اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)0%

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 253

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الصفحات: 253
المشاهدات: 126557
تحميل: 7232

توضيحات:

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126557 / تحميل: 7232
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عند ذلك: (يا سليمان، هذا أعلم هاشمي)(1) .

وفي مجلس آخر جمع المأمون عدداً من علماء الأديان وأهل المقالات، فلم يتكلم أحد إلاّ وقد ألزمه الإمامعليه‌السلام حجته، وقام إليه علي بن محمد بن الجهم، وأثار الشبهات حول عصمة الأنبياءعليهم‌السلام اعتماداً على الآيات المتشابهة الواردة في القرآن الكريم، وأثار الشبهات حول عصمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأجابه الإمامعليه‌السلام وأزال الشبهات عن ذهنه، واثبت له بالعقل والنقل عصمة جميع الأنبياءعليهم‌السلام ، فبكى علي بن محمد بن الجهم وقال: يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عزّ وجلّ من أن انطق في أنبياء اللهعليهم‌السلام بعد يومي هذا إلاّ بما ذكرته(2) .

وفي مجلس آخر تساءل المأمون عن عصمة الأنبياء وأورد الآيات المتشابهة في ذلك فأجابه الإمامعليه‌السلام جواباً شافياً، وأوّل له تلك الآيات على خلاف ظاهرها، فقال المأمون: (لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله، وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليّ)(3) .

وكان هدف المأمون - كما يرى الشيخ الصدوق - هو الحرص على انقطاع الرضاعليه‌السلام عن الحجة مع واحد منهم، وذلك حدّاً منه له ولمنزلته من العلم(4) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 1 / 179 - 191.

(2) الاحتجاج، الطبرسي: 2 / 423.

(3) الاحتجاج: 2 / 436.

(4) عيون أخبار الرضا: 1 / 191. راجع جملة من هذه الاحتجاجات في الفصل الثالث من الباب الرابع من الكتاب.

١٤١

رابعاً: نشر مفاهيم أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم

استثمر الإمامعليه‌السلام الفرصة المتاحة له لنشر مفاهيم أهل البيتعليهم‌السلام ونشر فضائلهم، وخصوصاً بين الفقهاء والقضاة والقوّاد والوزراء، ومن يرتبط بالبلاط الحاكم بصلة.

فقد وضّح الإمامعليه‌السلام تلك الفضائل بعد أن حاول الحكّام طمسها، ونشر أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بحقهم ومنها:

قوله (صلّى الله عليه وآله): (علي إمام كل مؤمن بعدي)(1) .

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (يا علي أنت حجة الله، وأنت باب الله، وأنت الطريق إلى الله، وأنت النبأ العظيم، وأنت الصراط المستقيم، وأنت المثل الأعلى، يا علي أنت إمام المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيّين وسيد الصدّيقين، يا علي أنت الفاروق الأعظم وأنت الصديق الأكبر... إن حزبك حزبي، وحزبي حزب الله، وإن حزب أعدائك حزب الشيطان)(2) .

وقوله (صلّى الله عليه وآله): (ما زوّجت فاطمة إلا لما أمرني الله بتزويجها)(3) .

وتحدث الإمامعليه‌السلام عن عشرات الأحاديث الواردة في ذلك.

وفي مجلس عقده المأمون لجماعة من علماء العراق وخراسان سأل عن معنى الآية الكريمة:( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (4) .

فأجابه العلماء: أراد الله عَزَّ وجَلَّ بذلك الأُمة كلها.

فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟

فقال الإمامعليه‌السلام : (لا أقول كما قالوا، ولكنّي أقول: أراد الله عَزَّ وجَلَّ بذلك

____________________

(1) كشف اليقين، العلاّمة الحلي: 17.

(2) بحار الأنوار: 28 / 111.

(3) فرائد السمطين: 1 / 90.

(4) سورة فاطر (35): 32.

١٤٢

العترة الطاهرة).

ثم ذكر الإمامعليه‌السلام اثني عشر آية قرآنية تدل على أفضلية العترة الطاهرة، فقال المأمون والعلماء ك (جزاكم الله أهل بيت نبيكم عن هذه الأُمة خيراً، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ عندكم)(1) .

وسأل المأمون الإمامعليه‌السلام أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار، فكتب إليه أصول العقائد ومنها الإمامة، ومما جاء في ذلك الكتاب: (وأن الدليل بعده والحجة على المؤمنين والقائم بأمور المسلمين والناطق عن القرآن، والعالم بإحكامه، أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، علي بن أبي طالبعليه‌السلام أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وأفضل الوصيين، ووارث علم النبيين والمرسلين، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

ثم بيّن أسماء الأئمةعليهم‌السلام وقال: ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية، وأن من دينهم الورع والعفّة والصدق والصلاح والاستقامة والاجتهاد وأداء الأمانة إلى البر والفاجر...(2) .

ووضّح الإمامعليه‌السلام مفاهيم الإمامة ومسؤوليات الإمام فقال: (إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف، الإمام يحلل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة)(3) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 1 / 228 - 240، وفي تحف العقول: 425 - 436.

(2) بحار الأنوار: 68 / 263، ح 20.

(3) الاحتجاج، الطبرسي: 2 / 441 - 442.

١٤٣

وذكرعليه‌السلام في لقاءاته المختلفة وفي أجوبته المتعددة صفات الإمام، ووحدة الإمامة، وواجبات وحقوق الإمام لكي يعطي للأمة الفرصة لتشخيص الإمام الحقّ وإن لم يكن مبسوط اليد، فليس كل من استلم الحكم أصبح إماماً، وإنما الإمام له صفات خاصة ثابتة في الإسلام ومنها أن يكون (أعلم الناس وأحكم الناس وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس)(1) .

واستثمر الإمامعليه‌السلام الفرصة لنشر الأحاديث التوحيدية لأهل البيتعليهم‌السلام وردّ على جميع الشبهات العقائدية التي تتعلق بصفات الله، وبالتشبيه، وفنّد آراء المشبّهة والمجسّمة والمجبّرة والمفوّضة والغلاة.

خامساً: حقن دماء أهل البيتعليهم‌السلام

من مكتسبات قبول ولاية العهد من قبل الإمامعليه‌السلام هو حقن دماء أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد قام المأمون تقرباً للإمامعليه‌السلام بإعلان العفو العام عن جميع قادة الثورات، ومنهم زيد أخو الإمامعليه‌السلام وإبراهيم، ومحمد بن جعفر، وأردف العفو بتنصيب بعضهم ولاة في بعض الأمصار، فكانت خير فرصة لهم للقيام بإصلاح الأوضاع بصورة سلمية هادئة، وخير فرصة لإعادة بناء القاعدة الشعبية الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام وتنظيم صفوفها، والاستفادة من الإمكانيات المتاحة لتطوير الحركة الرسالية، ولولا قبول الإمامعليه‌السلام بولاية العهد لسفكت دماء كثيرة قبل أن تؤدّي دورها ومسيرتها في داخل الأُمة، فقد جاء قبول الإمامعليه‌السلام في وقت كان خط أهل البيتعليهم‌السلام بحاجة إلى قسط من التفرّغ للعمل الرسالي السلمي بعيداً عن شهر السلاح الذي يكلّف كثيراً ويربك الأوضاع الداخلية له.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 1 / 213.

١٤٤

الفصل الثاني: نشاطات الإمام الرضاعليه‌السلام بعد البيعة بولاية العهد

لم يحصل المأمون من بيعته للإمام الرضاعليه‌السلام إلاّ على بعض الامتيازات والمكاسب والتي منها إيقاف العمليات العسكرية المسلحة، وقطع علاقة الإمامعليه‌السلام بأغلب قواعده الشعبية المقيمة في العراق وفي الحجاز واليمن، وأمّا الإمامعليه‌السلام ومنهج أهل البيتعليهم‌السلام فقد حصلا على امتيازات واسعة، واستثمر الإمامعليه‌السلام الفرصة للقيام بأداء دوره الإصلاحي والتغييري بشكل كبير، وتتحدد معالم هذه المرحلة بالمظاهر والممارسات التالية:

إفشال خطط المأمون

أراد المأمون أن يجعل الإمامعليه‌السلام وسيلة لإضفاء الشرعية على حكمه، وإيقاف نشاط الحركات الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، وقد طلب من الإمامعليه‌السلام أن يولّي أحد أتباعه على البلدان التي تمرّدت على حكمه، ولكي يوقف تمرّدها حينما يكون الوالي من أنصار وأتباع الإمامعليه‌السلام ، أو يجعل المعارضة وجهاً لوجه أمام بعضها البعض.

ولكنّ الإمامعليه‌السلام أفشل خطة المأمون بهدوء طبقاً للشروط التي اشترطها، كما روي عنهعليه‌السلام أنه قال: (قال لي المأمون: يا أبا الحسن انظر

١٤٥

بعض من تثق به تولّيه هذه البلدان التي فسدت علينا، فقلت له: تفي لي وأفي لك، فإنّي إنما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ولا أعزل ولا أولِّي ولا أسير، حتى يقدمني الله قبلك، فوالله أن الخلافة لشيء ما حدّثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردّد في طرقها على دابّتي، وإن أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي، وأنّ كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني في نعمة هي عليّ من ربي، فأجابه المأمون: أفي لك).

ولم يراجعه المأمون في نفس القضية بعد ذلك، وليس أمامه إلاّ إصلاح الأوضاع العامة لتجنّب الثورات والتمرّدات المسلّحة.

ولم يتدخل الإمامعليه‌السلام في تعيين مسؤولي سائر المناصب كالقضاة وأمراء الجيش وأصحاب بيوتات الأموال، وتجنب جميع التصريحات والمواقف التي تمنح الشرعية لحكم المأمون، ولم يتدخل إلاّ في إصلاح المفاهيم والقضايا القضائية، وكل ما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين.

إصلاح القضاء

كان المأمون يجلس في ديوان المظالم يوم الاثنين ويوم الخميس، ويجلس الإمامعليه‌السلام إلى جانبه الأيمن، فرفع إليه أن صوفياً من أهل الكوفة سرق، فأمر بإحضاره فرأى عليه سيماء الخير فقال: سوءاً لهذه الآثار الجميلة بهذا الفعل القبيح، فقال الرجل: فعلت ذلك اضطراراً لا اختياراً، وقد منعت من الخمس والغنائم، فمنعتني حقي وأنا مسكين وابن السبيل وأنا من حملة القرآن.

فقال المأمون: لا أعطل حداً من حدود الله وحكماً من أحكامه في السارق من أجل أساطيرك هذه.

١٤٦

قال: فابدأ أوّلاً بنفسك فطهرها ثم طهّر غيرك، وأقم حدود الله عليها ثم على غيرك.

فالتفت المأمون إلى الإمامعليه‌السلام فقال: ما تقول؟

فقالعليه‌السلام : (إنه يقول سرقت فسرق).

فغضب المأمون ثم قال: والله لأقطعنك.

قال الرجل: أتقطعني وأنت عبد لي؟ أليس أمك اشتريت من مال الفيء، فأنت عبد لمن في المشرق والمغرب من المسلمين حتى يعتقوك وأنا منهم وما أعتقتك، والأخرى أن النجس لا يطهر نجساً إنّما يطهره طاهر، ومن في جنبه حدّ لا يقيم الحدود على غيره حتى يبدأ بنفسه...

فالتفت المأمون إلى الإمامعليه‌السلام فقال: ما تقول؟

قالعليه‌السلام : (أن الله عَزَّ وجَلَّ قال لنبيّه:( قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (1) وهي التي تبلغ الجاهل فيعلمها بجهله كما يعلمها العالم بعلمه، والدنيا والآخرة قائمتان بالحجة وقد احتج الرجل).

فأمر المأمون بإطلاق الرجل الصوفي(2) .

وكان الإمام يتدخل في مثل هذه القضية دفاعاً عن المظلومين والمحرومين، وتطبيق أحكام القضاء طبقاً للمنهج الإسلامي السليم، ففي أحد الأيام أُدخل إلى المأمون رجلٌ أراد ضربَ عنقه والإمامعليه‌السلام حاضر، فقال له المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟

فقال: (أقول إن الله لا يزيدك بحسن العفو إلاَّ عزاً)، فاتبع المأمون قول

____________________

(1) الأنعام (6): 149.

(2) عيون أخبار الرضا: 2/237 - 238، وفي مناقب آل أبي طالب: 4 / 398 - 399، بحار الأنوار: 49/288.

١٤٧

الإمامعليه‌السلام وعفى عنه(1) .

وأُتيَ المأمون بنصراني قد فجر بهاشمية، فلما رآه المأمون أسلم النصراني؛ فغاضه ذلك، وسأل الفقهاء فقالوا: أهدر الإسلام ما قبل ذلك، فسأل المأمون الرضاعليه‌السلام فقال: (اقتله؛ لأنه أسلم حين رأى البأس؛ قال الله عَزَّ وجَلَّ:( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ) (2) ).

إصلاح الأعمال الإدارية

لم يتدخل الإمامعليه‌السلام في الشؤون الإدارية إلاّ في الحالات التي كان يجد فيها مصلحة إسلامية عامة تخص الإسلام والمسلمين، وتمنع الأعداء من اختراق الجهاز الإداري أو الحكومي، فكان يبدي نصائحه وتوجيهاته القيّمة في هذا المجال.

ومن هذه الشؤون، تعيين الولاة الذين أسلموا حديثاً، ففي ذات مرّة دخل الفضل بن سهل على المأمون وقال له: قد وليت الثغر الفلاني فلاناً التركي، فسكت المأمون، فقال الإمامعليه‌السلام : (ما جعل الله تعالى لإمام المسلمين وخليفة ربّ العالمين القائم بأمور الدين، أن يولي شيئاً من ثغور المسلمين أحداً من سبي ذلك الثغر، لأن الأنفس تحنّ إلى أوطانها، وتشفق على أجناسها، وتحب مصالحها، وإن كانت مخالفة لأديانها)، فقال المأمون: اكتبوا هذا الكلام بماء الذهب(3) .

فالإمام أعطى قاعدة كليّة في شؤون تعيين الولاة وأمراء الثغور، وليس ذلك اعترافاً بإمامة المأمون، وإنّما هو وضع قاعدة كلية لمطلق إمام المسلمين والذي ينصرف إلى الإمام العادل.

____________________

(1) نثر الدر: 1 / 362.

(2) سورة غافر (40): 84، نثر الدر: 1/361 وعنه في بحار الأنوار: 49/173.

(3) الأنوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية: 219 - 220 عن الدرّ النظيم في مناقب الأئمةعليهم‌السلام : 683، الباب العاشر ذكر مولانا علي بن موسى الرضاعليه‌السلام .

١٤٨

نشر الآراء السديدة في داخل البلاط

استثمر الإمامعليه‌السلام فرصة وجوده في البلاط الحاكم لنشر الآراء السديدة في مختلف جوانب الفكر والعقيدة، ليطّلع الحاكم ووزراؤه والمقربون إليه من قادة وأمراء وفقهاء وخدم وبوّابين على آراء مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ومتبنياتهم الفكرية والعقائدية، وفضائلهم ومكارمهم.

وكان الإمامعليه‌السلام يتحدث ابتداءً حسب الظروف، ويجيب في ظروف أخرى على الأسئلة الموجهة إليه.

سأل الفضل بن سهل الإمامعليه‌السلام في مجلس المأمون فقال: (يا أبا الحسن؛ الخلق مجبورون؟ فقالعليه‌السلام : الله أعدل أن يجبر ثم يعذّب، قال: فمطلقون؟ قالعليه‌السلام : الله أحكم، أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه(1) .

وقال له المأمون: يا أبا الحسن؛ أخبرني عن جدك عليّ بن أبي طالب بأي وجه هو قسيم الجنة والنار؟ فقال:... ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد الله بن عباس أنه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (حب علي إيمان وبغضه كفر)، فقال بلى، فقال الإمامعليه‌السلام : فقسمة الجنة والنار إذا كانت على حبّه وبغضه، فهو قسيم الجنة والنار).

فقال المأمون: لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن، أشهد أنك وارث علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(2) .

واستطاع الإمامعليه‌السلام بفكره الثاقب وأسلوبه الواعي أن يجعل المأمون وغيره يبادلونه الأسئلة، وأن يعترفوا بنفسهم بفضائل أهل البيتعليهم‌السلام تقرباً

____________________

(1) نثر الدر: 1 / 361.

(2) نثر الدر: 1 / 364.

١٤٩

إليه، وكان المأمون: يعقد مجالس النظر ويجمع المخالفين لأهل البيتعليهم‌السلام ويكلمهم في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام وتفضيله على جميع الصحابة، تقرباً إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا(1) .

ومن الطبيعي أن لا يعترض المخالفون على أقوال المأمون رغبة أو رهبة، وهذا له تأثيره المباشر على من يحضر هذه المجالس ويرى سكوت الفقهاء وعدم اعتراضهم على الآراء المطروحة أما لضعف الدليل أو استسلاماً للمأمون.

فاستطاع الإمامعليه‌السلام أن ينشر آراء أهل البيتعليهم‌السلام في جميع الفرص المتاحة له.

نصائح الإمام الرضاعليه‌السلام للمأمون

وكان الإمامعليه‌السلام يكثر وعظ المأمون إذا خلا به، ويخوفه بالله، ويقبّح ما يرتكبه به، فكان المأمون يظهر قبول ذلك منه، ويبطن كراهته واستثقاله(2) .

ودخل عليه في أحد المرّات فرآه يتوضّأ، والغلام يصبّ على يده الماء، فقالعليه‌السلام : (لا تشرك بعبادة ربّك أحداً)، فصرف المأمون الغلام، وتولّى إتمام وضوئه بنفسه(3) .

وقال له يوماً: (ما التقت فئتان قط إلاّ نصر الله أعظمهما عفواً)(4) .

ودخل عليه المأمون وقرأ عليه كتاب فتح بعض قرى كابل، فلما فرغ،

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 184 - 185.

(2) الإرشاد: 2/269.

(3) مجمع البيان: 6/771 وعنه في بحار الأنوار: 69 / 283.

(4) تاريخ اليعقوبي: 453.

١٥٠

قال له الإمامعليه‌السلام : (وسرّك فتح قرية من قرى الشرك)، فقال المأمون: أوليس في ذلك سرور؟ فقال الإمامعليه‌السلام : (... اتق الله في أُمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ولاّك الله من هذا الأمر، وخصّك به، فإنك قد ضيعت أمور المسلمين، وفوضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله، وقعدت في هذه البلاد وتركت بيت الهجرة ومهبط الوحي، وإن المهاجرين والأنصار يظلمون دونك ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه ويعجز عن نفقته ولا يجد من يشكو إليه حاله، ولا يصل إليك، فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين وارجع إلى بيت النبوة ومعدن المهاجرين والأنصار...).

قال المأمون: يا سيدي فما ترى؟

قالعليه‌السلام : (أرى أن تخرج من هذه البلاد وتتحول إلى موضع آبائك وأجدادك، وتنظر في أُمور المسلمين ولا تكلهم إلى غيرك، فإن الله سائلك عمّا ولاّك).

فقال المأمون: نِعْمَ ما قلت يا سيدي! هذا هو الرأي(1) .

وقد وجد المأمون في هذه النصيحة أفضل المواقف السياسية التي كان لابد من اتخاذها، وبالفعل رجع إلى بغداد بعد هذه النصيحة.

الحفاظ على الوجود الإسلامي

من مسؤوليات الأئمةعليهم‌السلام - بعد إقصائهم عن الخلافة - الحفاظ على الوجود الإسلامي وحمايته أمام مؤامرات الأعداء والطامعين، فقد كانواعليهم‌السلام يبذلون ما بوسعهم من أجل ذلك، ويقومون بحل المسائل المستعصية على الحكّام من أجل إدامة الوجود والكيان الإسلامي، ومنعه من الانهيار والتفكك.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 159 - 160.

١٥١

ومن ذلك كشف مؤامرة الفضل بن سهل، حيث إنه أراد قتل المأمون، فلم يسمع كلامه ولعنه وكان قصد الفضل هو السيطرة على الحكم، واستغلال الإمامعليه‌السلام لإسكات المسلمين ويبقى الإمامعليه‌السلام حاكماً محجوراً عليه في البلاط، ويكون الفضل هو الحاكم الفعلي، إضافة إلى ذلك فإن مثل هذا العمل يؤدّي إلى انقسام خطير في الكيان الإسلامي، وتفتيت لوحدة الأمة والدولة، فقام الإمامعليه‌السلام بتحذير المأمون من الفضل وأن يتعامل معه بحيطة وحذر(1) لأن المقصود هو الكيان الإسلامي وليس شخص المأمون.

وقال له ذات يوم: (إن العامّة تكره ما فعلت بي، وإن الخاصة تكره ما فعلت بالفضل بن سهل، فالرأي لك أن تنحينا عنك حتى يصلح أمرك)(2) .

واخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قُتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه مِنَ الأخبار، وأن الناس - خصوصاً العباسيين - ينقمون عليك مكان الفضل وأخيه الحسن، ومكان يوم كان بيعتك لي من بعدك(3) .

وجاءت نصائح الإمامعليه‌السلام له مطابقة للمصلحة الإسلامية الكبرى لأنّ الكيان الإسلامي معرض للانهيار والانحلال بإثارة الفتن الداخلية والحروب الدامية من أجل الحصول على كرسي الحكم.

وحينما قُتل الفضل بن سهل اتهم رجاله المأمون بقتله، فاجتمعوا على بابه فقالوا: اغتاله وقتله، فلنطلبن بدمه، فقال المأمون للإمامعليه‌السلام : يا سيدي، ترى أن تخرج إليهم وتفرقهم، فخرج إليهم الإمام وقد اجتمعوا وجاءوا بالنيران ليحرقوا الباب، فصاح الإمامعليه‌السلام بهم، وأومى إليهم بيده، فتفرقوا،

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 167.

(2) نثر الدر: 1 / 363.

(3) تاريخ الطبري: 8 / 564.

١٥٢

وأقبل الناس يقع بعضهم على بعض، وما أشار إلى أحد إلاّ هرب مسرعاً، ومرّ ولم يقف له أحد(1) .

وقتلُ المأمون في تلك الظروف يعني انقسام الكيان الإسلامي إلى كيانات متعددة، فأنصار الفضل سيكون لهم كيان في خراسان، ويستقل الحسن ابن سهل بالبلاد التي بإمرته، وسيبايع العباسيون لإبراهيم بن المهدي المغني الشهير، إضافة إلى خلخلة أوضاع الجيش الذي يقطن في الثغور، ولهذا قام الإمامعليه‌السلام بمنع إحراق بيت المأمون وقتله.

إظهار الكرامات واستثمارها في الإصلاح

وبعد البيعة ظهرت كرامات الإمامعليه‌السلام فاستثمرهاعليه‌السلام في إصلاح الناس بإرشادهم وتوجيههم، ففي بداية ولاية العهد احتبس المطر، فجعل بعض حاشية المأمون والمبغضين للإمامعليه‌السلام يقولون: انظروا لمّا جاءنا علي بن موسى وصار ولي عهدنا، حبس الله عنّا المطر، وسمع المأمون بذلك فاشتدّ عليه، وطلب من الإمامعليه‌السلام أن يدعو الله لكي يمطر الناس، فخرجعليه‌السلام إلى الصحراء وخرج الناس ينظرون، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (اللهم يا رب أنت عظّمت حقنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت وأمّلوا فضلك ورحمتك وتوقّعوا إحسانك ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً عاماً غير رايث، ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارّهم).

ويقول الإمام محمد الجوادعليه‌السلام راوي الخبر: (فو الذي بعث محمداً بالحق نبياً لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم وأرعدت وأبرقت وتحرك الناس كأنهم يريدون

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 164.

١٥٣

التنحي عن المطر).

وأخبرهم الإمامعليه‌السلام أن هذا السحاب هو للبلد الفلاني، وهكذا إلى أن أقبلت سحابة حادية عشر، فقالعليه‌السلام : (أيها الناس هذه سحابة بعثها الله عَزَّ وجَلَّ لكم، فاشكروا الله على تفضله عليكم وقوموا إلى مقاركم ومنازلكم فإنها مسامتة لكم ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقاركم ثم يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله).

فانصرف الناس ونزل المطر بكثافة فجعل الناس يقولون: هنيئاً لولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرامات الله عَزَّ وجَلَّ.

ثم برز إليهم الإمامعليه‌السلام بعد تجمعهم ثانية، واستثمر هذه الكرامة للوعظ والإرشاد، لأن الناس يتأثرون بمن له كرامة عند الله ويتقبلون ما يقوله، فقام فيهم خطيباً وقال: (أيها الناس اتقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفروها عنكم بمعاصيه، بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الإيمان بالله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لهم إلى جنان ربهم، فإنّ من فعل ذلك كان من خاصة الله تبارك وتعالى)(1) ثم حدثهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الأحاديث التربوية.

وظهرت للإمامعليه‌السلام كرامات أخرى استثمرها الإمامعليه‌السلام في التأثير على قلوب حاضريها، ومن هذه الكرامات أن بعض أفراد البلاط كانوا يخدمون الإمامعليه‌السلام ويرفعون الستر عند مجيئه وعند خروجه، فاتفقوا يوماً على عدم رفع الستر له، فلما جاء على عادته لم يملكوا أنفسهم، وقاموا ورفعوا

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 2 / 168 - 169.

١٥٤

الستر على عادتهم، فلما دخل لامَ بعضهم بعضاً، واتفقوا ثانية، فلما كان اليوم الثاني نفّذوا ما اتفقوا عليه ولم يرفعوا له الستر، فجاءت ريح شديدة فرفعته حين دخوله، وحين خروجه، فقال بعضهم لبعض: إن لهذا الرجل عند الله منزلة وله منه عناية، انظروا إلى الريح كيف جاءت ورفعت له الستر عند دخوله وعند خروجه من الجهتين ارجعوا إلى ما كنتم عليه من خدمته(1) .

وبما أن الكرامات أكثر إيقاعاً في النفس الإنسانية، نجد أن الناس قد مالت إلى الإمامعليه‌السلام عاطفياً، حتى إننا نجد أن شعبية الإمامعليه‌السلام قد اتسعت لتشمل حتى المنحرفين، والشاهد على ذلك أن بعضهم قطع الطريق على دعبل الخزاعي ليأخذوا منه جبة الإمامعليه‌السلام التي أهداها له، لغرض التبرك بها(2) ، وفي رواية ارجعوا جميع أموال القافلة بعد ما عرفوا أن دعبل معهم(3) .

تشجيع الشعراء الرساليين

ومن أجل نشر فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ودورهم الريادي في الأمة، وتبيان مظلوميتهم على مرّ التاريخ؛ شجّع الإمامعليه‌السلام الشعراء على نظم الشعر في هذا الخصوص لأنه خير وسيلة إعلامية في ذلك العصر، لسرعة انتشاره وسهولة حفظه وإنشاده، فقد دخل عليه الشاعر دعبل الخزاعي وأنشده قصيدته التي جاء فيها:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله بالخيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذي الثفنات

____________________

(1) الإتحاف بحب الأشراف: 157.

(2) سير أعلام النبلاء: 9 / 391.

(3) الفصول المهمة: 250.

١٥٥

منازل جبريل الأمين يحلها

من الله بالتسليم والرحمات

أئمة عدل يقتدى بفعالهم

ويؤمن فيهم زلة العثرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسماً

وأيديهم عن فيئهم صفرات

ثم بدأ بإبراز مظلوميتهم وما جرى عليهم من قبل الحكّام المتعاقبين على الحكم، ثم ختم القصيدة بخروج الإمام العادل الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً وهو الإمام المهدي الذي تنتظره الأمم والشعوب.

ولما فرغ من إنشادها، قام الإمامعليه‌السلام وأنفذ إليه صرة فيها مئة دينار(1) ، وقيل ستمئة دينار(2) فردها دعبل وقال: (والله ما لهذا جئت وإنما جئت للسلام عليه والتبرك بالنظر إلى وجهه الميمون وإني لفي غنى فإن رأى أن يعطيني شيئاً من ثيابه للتبرك فهو أحب إليَّ)، فأعطاه الإمامعليه‌السلام جبة خز وردّ عليه الصرة(3) .

النشاطات العلميّة للإمام الرضاعليه‌السلام

إنّ الإمامعليه‌السلام وإن كان يعيش تحت رقابة شديدة، إلاّ أن ذلك لم يكن ليمنعه من ممارسة دوره العلمي في الأوساط التي كان يعيش فيها، وبالنسبة لكل من يلتقي معه من الوزراء والفقهاء والقضاة وأمراء الجيش فضلاً عن الخدم وسائر الناس.

لقد كانعليه‌السلام ينشر علوم أهل البيتعليهم‌السلام على أتم صورة. وإضافة إلى ذلك كان المأمون وغيره يطلبون منه أن يحدّثهم أو يجيب على أسئلتهم. وكان

____________________

(1) الفصول المهمة: 249.

(2) اختيار معرفة الرجال: 504 ح 970، الإرشاد: 2/263، 264 وعنه في إعلام الورى: 2/66 - 68 وعيون أخبار الرضا: 2/263 - 266، وكمال الدين: 373 - 376، ودلائل الإمامة: 182، وسير أعلام النبلاء: 9 / 391، وانظر القصيدة في ديوان دعبل بن علي الخزاعي: 124.

(3) الفصول المهمة: 249 - 250.

١٥٦

ممّا كتبه الإمام الرضاعليه‌السلام للمأمون رسالة في محض الإسلام وشرائع الدين، وبيّن لآخرين علل الشرائع كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسباب تحريم الموبقات والمنكرات، كما كتب رسالة في الطب وأرسلها إلى المأمون فكتبها المأمون بماء الذهب.

وقام الإمام الرضاعليه‌السلام بمهمّة تفسير القرآن الكريم، وعلّم الناس الأدعية المأثورة عنه وعن آبائه وأجداده المعصومين، كما بيّن للناس التاريخ الصحيح للأنبياء والمرسلين، وللأمم السابقة، وأرشدهم إلى الصحيح من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الإمام عليعليه‌السلام وسيرة أهل البيتعليهم‌السلام (1) .

نعم، إنّ الإمام الرضاعليه‌السلام بالرغم من ملاحقته بالعيون والتضييق السياسي عليه بشكل غير منظور لعامّة الناس استطاع أن يستغلّ الظرف المهيّأ لنشر العلم والمعبّأ بالألغام ليصون شريعة جدّه سيد المرسلين مما يحيط بها من محاولات المسخ والتحريف ويوظّف الطاقات المتوفرة لديه بشكل مباشر وغير مباشر لتحقيق أهدافه الرسالية التي عيّنتها له الشريعة وبيّنها له الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآباؤه الطاهرين.

ومن هنا عمد الإمامعليه‌السلام إلى بيان حقيقة الخطّ الرسالي الذي يتزعّمه أهل البيتعليهم‌السلام وبيان خصائصه ومعالمه التي يتفرّد بها ويتميّز عن خط الخلفاء المتحكمين في رقاب المسلمين، مؤكّداً ضرورة استمرار هذا الخط حتى قيام يوم الدين، ومن هنا كان ينبغي له أن ينظر إلى المستقبل المشرق بعين القائد الحريص على سعادة الأمة ويوجّه إليه عامة المسلمين.

____________________

(1) مسند الإمام الرضاعليه‌السلام : 1/307.

١٥٧

الإمامعليه‌السلام والمستقبل

إن دور الإمامعليه‌السلام لا يتحدد بحدود المرحلة الزمنية التي يعاصرها، بل يمتد بامتداد الزمان، فله دور مرحلي، ودور شمولي، فهو المسؤول عن ثبات المنهج الإسلامي وخلوده مع الزمن، وحفظه من التشويه والتحريف، ومن هنا فان دور الإمام ينصبّ في المهام التالية:

1 - طرح الأفكار والعقائد الصحيحة وتبيان الأحكام الشرعية، وإبطال ما عداها من أفكار وأحكام.

2 - إصلاح الواقع طبقاً للمنهج الإسلامي.

3 - رفد الأمة بالعناصر الواعية المخلصة القادرة على نشر الأفكار والعقائد والأحكام، وإصلاح الواقع.

4 - تعيين الإمام التالي طبقاً للنصوص والوصايا الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي ينقلها إمام عن إمام.

5 - توجيه الأنظار والقلوب إلى المستقبل المشرق الذي سيقوده الإمام المهديعليه‌السلام في آخر الزمان، والتركيز على خصوصيات الإمام من حيث الولادة والنشأة والغيبة، والمظاهر البارزة في دوره الرسالي.

وقد عرفت فيما مرّ الدور الذي قام به الإمام الرضاعليه‌السلام فيما يرتبط بالنقاط الثلاثة الأولى، وأما النقطة الرابعة والمهمة التي تتضمن استمرار خط الإمامة من بعده فقد نصّ على إمامة ابنه محمد الجواد بحسب ما كانت تتطلبه هذه المهمة مع مراعاة مجموع الظروف المحيطة به.

١٥٨

النصّ على إمامة محمّد الجوادعليه‌السلام

نصّ الإمام الرضاعليه‌السلام على إمامة ابنه محمّد الجواد قبل أن يولد واستمر بالتنصيص عليه رغم السنوات القليلة التي عاشها الجواد مع أبيه الرضاعليه‌السلام .

وإليك صورة من تسلسل هذه النصوص وتدرّجها بحسب مراحلها الزمنية.

1 - عن صفوان بن يحيى قال: (قلت للرضاعليه‌السلام : قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله أبا جعفرعليه‌السلام فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، فقد وهبه الله لك، فأقرّ عيوننا؛ فلا أرانا الله يومك، فإن كان كون فإلى من؟

فأشار بيده إلى أبي جعفرعليه‌السلام وهو قائم بين يديه.

فقلت: جعلت فداك، هذا ابن ثلاث سنين؟

فقال: ما يضرّه من ذلك فقد قام عيسىعليه‌السلام بالحجة وهو ابن ثلاث سنين)(1) .

وهذه الواقعة يمكن تحديدها بسنة (198 هـ) أي بعد ولادة الإمام الجوادعليه‌السلام (195 هـ) بثلاث سنين.

ولكن هذا النصّ صريح في أن الإمام كان يشير إلى إمامة ابنه الجوادعليه‌السلام حتى قبل ولادته.

نعم، كان الإمام الرضاعليه‌السلام يوجه الأنظار إلى إمامة ولده الجوادعليه‌السلام إمّا تلميحاً أو تصريحاً، فمن أقواله في ذلك:

2 - (هذا المولود لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه)(2) .

وقد نستفيد من هذا النصّ أنه كان قد صدر من الإمام الرضاعليه‌السلام بُعَيْد ولادة الجوادعليه‌السلام .

____________________

(1) الكافي: 1 / 321، الفصول المهمة 265.

(2) الكافي: 1 / 321.

١٥٩

3 - وعن معمر بن خلاّد قال: سمعت الرضاعليه‌السلام وذكر شيئاً، فقال: (ما حاجتكم إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة)(1) .

4 - وعلى الرغم من ابتعاد الإمام الرضاعليه‌السلام عن المدينة إلا أنه كان دائم الاتصال بابنه الجوادعليه‌السلام وكان يخاطبه في رسائله بالتعظيم والتوقير، وما كان يذكر محمداً ابنه إلا بكنيته فيقول: (كتب إلي أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر)... فيخاطبه بالتعظيم، وكانت ترد كتب أبي جعفرعليه‌السلام في نهاية البلاغة والحُسن، ويضيف الراوي - أبو الحسين بن محمد بن أبي عباد - أنه سمع الرضاعليه‌السلام يقول: (أبو جعفر وصيّي وخليفتي في أهلي من بعدي)(2) .

وكان يبدي له التوجيهات والإرشادات لكي يفهم أتباع أهل البيتعليهم‌السلام بأنها جاءت في مقام إعداده للإمامة من بعده، وجاءت معللة برفع الله تعالى له، فقد كتب إليه: (يا أبا جعفر، بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير فإنما ذلك من بخل بهم لئلا ينال منك أحد خيراً، فأسئلك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ثم لا يسألك أحد إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً والكثير إليك، ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً، والكثير إليك، إني أريد أن يرفعك الله، فانفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً)(3) .

وكانت النصوص على إمامة الجوادعليه‌السلام عديدة ومتظافرة، اختلفت في ظاهرها بسبب اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية التي تحيط بالإمام

____________________

(1) الكافي: 1 / 320، الفصول المهمة: 265.

(2) الصراط المستقيم: 2/166، وبحار الأنوار: 50/18.

(3) عيون أخبار الرضا: 2 / 8.

١٦٠