اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)23%

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 253

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132802 / تحميل: 7942
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الإمامعليه‌السلام وإنما على القائد المباشر المشرف على الخط العسكري.

وكان الإمامعليه‌السلام يحيط تحركه بسرية تامة ففي سنة (١٩٩ هـ) قبل انطلاق الثورة على المأمون، اجتمع أنصار محمد بن سليمان العلوي بالمدينة وطلبوا منه أن يبعث إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ويدعوه للقيام معه، فأرسل إليه أحد المقترحين فأجابه الإمامعليه‌السلام : (إذا مضى عشرون يوماً أتيتك)، فمكثوا أياماً فلما كان يوم ثمانية عشر قامت القوات العباسية بمحاربتهم والقضاء على ثورتهم في مهدها(١) .

والظروف السياسية قد تعطي انطباعاً لدى المسلمين من عدم علاقة الإمام بالثوار، وقد يكون الإمامعليه‌السلام قد أعطى صلاحيات مطلقة لقادة الخط العسكري دون الرجوع إليه باستمرار وإنما متابعة الأحداث والمواقف عن بعد، فحينما أراد محمد بن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام الثورة في يوم معيّن أرسل إليه الإمامعليه‌السلام : (لا تخرج غداً فإنك إن خرجت هزمت وقتل أصحابك)(٢) .

وبعد سنتين من سيطرة المأمون على زمام الحكم، وبالتحديد في سنة (٢٠٠ هـ) كتب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوه للقدوم إلى خراسان، فاعتلعليه‌السلام بعلل كثيرة، واستمر المأمون يكاتبه ويسأله حتى علمعليه‌السلام أنّه لا يكف عنه، فاستجاب له، وأمر الموكل بالإمامعليه‌السلام أن لا يسير به عن طريق الكوفة وقم، فسار به عن طريق البصرة والأهواز وفارس حتى وصل إلى مرو، وهنالك عرض عليه المأمون أن يتقلّد الخلافة والإمرة، فأبىعليه‌السلام ذلك، وجرت في هذه القضية مخاطبات كثيرة دامت نحواً من شهرين، وكان الإمامعليه‌السلام يأبى أن يقبل ما يعرض عليه، فلما كثر الكلام والخطاب في هذه

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٠٨.

(٢) أصول الكافي: ١/٤٩١، مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٣٦٨، وعن الكافي في بحار الأنوار: ٤٩/٥٧.

١٢١

القضية، قال المأمون: فولاية العهد، فأجابه الإمامعليه‌السلام بعد الإلحاح والتلويح بالقتل إلى ذلك. وشرطعليه‌السلام بعض الشروط وقالعليه‌السلام : (إني ادخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي ولا أغيّر شيئاً ممّا هو قائم وتعفيني من ذلك كله)(١) . فأجابه المأمون إلى ذلك، فتمّت ولاية العهد في الخامس من رمضان سنة (٢٠١ هـ)(٢) .

دوافع المأمون لفرض ولاية العهد على الإمامعليه‌السلام

لم تكن دوافع المأمون من جعل الإمامعليه‌السلام ولياً لعهده نابعة من ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام ؛ لأن مغريات السلطة والرئاسة متغلبة على جميع الولاءات والميول، ولم يكن المأمون صادقاً في ولائه، وكان ميله للعلويين اصطناعاً(٣) ، ولا يمكن التصديق بعمق الولاء حتى يكون دافعاً للتنازل عن الحكم وتسليمه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام أو توليته للعهد من بعده، فهل يُعقل أن يضحّي المأمون بالحكم الذي قتل من أجله الآلاف من الجنود والقادة، وقتل أخاه وبعض أهل بيته، ثم يسلّمه إلى غيره؟!

وبالفعل لم يدم الأمر طويلاً، ورحل الإمامعليه‌السلام إلى ربّه والمأمون حي يرزق، فدوافع المأمون نابعة من مصلحة حكمه ومستقبل أهل بيته، وهو حال جميع أو أغلب الحكام المتعاقبين على دفة الحكم، وإلا فما معنى الإلحاح على الإمامعليه‌السلام حتى وصل إلى درجة التلويح بل التصريح بالقتل - كما سيأتي - ويمكن تحديد دوافع المأمون بالنقاط التالية:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٤٩، ١٥٠.

(٢) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٤٥.

(٣) شذرات الذهب: ٢ / ٣.

١٢٢

أولاً: تهدئة الأوضاع المضطربة

كانت الأوضاع في عهد المأمون مضطربة للغاية، فبعد قتال دام مع أخيه واستيلائه على الحكم فوجئ بعدة ثورات وحركات مسلحة، ومنها ثورات العلويين، وكان المعارضون لحكمه منتشرين في جميع الأمصار الإسلامية، وقد وضّح المأمون حقيقة الأوضاع قائلاً: والله ما أنزلت قيساً من ظهور خيولها إلاّ وأنا أرى أنّه لم يبق في بيت مالي درهم واحد... وأمّا اليمن، فو الله ما أحببتها، ولا أحبتني قطّ، وأمّا قضاعة فساداتها تنتظر السفياني، حتى تكون من أشياعها، وأما ربيعة فساخطة على ربّها مذ بعث الله نبيّه من مُضر(١) .

وقد خلخلت الثورات المسلحة الوضع العسكري والسياسي، فقد نظر في الدواوين فوجد من قتل من أصحاب السلطان في وقائع أبي السرايا مائتا ألف رجل(٢) .

فأراد المأمون من تقريب الإمامعليه‌السلام وتولّيه العهد أن يستقطب أعوانه وأنصاره، ويوقف زحفهم ونشاطهم العسكري، بل يستميلهم إلى جانبه ليتفرّغ إلى بقية الثائرين والمتمردين الذين لا يعتد بهم قياساً للثوار العلويين.

وأراد كسب الأغلبية العظمى من المسلمين لارتباطهم العاطفي والروحي بالإمامعليه‌السلام وخصوصاً أهل خراسان الذين أعانوه على احتلال بغداد، والشاهد على ذلك استقبال الإمامعليه‌السلام من قبل العلماء والفقهاء وأصحاب الحديث، والذين بلغ عددهم عشرين ألفاً في نيسابور(٣) .

وبتقريب الإمامعليه‌السلام كان يمكنه امتصاص نقمة المعارضة، وتفويت

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ٦ / ٤٣٢، ٤٣٣.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٥٥٠.

(٣) الفصول المهمة: ٢٥١، نور الابصار: ١٧٠.

١٢٣

الفرصة عليها للمطالبة بالحكم، وشق صفوفها عن طريق تقريب البعض وإقناعهم بترك الثورة المسلحة دون البعض الآخر.

ثانياً: إضفاء الشرعية على حكمه

إنّ شرعية الحاكم عند المسلمين مستمدة من النص عليه من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو رأي أهل البيتعليهم‌السلام أو من الشورى وموافقة أهل الحل والعقد، أو العهد من قبل السابق مشروطاً برضى الأُمة المتأخّر عن زمن العهد وهو رأي بقية الفقهاء، وهؤلاء الفقهاء وإن أقرّوا حكومة المأمون إلا أن إقرارهم كان نابعاً من الترغيب والترهيب، أو استسلاماً منهم للأمر الواقع وعدم قدرتهم على إزالته.

من هنا فالمأمون أدرك أن حكمه بحاجة إلى إضفاء الشرعية عليه، لذا اظهر استعداد التنازل عن الحكم ليقوم الإمام الرضاعليه‌السلام بالتصدّي له، وحينما رفض الإمامعليه‌السلام استلام الحكم عرض عليه ولاية العهد فاضطره إلى قبولها، والإمامعليه‌السلام موضع قبول ورضى من قبل جميع المسلمين كما عبّر الإمام محمد الجوادعليه‌السلام عن هذه الحقيقة بقوله: (رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائهعليهم‌السلام ، فلذلك سمي من بينهم الرضا)(١) .

وقبوله للعهد - في رأي المأمون ورأي كثير من المسلمين - يعني اعترافه بشرعية حكم المأمون، والرضا الظاهري بتقبّل ولاية العهد، يعني رضاه عن الحكم الواقع وعدم معارضته له، ورضاه هو رضا الأُمة التي تواليه عاطفياً وفكرياً.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ١٣ وعنه في البحار: ٤٩/٤.

١٢٤

ثالثاً: منع الإمام من الدعوة لنفسه

إن الإمامعليه‌السلام مسؤول عن دعوة الأُمة للارتباط بالإمام الحق وبالمنهج الحق، والمتجسّد بإمامته وبمنهج أهل البيتعليهم‌السلام ، ولذلك فإنّه لا يتوانى عن هذه المسؤولية، ومن هنا كان تفكير المأمون منصباً على منع الإمام من الدعوة لنفسه، أو تحجيم سعة الدعوة، والمتعارف عليه أن ولي العهد يدعو للحاكم الفعلي ثم يدعو لنفسه، وقد عبّر المأمون عن دوافعه بالقول: قد كان هذا الرجل مستتراً عنّا يدعو إلى نفسه دوننا، فأردنا أن نجعله وليّ عهدنا ليكون دعاؤه إلينا(١) .

رابعاً: إبعاد الإمام عن قواعده

وجود الإمامعليه‌السلام في العاصمة إلى جنب المأمون يعني ابتعاده عن قواعده الشعبية، وتحجيم الفرص المتاحة للاجتماع بوكلائه ونوّابه المنتشرين في شرق الأرض وغربها، وإبعاد الإمامعليه‌السلام عن قواعده يعني التقليل من التوجيه والإرشاد المباشر لها، ومن خلال ذلك يمكن مراقبة الإمامعليه‌السلام مراقبة دقيقةً ومعرفة تحركاته ولقاءاته اليومية، فقد قام المأمون بتقريب هشام بن إبراهيم الراشدي، وقد كان ممّن يتقرّب إلى الإمامعليه‌السلام ويحاول الاختصاص به وولاّه حجابة الإمامعليه‌السلام ، فكان ينقل الأخبار إليه، وكان يمنع من اتصال كثير من مواليه به، وكان لا يتكلم الإمام في شيء إلاّ أورده هشام على المأمون(٢) .

خامساً: إيقاف خطر الإمام على الحكم القائم

إن التفاف المسلمين حول الإمامعليه‌السلام وتوسع قاعدته الشعبية كان

____________________

(١) فرائد السمطين: ٢ / ٢١٤.

(٢) عيون أخبار الرضا: ٢/١٥٣ ح ٢٢ وعنه في بحار الأنوار: ٤٩ / ١٣٩.

١٢٥

يشكل خطراً على الحكم القائم وخصوصاً أن الحكم قد خرج من معارك طاحنة بين الأمين والمأمون، وبين المأمون والمعارضين، فقوة الإمامعليه‌السلام تعني ضعف المأمون، وقد اعترف المأمون بذلك فقال: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسدّه، ويأتي علينا ما لا نطيقه(١) .

سادساً: تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام

أراد المأمون من خلال تولية الإمامعليه‌السلام للعهد أن يشوه سمعته بالتدريج عن طريق عيونه ووسائل إعلامه، وقد كشف الإمامعليه‌السلام هذه الحقيقة للمأمون بقوله: (تريد بذلك أن يقول الناس إن علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً بالخلافة)(٢) .

وصرّح المأمون للعباسيين ببعض دوافعه بقوله: ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً حتى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحق هذا الأمر(٣) .

سابعاً: تفتيت جبهة المعارضة

إن المعارضين لحكم المأمون سينظرون إلى الإمامعليه‌السلام على أنه جزء من الحكومة القائمة، وتتعمّق هذه النظرة حينما يجدون أن إخوة الإمامعليه‌السلام وأبناء عمومته قد أصبحوا ولاة وأمراء على الأمصار، وبالفعل فقد عيّن المأمون العباس وإبراهيم أخويّ الإمامعليه‌السلام ولاة على الكوفة واليمن(٤) .

ففي هذه الحالة أصبح باقي المعارضين وجهاً لوجه أمام أنصار

____________________

(١) فرائد السمطين: ٢ / ٢١٤.

(٢) علل الشرائع: ٢٣٨.

(٣) فرائد السمطين: ٢ / ٢١٥.

(٤) تاريخ ابن خلدون: ٥ / ٥٢٧، ٥٣٢.

١٢٦

الإمامعليه‌السلام ، وهذا يعني تفتيت جبهة المعارضة، فإذا أرادت المعارضة القيام بحركة مسلحة فإنها ستواجه الوالي العلوي مباشرة، ويقوم الوالي بإصدار الأوامر لقمعها، وتلقى المسؤولية عليه، وكان المأمون يتمنى هذا الأمر فلجأ إلى تولية الإمامعليه‌السلام ولاية العهد ليحقق هذه الأمنية، وإضافة إلى ذلك فإنه أراد أن يلقي مسؤولية بعض المفاسد الإدارية والحكومية على من نصّبهم في الأمصار من أهل البيتعليهم‌السلام أو من أتباعهم.

أسباب قبول الإمامعليه‌السلام بولاية العهد

قال المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام : يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي.

فقال الإمامعليه‌السلام : (بالعبودية لله عَزَّ وجَلَّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله تعالى).

فقال له المأمون: إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك!.

فقال له الرضاعليه‌السلام : (إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك).

فقال له المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ من قبول هذا الأمر.

فقالعليه‌السلام : (لست أفعل ذلك طايعاً أبداً).

فما زال يجهد به أيّاماً حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل

١٢٧

الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.

ثم جرى بينهما كلام أوضح فيه الإمام دوافع المأمون من ذلك، فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك.

فقال الإمامعليه‌السلام : (قد نهاني الله عَزَّ وجَلَّ أن أُلقي بيدي إلى التهلكة فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك على أن لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقضنّ رسماً ولا سنة وأكون في الأمر بعيداً مشيراً)، فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهده على كراهة منهعليه‌السلام لذلك(١) .

وفي رواية أخرى، أن المأمون قال له: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة، أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما أريده منك، فإني لا أجد محيصاً منه(٢) .

وقد صرّح الإمامعليه‌السلام باضطراره للقبول لمن سأله أو اعترض عليه بسبب قبوله فقالعليه‌السلام : (قد علم الله كراهيتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل أخترت القبول على القتل، ويحهم! أما علموا أن يوسفعليه‌السلام كان نبياً ورسولاً، فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال:( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (٣) ، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان)(٤) .

وقيل له: يا ابن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟

____________________

(١) علل الشرايع: ٢٣٧ - ٢٣٨.

(٢) الارشاد: ٢/٢٥٩، ٢٦٠.

(٣) يوسف (١٢): ٥٥.

(٤) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٣٩.

١٢٨

فقالعليه‌السلام : (ما حمل جدي أمير المؤمنينعليه‌السلام على الدخول في الشورى)(١) .

والإمامعليه‌السلام لم يستسلم للقبول خائفاً من قتل نفسه، وإنما يكون قتله خسارة للحركة الرسالية، وإن الأُمة في تلك المرحلة بحاجة إلى قيادته في جميع مجالات الحياة، فلو قتل فإن الاضطراب والخلل سيعم قواعده الشعبية، وكذلك سيكون قتله فاتحة لقتل أهل بيته وأعوانه وأنصاره، وقد يؤدّي قتله إلى قيام ثورات مسلّحة دون تأنٍّ ورويّة، يدفعها طلب الثأر والانتقام إلى ثورة عاطفية مفاجئة دون تخطيط مسبق، وبالتالي تنهار القوة العسكرية دون أن تغيّر من الأحداث شيئاً.

نعم، هذا هو السبب الوحيد - كما يبدو - لقبول الإمامعليه‌السلام لولاية العهد عن إكراه واضطرار. ومن هنا فالإمامعليه‌السلام لا بد أن يستثمر ما يمكنه استثماره لإحياء السنن وإماتة البدع وتعبئة الطاقات وإفشال خطط المأمون المستقبلية وتصحيح ما يمكنه من أفكار ومفاهيم سياسية خاطئة.

استثمار الإمامعليه‌السلام للظروف

أولاً: استثمار الظروف لإقامة الدين وإحياء السنّة

إن الحرية النسبية الممنوحة للإمامعليه‌السلام ولأهل بيته وأنصاره هي فرصة مناسبة لتبيان معالم الدين وإحياء السنة، ونشر منهج أهل البيتعليهم‌السلام في مختلف الأوساط الاجتماعية والسياسية، فالإمامعليه‌السلام يمكنه التحرك في البلاط والالتقاء بالوزراء وقادة الجيش وخواص المأمون، ويمكن لإخوانه الذين أصبحوا ولاة التحرك في أمصارهم، وكذلك أنصاره يمكنهم التحرك في

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٤١.

١٢٩

وسط الأُمة، وفي هذا الصدد قالعليه‌السلام : (اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد أكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد الله المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده... اللهم لا عهد إلاّ عهدك، ولا ولاية إلاّ من قبلك، فوفقني لإقامة دينك، وإحياء سنة نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنك أنت المولى وأنت النصير، ونعم المولى أنت ونعم النصير)(١) .

وقد سمحت الظروف للإمامعليه‌السلام لتبيان المنهج السليم أمام الوزراء والقضاة والفقهاء وأهل الديانات الذين جمعهم المأمون لمناظرة الإمام، إضافة إلى قيامه بتوجيه المأمون إلى اتخاذ الرأي والموقف الأصوب، وحل المسائل المستعصية.

ثانياً: تعبئة الطاقات

بعد فشل الثورات العلوية وانكسارها عسكرياً، أصبح الظرف مناسباً لإعادة بناء قوّاتها، وتعبئة الطاقات عن طريق إيقاف الملاحقة والمطاردة لها، فهي بحاجة إلى قسط من الراحة لإدامة التحرك فيما بعد، وهذه المكاسب لا تتحقق إن لم يقبل الإمامعليه‌السلام بولاية العهد.

ثالثاً: إفشال مخططات المأمون

من المتوقع أن يقوم المأمون - في حالة رفض الإمامعليه‌السلام لقبول ولاية العهد - بتولية العهد لأحد العلويين، ويستثني عن إكراه الإمامعليه‌السلام وقتله، والعلوي الذي ينصبه ولياً للعهد، إما أن يكون مساوماً وانتهازياً، أو مخلصاً قليل الوعي، أو مخلصاً معرّضاً للانزلاق في مغريات السلطة، وفي جميع الحالات، فإنّ هذا الموقف سيؤدي إلى شق

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ١ / ١٩.

١٣٠

صفوف أنصار أهل البيتعليهم‌السلام ، أو توريط العلوي بممارسات خاطئة تؤدّي إلى تشويه سمعة أهل البيتعليهم‌السلام ، أو إلقاء المسؤولية عليه، وقد يؤدّي انزلاق من يتولى العهد من العلويين إلى قيامه بمعارضة الإمامعليه‌السلام أو ملاحقة أتباعه وأنصاره.

وبقبول الإمامعليه‌السلام لولاية العهد فوّت الفرصة على المأمون لإمرار مخططاته في شق صفوف أنصار أهل البيتعليهم‌السلام أو إلقاء تبعية المفاسد على من ينسب إليهم.

رابعاً: تصحيح الأفكار السياسية الخاطئة

من الأفكار السائدة عند كثير من المسلمين هي عدم ارتباط الدين بالسياسة، وأنّه لا يليق بالأئمة والفقهاء أن يكونوا سياسيين، أو يتولوا المناصب السياسية، وأن الزهد في الحكومة والخلافة هو مقياس التقييم، وقد حاول العباسيون تركيز هذا المفهوم عند المسلمين، فأراد الإمامعليه‌السلام بقبوله بولاية العهد أن يصحح هذه الأفكار السياسية الخاطئة ويوضّح للمسلمين وجوب التصدي للحكم إن كانت الظروف مناسبة للتصدي.

والأفكار الخاطئة حقيقة قائمة، فقد دخل أحد أنصار الإمامعليه‌السلام عليه وقال له: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا(١) .

ولا يمكن إزالة هذه الأفكار عن طريق التربية والتوجيه البياني فقط لأن هذه المهمة تحتاج إلى وقت طويل ونشاط إضافي، ولكنّها ستزول بالتوجيه العملي المباشر، وهو قبول ولاية العهد.

____________________

(١) علل الشرائع: ٢٣٩.

١٣١

كيف تحقّقت البيعة بولاية العهد؟

بعد قبول الإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد مضطراً، جمع المأمون خواصه من الأمراء والوزراء والحجّاب والكتّاب وأهل الحل والعقد، وأمر الفضل بن سهل أن يخبرهم حول ولاية العهد، وأن يلبسوا الخضرة بدلاً من السواد، ثم أعطاهم استحقاقاتهم من الأموال لسنة متقدمة ثم صرفهم، وبعد أسبوع حضر الناس وجلسوا، كلٌ في موضعه، وجلس المأمون ثم جيء بالإمام الرضاعليه‌السلام فجلس وهو لابس الخضرة وعلى رأسه عمامة مقلد بسيف، فأمر المأمون ابنه العباس بان يكون أول من يبايعهعليه‌السلام ، فرفع الإمامعليه‌السلام يده وحطها من فوق، فقال له المأمون: ابسط يدك فقال الإمامعليه‌السلام : (هكذا كان يبايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضع يده فوق أيديهم)، فقال المأمون: افعل ما ترى. ثم وزعت الهدايا على الحاضرين، وقام الخطباء والشعراء فذكروا ولاية العهد، وعدّدوا فضائل ومآثر الإمامعليه‌السلام .

وطلب المأمون من الإمامعليه‌السلام أن يخطب الناس، فقامعليه‌السلام فحمد الله وأثنى عليه وعلى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال: (أيها الناس إن لنا عليكم حقاً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكم علينا حق به، فإذا أدّيتم إلينا ذلك، وجب لكم علينا الحكم والسلام)(١) .

ثم صعد المأمون المنبر فقال: (أيها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، والله لو قرأت

____________________

(١) الإرشاد: ٢/٢٦٢ وعنه في إعلام الورى: ٢/٧٤ وفي الفصول المهمة: ٢٥٥ - ٢٥٦، وانظر خطبته في عيون أخبار الرضا: ٢/١٤٦.

١٣٢

هذه الأسماء على الصم البكم لبرؤوا بإذن الله عزّ وجل)(١) .

وقد توقع الإمامعليه‌السلام أن ولاية العهد لا تتم، فحينما رأى سرور بعض مواليه، قال له بهمس: (لا تشغل قلبك بشيء مما ترى من هذا الأمر ولا تستبشر، فإنّه لا يتم)(٢) . وبالفعل فقد صدق ما قاله، فإنه توفّي قبل وفاة المأمون.

فقرات من كتاب العهد بخط المأمون

كتب المأمون كتاب العهد بخط يده، ووضّح فيه سبب اختياره للإمامعليه‌السلام ، وإليك فقرات منه: وكانت خيرته... علي بن موسى الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما رأى من فضله البارع، وعلمه الذائع، وورعه الظاهر الشائع، وزهده الخالص النافع، وتخليته من الدنيا، وتفرده عن الناس، وقد استبان ما لم تزل الأخبار عليه مطبقة والألسن عليه متفقة والكلمة فيه جامعة، والأخبار واسعة ولما لم نزل نعرفه به من الفضل، يافعاً وناشئاً وحدثاً وكهلاً، فلذلك عقد بالعهد والخلافة من بعده... ودعا أمير المؤمنين ولده وأهل بيته وخاصته، وقواده، وخدمه فبايعه الكل مطيعين مسارعين مسرورين...(٣) .

فقرات مكتوبة بظهر كتاب العهد بخط الإمامعليه‌السلام

كتب الإمام بخطه على ظهر كتاب العهد كتاباً جاء فيه: (... أنه جعل إليَّ

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٤٧.

(٢) الإرشاد: ٢/٢٦٣ عن المؤرخ المدائني وعنه في إعلام الورى: ٢/٧٤ وعن الإرشاد في بحار الأنوار: ٤٩/١٤٧ وفي الفصول المهمة: ٢٥٦.

(٣) الفصول المهمة: ٢٥٨.

١٣٣

عهده والإمرة الكبرى إن بقيت بعده... وخوفاً من شتات الدين واضطراب أمر المسلمين، وحذر فرصة تنتهز وناعقة تبتدر؛ جعلت لله على نفسي عهداً إن استرعاني أمر المسلمين وقلدني خلافة العمل فيهم... أن أعمل فيهم بطاعة الله تعالى وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أسفك دماً حراماً، ولا أبيح فرجاً، ولا مالاً إلاّ ما سفكته حدوده، وأباحته فرائضه، وأن أتخير الكفاة جهدي وطاقتي... وإن أحدثت أو غيّرت أو بدّلت كنت للعزل مستحقاً، وللنكال متعرّضاً... وما أدري ما يفعل بي وبكم، إن الحكم إلاّ لله، يقصّ الحق وهو خير الفاصلين...)(١) .

فقد وضّح الإمامعليه‌السلام للأمة المنهج السياسي للحاكم الإسلامي، ودوره في تطبيق أحكام الشريعة، وأسباب عزله وغير ذلك من المفاهيم السياسية، وكان الكتابان قد كتبا في السابع من شهر رمضان سنة (٢٠١ هـ ).

أوامر المأمون بعد البيعة

أمر المأمون بطرح السواد وهو شعار العباسيين، واستبداله بالخضرة، وأمر الجميع بذلك وبالبيعة للإمامعليه‌السلام وكتب إلى الأمصار بذلك، وضرب الدراهم باسم الإمام، فلما وصل كتابه إلى بغداد أجابه البعض وامتنع البعض الآخر(٢) .

وقام المأمون بسجن ثلاثة من قواده لرفضهم البيعة(٣) .

وتمرّد العباسيون على المأمون رافضين للبيعة وبايعوا لإبراهيم بن المهدي في بغداد(٤) .

____________________

(١) الفصول المهمة: ٢٥٨ - ٢٥٩ وانظر صورة الكتابين في عيون أخبار الرضا: ٢/١٥٤ - ١٥٩.

(٢) الكامل في التاريخ: ٦ / ٣٢٦.

(٣) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٥٠.

(٤) الكامل في التاريخ: ٦ / ٣٢٧.

١٣٤

وتمرّدوا في الكوفة وكان شعارهم يا إبراهيم يا منصور لا طاعة للمأمون(١) .

ولم يستطيعوا الاستمرار في التمرّد، فقد أطاعت جميع الأمصار المأمون، وبايعت للإمام بولاية العهد، وكان الدعاء للإمامعليه‌السلام بالصورة التالية:

(ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن عليعليهم‌السلام .

ستة آباءهم ما هم

أفضل من يشرب صوب الغمام)(٢)

أحداث ما بعد البيعة

بحلول العيد أي بعد ثلاثة وعشرين يوماً من كتابة العهد بعث المأمون إلى الإمامعليه‌السلام يسأله أن يصلي بالناس صلاة العيد ويخطب ليطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقرّ قلوبهم على هذه الدولة، فبعث إليه الإمامعليه‌السلام بالقول: (قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخولي في هذا الأمر)، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقرّوا بما فضّلك الله به.

فلم يزل يرادّه الكلام في ذلك، فلما ألحَّ عليه، قال: (... إن أعفيتني من ذلك فهو أحبُّ إليَّ، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام )، فقال المأمون: اخرج كما تحب.

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٨ / ٥٦٠.

(٢) عيون أخبار الرضا: ٢/١٤٥ وفي مقاتل الطالبيين: ٥٦٥ وفي الإرشاد: ٢/٢٦٢ والشعر للنابغة الذُبياني والمستشهد به حاكم المدينة عبد الجبّار سعيد المُساحقي.

١٣٥

وأمر المأمون القوّاد والناس فقعدوا عند باب الإمامعليه‌السلام وفي الطرقات والسطوح، فلما طلعت الشمس، خرج الإمام متعمّماً بعمامة بيضاء وألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفه، ورفع ثوبه وهو حاف، ومعه مواليه على نفس الحالة، ثم رفع رأسه إلى السماء، وكبّر أربع تكبيرات، وقال: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا...) ورفع صوته فأجهش الناس بالبكاء والعويل، ونزل القوّاد عن دوابهم وترجّلوا، وضجّت مرو ضجّة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجيج، وكان الإمامعليه‌السلام يمشي ويقف في كل عشر خطوات وقفة، ولما سمع المأمون بذلك، قال له الفضل بن سهل: يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع، فبعث إليه وسأله الرجوع، فدعا الإمامعليه‌السلام بخفّه فلبسه ورجع(١) .

واستطاع الإمامعليه‌السلام بفعله هذا أن يعيد سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة العيد، بعد أن اندثرت معالمها لعدم اهتمام الحكّام والولاة بها، واستطاع الإمامعليه‌السلام أن يدخل إلى قلوب الناس، في هذا العمل الآني، فقد تأثر به الجميع بما فيهم قوّاد المأمون.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ١٥٠ - ١٥١.

١٣٦

مكتسبات القبول بولاية العهد

إن الموقف الذي يتخذه الإمامعليه‌السلام لابد من اشتماله على مصلحة ذات عائد مقبول للإسلام والمسلمين ولأتباع أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد حصل الإمامعليه‌السلام على مكتسبات عديدة بعد اضطراره للقبول بولاية العهد، ولولا قبوله لما تحققت تلك المكتسبات، ومن هذه المكتسبات:

أوّلاً: اعتراف المأمون بأحقيّة أهل البيتعليهم‌السلام

قام الأمويون ومن بعدهم العباسيون بمحاولة طمس فضائل أهل البيتعليهم‌السلام والتقليل من شأنهم، واستخدموا جيمع طاقاتهم للحد من ذلك، تحت الترغيب والترهيب، ولكنّ الوضع تغيّر بعد قبول الإمامعليه‌السلام بولاية العهد، فقد قام المأمون بتوضيح هذه الفضائل، وتوضيح مظلومية أهل البيتعليهم‌السلام من قبل الحكّام السابقين.

فقد أجاب المأمون على كتاب كتبه له بنو هاشم، وضّح فيه تلك الحقائق إذ جاء فيه: (... فلم يقم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد من المهاجرين كقيام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فإنه آزره ووقاه بنفسه... وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم، وصاحب قوله: (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي...) وكان أحب الخلق إلى الله تعالى وإلى رسوله، وصاحب الباب، فتح له وسدّ أبواب المسجد، وهو صاحب الراية يوم خيبر، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة، وأخو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين آخى بين المسلمين).

ثم وضّح في الكتاب نفسه مظلومية أهل البيتعليهم‌السلام معترفاً بجرائم العباسيين بحقهم فقال: (... ثم نحن وهم يد واحدة كما زعمتم، حتى قضى الله

١٣٧

تعالى بالأمر إلينا، فأخفناهم، وضيّقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أميّة إياهم)(١) .

وفي موضع آخر احتجّ المأمون على الفقهاء بفضائل الإمام عليعليه‌السلام وأحقيّته بالخلافة، فما كان من الفقهاء إلاَّ تأييد ما قاله، فقال يحيى بن أكثم القاضي: يا أمير المؤمنين، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به الخير، وأثبت ما يقدر أحد أن يدفعه، واتّبعه الفقهاء بالقول: كلنا نقول بقول أمير المؤمنين أعزَّه الله(٢) .

وكان المأمون يتحدّث عن فضائل أهل البيتعليهم‌السلام في أغلب جلساته، وهذا يعني تشجيعاً للولاة والأمراء ليتحدّثوا عن أهل البيتعليهم‌السلام بمثل ما تحدّث به، وتشجيع لأنصار أهل البيتعليهم‌السلام في ذكر فضائلهم بحرية تامّة، وهذا ما يزيد من توسّع القاعدة الشعبية الموالية لأهل البيت فكراً وعاطفة وسلوكاً.

واعترف المأمون أيضاً بأفضلية الإمام الرضاعليه‌السلام وأحقيته بالخلافة وأخبر خواصه بأنّه: نظر في ولد العباس وولد عليّ (رضي الله عنهم)، فلم يجد في وقته أحداً أفضل ولا أحق بالأمر من علي بن موسى الرضا(٣) .

ثانياً: توظيف وسائل الإعلام لصالح الإمامعليه‌السلام

وظّف المأمون وسائل الإعلام لصالح الإمامعليه‌السلام فأصبح من أكثر الناس شيوعاً صيتهُ، وتحققت معرفة المسلمين وغير المسلمين به، فالولاة

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٩ / ٢١٠، عن كتاب: نديم الفريد، لابن مسكويه.

(٢) العقد الفريد: ٥ / ٣٥٨ - ٣٥٩.

(٣) مروج الذهب: ٣ / ٤٤١، وفي الشذرات الذهبية في تراجم الأئمة الاثني عشر عند الإمامية المنشور باسم: الأئمة الاثنا عشر لابن طولون: ٩٧.

١٣٨

والأمراء وأئمة الجمعة، يدعون له من على المنابر كل يوم وكل جمعة وكل مناسبة، إضافة إلى طبع اسمه على الدارهم والدنانير المعمول بها في جميع الأمصار، ووجد الخطباء والشعراء الفرصة مناسبة للترويج لشخصية الإمامعليه‌السلام وآبائه وأجداده، فكثرت الخطب والأشعار المادحة له، والذاكرة لفضائله وفضائل أهل بيته، وانتشرت في جميع الأمصار، وهذا إن دل على شيء فإنما يدلّ على تعميق الارتباط بالإمامعليه‌السلام وتبنّي أفكاره وآرائه المطابقة للمنهج الإسلامي السليم، ولولا قبوله بولاية العهد لما كان ذلك بالصورة الأوسع والأمثل، مادامت وسائل الإعلام الرسمية موجودة في جميع الأمصار، دون الحاجة إلى بث الدعاة لمنهجه ومنهج أهل بيتهعليهم‌السلام .

وقد كان المأمون سبّاقاً لغيره في نظم الشعر، ومما جاء في شعره، بعد ولاية العهد:

أُلام على حب الوصيّ أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأوّل الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

وقال أيضاً:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف الهدى

والأخ فوق الخل والصاحب(١)

وهذا الشعر وغيره من مدائح المأمون لأهل البيتعليهم‌السلام قد أثمر فيما بعد، حتى إنه بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام بثمان سنين أي في سنة (٢١١ هـ) أمر المأمون أن ينادى:

(برئت الذمة ممّن يذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب)(٢) .

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٣٢٠ عن كتاب الأوراق للصولي.

(٢) تذكرة الخواص: ٣١٩ وتاريخ الخلفاء: ٢٤٧.

١٣٩

ثالثاً: حرية الإمامعليه‌السلام في مناظرة أهل الأديان والمذاهب

منح المأمون نوعاً من الحرية للإمامعليه‌السلام للتحدث بما يؤمن به من أفكار ومعتقدات وآراء سياسية، وأمر المأمون الفضل بن سهل أن يجمع للإمامعليه‌السلام أصحاب المقالات: ومنهم: الجاثليق وهو رئيس الأساقفة، (معرّب: كاثوليك) ورأس الجالوت عالم اليهود، ورؤساء الصابئين، وعظماء الهنود من أبناء المجوس، وأصحاب زردشت، وعلماء الروم، والمتكلمين، وقد احتجّ الإمامعليه‌السلام بالكتب المعتبرة عندهم، وقد اعترف الجميع بأعلمية الإمامعليه‌السلام ، بعد ان فنّد حججهم، فأذعنوا لقوله، واعترفوا بصحة أفكاره وآرائه.

وبعد جدال ونقاش طويل قال الجاثليق: (القول قولك، ولا اله إلاّ الله)(١) .

وبعد حوار طويل أسلم عمران الصابي وقال: (أشهد أن الله تعالى على ما وصفت ووحّدت، وأشهد أنّ محمداً عبده المبعوث بالهدى ودين الحق ثم خرّ ساجداً نحو القبلة).

ولما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي، وكان جدلاً لم يقطعه عن حجته أحد منهم قط، لم يدن من الإمامعليه‌السلام أحد منهم ولم يسألوه عن شيء(٢) .

وفي مجلس آخر بعث المأمون على الإمامعليه‌السلام ليناظر متكلم خراسان سليمان المروزي، فتناظرا في البداء، وصفات الله تعالى والفرق بين صفات ذات الله وصفات فعله، فأجابه الإمامعليه‌السلام على جميع أسئلته، وكان يقطعه في الحجج إلى أن سكت لا يستطيع أن يجيب على آراء الإمامعليه‌السلام ، فقال المأمون

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب: ٤ / ٣٥٢.

(٢) الاحتجاج، الطبرسي: ٢ / ٤١٩.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253