اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)23%

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 253

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 253 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 132753 / تحميل: 7938
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

اعلام الهداية - الإمام علي بن موسى الرضا (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الرضاعليه‌السلام وبابنه الجوادعليه‌السلام وبأتباعه وأنصاره، وبسبب اختلاف أصحابه في الوعي ودرجة التلقي، وكتمان السر، وقربهم وبعدهم عن الإمامعليه‌السلام من حيث الولاء السياسي والعاطفي.

٥ - عن جعفر بن محمد النوفلي قال: (أتيت الرضاعليه‌السلام فسلمت عليه، ثم جلست، وقلت: جعلت فداك إن أناساً يزعمون أنّ أباك حيٌّ، فقال: كذبوا لعنهم الله... فقلت له: ما تأمرني؟ قال: عليك بابني محمّد من بعدي، وأما أنا فإني ذاهب في وجه الأرض لا أرجع منه...)(١) .

وجاء في بحار الأنوار نقلاً عن المصدر نفسه:(٢) .

٦ - وعن البزنطي قال: قال لي ابن النجاشي: (من الإمام بعد صاحبك؟ فأحب أن تسأله حتى أعلم. فدخلت على الرضاعليه‌السلام فأخبرته، فقال لي: الإمام ابني)(٣) .

٧ - واجتمع جماعة عند الإمام الرضاعليه‌السلام فلما نهضوا قال لهم: (القوا أبا جعفر فسلّموا عليه وأحدثوا به عهداً، ثم قال: يرحم الله المفضل إنه لكان ليقنع بدون ذلك)(٤) .

وفسّر العلامة المجلسي قولهعليه‌السلام : (ليقنع بدون ذلك، أي: بأقلّ مما قلت لكم في العلم بأنه إمام بعدي، ونبّههم إلى أن غرضه النصّ عليه، ولم يصرّح به تقية واتقاء)(٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٤٨/٢٦٠، و ٤٩/٢٨٥.

(٢) بحار الأنوار: ٥٠ / ١٨.

(٣) الكافي: ١/ ٣٢٠.

(٤) الكافي: ١/ ٣٢٠.

(٥) بحار الأنوار: ٥٠ / ٢٥.

١٦١

وقد نصّعليه‌السلام على إمامة الإمام الجوادعليه‌السلام بالشكل الذي تثبت إمامته عند المقربين من الإمامعليه‌السلام وأتباعه المخلصين، والكوادر الرسالية التي أعدها للمستقبل، ووكلائه الثقاة.

وقد أعدّ الإمامعليه‌السلام طليعة من الكوادر لإسناد منهج أهل البيتعليهم‌السلام وإسناد إمامة الإمام الجوادعليه‌السلام ومنهم: عمّه علي بن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر.

وانقاد أتباع الإمام الرضاعليه‌السلام للإمام الجوادعليه‌السلام وانقادت القاعدة الشعبية لإمامته إلا من شذّ منهم، واستقرت الإمامة على الإمام الجوادعليه‌السلام طبقاً للنصوص المتظافرة عليه من قبل أبيه وجده وأجداده، ولم تخف إمامته حتى عند الحكومة العباسية وولاتها وقوّادها.

الإعداد لدولة المهديّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه)

إنّ إمامة الإمام المهديعليه‌السلام من الحقائق الثابتة عند المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وهو المصلح الأكبر والمنقذ الأعظم للبشرية من شتّى أنواع الانحراف، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد امتلائها ظلماً وجوراً.

وقام الإمام الرضاعليه‌السلام بدوره ومسؤوليته في توجيه الأنظار إلى حقيقة هذا المبدأ الإسلامي المتمثّل في قضية الإمام المهديعليه‌السلام ، لقرب العهد بولادته وغيبته، وقد جاءت رواياته وإخباراته مطابقة لما صدر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من روايات وأحاديث:

فقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً)(١) .

____________________

(١) سنن ابي داود: ٤ / ١٠٧.

١٦٢

كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)(١) ، وقال: (المهدي من ولد الحسين)(٢) .

ووردت روايات عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصرّح بغيبة الإمام المهديعليه‌السلام ، بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (والذي بعثني بالحق بشيراً ليغيبنّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي، حتى يقول أكثر الناس: ما لله في آل محمد حاجة، ويشك آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسك بدينه، ولا يجعل للشيطان إليه سبيلاً بشكّه...)(٣) .

وقد قام الإمام الرضاعليه‌السلام بالترويج لهذا المبدأ الإسلامي عند المقرّبين لديه. وقد بلغت النصوص الخاصة بالإمام الرضاعليه‌السلام عن هذه القضية الإسلامية كما أحصاها مسند الإمام الرضاعليه‌السلام ستّة وثلاثين نصّاً. وإليك نماذج منها:

١ - عن أيوب بن نوح قال: قلت للرضاعليه‌السلام : إنا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يردّه الله عَزَّ وجَلَّ إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضربت الدراهم باسمك. فقالعليه‌السلام : (ما منا أحد اختلفت إليه الكتب، وسئل عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحملت إليه الأموال إلا اغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله عَزَّ وجَلَّ لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ غير خفيّ في نسبه)(٤) .

٢ - عن محمد بن أبي يعقوب البلخي قال: سمعت أبا الحسن الرضاعليه‌السلام يقول: (إنّه سيبتلون بما هو أشدّ وأكبر، يبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع، حتى يقال:

____________________

(١) سنن ابي داود: ٤ / ١٠٧، سنن ابن ماجة: ٢ / ١٣٦٨، عقد الدرر: ٤٢.

(٢) عقد الدرر: ٤٦، كفاية الطالب: ٥٠٣.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة: ١ / ٥١.

(٤) الكافي: ١ / ٣٤١، كمال الدين وتمام النعمة: ٢ / ٣٧٠.

١٦٣

غاب ومات، ويقولون: لا إمام...)(١) .

٣ - وصرّحعليه‌السلام بخصوصية الإمام المهدي - عجّل الله فرجه - بأنه الثالث من ولده فقال: (كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه، فقال له علي بن الحسن بن فضّال: ولم ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأنّ إمامهم يغيب عنهم... لئلا يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف)(٢) .

٤ - ثم صرّح بأكثر من ذلك فحدّد اسمه فقالعليه‌السلام : (لابد من فتنة صماء صيلم يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض وحرّى وحرّان، وكل حزين لهفان، بأبي أنت وأمي سميّ جدّي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران...)(٣) .

وكان العباسيون يدركون أن قضيّة الإمام المهديعليه‌السلام حقيقة إسلامية لابدّ منها، ويتخّوفون من زوال حكمهم على يديه، لذا كانت الروايات في شأنه في غاية السرّية والكتمان. ولعلّ إشخاصهم للائمةعليهم‌السلام إلى مركز حكمهم وعاصمتهم كان قائماً على أساس ترقب ولادة المهديعليه‌السلام والقضاء عليه في مهده إن لم يمكنهم الحيلولة دون ولادته.

فالمأمون أشخص الإمام الرضاعليه‌السلام إلى خراسان، وأشخص ابنه الإمام الجوادعليه‌السلام أيضاً إلى بغداد بعد انتقال مركز خلافته إليها. ولعلّ تزويجه للإمامعليه‌السلام من ابنته كان باعتبار هذا الهدف، إضافة إلى محاولة اختلاط النسب بين العباسيين وأئمة أهل البيتعليهم‌السلام فضلاً عن الحضور داخل حياتهم الشخصية ليكونوا على معرفة بما يستجدّ في حياة أهل البيتعليهم‌السلام .

____________________

(١) بحار الأنوار: ٥١ / ١٥٥، عن الغيبة للنعماني.

(٢) بحار الأنوار: ٥١ / ١٥٢.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة: ٢ / ٣٧٢، الفصول المهمة: ٢٥١.

١٦٤

وقد أشخص الحكّام من بعد المأمون الأئمة الباقين إلى مركز حكمهم كالإمام الجوادعليه‌السلام والإمامين الهادي والعسكريعليهما‌السلام (١) .

ولعلّ سمّ الأئمة منهم واغتيالهم من قبل الحكّام وعمّالهم واقع في هذا الطريق، فالإمام الجوادعليه‌السلام مات مسموماً وعمره خمس وعشرون سنة، والإمام الهادي سُمّ وهو في الثانية والأربعين من عمره والإمام الحسن العسكريعليه‌السلام مات مسموماً وعمره ثمان وعشرون سنة(٢) .

ويؤيّد هذا التحليل النصّ المروي عن الإمام أبي محمد الحسن العسكريعليه‌السلام إذ قال: قد وضع بنو أُمية وبنو العبّاس سيوفهم علينا لعلّتين: أحداهما أنهم كانوا يعلمون ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إياها، وتستقرّ في مركزها. وثانيها أنهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منّا، وكانوا لا يشكّون أنهم من الجبابرة والظلمة فسعوا في قتل أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائمعليه‌السلام أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم، إلاّ أن يتم نوره، ولو كره المشركون.

وبوجود الأئمةعليهم‌السلام في البلاط كان يسهل على الحكّام متابعة نشاطهم وحركتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة؛ لذا فإن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام والد الإمام المهديعليه‌السلام لم يتزوّج زواجاً عادياً ورسمياً، وحينما ولد له الإمام المهديعليه‌السلام أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان له، واجتهاده في البحث عن أمره، لما كان قد شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه وعرف ذلك من انتظارهم له(٣) .

____________________

(١) والملفت للنظر لدى الباحث التاريخي أن الأئمة من بعد الرضاعليه‌السلام لم يولد لهم مثل ما ولد لآبائهم من قبل، وهو شاهد على مدى تحديدهم وإحكام الرقابة عليهم، وكما أنه مؤشّر إلى تخوّف الحكّام منهم خشية من ظهور المهدي الموعود من بين أبنائهمعليهم‌السلام .

(٢) راجع منتخب الأثر: الباب ٣٤ من أبواب الفصل الثاني عن أربعين الخاتون آبادي.

(٣) الإرشاد: ٢/٣٣٧ وعنه في بحار الأنوار: ٥٠ / ٣٣٤.

١٦٥

وهذه المواقف التي كانت تبدر من السلطة والتحفّظات الكثيرة هي التي جعلت الإمام المهديعليه‌السلام يختفي دون أن تقوم السلطات باعتقاله، وهي نتيجة للتخطيط الدقيق الذي كان قد بدأه الإمام الرضاعليه‌السلام وتلميحاته وتصريحاته السرية في خصوص الإيمان بالمهديعليه‌السلام وولادته واسمه. وقد تابع الأئمة من بعده نفس التخطيط، دون أن تشعر بهم السلطات القائمة.

وخلاصة القول: إن الإمام الرضاعليه‌السلام قد رسم مستقبل الرسالة بالتمهيد لها من خلال الوصية بإمامة ابنه الجوادعليه‌السلام ، ثمّ عليّ الهادي ثمّ الحسن العسكري ثم ابنه الإمام المهدي المنتظر؛ لتواصل الأمة ولاءها وتستمر في انتمائها الفكري والعاطفي والسلوكي.

اغتيال الإمام الرضاعليه‌السلام

لقد كان الإمام الرضاعليه‌السلام يعلم بأنه سوف يُقتل، وذلك لروايات وردت عن آبائه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إضافة إلى الإلهام الإلهي له، لوصوله إلى قمة السموّ والارتقاء الروحي. ولا غرابة في ذلك، فقد شاهدنا في حياتنا المعاصرة أن بعض الأتقياء يحدّدون أيام وفاتهم أو سنة وفاتهم، لرؤيا رأوها أو لإلهام إلهي غير منظور. فما المانع أن يعلم الإمام الرضاعليه‌السلام بمقتله وهو الشخصية العظيمة التي ارتبطت بالله تعالى ارتباطاً حقيقياً في سكناتها وحركاتها، وأخلصت له إخلاصاً تاماً.

وقد أخبر الإمامعليه‌السلام جماعة من الناس بأنّه سيدفن قرب هارون، بقولهعليه‌السلام : (أنا وهارون كهاتين)، وضم إصبعيه السبابة والوسطى(١) .

وكان هارون يخطب في مسجد المدينة والإمام حاضر، فقالعليه‌السلام :

____________________

(١) الكافي: ١/٤٩١، عيون أخبار الرضا: ٢/٢٢٥ - ٢٢٦، والإرشاد: ٢/٢٥٨ وعنه في إعلام الورى: ٢/٦٠ والإتحاف بحب الأشراف: ١٥٨.

١٦٦

(تروني وإياه ندفن في بيت واحد)(١) .

وفي ذات مرّة، خرج هارون من المسجد الحرام من باب، وخرج الإمام من باب آخر فقالعليه‌السلام : (يا بعد الدار وقرب الملتقى إن طوس ستجمعني وإياه)(٢) .

وقال ابن حجر: أخبر بأنه يموت قبل المأمون، وأنّه يدفن قرب الرشيد فكان كما أخبر(٣) .

وحينما أراد المأمون أشخاصه إلى خراسان، جمع عياله وكانعليه‌السلام يقول: (إني حيث أرادوا الخروج بي من المدينة جمعت عيالي، فأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى اسمع، ثم فرقت فيهم اثنى عشر إلف دينار، ثم قلت: أما أني لا أرجع إلى عيالي أبداً)(٤) .

وحينما أنشده دعبل الخزاعي قصيدته - بعد ولاية العهد - وانتهى إلى قوله:

(وقبر ببغداد لنفس زكية

تضمّنها الرحمن في الغرفات

قال له الإمامعليه‌السلام : (أفلا اُلحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟

فقال: بلى يا ابن رسول الله، فقالعليه‌السلام :

وقبر بطوس يا لها من مصيبة

توقد في الأحشاء بالحرقات

فقال دعبل: يا ابن رسول الله هذا القبر الذي بطوس قبر من هو؟

فقال الإمامعليه‌السلام : قبري، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزواري...)(٥) .

وقد تقدم أنه أخبر عن عدم إتمام ولاية العهد.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢/٢١٦ وكشف الغمة: ٣/٩٣ وإعلام الورى: ٢/٥٩ والإتحاف بحبّ الأشراف: ١٥٨.

(٢) عيون أخبار الرضا: ٢/٢١٦ وفي إعلام الورى: ٢/٥٩ وعنه في كشف الغمة: ٣/١٠٥، وفي الإتحاف بحبّ الأشراف: ١٥٨.

(٣) الصواعق المحرقة: ٣٠٩.

(٤) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢١٨، إعلام الورى: ٢/٥٩ - ٦٠.

(٥) عيون أخبار الرضا: ٢/٢٦٣ - ٢٦٤.

١٦٧

الأدلة على شهادته مسموماً

اختلفت الروايات في سبب موت الإمامعليه‌السلام بين الموت الطبيعي وبين السمّ، وقال الأكثر إنّه مات مسموماً، وفيما يلي نستعرض بعض الروايات - الدالة على ذلك - باختصار.

قال صلاح الدين الصفدي: وآل أمره مع المأمون إلى أن سمّه في رمّانة... مداراة لبني العباس(١) .

وقال اليعقوبي: فقيل إن علي بن هشام أطعمه رمّاناً فيه سمّ(٢) .

وقال ابن حبّان: ومات علي بن موسى الرضا بطوس من شربة سقاه إياها المأمون فمات من ساعته(٣) .

وقال شهاب الدين النويري:... وقيل إن المأمون سمّه في عنب، واستبعد ذلك جماعة وأنكروه(٤) .

وقال القلقشندي: يقال إنه سمّ في رمّان أكله(٥) .

وكان أهل طوس يرون أن المأمون سمّه، وقد اعترف المأمون بتهمة الناس له فقد دخل على الإمامعليه‌السلام قبيل موته فقال: (يا سيدي والله ما أدري أي المصيبتين أعظم علي؟ فقدي لك، وفراقي إياك؟ أو تهمة الناس لي أني اغتلتك وقتلتك...)(٦) .

____________________

(١) الوافي بالوفيات: ٢٢/٢٥١.

(٢) تاريخ الطبري: ٥/١٤٨، أحداث سنة ٢٠٣ هـ.

(٣) الثقات: ٨ / ٤٥٧.

(٤) نهاية الإرب: ٢٢ / ٢١٠.

(٥) مآثر الإنافة في معالم الخلافة: ١ / ٢١١.

(٦) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٤١.

١٦٨

ولما كان اليوم الثاني اجتمع الناس وقالوا: إن هذا قتله واغتاله، يعنون المأمون(١) .

ومن الشواهد على أن المأمون قتله مسموماً، أنه كان يخطط للتخلص منه.

قال المأمون لبني العباس:... فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً قليلاً، حتى نصوّره عند الرعايا بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه(٢) .

ويأتي موت الإمامعليه‌السلام بعد قرار المأمون بالتوجه إلى العراق ونقل عاصمة حكمه إليه، فقد وجد أنّ العباسيين في العراق سيبقون معارضين له ما دام الإمامعليه‌السلام ولياً لعهده، لذا نجده قد كتب لهم ليستميلهم: إنكم نقمتم عليّ بسبب توليتي العهد من بعدي لعلي بن موسى الرضا، وها هو قد مات، فارجعوا إلى السمع والطاعة.

ولا يستبعد من المأمون أن يقدم على قتله، وقد قتل من أجل الملك والسلطة أخاه وآلاف المسلمين من جنوده وجنود أخيه، فالملك عقيم كما أخبره أبوه من قبل.

أسباب إقدام المأمون على سمّ الإمامعليه‌السلام واغتياله

من الأسباب التي دعت المأمون إلى سمّ الإمام انّه لم يحصل على ما أراد من توليته للعهد، فقد حدثت له فتنة جديدة وهي تمرّد العباسيين عليه، ومحاولتهم القضاء عليه.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٤١.

(٢) فرائد السمطين: ٢/٢١٤، ٢١٥.

١٦٩

ومن الأسباب التي وردت عن أحمد بن علي الأنصاري عن أبي الصلت الهروي في قوله: (... وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا؛ فيسقط محلّه من نفوسهم، فلمّا لم يظهر منه في ذلك للناس إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاًّ في نفوسهم، وجلب عليه المتكلمين من البلدان طمعاً من أن يقطعه واحد منهم فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم يشتهر نقصه عند العامة، فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئية والبراهمة والملحدين والدهرية، ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلا قطعه وألزمه الحجة.

وكان الناس يقولون: والله إنّه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه، فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده ).

وكان الرضا لا يُحابي المأمون في حق، وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله؛ فيغيظه ذلك، ويحقد عليه، ولا يظهره له، فلمّا أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم(١) .

وقد نصحه الإمامعليه‌السلام - كما تقدم - بأن يبعده عن ولاية العهد لبغض البعض لذلك، وقد علّق إبراهيم الصولي على ذلك بالقول: كان هذا والله السبب فيما آل الأمر إليه(٢) .

إضافة إلى ذلك أن بعض وزراء المأمون وقوّاده كانوا يبغضون الإمامعليه‌السلام ويحسدونه، فكثرت وشاياتهم على الإمامعليه‌السلام ، فأقدم المأمون

____________________

(١) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٣٩ - ٢٤٠.

(٢) نثر الدر: ١ / ٣٦٣.

١٧٠

على سمّه(١) .

وبدأت علامات الموت تظهر على الإمامعليه‌السلام بعد أن أكل الرمان أو العنب الذي أطعمه المأمون، وبعد خروج المأمون ازدادت حالته الصحية تدهوراً، وكان آخر ما تكلم به:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (٢) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) (٣) .

ودخل عليه المأمون باكياً، ثم مشى خلف جنازته حافياً حاسراً يقول: (يا أخي لقد ثلم الإسلام بموتك وغلب القدر تقديري فيك) وشق لحد هارون ودفنه بجنبه(٤) .

وقد رثاه دعبل الخزاعي قائلاً:

أرى أمية معذورين إن قتلوا

ولا أرى لبني العباس من عذر

أربع بطوس على قبر الزكي به

إن كنت تربع من دين على خطر

قبران في طوس خير الناس كلّهم

وقبر شرهم هذا من العبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما

على الزكي بقرب الرجس من ضرر(٥)

وكانت شهادة الإمام الرضاعليه‌السلام في آخر صفر سنة (٢٠٣ هـ) كما ذكر على ذلك أغلب الرواة والمؤرخين.

____________________

(١) النصوص التوضيحية في كيفية استشهاده راجعها في العوالم ص ٤٨٨ - ٤٩٨.

(٢) آل عمران (٣): ١٥٤.

(٣) الأحزاب (٣٣): ٣٨.

(٤) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٤١.

(٥) عيون أخبار الرضا: ٢ / ٢٥١.

١٧١

كرامة زيارته

قال ابن حبّان: قد زرته مراراً كثيرة، وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا، صلوات الله على جده وعليه ودعوت الله إزالتها عني إلا استجيب لي، وزالت عني تلك الشدة، وهذا شيء جربته مراراً، فوجدته كذلك(١) .

وقد اشتهرت هذه الكرامات على مدى القرون ولا سيّما في عصرنا الراهن حتى إن القائمين بشؤون الحرم الرضوي قد أسّسوا قسماً خاصاً بتسجيل هذه الكرامات وتدوينها مع شواهدها وذاع صيتها واشتهر أمرها وأصبحت من الواضحات لدى عامة المؤمنين بل جملة من الأطباء الذين كانوا يشرفون على تطبيب بعض المرضى الذين لا علاج لهم.

____________________

(١) الثقات: ٨ / ٤٥٧.

١٧٢

الفصل الثالث: مدرسة الإمام الرضاعليه‌السلام احتجاجاته وتراثه

عاش الإمام الرضاعليه‌السلام في عصر انفتاح الأمة الإسلامية على تراث الأمم الأخرى التي أخذت تدخل في حاضرة المسلمين وتساهم معهم في بناء صرح حضارتهم الإسلامية.

وقد بلغ هذا الانفتاح مبلغاً عظيماً في عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشكل واضح حتى كان يهدّد الثقافة الإسلامية إن لم يتصدّ له المعنيّون بحفظ أصالة الثقافة الإسلامية من الذوبان في الثقافات الدخيلة عليها بشكل أو آخر.

وقد اعتنى الإمام الرضاعليه‌السلام بهذا الجانب الخطير فقام بإعداد وتربية أجيال من العلماء ليحرصوا على صيانة التراث الإسلامي من الذوبان والانهيار، ويقوموا بمهمة نشر الفكر الإسلامي الصائب في أرجاء العالم الإسلامي ويهتمّوا بتربية أجيال تحمل هذه الرسالة إلى العالم أجمع.

من هنا كانت للإمام الرضاعليه‌السلام مدرسة حيّة تتقوّم بعناصر عالمة ومتعلّمة وذات ثقافة رسالية فريدة.

وهذه المدرسة تعتبر جزءً من التراث الحي للإمام الرضاعليه‌السلام . وهي بعدٌ متميّز من تراثه الثرّ.

وتأتي احتجاجات الإمام الطويلة والمتنوّعة مع أرباب شتى المذاهب

١٧٣

والأديان لتشكّل علامة فارقة أخرى في حياة الإمام الرضاعليه‌السلام وهي الجزء الآخر من تراثه المعطاء.

كما يعتبر كل ما دوّن وروي عن الإمام الرضاعليه‌السلام من أحاديث ورسائل وكتب في شتى ميادين المعرفة الإسلامية الجزء الثالث من تراثه الخالد للأمة الإسلامية بل البشرية جمعاء.

من هنا سوف نتكلّم عن هذه الحقول والأجزاء الثلاثة ضمن ثلاثة بحوث تأتي تباعاً.

١٧٤

البحث الأول: مدرسة الإمام الرضاعليه‌السلام

يتراوح عدد الرواة عن الإمام الرضاعليه‌السلام كما جاء في المصادر الموجودة بأيدينا بين (٣١٣) إلى (٣٦٧) راوياً. وهؤلاء يعتبرون طلاّب مدرسته والمتخرجين على يديه. وقد أحصى عددهم صاحب مسند الإمام الرضا وترجم لِـ ٣١٣ راوياً منهم بشكل موجز جدّاً استناداً إلى ما جاء لهم من ذكر في أسناد روايات المسند.

على أن الشيخ الطوسي (رضي الله عنه) قد ذكر ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحاب الإمام الرضاعليه‌السلام ، بينما أنهاهم الشيخ باقر شريف القرشي إلى (٣٦٧) راوياً(١) .

ونظرة سريعة إلى مسند الإمام الرضاعليه‌السلام تعطينا صورة إجمالية عن اتجاهات مدرسة الإمام الرضاعليه‌السلام وملامح عصره في مجالات التربية العلمية والأخلاقية كما كانت تتطلّبها الظروف التي عاشها الإمامعليه‌السلام هذا فضلاً عن الإعداد الخاص للمستقبل القريب والبعيد الذي كان قد خطط له الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام كما هو واضح لمن يتدبّر مجموع ما صدر عنهم من نصوص وما تضمّنتها من التوجيه إلى آفاق المستقبل المشرق الذي ينتظر أتباع أهل البيتعليهم‌السلام وهم الجماعة الصالحة التي التزمت خطّهم الفكري والسياسي وأصرّت على التضحية في سبيل العقيدة الصحيحة والمبدأ الحق.

وقد ازداد النشاط العلمي لشيعة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا العصر وتمثّل

____________________

(١) انظر مسند الإمام الرضا، وحياة الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام (دراسة وتحليل).

١٧٥

في كثرة التأليف والتدوين، والتدريس والرواية وشمل جميع الحقول المعرفية المعروفة آنذاك.

كما ازداد عدد الأفراد المنتمين لمدرسة الفقهاء الرواة من أتباع أهل البيتعليهم‌السلام ازدياداً ملحوظاً، ونلمس ذلك بوضوح من خلال عدد رواة الإمام الرضاعليه‌السلام حيث تكشف قائمة الرواة عن مدى الاهتمام منهم بانتهال العلم من مدرسة الإمام الرضاعليه‌السلام الرسالية في عصره، لا سيّما إذا لاحظنا تنوّع مستوياتهم وتنوّع اتجاهاتهم وتنوع بلدانهم واهتماماتهم العلمية من خلال تنوع الأسئلة والمجالات التي رووا فيها الأحاديث عن الإمام الرضاعليه‌السلام .

ونشير فيما يلي إلى بعض أصحاب الإمام وإلى جملة من مؤلفاتهم.

لقد ذكرت كتب التراجم ليونس بن عبد الرحمن(١) الكتب التالية:

١ - كتاب الشرايع، ٢ - جوامع الآثار، ٣ - الجامع الكبير في الفقه، ٤ - الصلاة، ٥ - الوضوء، ٦ - يوم وليلة، ٧ - السهو، ٨ - الزكاة، ٩ - اختلاف الحج، ١٠ - العلل الكبير، ١١ - علل الحديث، ١٢ - الفرائض، ١٣ - الفرائض الصغير، ١٤ - الاحتجاج في الطلاق، ١٥ - التجارات، ١٦ - المزارعات، ١٧ - الآداب والدلالة على الخير، ١٨ - علل النكاح وتحليل المتعة، ١٩ - البيوع، ٢٠ - الديات، ٢١ - الحدود.

____________________

(١) يونس بن عبد الرحمن هو أبو محمد مولى آل يقطين ثقة من أصحاب الكاظم والرضاعليهما‌السلام ، كان وجهاً في أصحابنا متقدماً عظيم المنزلة قال ابن النديم: (يونس بن عبد الرحمن من أصحاب موسى بن جعفرعليهما‌السلام من موالي آل يقطين علاّمة زمانه كثير التصنيف والتأليف على مذاهب الشيعة) ثم عد كتبه. وكان يونس من أصحاب الإجماع، ولد في أيام هشام بن عبد الملك ورأى جعفر بن محمدعليهما‌السلام بين الصفا والمروة ولم يرو عنه، وروى عن الكاظم والرضاعليهما‌السلام ، وكان الرضاعليه‌السلام يشير إليه في العلم والفتيا، وكان ممن بذل على الوقف مالاً جزيلاً فما قبل، مات (رحمه الله) سنة ٢٠٨.

١٧٦

وذكرت لصفوان بن يحيى(١) ما يلي:

١ - كتاب الوضوء، ٢ - الصلاة، ٣ - الصوم، ٤ - الحج، ٥ - الزكاة، ٦ - النكاح، ٧ - الطلاق، ٨ - الفرائض، ٩ - الوصايا، ١٠ - الشراء والبيع، ١١ - العتق والتدبير، ١٢ - البشارات، ١٣ - النوادر.

وذكرت للحسن بن محبوب أيضاً: ١ - كتاب المشيخة، ٢ - الحدود، ٣ - الديات، ٤ - الفرائض، ٥ - النكاح، ٦ - الطلاق، ٧ - النوادر نحو ألف ورقة، ٨ - التفسير، ٩ - العتق.

كما ذكرت كتب أخرى لعثمان بن عيسى الرؤاسي ومحمد بن أبي عمير وعلي بن يقطين ومحمد بن عيسى اليقطيني حتى جاء عنه في مناقب ابن شهر آشوب أنه جمع من مسائل أبي الحسن الرضا مما سئل عنه وأجاب ثمانية عشر ألف مسألة أو خمسة عشر ألف مسألة(٢) .

____________________

(١) هو أبو محمد صفوان بن يحيى البجلي الكوفي، بياع السابري من أصحاب الإمام السابع والثامنعليهما‌السلام وأقرّوا له بالفقه والعلم، ثقة من أصحاب الإجماع وكان وكيل الرضاعليه‌السلام وصنف كتباً كثيرة كان من الورع والعبادة ما لم يكن احد في طبقته. ونقل الشيخ: (إنه أوثق أهل زمانه عند أصحاب الحديث وأعبدهم كان يصلي كل يوم خمسين ومائة ركعة ويصوم في السنة ثلاثة أشهر ويخرج زكاة ماله كل سنة ثلاث مرات وذاك أنه اشترك هو وعبد الله بن جندب وعلي بن النعمان في بيت الله الحرام فتعاقدوا جميعا إن مات واحد منهم يصلي من بقي بعده صلاته ويصوم عنه ويحج عنه ويزكي عنه ما دام حياً فمات صاحباه وبقى صفوان بعدهما وكان يفي لهما بذلك وكان يصلي عنهما ويزكي عنهما ويصوم عنهما ويحج عنهما وكل شيء من البر والصلاح يفعل لنفسه كذلك يفعله عن صاحبيه - إلى أن قال -: وروى عن أربعين رجلاً من أصحاب أبي عبد اللهعليه‌السلام . وله كتب كثيرة مثل كتب الحسين بن سعيد وله مسائل عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام وروايات).

مات (رحمه الله) بالمدينة وبعث إليه أبو جعفر بحنوطه وكفنه وأمر إسماعيل بن موسى بالصلاة عليه.

(٢) راجع عبد الهادي الفضلي: تاريخ التشريع الإسلامي: ١٨٠.

١٧٧

البحث الثاني: احتجاجات الإمام الرضاعليه‌السلام

إن انفتاح الأمة الإسلامية على الأمم والثقافات الأخرى - بأيّ سبب كان(١) - كان يتطلّب من القيادة الرساليّة التي كانت مهمّتها الأولى صيانة الرسالة الإسلامية والأمة المسلمة من الانهيار والسقوط أن تقوم بتحصين الأمة والمجتمع الإسلامي تحصيناً علمياً وثقافياً يجعلها تصمد أمام الاختراق الثقافي المقصود أو غير المقصود.

وقد عرفنا أن عصر الإمام الرضاعليه‌السلام قد تميّز بانفتاح هذا الباب على مصراعيه، وأصبح الخطر محدقاً بالأمة، وكان المأمون يبدي رغبة جامحة وشديدة في الحوار بين الإمام الرضاعليه‌السلام وسائر أرباب الأديان والمذاهب والاتجاهات العاملة في المجتمع الإسلامي آنذاك.

وقد تحقق هذا الحوار المفتوح على أصعدة شتّى، وتحدّى فيه الإمام الرضاعليه‌السلام - باعتباره الشخصية العلمية الوحيدة اللامعة في العالم الإسلامي - كل أصحاب الأديان والمذاهب والفرق وفاقهم جميعاً، وسجّل بذلك للعالم الإسلامي تفوّقه وقيمومته العلمية بالنسبة لهم، وتلألأت بذلك شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام

____________________

(١) قد يكون هذا الانفتاح نتيجة طبيعية لدخول الأمم الأخرى في الحاضرة الإسلامية بعد اعتناق الإسلام أو معايشتها للمسلمين، وقد يكون السبب محاولة الاختراق منهم رغم الفتوحات الإسلامية التي أنتجت خضوعهم للدولة الإسلامية، كما يحتمل أن يكون للخلفاء دور في التشجيع على الترجمة للتراث الآخر رغبةً منهم في التوسع العلمي والاطلاع على سائر الثقافات أو رغبة منهم لانشغال طلاّب العلم بالثقافات الأخرى لئلا يتفرّغوا للتوجه إلى معين أهل البيتعليهم‌السلام الرسالي، لأنّ هذا التوجه سيؤدي إلى مرجعيتهم العلمية والتي تستتبعها مرجعيتهم السياسية ولو بعد فترة طويلة، وهذا مما لا يروق لهم بحال من الأحوال.

١٧٨

بشكل خاص(١) .

ولا ندري هل سجّلت كتب التراث كل ساحات الحوار ونصوصه التي دارت بين الإمام الرضاعليه‌السلام وسائر أرباب الأديان والمذاهب، غير أنّ ما وصل إلينا من حوارات غني في بابه وتنوّع مجالاته، بالرغم من وجود شواهد تأريخية على إصرار المأمون لحجب هذه الحوارات عن الانتشار.

وتكفّلت كُتب الاحتجاج بثبت جملة من هذه الحوارات وتجدها في كتاب الاحتجاج للطبرسي وبحار الأنوار للمجلسي فضلاً عن كتاب عيون أخبار الرضاعليه‌السلام .

وقد أنتجت هذه الحوارات المهمة ما يلي:

١ - تحدي أرباب الأديان والمذاهب، وإثبات التفوّق العلمي لمدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الرسالية.

٢ - فتح الباب لانتشار ثقافة أهل البيتعليهم‌السلام في أوساط المجتمع الإسلامي.

٣ - توجيه المسلمين إلى خط أهل البيتعليهم‌السلام الرسالي ودعوتهم للانشداد بهم دون غيرهم دعوة صامتة.

٤ - دعم الدولة الإسلامية لأنها قدّمت للإنسانية الرصيد العلمي الذي تمتلكه الحضارة الإسلامية.

٥ - ولا نستبعد أن تكون هذه الفتوحات الكبيرة سبباً من أسباب

____________________

(١) ولعل هذا التفوّق كان أحد أسباب استعجال المأمون في القضاء على شخص الإمام الرضاعليه‌السلام بعد أن ثبت للعالم الإسلامي إشراق هذه الشخصية، وأن المأمون لا يستطيع استيعابها واحتوائها، فيكون وجود المأمون حينئذ وجوداً هامشياً - كما هو كذلك - ولكن الملك عقيم والخلافة منصب لا يزهد فيه أصحاب المطامع الدنيوية، من هنا تجرّأ المأمون بكل قساوة وخطّط للقضاء على هذه الشخصية المشرقة التي أصبحت تنافسه في أعين الناس بل أصبحت تفوقه بما لا يتحمّله من أنواع التفوّق.

١٧٩

الإسراع في القضاء على شخص الإمام الرضاعليه‌السلام ، لأن تفوقه واشراقه يعود بنتائج سلبية على شخص الخليفة، فيكون وجوده مزاحماً لمثل المأمون الذي يحمل أكبر الآمال في إحكام السيطرة على العالم الإسلامي.

وعلى كل حال فقد تنوّعت مجالات الحوار فشملت التوحيد، والنبوّة والأنبياءعليهم‌السلام والإمامة والأئمة، والمذاهب الإسلامية، والخلافة والصحابة، وغيرها من مسائل الخلاف بين المسلمين.

ونستعرض فيما يلي نماذج من هذه الاحتجاجات لنقف على جانب من عظمة الإمام العلمية ونشاطه الخاص في هذا المجال الخطير.

١ - حواره مع الثنوية

روى الصدوق عن الفضل بن شاذان: سأل رجلٌ من الثنوية أبا الحسن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام وأنا حاضر فقال له: إنّي أقول: إنّ صانع العالم اثنان فما الدّليل على أنّه واحد؟ فقال: (قولك: إنّه اثنان دليل على أنّه واحد لأنّك لم تدّع الثاني إلاّ بعد إثباتك الواحد، فالواحد مجمع عليه وأكثر من واحد مختلف فيه)(١) .

____________________

(١) التوحيد: ٢٥٠.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253