منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102818
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102818 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

بسم الله الرحمن الرحيم

١

٢

التشريع وملابسات الأحكام عند المسلمين (٥)

منع تدوين الحديث

قراءة في منهجة الفكر

وأُصول مدرستي الحديث عند المسلمين

السيّد علي الشهرستاني

تمتاز هذه الطبعة بتنقيح وإضافات قيّمة من المؤلِّف.

دار الغدير

٣

٤

الإهداء:

إلى روَّاد التدوين من السلف الصالح

إلى مَن يسير على هديهم فكراً ونهجاً ومعتقداً

إلى رجال الشريعة.. طلبة وأساتذة وباحثين

إلى كلّ متطلّع إلى الحقيقة ومتحرِّرٍ من قيود التقليد والجمود

وإلى كلّ عقلٍ حرٍّ، وفطرةٍ سليمةٍ، وفكرٍ أصيل

أهدي دراستي هذه

المؤلّف

٥

٦

كلمة الناشر

صدرت الطبعة الأُولى من هذا الكتاب قبل سبعة أعوام، وبعد أشهر أعادت مؤسسة الأعلمي طبعه في بيروت، وفي الثلاثاء ١٧ شوّال ١٤٢٢ - الأوّل من يناير ٢٠٠٢ م، نشرت جريدة (الجمهورية اولاين) المصرية وضمن إصداراتها الأُسبوعية (عقيدتي) حقل قصص الحق هذا الخبر:

قرّر مجلس مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في اجتماعه الأسبوع الماضي برئاسة الإمام الأكبر د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر استطلاع رأي علماء جامعة الأزهر في مسألة تعريب العلوم بالجامعات... إلى أن قال:

كما وافق المجمع على التقارير الثلاثة التي تقدّم بها الدكتور محمد عمارة حول بعض الكتب.... والموافقة على تداول كتاب منع تدوين الحديث للسيد علي الشهرستاني.

وفي عام ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م طبع الأُستاذ عاطف الجبالي مدير (مركز الفجر للدراسات والبحوث - مصر) خلاصة هذا الكتاب الذي أعدّه وطبعه مركز الأبحاث العقائدية في قم قبل سنوات للمرّة الثانية.

إنّ كتاب (منع تدوين الحديث) قد لاقى اهتمام الباحثين في الوطن الإسلامي وخارجه، فهم ما بين مؤيّد له وبين مخالف؛ لأنّ الكاتب كان قد طرح في كتابه رؤية جديدة في سبب منع الشيخين من تدوين حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، موضّحاً فيه ارتباط هذا المنع وتأثيره على قيمة المجاميع الحديثية الموجودة اليوم عند المسلمين، مؤكّداً على

٧

إحدى المجموعتين بأنّها هي الأوثق والأقرب للواقع، والأبعد عن الدوافع.

فإنّ طرح مسألة مهمّة كهذه، لحريّ أن يلاقي التأييد والتشجيع من البعض، والمضادّة والمخالفة من الآخر؛ لأنّه يرتبط بثاني أصل من أُصول التشريع الإسلامي، ألا وهو السنّة النبوية المطهّرة.

وقد تجاوز النقاش حول هذا الكتاب من مجالس الفضلاء، وأندية الباحثين إلى أروقة الجامعات والرسائل الجامعية، فقد كتب عماد السيد الشربيني كتاباً أسماه (السنّة النبوية في كتابات أعداء الإسلام) أشار فيه إلى عقائد الشيعة الإمامية وآراء مؤلّف هذا الكتاب على وجه الخصوص، كما أشار إلى آراء غيره ممّن سمّاهم أعداءً للسنّة المطهّرة.

وقد انبرى بعض الفضلاء، وهو الأُستاذ الكاتب الشيخ قيس العطّار للإجابة عن افتراءات الشربيني، وتهمه الموجّهة إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على نحو الخصوص، مدافعاً عن السنّة النبوية ومبادئ الرسول الأعظم، التي حملها أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، موجّهاً عتابه إلى كلّيّة أُصول الدين / الأزهر في كتاب أسماه (كتاب وعتاب / رسالة مفتوحة إلى كلية أُصول الدين - الأزهر)؛ وذلك لاعتقاده بأنّ الكتاب لا يستحق الرد؛ ولأجل ذلك وجّه عتابه إلى مشايخ الأزهر وأساتذة كلّيّة أُصول الدين لا إلى الشربيني، وقد طبعت دارنا هذا الكتاب في العام المنصرم، ولاقى قبولاً حسناً واستقبالاً منقطع النظير من القرّاء الكرام.

ولمّا كان موضوع كتاب الشيخ العطار يرتبط بكتاب (منع تدوين الحديث ) في أحايين كثيرة، وأنّ الأخير كان قد نفد من الأسواق، فطلبنا من سماحة السيد المؤلّف أن يجيزنا في طبعه للمرة الثالثة فاستجاب لطلبنا، وله منّا جزيل الشكر وفائق الامتنان.

٨

مقدّمة الطبعة الثالثة

ها أنا ذا أقدم للباحثين الطبعة الثالثة من كتابي، وأنا مسرور بإقبال الباحثين والفضلاء والعلماء عليه، مشيراً إلى أنّ طلب (دار الغدير) في تجديد طبعه، و (مؤسسة أنصاريان) في ترجمته إلى اللغة الإنجليزية؛ كانا العاملين المحفّزين اللذين دعياني لإعادة النظر فيما كتبته قبل سنوات حول منع تدوين الحديث.

وقد سعيت أن لا تخرج تصحيحاتي وملاحظاتي على الكتاب - في إطارها العام - من الشكل والصورة إلى التأثير على الفكرة والمنهج، فصقلت بعض عبارات الكتاب، وأضفت بعض الشيء إلى مادّته الوثائقية، وحذفت الآخر منه، وقدّمت بعض الجمل وأخّرت أُخرى، وفتحت بعض أفكاري التي أحسست بأنّ فيها بعض الغموض على غير المختصّين من القرّاء، فجاءت هذه الطبعة مزيدة منقّحة والحمد لله.

وحيث إنّ محاولتي - فيما أعلم - كانت الأُولى من نوعها؛ لأنّ ربط قضية منع تدوين الحديث بتاريخ الإسلام والاختلافات الناتجة بعدها، ثم التركيز على الأُصول العقائدية والبنى التحتيّة للأفكار المتوارثة عند المسلمين، وكيفيّة تأسيس الأُصول في الشريعة واختلاف المناحي الفكرية عند المسلمين، كل ذلك مع إعطائنا تفسيراً فكرياً عقائدياً اجتماعياً للأحداث، أخرجت قضية منع تدوين الحديث من كونها بحثاً في قضية علمية تخصّصية جافّة إلى بحث استراتيجي حيوي في الشريعة والحياة.

ولست أدّعي بأنّي قد أحطت بكل جوانب هذه المسألة، لكنّي بذلت ما في وسعي

٩

للوصول إلى الحقيقة المنشودة، راجياً من الله أن يكون الصواب حليفي، وإلاّ فلتسعه عين الرضا.

وممّا يجب أن لا نتغافله هنا، هو شكرنا لجميع مَن تفاعل معنا في هذه الدراسة من: باحثين وعلماء وكتّاب ومفكّرين - سنّةً وشيعة - خصوصاً الذين أبدوا آراءهم حول الكتاب سلباً أو إيجاباً، وصحّةً أو سقماً، فإنّ ملاحظات أمثال هؤلاء قد خدمت الفكرة وطوّرتها وسدّت لنا بعض الفجوات، أخصّ بالذكر فضيلة الأخ المحقّق شاعر أهل البيت (عليهم السلام) الشيخ قيس العطار الذي قرأ الكتاب من أوّله إلى آخره، وأفادني بملاحظاته وتعليقاته فللّه درّه وعليه أجره.

كما أشكر الأخوين العزيزين: سمير الكرماني وأحمد البياتي؛ لضبط الأوّل نصوص الكتاب وتوحيده لمصادره وطبعاته، واعتناء الثاني بصفّ حروف هذه الطبعة.

سائلاً سبحانه أن يوفّق جميع العاملين في حقل الفكر والتراث الإسلامي.

١٠

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ خاتم النبيّين وإمام المرسلين، وعلى آله الطيّبين، وصحبه المنتجبين إلى قيام يوم الدين، وبعد:

إنّ ممّا لا ريب فيه هو: أنّ الأديان السماويّة جميعاً كانت تبتني على أُسس فكريّة، ومبانٍ تشريعيّة، وأُصول محكمة في طرحها النظريّ والعمليّ لمسألة الدين وما فيه صلاح للبشر.

ولا يخفى أنّ الدين الإسلاميّ الحنيف كان في طليعة الأديان السماويّة، وأكثرها احتكاكاً بالحياة، وأنجحها تطبيقاً لمبادئه على الصعيد العمليّ، باعتبار تصدّيه لريادة وقيادة مختلف الأُمم على مدى عصور متتالية.

فمن المنطقيّ إذاً أن يمتلك هذا الدين الرصيد الأعلى من الأُسس والمباني والأُصول في تفكيره وطرحه، فكان الكتاب العزيز والسنّة النبويّة الشريفة هما أوّل وأكبر منهلين استُلهِمت منهما بيانات وأحكام الدين الإسلاميّ.

وقد انفرد هذا الدين العظيم عن الأديان السماويّة: بأن تكفّل الله سبحانه وتعالى حفظ كتابه من الضياع والاندثار والتحريف، فقال سبحانه:( إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون ) (١) فلم يكن مصير القرآن المجيد مصير التوراة والإنجيل، وباقي الكتب السماويّة، التي طالتها يدُ التحريف والتزييف والتبديل.

إلاّ أنّ المصدر التشريعيّ الثاني أعني: سنّة رسول الله قد مُني بالوضع والتحريف

____________________

(١) الحجر: ٩.

١١

من لدن عهده صلّى الله عليه وآله. وقد نبّه صلّى الله عليه وآله على ذلك فقال:(مَن كذب عَلَيَّ متعمّداً فليتبوَّأ مقعده من النار) (١) ولأجله ولأجل غيره من الأسباب نراهم يقولون عن السنّة النبويّة: إنّها ظنّيّة الصدور!

وقد أثّرت تلك الاختلافات التي ابتُليت بها السنّة النبويّة على باقي مصادر التشريع، فصار كلّ فريق يفسّر ويُؤَوِّل الآيات بما يطابق مرويّاته، ويدّعي أنّ ذلك هو المراد منها، وربّما نحا بعض آخر منحىً سلبيّاً حين ظنّ أنّ ما يقنّنه من أُصول وقواعد وكليّات يغني عن المرويّات ويحلّ محلّ اختلافاتها؛ وبذلك تشعّب الخلاف وامتدت جذوره في أغلب الأُصول والفروع.

وانشعبت الأمّة الإسلاميّة إلى مذاهب وفرق، كلّ واحدة تدّعي أنّها تسير على هدى القرآن ونهج الرسول، وأنّ الحقّ بجانبه، وأنّ السنّة بأنقى صورها عندها.

فهل يمكن تصديق الجميع والقول بأنّ اتّجاهات جميع الطوائف صحيحة، وأنَّ الله ورسوله مَنَحاها الحجّيّة، أم أنّ الحقّ واحد يجب العثور عليه؟!

وهل يصحّ ما قالته كلّ فرقة عن الأُخرى أم لا؟

وهكذا ظلّ النزاع يدور في حلقة مفرغة من الأخذ والردّ عند الاتّجاهات المختلفة، والعقل السليم لا يمكنه أمام مثل هذه النزعات إلاّ أن يرجّح أحدها أو يميل إليه؛ إذ من غير المعقول أن تصحَّح جميع، ولا أن تُغلَّط جميع؛ لأنّ الحقّ واحد، وأنّ الفرقة الناجية ما هي إلاّ واحدة فقط، وعليه فلا مفرّ للمسلم من وجوب البحث للعثور على السنّة الصحيحة الموصلة إلى الواقع الذي جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله.

وهنا يكون مدارُ البحث لا عن حجّيّة السنّة النبويّة؛ لأنّ حجّيّتها لا يختلف فيها اثنان من المسلمين، وإنّما البحث عن (ما هو الحجّة) أي البحث في طرق الإثبات لا الحجّيّة، وبتعبير آخر: أيّ نقل من النقول النبويّة هو الحجّة؟!

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ٥٢ باب إثم مَن كذب على النبي ح ١٠٧ و ١٠٨، وصحيح مسلم ١: ١٠ باب تغليظ الكذب على رسول الله ح ٢، ٣، ٤.

١٢

ربّما يقال في الإجابة: إنّ ما صحّ من الأحاديث الواردة في شتّى الموضوعات طبقاً للقواعد الرجاليّة، هو الصحيح، وما لم يصحّ فهو غير ذلك، ولا سبيل سوى طرحه وعدم العمل به.

وهذا الكلام قد يبدو صحيحاً لأوّل وهلة، لكنّ البصير بأُمور الشريعة يعلم بأنّ الأُصول المرسومة في معرفة الحديث لم تقتصر على الإسناد، فهناك ضوابط ومعايير يلزم مراعاتها في المتن كذلك.

على أنّ بعض الأُصول والمقاييس الرجاليّة قد قنّن طبق موازين خاصّة، وأنّ المعايير العلميّة والأُصول القرآنيّة لم تكن الحاكمة فيه، بل نجد الاختلاف والتضارب واضحاً في توثيق أو تجريح الراوي الواحد بل جرحهم لأئمّة المذاهب(١) .

وبعد هذا فلا يقف الباحث إلاّ على ركام هائل وضباب كثيف من الموازين والمقاييس، يغلب عليها الحسّ المذهبيّ السياسيّ، فكم من راوٍ وثّقوه وعدّلوه فلم يكن كما قالوا فيه، طبقاً لما دلّت عليه نصوص أُخرى.

وكم مَن راوٍ جرحوه فلم يُصيبوا الغرض، وكم من رواية صحّحت سنداً لكنّها دلّت متناً على خلاف الواقع، وأُخرى أُسقطت سنداً لكنّها بلحاظ الواقع دلّت على أكبر رصيد من الصحّة.

وعلى هذا، وبملاحظة ما مرّ من أدوار، وجدنا أنّه لا بُدّ من دراسة السنّة النبويّة دراسة تمحيصيّة، طبق منهج أكثر جدّة وجدّيّة، انطلاقاً من الأُصول الثابتة في الشريعة والتاريخ والعقل والفطرة، عبر دراسة أطراف الحدث المرتبط بالحديث والأجواء

____________________

(١) إذ خدش ابن معين وأحمد بن صالح في الإمام الشافعيّ (انظر هامش تهذيب الكمال ٢٤: ٣٨٠)، وذكر الخطيب البغداديّ أسماء الذين ردّوا على الإمام أبي حنيفة (تاريخ بغداد ١٣: ٣٦٦ وفيه اسم ٣٥ رجلاً) وقال الرازي في رسالة ترجيح مذهب الشافعيّ ما يظهر منه أنّ البخاريّ عدّ أبا حنيفة من الضعفاء في حين لم يذكر الشافعيّ هناك، وقال السبكيّ في طبقاته: إنّ أبا علي الكرابيسيّ كان يتكلم في الإمام أحمد (طبقات الشافعيّة ٢: ١١٨)، وقد قدح العراقيّ (شيخ ابن حجر) في ابن حنبل ومسنده (انظر فيض القدير ١: ٣٤)، وذكر الخطيب في تاريخه عدّة أسماء قد خدشوا في الإمام مالك (تاريخ بغداد ١: ٢٣٩، تهذيب الكمال ٢٤: ٤١٥)، وقد خدشوا في الإمام البخاريّ والنسائيّ وغيرهم.

١٣

الحاكمة وما أُريد لها من أهداف.

وهذا لا يعني أنّا نريد إلغاء دور السند في معرفة الحديث، بل الذي نريده هو الاستعانة بشواهد وقرائن أُخرى؛ لتصحيح منحى بعض الأخبار التي لم تُعطَ حقّها من قِبَل بعض المسلمين.

وعلى كلّ حال فقد آل الأمر اليوم إلى أن نرى مجموعة من المسانيد الحديثيّة تسمّى: بـ (الصحاح الستّة) يعمل بها فريق ضخم من المسلمين ولا يرتضون سواها ولو كان إكسيراً مجرّباً، ونرى في جانب آخر مسانيد أُخرى تسمّى بـ (الكتب الأربعة) يعمل بها فريق آخر من المسلمين ويذهبون إلى أنّ منها ما هو أصحّ الأحاديث، وأنّها أبعد شيء عن الوضع والتحريف والتأثّر بالمؤثّرات الخارجيّة، فما هو الصحيح؟ وأين هو؟

وهل أنّ جميع أحاديث الصحاح الستّة صحيحة حقّاً؟ أم أنّ بينها ما هو الضعيف والمرسل و و... ممّا يجب التوقّف عنده؟

وكيف نرى النقل عن أهل البيت، هل جميعه صحيح؟ أم أنّ بينه المدسوس والضعيف؟

من الضروري الإجابة عن هذه التساؤلات؛ وذلك بعد عرض جذور القضيّة المبحوث عنها في النصوص التاريخيّة والحديثيّة.

ولعلّ أهمّ وأبرز حدث أثَّر في السنّة النبويّة - نصّاً ومعنى - هو منع الشيخين التدوين والتحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ودورهما في تطبيق هذه الرؤية، واستمراره في عهد الخليفة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان، ثمّ اتّخذه الخلفاء من بعدُ منهجاً يُعمل به، حتّى أوقفه الخليفة عمر بن عبد العزيز وأمر بتدوين الحديث.

على أنّ هناك جماعة من كبار الصحابة والتابعين قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً، حتّى على عهد الخليفة عمر بن الخطّاب الذي عُرف بشدّته وقسوته على مَن يخالفه في آرائه، ومن أُولئك: عليّ بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأُبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدريّ، وفاطمة الزهراء، وأبو ذرّ،

١٤

وغيرهم.

فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون ولا يرون مبرّراً للمنع، ولا يعيرون لرأي الشيخين - ومَن مَنَع تبعاً لهما - القدسيّة التي لا يمكن معها من مناقشتهما. كما أنّهم لم يخشوا ما خشيه آخرون، ومن هنا حدث التخالف في الرأي بين النهجين، هذا يُحَدِّث ويكتب ويدوّن، وذلك يقول بالإقلال أو بمنع التحديث والكتابة والتدوين، وارتسمت أُصول الطرفين الفكريّة.

فلابدّ إذاً من إمعان النظر في المدرستين الحديثيّتين للتعرّف على أيّهما ألصق بالواقع وأبعد عن الدوافع، ولا ينبغي أن يكون هذا الإمعان والتقييم لمناهج المدرستين تخرّصاً وتقوّلاً، بقدر ما يكون دراسة للظروف الحاكمة آنذاك، وتجسيماً لنفسيّة الرجال المعنيّين في الدراسة على مختلف أصعدة حياتهم، فنحن لا نذهبُ إلى كفاية الاقتصار على مجرّد إطلاق لفظ العدالة والوثاقة و... أو معاكساتها دون إلمام بكلّ ما يتعلّق بهذا الشأن؛ لأنَّ الكثير من الصحابة - كما صرّحوا - كانوا يروون الرواية مع عدم العلم بأنّ مفادها منسوخ أم لا؟

أو أنَّ النصّ الذي قاله النبيّ هو من القرآن، أم من كلامه صلّى الله عليه وآله؟

أو أنَّ الحكم الوارد مخصوص به صلّى الله عليه وآله أو بشخص معيّن، أم هو حكم عامّ لجميع المسلمين؟

ومثل ذلك إفتاؤهم ببعض الآراء مع تصريحهم بأنَّ ما يقولونه لا مستند له من الشرع! فإن أصابوا فمن الله، وإن أخطأوا فمنهم ومن الشيطان.

فبسبب كلّ هذا رأينا من الضروريّ القيام بدراسة شموليّة، نوضّح فيها المجمل والمبهم من الأُمور، التي لابَسَت السنّة النبويّة ومنقولاتها، وندرسه وفق المنهجيّة العلميّة الجديدة للوقوف على الواقع؛ لأنّ القيام بدراسة مثلها يمكن أن يوقفنا على حقائق كثيرة.

وسيتّضح من خلال الدراسة تخالف مرويّات المانعين، مع مرويّات المدوّنين

١٥

المحدّثين عن رسول الله، كما ستتّضح أُمور كثيرة في التشريع، وفقه الصحابة، والاتّجاهات الفقهيّة التي كانت آنذاك، والدوافع التي تكمن وراء هذا الاتّجاه أو ذاك، وبالتالي سيتبيّن (ما هو الحجّة) من المرويّات في الصحاح الستّة والكتب الأربعة وباقي المسانيد الحديثيّة.

وهنا نسير سويّة لنرى أثر منع التدوين على السنّة النبويّة وفي طيّاته أثر بل آثار منع التحديث أيضاً، وما آلت إليه أُمور المسلمين الفقهيّة من خلال السنّة النبويّة المباركة.

١٦

أسباب منع تدوين السنّة الشريفة

١٧

١٨

إنَّ موضوع نهي الشيخين عن تدوين حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأمر عمر بن الخطّاب الصحابة بالإقلال من حديث رسول الله - كما في حديث قرظة بن كعب الأنصاريّ(١) لحريّ بالبحث والدراسة؛ لأنّه يرتبط بتاريخ ثاني مصدر من مصادر التشريع الإسلاميّ، وإنّ دراستنا هذه، وإن كانت دراسة تخصّصيّة تهمّ الباحثين، لكنّها في الوقت نفسه تعطي للمطالع صورة واضحة عن أهمّ قضيّة في تاريخ التشريع، وإنَّ توضيح مسألة مثل هذه كفيلٌ بأن يحلّ لنا كثيراً من القضايا والأُمور المطروحة في مسائل الخلاف، ويساعدنا على تفهّم واقع الاختلاف وجذوره.

وأهمّ الأسباب المذكورة في ذلك هي:

السبب الأوّل: هو ما نُقل عن الخليفة أبي بكر.

السبب الثاني: هو ما نُقل عن الخليفة عمر بن الخطّاب.

السبب الثالث: ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر.

السبب الرابع: ما نقله الأُستاذ أبو زهو والشيخ عبد الخالق عبد الغني.

السبب الخامس: ما ذهب إليه الخطيب البغداديّ وابن عبد البرّ.

السبب السادس: ما ذهب إليه بعض المستشرقين.

السبب السابع: ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة.

السبب الأخير: ما توصّلنا إليه.

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٦: ٧، جامع بيان العلم وفضله ٢: ١٢٠، تذكرة الحفّاظ ١: ٧، كنز العمّال ٢: ٢٤٨/ ٤٠١٧، سنن الدارمي ١: ٩٧، باب‏من خاف الفتيا مخافة السقط، ح ٢٧٩، وانظر تاريخ الطبري ٢: ٥٦٧ كذلك.

١٩

هذا، وإنّ مناقشتنا لهذه الأسباب جاءت لتفهّم واقع التشريع الإسلاميّ وملابساته، ولم نقصد به التعريض بمكانة أحد؛ إذ الميدان ميدان بحث ومناقشة، والعصر عصر منطق ودليل، فطرح رأي أحدٍ لا يعني التجاوز على حدوده والمساس بكرامته، بل الأقوال كلّها قيد البحث والمناقشة حتّى أنّنا لا نرى قولنا يبتعد عن هذا الأصل؛ لأنَّ الوصول إلى الحقائق - والحقائق الدينيّة على نحوٍ خاص - يظل هو الهدف السامي للإنسان الذي يهمّه أمر المعرفة الصالحة، ويهمّه كذلك أمرُ تديّنه والاستعداد للقاء الله تعالى على بصيرة ويقين.

إنّ عالم الحضور بين يدي الله عزّ وجلّ في الآخرة يقوم على الحقّ والصدق؛ ومن هنا كان على مَن يفكِّر جادَّاً في ذلكم الحضور الجليل المهيب، أن يسعى للخروج من موازين دار الوهم والاشتباه إلى موازين دار الفضل والحقّ، والله جلّ جلاله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

٢٠