اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)23%

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 253

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132728 / تحميل: 7937
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

لو طعنوا عليه في أحكامه قبل ذلك منهم، وبعد ازدياد الشكاوي عليه عزله، ثم أصبح فيما بعد من ندمائه ورخّص له في أمور كثيرة(١) .

وكان الانحراف واضحاً لدى المقربين من الحكام، ففي بداية عهد المأمون كان بعض الجنود والشرطة في بغداد والكرخ يجهرون بالفسق وقطع الطريق وأخذ الغلمان والنساء علانية من الطرق... وكانوا يجتمعون فيأتون القرى... ويأخذون ما قدروا عليه من متاع ومال وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم، لان السلطان كان يعتزّ بهم، وكانوا بطانته(٢) .

الانحراف السياسي

١ - الأوضاع السياسية في عهد هارون

عاصر الإمام الرضاعليه‌السلام في مرحلة إمامته حكومة هارون عشر سنين من سنة (١٨٣ هـ) إلى سنة (١٩٣ هـ )، ولم تختلف سياسة هارون عن سياسة من سبقه من الحكّام، ولا عن سياسته السابقة في مرحلة الإمام الكاظمعليه‌السلام إلاّ أنه لم يتعرض تعرضاً مباشراً للإمام الرضاعليه‌السلام ؛ لأن الظروف والأوضاع السياسية لم تساعده على ذلك، فاغتيال الإمام الكاظمعليه‌السلام مسموماً لا زال يثير هواجسه خوفاً من ردود فعل الحركات المسلّحة المرتبطة بأهل البيتعليهم‌السلام ، ولذا نجده في بداية استشهاد الإمامعليه‌السلام أحضر القوّاد والكتّاب والهاشميين والقضاة، ثم كشف عن وجهه، وقال: أترَوْن به أثراً أو ما يدل على اغتيال؟(٣) .

____________________

(١) مروج الذهب: ٣ / ٤٣٥.

(٢) تاريخ الطبري: ٨ / ٥٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤١٤.

٨١

ولهذا لم يقدم على اتخاذ نفس الأسلوب مع الإمام الرضاعليه‌السلام ورفض الاستجابة لمن حرّضه على قتله - كما تقدّم - وإضافة إلى ذلك فإن الإمام الرضاعليه‌السلام اتخذ أسلوباً واعياً في التحرك السياسي، ولم يعط لهارون أيّ مبرّر للتخوف من تحركه، على أنّ أغلب الرسائل التي رفعت إليه لم تتطرق إلى نشاط سياسي ملحوظ للإمام الرضاعليه‌السلام .

إذن كان حكم هارون أكثر هدوءً وسلاماً مع الإمام الرضاعليه‌السلام ، وإن كان قد اتّسم بالمظاهر التالية:

أولاً: الإرهاب

إن وصول هارون للحكم كغيره من بني أُمية وبني العبّاس لم يكن بنص من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا باختيار من المسلمين، ولم يختاره أهل الحل والعقد طبقاً للنظريات السائدة آنذاك. وإنّما وصل عن طريق العهد والاستخلاف من قبل من سبقه، وهذا الشعور دفعه للتشبث بالحكم بأيّ أسلوب أمكن، ولهذا استخدم الإرهاب إلى جانب الإغراء في تثبيت حكمه، فلم يسمح لأي معارضة وان كانت سلمية كما لم يسمح لأيّ نصح أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، ففي أحد خطبه قام إليه رجل فقال:( كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (١) ، فأمر بضربه مائة سوط(٢) .

وفي سنة (١٨٨ هـ) أخذ هارون أحد المقرّبين إلى أحمد بن عيسى العلوي، وضربه حتى مات - على الرغم من تجاوزه التسعين من عمره - لأنه لم يعلمه بمكان العلوي(٣) .

____________________

(١) سورة الصف (٦١): ٣.

(٢) العقد الفريد: ١ / ٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٢٣.

٨٢

وطارد هارون يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، ثم آمنه، وحينما حمل إليه، سجنه وبقي في السجن إلى أن مات فيه، وقيل إن الموكل به منعه من الطعام أياماً فمات جوعاً(١) .

وفي عهده قتل حميد بن قحطبة الطائي ستين علوياً ورماهم في البئر بأمر من هارون حينما كان بطوس(٢) .

وعلى الرغم من ممارساته للإرهاب وقتله للعلويين إلاّ أنه لم يقدم على قتل الإمامعليه‌السلام ، وإنّما كان يكتفي بالتهديد أو التخطيط لقتله دون تنفيذ، ففي أحد المواقف قال: لأخرجن العام إلى مكة ولآخذنَّ علي ابن موسى ولأوردنّه حياض أبيه، وحينما وصل الخبر إلى الإمامعليه‌السلام قال: (ليس عليّ منه بأس)(٣) .

وحينما طلبه هارون للمثول أمامه قالعليه‌السلام لمن معه: (إنه لا يدعوني في هذا الوقت إلاّ لداهية، فوالله لا يمكنه أن يعمل بي شيئاً اكرهه) ولما دخل على هارون أكرمه وطلب منه أن يكتب حوائج أهله، وحينما خرجعليه‌السلام قال هارون: أردت وأراد الله وما أراد الله خير(٤) .

وبقي الإمامعليه‌السلام تحت رقابة شديدة من قبل عيون وجواسيس هارون، وكانوا ينقلون له كل ما يقوله، وكل ما يفعله، ويحصون عليه لقاءاته وزياراته، إلاّ أنه كان شديد الحذر من أجل أن يأمن هارون جانبه.

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٠٨.

(٢) عيون أخبار الرضا: ١ / ١٠٩.

(٣) إثبات الوصية: ١٧٤.

(٤) بحار الأنوار: ٤٩ / ١١٦، عن مهج الدعوات.

٨٣

ثانياً: الاستبداد

لقد استبد هارون بالحكم وجعله موروثاً لأولاده الثلاث من بعده، واختار ابنه محمداً بن زبيدة إرضاءً لها على الرغم من اعترافه بعدم أهلية محمد للخلافة، حيث اعترف بذلك قائلاً: وقد قدمت محمداً... وإني لأعلم أنّه منقاد إلى هواه، مبذر لما حوته يداه، يشارك في رأيه الإماء والنساء، ولولا أم جعفر - يعني زبيدة - وميل بني هاشم إليه لقدمت عبد الله عليه(١) .

فاختار ابن زبيدة لهواها فيه، ولم يكترث ممّا سيحل بالمسلمين من كوارث جراء التنافس بين ولديه الذي ذهب ضحيته الآف المسلمين في قتال دموي وإنفاق لأموال المسلمين في ذلك القتال.

ومن مظاهر الاستبداد هو إسناد المناصب الحكومية والعسكرية إلى أقربائه وخواصّه والمتملّقين إليه دون النظر إلى مؤهلاتهم الدينية والخلقية والإدارية.

ثالثاً: الأخطار الخارجية

كانت الدولة والحكومة محاطة بمخاطر خارجية ففي بداية عهد الإمام الرضاعليه‌السلام أوقع الخزر بالمسلمين وقعة شديدة الوطأة، قتل فيها الآلاف وأسر فيها من النساء والرجال أكثر من مائة ألف، وكما يقول المؤرخون: جرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله بمثله أبداً(٢) .

وكان الروم يتحيّنون الفرص للوثوب على المسلمين، وكانوا ينقضون الصلح بين فترة وأخرى، ولا يرجعون إليه إلاّ بمعارك طاحنة، وكان الغزو غير

____________________

(١) تاريخ الخميس ٦ ٢ / ٣٣٤.

(٢) تاريخ الإسلام للذهبي حوادث سنة ( ١٨١، ١٩١): ١٢.

٨٤

قائم على أسس نشر الإسلام وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، وإنّما الدافع إليه هوى الحاكم ورغبته في السيطرة على أكبر مساحة وأكثر عدد من الناس، وإضافة إلى إشغال المسلمين وإبعادهم عن السياسة والمعارضة وسلوك هارون خير شاهد على هذه الحقيقة، فالحريص على الإسلام والمسلمين لا ينشغل بالجواري والأمسيات الفكاهية، ولا ينشغل بالترف والملذات.

رابعاً: اختلال الجبهة الداخلية

بسبب السياسات الخاطئة التي مارسها هارون في مرحلة حكمه، ظهر الخلل والاضطراب في الجبهة الداخلية، ففي سنة (١٨٤ هـ) خرج أبو عمرو حمزة الشاري، واستمر في خروجه إلى سنة (١٨٥ هـ )، وقمع هارون حركته بعد مقتل عشرة آلاف من أنصاره والخارجين معه.

وفي نفس السنة قتل أهل طبرستان والي هارون.

وفي السنة نفسها خرج أبو الخصيب للمرّة الثانية وسيطر على نسا وأبيورد وطوس ونيسابور وزحف إلى مرو وسرخس وقوي أمره، ولم تنته حركته إلاّ بمقتل الآلاف من الطرفين سنة ( ١٨٦ هـ)(١) .

وتوسع الخلل في الجبهة الداخلية سنة (١٨٧ هـ) حينما قام هارون بقتل البرامكة وهم أركان الحكم والمشيدون له(٢) ، وقد كان لهم دور كبير في القضاء على خصوم العباسيين ومخالفيهم.

وفي السنة نفسها سجن هارون بن عبد الملك بن صالح بن علي العباسي، لسعي ابنه به وادعائه بأنه يطلب الخلافة(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٨ / ٢٧٢ - ٢٧٣.

(٢) تاريخ الطبري: ٨ / ٢٨٧.

(٣) الكامل في التاريخ: ٦ / ١٨٠.

٨٥

وقتل إبراهيم بن عثمان بن نهيك لطلبه بثأر البرامكة(١) .

وفي سنة (١٨٩ هـ) توجه هارون إلى الري بعد ما وصلته الأخبار بأنّ علي بن عيسى بن ماهان - والي خراسان - قد أجمع على خلافه، إضافة إلى القطيعة بينه وبين أهل خراسان، وعاد بعد أربعة أشهر إلى بغداد دون أن يعزله(٢) .

وكان هارون كثير العزل والإقصاء لقادة الأجهزة الحسّاسة في الحكومة، فمنصب قائد الشرطة قد تناوب عليه ثمانية أشخاص يعزل أحدهم ويستبدله بثان وهكذا(٣) .

والسياسة الخاطئة أدّت إلى ضعف العلاقة بين هارون والأمة، والتي وصلت إلى حد الكراهية والبغضاء، فعند مرور هارون على فضيل بن عياض بمكة قال فضيل: الناس يكرهون هذا(٤) .

وخلاصة القول: إن الأوضاع السياسية التي كان يمرّ بها حكم هارون جعلته يستثني من قتل الإمام الرضاعليه‌السلام لقرب العهد بمقتل والده مسجوناً، إضافة إلى أن عهد الإمام كان خالياً من الثورات العلوية التي قد تنسب مسؤوليتها إلى الإمامعليه‌السلام لو كانت قائمة.

وكان دور الإمامعليه‌السلام في هذه المرحلة هو الإصلاح الهادئ لجميع الأوضاع، ومن أعماله القيام بتوضيح المفاهيم السياسية السليمة دون إعلان المعارضة الصريحة.

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ٦ / ١٨٦.

(٢) الكامل في التاريخ: ٦ / ١٩١، ١٩٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٤٢٩.

(٤) تاريخ بغداد: ١٤ / ١٢.

٨٦

٢ - الأوضاع السياسية في عهد محمد ( الأمين )

عاصر الإمامعليه‌السلام حكومة محمد بن هارون خمس سنين، من سنة (١٩٣ هـ) إلى سنة (١٩٨ هـ )، وفي هذه المرحلة لم تظهر من محمد بن هارون أي مبادرة إرهابية باتجاه الإمامعليه‌السلام وباتجاه أهل البيت عموماً، فلم يهدّد بقتله وقتل بقية العلويين، ولم يذكر لنا التأريخ تصريحاً منه بالتفكير في ذلك، ولعلّ الظروف والأوضاع التي أحاطت به لم تساعده على ذلك، ففي بداية حكومته بدأ الخلاف بينه وبين أخيه عبد الله المأمون، وانقسمت الدولة الإسلامية في الحكم إلى قسمين، فلكل منهما أنصار وأتباع ومصادر قوة من أموال وسلاح.

وفي سنة (١٩٤ هـ) تمرّد أهل حمص على الحكومة العباسية فقام قائد جيش محمد الأمين بقتل وجوه أهالي حمص وسجن أهاليها وإلقاء النار في نواحيها، ولم ينته التمرّد إلا بعد مزيد من القتلى والخراب الاقتصادي.

وفي السنة نفسها أمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى بولاية العهد من بعده، ثم أمر أخاه المأمون أن يقدم ابنه موسى عليه فرفض.

وفي سنة ( ١٩٥ هـ) أرسل جيشاً إلى خراسان لقتال أخيه المأمون ولكن مني جيشه بالهزيمة، واستمر بإرسال الجيوش تباعاً إلى سنة ( ١٩٧ هـ) ولم تفلح جيوشه بالسيطرة على خراسان بل عادت متقهقرة، ولاحقتها جيوش المأمون إلى أن حاصرت بغداد حصاراً شديداً دام سنة كاملة.

وفي سنة (١٩٨ هـ) سيطرت جيوش المأمون على بغداد بعد قتال دام ذهب ضحيته عشرات الآلاف من الطرفين، وقُتِل الأمين ومن بقي معه من أصحابه، وأصبح المأمون هو الحاكم الوحيد الذي لا ينازعه منازع

٨٧

بعد مقتل أخيه(١) .

وهذه الظروف أدّت إلى عدم توفر فرصة لملاحقة الإمام الرضاعليه‌السلام وغيره من العلويين. وبطبيعة الحال، كان الإمامعليه‌السلام يستثمر هذه الظروف لإصلاح ما أمكن إصلاحه مما فسد في المجتمع الإسلامي والقيام بتوسيع القاعدة الشعبية الشيعية، ونشر المفاهيم والأفكار السليمة. وكان العلويون يقومون بإعادة بناء تنظيماتهم العسكرية، والإعداد لمرحلة مقبلة تبعاً للظروف التي تمر بها الحكومة والأمة الإسلامية معاً.

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ٦ / ٢٢٢ - ٢٨٢.

٨٨

الفصل الثالث: دور الإمام الرضاعليه‌السلام قبل ولاية العهد

لقد كان الإمامعليه‌السلام محطّ أنظار الفقهاء ومهوى أفئدة طلاّب العلم، ويشهد لذلك قولهعليه‌السلام : (كنت أجلس في الروضة، والعلماء بالمدينة متوافرون فإذا أعيى الواحد منهم عن مسألة أشاروا عليّ بأجمعهم وبعثوا إليّ بالمسائل فأجبت عنها)(١) .

وكانعليه‌السلام يأمر أتباعه بمداراة عقول الناس وعدم تحميلها ما لا تطيق من أفكار وعقائد، فقد قال لمحمد بن عبيد: (قل للعبّاسي: يكفّ عن الكلام في التوحيد وغيره، ويكلم الناس بما يعرفون، ويكفّ عمّا ينكرون)(٢) .

الإصلاح الفكري والديني

وضّح الإمامعليه‌السلام حقيقة التآمر الفكري في بلبلة عقول المسلمين، وأعطى قاعدة كلية في الأساليب والممارسات التي يستخدمها أعداء الإسلام لتشويه الأفكار والمفاهيم الإسلامية فقالعليه‌السلام : (إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول

____________________

(١) إعلام الورى: ٢/٦٤ وعنه في كشف الغمة: ٣/١٠٧ وفي بحار الأنوار: ٤٩/١٠٠.

(٢) التوحيد: ٩٥.

٨٩

بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم؛ ثلبونا بأسمائنا...)(١) .

واتخذ الإمامعليه‌السلام عدّة أساليب في مجال الإصلاح الفكري وإليك إيضاحها:

أوّلاً: الرد على الانحرافات الفكرية

قام الإمامعليه‌السلام بالرد على جميع ألوان الانحراف الفكري من أجل كسر الألفة بين المنحرفين وبينها، وكان يستهدف الأفكار والأقوال تارة، كما يستهدف الواضعين لها والمتأثرين بها تارة أخرى.

ففي ردّه على المشبّهة قالعليه‌السلام : (إلهي بدت قدرتك ولم تبد واهية فجهلوك، وقدروك والتقدير على غير ما به وصفوك وإنّي بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ليس كمثلك شيء)(٢) .

وفي ردّه على المجبرة والمفوضة قالعليه‌السلام : (من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ الله عَزَّ وجَلَّ فوض أمر الخلق والرزق إلى حججهعليهم‌السلام ، فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك)(٣) .

وله ردود عديدة على الغلاة والمجسّمة وأصحاب التفسير بالرأي والقياس، كما أن له ردوداً على الفرق غير الإسلامية كالزنادقة واليهود والنصارى وغيرهم.

وفنّد الإمامعليه‌السلام جميع الروايات التي يعتمد عليها المنحرفون، ووضّح

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٣٠٤.

(٢) عيون أخبار الرضا: ١ / ١١٧.

(٣) عيون أخبار الرضا: ١ / ١٢٤.

٩٠

بطلان صدورها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرشد المسلمين إلى الروايات الصحيحة، ففي رده على الرواية المفتعلة والمنسوبة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي جاء فيها: (أن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا)، قالعليه‌السلام : (لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله كذلك، وإنما قال: إن الله تعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل فيأمره فينادي هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فاغفر له... حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(١) .

كما دعا الإمام الرضاعليه‌السلام إلى مقاطعة المنحرفين كالمجبّرة والمفوّضة والغلاة مقاطعة كلية لمنع تأثيرهم في الأمة، وأسند هذه الأوامر إلى أجدادهعليهم‌السلام تارة وإليه ابتداءً تارة أخرى.

قالعليه‌السلام : (حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمدعليهما‌السلام ، أنه قال: من زعم أن الله تعالى يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم ما لا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا ورائه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً)(٢) .

وقالعليه‌السلام عن مقاطعة الغلاة والمفوّضة: (الغلاة كفّار والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو وأكلهم، أو شاربهم، أو وأصلهم، أو زوّجهم، أو تزوّج منهم، أو آمنهم، أو ائتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم، أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عَزَّ وجَلَّ وولاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولايتنا أهل البيت)(٣) .

بل أمر بمقاطعة جميع أصناف الغلاة فقالعليه‌السلام : (لعن الله الغلاة ألا كانوا يهوداً، ألا كانوا مجوساً، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدريّة، ألا كانوا مرجئة، ألا كانوا

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ١٢٦، ١٢٧.

(٢) عيون أخبار الرضا: ١ / ١٢٤.

(٣) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٠٣.

٩١

حرورية... لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم، وابرؤوا منهم برئ الله منهم)(١) .

وأمّا موقفهعليه‌السلام من الواقفة فيمكن تلخيصه بما يلي:

بعد أن استشهد الإمام الكاظمعليه‌السلام طالب الإمام الرضاعليه‌السلام جماعة من وكلائه بإرسال المال الذي كان بحوزتهم إليه، ولكنهم طمعوا به، فأجابوه: إن أباك (صلوات الله عليه) لم يمت وهو حي قائم، ومن ذكر أنّه مات فهو مبطل(٢) .

واستطاع هؤلاء أن يستميلوا بعض الناس لترويج فكرة أنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام لم يمت وأنّه القائم المنتظر.

وكان دور الإمامعليه‌السلام هو إثبات موت أبيه في المرحلة الأولى من مواجهة هذه الأفكار الهدّامة.

واستمر في مواجهتهم بشتى الأساليب، وكانت الحكومة آنذاك تشجع مثل هذه الأفكار الهدّامة لتفتيت التآزر والتآلف بين أتباع أهل البيتعليهم‌السلام . وما كان من الإمامعليه‌السلام إلاّ أن يعلن المواجهة مع الواقفة للقضاء عليهم، فقد لعنهم أمام أصحابه فقالعليه‌السلام : (لعنهم الله ما أشدّ كذبهم)(٣) .

وأمر بعدم مجالستهم تحجيماً لأفكارهم ومدّعياتهم، فقال لمحمد بن عاصم: (بلغني أنّك تجالس الواقفة؟) قال: نعم، جعلت فداك أجالسهم وأنا مخالف لهم، قال: (لا تجالسهم)(٤) .

وقالعليه‌السلام فيمن سأله عن الواقفة: (الواقف حائد عن الحق ومقيم على سيئة إن مات بها كانت جهنّم مأواه وبئس المصير)(٥) .

____________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢ / ٢٠٢.

(٢) الغيبة للطوسي: ٦٥ ح ٦٧ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٢٥٣.

(٣) رجال الكشي: ٤٥٨ ح ٨٦٨.

(٤) رجال الكشي: ٤٥٧ ح ٨٦٤.

(٥) رجال الكشي: ٤٥٥ ح ٨٦٠.

٩٢

وأمر بمنع الزكاة عنهم فعن يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام أعطي هؤلاء الذين يزعمون أن أباك حيّ من الزكاة شيئاً؟ قال: (لا تعطهم فإنهم كفار مشركون زنادقة)(١) .

وبذلك استطاع تحجيم دورهم وإيقاف حركتهم داخل كيان أنصار أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم تنتشر أفكارهم إلا عند أصحاب المطامع والأهواء.

ثانياً: نشر الأفكار السليمة

ابتدأ الإمامعليه‌السلام بالرد على الأفكار المنحرفة ثم أمر بمقاطعة واضعيها والقائلين بها والمتأثرين بها؛ لتطويقها في مهدها والحيلولة دون استشرائها في الواقع، ثم عمل على نشر الأفكار السليمة لتتم المحاصرة من جميع الجوانب.

فكانعليه‌السلام يقوم بتفسير الآيات القرآنية التي تتناول أصول وقواعد العقيدة والشريعة، ويهتمّ بنشر الأحاديث الشريفة عن آبائه وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي تكون هي الحاكمة على أفكار وتصورات المسلمين.

وكان يستثمر جميع الفرص المتاحة لتبيان الفكر السليم والمفاهيم الشرعية الصحيحة.

ففي مجال التوحيد قالعليه‌السلام : (حسبنا شهادة أن لا اله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، قيّوماً سميعاً بصيراً قوياً قائماً باقياً نوراً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنياً لا يحتاج، عدلاً لا يجور، خلق كل شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له، ولا ضدّ، ولا ندّ، ولا كفوء)(٢) .

وصنّفعليه‌السلام أصناف القائلين بالتوحيد فقال: (للناس في التوحيد ثلاثة

____________________

(١) رجال الكشي: ٤٥٦ ح ٨٦٢.

(٢) تحف العقول: ٣١٠.

٩٣

مذاهب: نفي وتشبيه وإثبات بغير تشبيه، فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه)(١) .

وسئلعليه‌السلام : أيكلّف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال: (هو أعدل من ذلك)، قيل له: فيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: (هم أعجز من ذلك)(٢) .

ونشر الأفكار الإسلامية يشكّل الركن الأساسي في الإصلاح الفكري لأنه يستبدل فكراً بفكر ورأياً برأي وتشريعاً بتشريع.

ثالثاً: إرجاع الأمة إلى العلماء

بعد توسّع القاعدة الشعبية لأهل البيتعليهم‌السلام وصعوبة الالتقاء بالإمامعليه‌السلام باستمرار، قام الإمامعليه‌السلام بإرجاع الأمة إلى عدد من العلماء لأخذ معالم دينهم، فعن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا، فقلت: إني لا ألقاك في كل وقت فعن من آخذ معالم ديني؟ قال: (خذ من يونس بن عبد الرحمن)(٣) .

وكان له أتباع من الفقهاء منتشرين في جميع الأمصار، يُرجع لهم أنصاره وسائر المسلمين لأخذ معالم الدين من عقائد وتشريعات وأحكام، منهم: أحمد بن محمد البزنطي، ومحمد بن الفضل الكوفي، وعبد الله بن جندب البجلي، والحسين بن سعيد الأهوازي.

وكان يتابع حركة الرواة لكي لا يكذبوا عليه أو على آبائه، فكان يقول عن يونس مولى علي بن يقطين: (كذب - لعنه الله - على أبي)(٤) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٣ / ٢٦٣.

(٢) الوافي بالوفيات: ٢٢ / ٢٤٩.

(٣) رجال الكشي: ٤٨٣ ح ٩١٠.

(٤) بحار الأنوار: ٤٩ / ٢٦١ - ٢٦٢ عن السرائر: ٣/٥٨٠.

٩٤

الاصلاح الاقتصادي

لم يكن الإمامعليه‌السلام على رأس سلطة حتى يستطيع إصلاح الأوضاع الاقتصادية إصلاحاً فعلياً، ولذا اكتفى بنشر المفاهيم الإسلامية المتعلقة بالحياة الاقتصادية والنظام الاقتصادي الإسلامي، فقد حدّد جوامع الشريعة في رسالة له طويلة اعتبر الانحراف عن نهج الإسلام الاقتصادي من الكبائر التي يعاقب عليها الإنسان، ومما جاء في هذه الرسالة: (واجتناب الكبائر، وهي... أكل مال اليتامى ظلماً... وأكل الربا والسحت بعد البينة، والميسر، والبخس في الميزان والمكيال... وحبس الحقوق من غير عسر... والإسراف والتبذير)(١) .

وكان يدعو إلى دفع الزكاة فيقول: (إن الله أمر بثلاثة مقرون بها ثلاثة أخرى: أمر بالصلاة والزكاة، فمن صلّى ولم يزكّ لم تقبل منه صلاته...)(٢) .

وكان يوضّح أسباب الظواهر السلبية ومنها حبس الزكاة فيقول: (إذا كذبت الولاة حبس المطر، وإذا جار السلطان هانت الدولة، وإذا حبست الزكاة ماتت المواشي)(٣) .

وكانعليه‌السلام يدعو إلى إيصال الزكاة إلى مستحقيها، فحينما سئل عن إعطاء الزكاة فيمن لا يعرف - إي بالإيمان - قال: ( لا، ولا زكاة الفطرة)(٤) .

وكان يقول: (وزكاة الفطرة فريضة... لا يجوز أن تعطى غير أهل الولاية لأنها فريضة)(٥) .

____________________

(١) تحف العقول: ٣١٦.

(٢) عيون أخبار الرضا: ١ / ٢٥٨.

(٣) وسائل الشيعة ٩ / ٣١، عن أمالي الطوسي: ١ / ٧٧.

(٤) وسائل الشيعة: ٩/٢٢١، عن الكافي: ٣ / ٥٤٧.

(٥) وسائل الشيعة: ٩ / ٣٣٩.

٩٥

وهذا تصريح يكشف التلاعب بأموال المسلمين من قبل الحكّام بتوزيعهم الأموال حسب أهوائهم ورغباتهم دون التقيّد بميزان شرعي.

وكان يدعو إلى إعطاء الخمس إلى الإمام الحقّ وليس إلى الحاكم المغتصب للخلافة ففي كتابه إلى أحد تجّار فارس ردّاً على سؤال له يقول: (... لا يحلّ مال إلاّ من وجه أحله الله. إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى موالينا، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته، فلا تزووه عنّا... فإنّ إخراجه مفتاح رزقكم، وتمحيص ذنوبكم...)(١) .

وكان يدعو إلى التكافل الاقتصادي ويحثّ عليه قالعليه‌السلام : (السخي يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه)(٢) .

وقال لعلي بن يقطين: (أضمن لي الكاهلي وعياله وأضمن لك الجنّة)(٣) .

وكان يحارب الإسراف والتبذير، فعن ياسر الخادم قال: أكل الغلمان يوماً فاكهة، فلم يستقصوا أكلها ورموا بها فقال لهم أبو الحسنعليه‌السلام : (سبحان الله! إن كنتم استغنيتم فإنّ إناساً لم يستغنوا، اطعموه من يحتاج إليه)(٤) .

وكان ينفق ما يصل إليه من أموال على الفقراء والمعوزين حتى إنه وزع جميع ما يملك في يوم عرفة(٥) .

وكان قدوة في الصدقة والعطاء لتقتدي به الأُمة، ويكون عمله ميزاناً تزن به الأُمة ممارسات الحكّام المالية، لتميز بين منهجين اقتصاديين، منهج أهل البيتعليهم‌السلام ومنهج الحكّام المتلاعبين بأموال المسلمين.

____________________

(١) وسائل الشيعة: ٩ / ٥٣٨، عن الكافي ١ / ٤٦٠.

(٢) فرائد السمطين: ٢ / ٢٢٣.

(٣) رجال الكشي: ٤٣٥ ح ٨٢٠.

(٤) الكافي: ٦ / ٢٩٧.

(٥) بحار الأنوار: ٤٩ / ١٠٠، عن: مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٣٩٠.

٩٦

وكان يحارب التصوّف ومفاهيم الزهد الخاطئ، الذي شجّع عليه الحكّام لإبعاد الأُمة عن المطالبة بحقوقها، أو الدعوة إلى التوازن الاقتصادي، فكانعليه‌السلام يجلس في الصيف على حصير وفي الشتاء على بساط من شعر، ويلبس الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيّن لهم(١) .

ودخل عليه قوم من الصوفية فقالوا له:... والأئمة تحتاج إلى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض؟ فأجابهم بالقول: (كان يوسف نبياً يلبس أقبية الديباج المزردة بالذهب ويجلس على متكئات آل فرعون، ويحكم! إنما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق وإذا حكم عدل، وإذا وعد أنجز. إن الله لم يحرم لبوساً ولا مطعماً...)(٢) .

والدعوة إلى رفض المفاهيم الخاطئة للزهد هي معارضة صامتة للحكّام الذين سمحوا بانتشار هذه المفاهيم.

الإصلاح الأخلاقي

كان الإمامعليه‌السلام يستثمر جميع الفرص المتاحة للإصلاح والتغيير الأخلاقي والاجتماعي وبناء واقع جديد مغاير لما عليه عامة الناس، ولهذا تعددت أساليبه التربوية الإصلاحية فكانت كما يلي:

أولاً: إحياء روح الاقتداء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قام الإمامعليه‌السلام بتوجيه الأنظار والقلوب للاقتداء بأرقى النماذج البشرية وهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو قدوة للحكّام باعتباره حاكماً ورئيس دولة، وقدوة

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٧٨.

(٢) كشف الغمة: ٣ / ١٠٠ عن الآبي في نثر الدرر، الفصول المهمة: ٢٥٤.

٩٧

للفقهاء، وقدوة لسائر المسلمين من أفراد وجماعات.

وإذا كانت الحكومات المعاصرة للإمامعليه‌السلام تضيّق الخناق على الإمامعليه‌السلام في حالة التدخل في السياسة فإنها لا تستطيع أن تمنعه من الحديث المتعلق بأخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصاً أخلاقه كحاكم، ولذا وجدعليه‌السلام الظروف مناسبة للدعوة إلى الاقتداء بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد كان يذكر الأحاديث عن أجداده حول أخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنها الحديث المروي عن الإمام الحسنعليه‌السلام عن أبيهعليه‌السلام في صفات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأخلاقية:

(... وكان من سيرته في جزء الأُمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيشاغل ويشغلهم فيما أصلحهم وأصلح الأُمة من مسألته عنهم وأخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته... كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخزن لسانه إلاَّ عما يعنيه... ويكرم كريم قوم ويولّيه عليهم... ويتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس... خيارهم عنده وأعمهم نصيحة للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة وموازرة... وقد وسع الناس منه خلقه وصار لهم أباً رحيماً، وصاروا عنده في الحق سواء... كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب... وترك من الناس من ثلاث كان لا يذم أحداً ولا يعيّره ولا يطلب عثراته ولا عورته... وجمع له الحلم مع الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه، وجمع له الحذر مع أربع: أخذه الحسن ليقتدى به، وتركه الباطل لينتهى عنه، واجتهاده الرأي في إصلاح أمته والقيام فيما جمع لهم من خير الدنيا والآخرة)(١) .

وهذه الدعوة دعوة صامتة لتقوم الأُمة بتشخيص منهجين في الأخلاق: منهج الحكّام ومنهج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو منهج أهل البيتعليهم‌السلام . وقد

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ٣١٧ - ٣١٩.

٩٨

فوّت الإمامعليه‌السلام على الحكّام فرصة منعه من التحدث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجانب الخلقي. وهكذا كانت الدعوة إلى الاقتداء برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوة صامتة وسلميّة لكشف حقيقة أخلاق الحكّام.

ثانياً: القيام بدور القدوة

إن دور الإمامعليه‌السلام هو دور القدوة، وقد أدى الإمامعليه‌السلام هذا الدور أداءً مطابقاً لقيم الإسلام الثابتة، وأبرز للمسلمين نموذجاً من أرقى نماذج الخلق الإسلامي الرفيع، وكان قمة في الصدق وأداء الأمانة والوفاء بالعهد، والتواضع، واحترام الآخرين، والاهتمام بالمسلمين، وقضاء حوائجهم.

وكان يعالج الواقع الفاسد في العلاقات معالجة عملية، ومن مواقفه العملية انه دعا يوماً بمائدة، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقيل له: لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: (إن الربّ تبارك وتعالى واحد والأم واحدة والأب واحد والجزاء بالأعمال)(١) .

وقال لخدّامه: (إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون، فلا تقوموا حتى تفرغوا).

وكان لا يستخدم أحداً من خدّامه حتى يفرغ من طعامه(٢) .

ووصفه إبراهيم بن العباس: ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، ما جفا أحداً ولا قطع على أحد كلامه، ولا ردّ أحداً عن حاجة، وما مدّ رجليه بين يدي جليس، ولا اتكئ قبله، ولا شتم مواليه ومماليكه، ولا قهقه في ضحكة، وكان يجلس على مائدة مماليكه... كثير

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٩ / ١٠٢ عن فروع الكافي.

(٢) الكافي: ٦ / ٢٨٩.

٩٩

المعروف والصدقة في السر...(١) .

وكان متواضعاً للناس، دخل الحمام فقال له بعض الناس: دلّكني يا رجل. فجعل يدلّكه فعرّفوه، فجعل الرجل يعتذر منه، وهو يطيب قلبه ويدلّكه(٢) .

وكانعليه‌السلام كثير العفو والصفح لا يقابل الإساءة بالإساءة، رحيماً لا يحمل حقداً ولا عداءاً لمن يؤذيه من عامة الناس أو من خواصهم، فقد عفى عن الجلودي الذي سلب حلي نساء أهل البيتعليهم‌السلام عندما هجم على دار الإمام الرضاعليه‌السلام في عهد هارون، وطلب من المأمون أن لا يمسّه بسوء(٣) .

وقال شعراً يصف به أخلاقه الكريمة لتقتدي به الأُمة:

إذا كان من دوني بليت بجهله

أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل

وإن كان مثلي في محلّي من النهى

أخذت بحلمي كي أجلّ عن المثل

وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى

عرفت له حق التقدّم والفضل (٤)

ثالثاً: الدعوة إلى مكارم الأخلاق

كانعليه‌السلام يدعو إلى التمسك بمكارم الأخلاق ومحاسنها، ويعمق هذه الدعوة من خلال نشر أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي ترسم للمسلمين المنهج السلوكي السليم، ومن تلك الأحاديث التي رواها:

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة

____________________

(١) إعلام الورى: ٢/٦٤ وعنه في كشف الغمة: ٣/١٠٦ وفي مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٣٨٩.

(٢) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٣٩١.

(٣) أعيان الشيعة: ٢ / ٢٥.

(٤) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٤٠٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول :( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) .

إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

١٦١

الآيتان

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمرا :

تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) .

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (٢١) من سورة (ق) ، إذ تقول :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

١٦٢

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).

ثم تضيف( حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (١) .

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا الحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجانا وتوبيخا لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله(٢) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّا إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين :( قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا( كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (٣٩) من سورة البقرة( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

(٢) «يتلون» و «ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.

١٦٣

وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميع إلّا عبادك المخلصين ، فأجابه البارئعزوجل ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وأنكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس)( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.

وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(٢) .

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

__________________

(١) الم السجدة ، ١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (٢٧).

١٦٤

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.

نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(١) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث. ٦.

١٦٥

الآيات

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة أفواجا!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد ، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة ، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم ، لتتوضح الأمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) .

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل ، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين ، لأنّ هذا

١٦٦

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه ، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم ، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض : إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال : إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء البارئعزوجل يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض : إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أنّ هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينهما ، إلّا أنّ هناك نقطة اخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة ، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة ، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف ، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظة أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة ، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم : إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب ، ويقول بشأن أهل الجنّة ، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

__________________

(١) ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة ، أنسبها الذي يقول : إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف ، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها ، والبعض قال : (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.

١٦٧

من قبل ، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة ، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم ، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين ، عند ما يقولون لهم : قد هيئت لكم أسباب الهداية ، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل ، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخول الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة ، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية ، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا ، وتعني : لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اخرى : طابت لكم هذه النعم الطاهرة ، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها ، وقالوا : إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث ، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم ، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي ، ونقل البعض رواية تقول : إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة ، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان ، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم ، ويغتسلون بماء العين الأخرى فيتطهر ظاهرهم ، و، هنا يقول خزنة الجنّة لهم :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار ، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية ، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

__________________

(١) تفسير القرطبي المجلد (٨) الصفحة. ٥٧٣.

١٦٨

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم ، حيث تقول :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

وتضيف في العبارة التالية( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) .

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا ، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه ، إذ ـ كما هو معروف ـ فإنّ الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم ، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره ، وإن عمل عملا صالحا استحق به الجنّة ، فيمنح مكانا في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الإرث ، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (٦٣) من سورة مريم( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) .

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة ، إذ تقول :( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) .

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (٧٢) من سورة التوبة عبارة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وأهل الجنّة وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها ، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الأخيرة فتقول :( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.

١٦٩

وهنا يطرح هذه السؤال وهو : هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة ، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين ، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول : إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله ، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية ، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي ، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئعزوجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء ، فإنّ الجملة الأخيرة تقول :( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة ، أم عن أهل الجنّة المتقين ، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره ، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب ، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين ، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *

١٧٠
١٧١

سورة

المؤمن

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١٧٢

«سورة المؤمن»

نظرة مختصرة في محتوى السورة :

سورة المؤمن هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضا ، نزلت جميعا في مكّة ، وهي تبدأ بـ «حم».

هذه السورة كسائر السور المكّية ، تثير في محتواها قضايا العقيدة و، تتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.

ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف ، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة السورة ـ إذا ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين ، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.

وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى ، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسىعليه‌السلام ، وقصد مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».

إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون ، ومحسوب ـ ظاهرا ـ من حاشيته ـ لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسىعليه‌السلام ، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن موسىعليه‌السلام وعن دينه ، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسىعليه‌السلام

١٧٣

للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.

إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده ، أي ما يقارب ربع السورة.

يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة ، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالإسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين ، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس عليهما غبار.

لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها ، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالبعليه‌السلام عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من جملة هؤلاء ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

القسم الأوّل : وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى ، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ ) و( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

القسم الثّاني : تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواما اخرى في ماضي التأريخ ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

القسم الثّالث : بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

__________________

(١) الغدير ، المجلد الثامن ، ص ٣٨٨.

١٧٤

اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسىعليه‌السلام من كيدها.

القسم الرّابع : تعود السورة مرّة اخرى للحديث عن مشاهد القيامة ، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.

القسم الخامس : تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

القسم السّادس : تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحمل والصبر ، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد ، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية ، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا ، ليكون ذلك تهديدا للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة :

في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.

ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الحواميم تاج

١٧٥

القرآن»(١) .

وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «الحواميم ريحان القرآن ، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها ، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(٣) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : الّلهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(٤) .

وفي قسم من حديث مروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له»(٥) .

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والالتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة ، فإنّ التلاوة المعنية هي التي

__________________

(١) هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.

(٢) المصدر السابق

(٣) مجمع البيان أثناء تفسير السورة

(٤) البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ٣٦.

(٥) مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.

١٧٦

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح ، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل ، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكر – المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».

* * *

١٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

التّفسير

صفات تبعث الأمل في النفوس :

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة بـ «جاء» و «ميم».

وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها ، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة» ، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اخرى.

الشيء الذي تضيفه هنا ، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها ، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك

١٧٨

عن الامام الصادقعليه‌السلام (١) .

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.

عن ابن عباس ، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(٢) .

ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يتشكّل في مادته الخام من حروف الألف باء وهنا يمكن معنى الإعجاز.

يقول تعالى :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمسا من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.

ويقول تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) .

( قابِلِ التَّوْبِ ) (٣) .

__________________

(١) يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق ، صفحة ٢٢ ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٢) تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.

(٣) «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).

١٧٩

( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

( ذِي الطَّوْلِ ) (١) .

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

* * *

ملاحظات

تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات ، نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

أولا : في الآيات أعلاه (آية ٢ و ٣) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية ، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب ، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.

أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحدة الأحد.

ثانيا : ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيرا ، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ

__________________

(١) «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل ، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول : إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين ، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253