الشُبهة وتحقيق فسادها وبطلانها، على أساس الفرضيّة الإسلامية ومستلزماتها التي تعترف بالنصوص الدينية، القرآنية أو الصادرة من النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام).

الثانية:

مسؤولية مناقشة هذه الشُبهة على أساس البحث الموضوعي، وما تفرضه طبيعة الأشياء من نتائج، دون الالتزام بالنصوص الدينية، ومستلزمات الإيمان ببعضها.

المواجهة الأُولى قد تبدو أنّها أسهل منالاً، ولكنّها لا تحقِّق الغرض إلاّ تجاه الفرد المسلم الذي يؤمن بالإسلام ونصوصه الدينية ورجاله الطيبين، الأمر الذي يفرض علينا أن نعطي المواجهة الثانية حقّها من الأهميّة، لأنّها تحقِّق الغرض بشكلٍ شامل، وتقطع الطريق على الشُبهة عند كلِّ واحدٍ من الناس، حتّى لو كان غير مؤمنٍ بشيءٍ من الفرضيّة الإسلامية.

ونكتفي هنا بأن نُشير - بصدد المواجهة الأُولى - إلى أنّ الرأي السائد لدى علماء الإماميّة هو الالتزام بسلامة القرآن الكريم من التحريف، كما أنّ السيّد الخوئي (قُدِّس سرّه) قد تحدّث بشكلٍ تفصيلي وجيّد عن الشُبهة حين تناولها في الإطار الإسلامي، وانتهى إلى الحقِّ الذي لا شُبهة فيه وهو سلامة النص القرآني من التحريف (1) .

لذا فسوف نخصُّ بالبحث المواجهة الثانية، وندرس الشُبهة على أساسٍ موضوعي، وبمقتضى ما تفرضه (طبيعة الأشياء) من نتائج.

________________________

(1) البيان في تفسير القرآن: 195 - 235.

٩٨

تدوين القرآن في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

إنّ (طبيعة الأشياء) تدل بشكلٍ واضح على أنّ القرآن قد تمَّ تدوينه في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

ونقصد بطبيعة الأشياء:

مجموع الظروف والخصائص الموضوعيّة والذاتية المسلَّمة واليقينيّة التي عاشها النبيُّ والمسلمون والقرآن، أو اختصوا بها، ممّا يجعلنا نقتنع بضرورة قيام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بجمع القرآن في عهده؛ وهذه الظروف والخصائص هي ما يلي:

أ - يُعتبر القرآن الكريم الدستور الأساسي للأمّة الإسلامية، وهو يشكِّل الزاوية الرئيسة التي يقوم عليها كيان الأُمّة العقيدي والتشريعي والثقافي، إلى جانب المناهج الإسلامية الأُخرى عن المجتمع والأخلاق، كما أنّه يُعتبر أتقن المصادر التأريخية لديها وأروع النصوص الأدبية.

ولم يكن المسلمون في صدر حياتهم الاجتماعية يملكون شيئاً من القدرات الفكرية والثقافية في مختلف الميادين التي يخوضها الفكر الإنساني غير القرآن الكريم، فالقرآن بالنسبة لهم - بصفتهم أُمّة حديثة - يمثِّل المحتوى الروحي والفكري والاجتماعي لهم.

فمثلاً لم تكن الأُمّة الإسلامية حينذاك تملك من الثقافة العقيديّة ما تبني عليها إيمانها الراسخ بوحدانيّة الله سبحانه، والكون والحياة، أو بانحراف أصحاب الديانات الأُخرى في نظرتهم إلى المبدأ والمعاد غير الأدلّة والبراهين القرآنية.

والكلام ذاته يمكن أن يقال بالنسبة إلى المجالات الأُخرى، فكريّةً كانت أم روحيّةً أم ثقافيّة.

كلُّ هذا يعطينا صورةً بارزةً عن الأهميّة الذاتية التي يتمتّع بها القرآن الكريم بالنسبة إلى حياة المسلمين، ويحد النظرة التي يحملها المسلمون - باعتبارهم أُمّة - إلى القرآن الكريم.

٩٩

ب - لقد عكف المسلمون - منذ البدء - على حفظ القرآن واستظهاره، انطلاقاً من نظرتهم إلى القرآن الكريم، وشعوراً بالأهميّة التي يحتلها في حياتهم الاجتماعية ومركزه من الدور الذي ينتظرهم في الحياة الإنسانية.

وقد تكوّنت نتيجة هذا الإقبال المتزايد منهم على حفظه واستظهاره جماعةٌ كبيرة، عُرفت بحفظها القرآن الكريم، واستظهارها لنصِّه بشكلٍ مضبوط.

ولكن السؤال عن كفاية هذه الوسيلة في جعل القرآن بمأمنٍ عن التحريف والتزوير نتيجةً للخطأ والاشتباه، أو تعرُّضهم لظروف وعوامل أُخرى تمنعهم عن القيام بدورهم في حفظ النص القرآني من هذه الأخطار.

إنّ الصحابة الذين عُرفوا بحفظ القران مهما بلغو من الورع والتقوى والأمانة والإخلاص، فهم لا يخرجون عن كونهم أشخاصاً عاديين يعتورهم الخطأ والنسيان، كما أنّ ظرفهم التاريخي، وطبيعة المسؤولية الملقاة على عاتقهم، كانت تعرضهم للاستشهاد والقتل، والانتشار في الأقطار الإسلامية بُغية الدعوة لله سبحانه؛ وكل هذه الأمور التي كانت متوقّعة تصبح خطراً على النص القرآني، إذا تُرك مرتبطاً في حفظه بهذه الوسيلة، ومرتَهناً بهذا الأُسلوب.

ويكفينا في تحقيق هذا الخطر على النص القرآني أن يقع بعض الصحابة البعيدين عن المدينة المنوّرة في اشتباه معيّن في النص القرآني، ليقع الاختلاف بعد ذلك حينما يفقد المسلمون المرجع الأصيل لضبط النص.

ونحن هنا لا نريد أن نقول:

إنّ هذا الشيء قد تحقّق فعلاً، وأنّ المسلمين قد وقعوا في هذا الاختلاف والخطأ، ولكن لا نريد أن نؤكِّد أنّ هذا الأمر كان خطراً ماثلاً يمكن أن يقع فيه المسلمون في بعض الظروف.

ج - وقد كان الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعيش مع الأُمّة في آمالها وآلامها، مُدركاً لحاجاتها، وواعياً للمسؤوليّة العظيمة التي تفرضها طبيعة الظروف المحيطة بتكوينها

١٠٠