منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102905
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102905 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

قال: سنة.

قلت: كم السنة؟

قال: اثني عشر شهراً.

قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخِّرُ الله من الحمل ما شاء، ويُقدِّمُ. قال: فاستراح عمر إلى قولي(١) .

١٠ - عليّ بن أبي طالب:

أ - عن ابن عبّاس، قال: أُتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أُناساً، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علي‏ رضي الله عنه فقال: ما شأن هذه؟

قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم!

فقال: ارجعوا به.

ثمّ أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمت أنّ رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله قال: رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبيّ حتّى يبلغ، والنائم حتّى يستيقط، والمعتوه حتّى يبر؟! وإنّ هذه معتوهة بني فلان، لعلّ الذي أتاها أتاها وهي في بلائها، فخلّى سبيلها، وجعل عمر يكبِّر(٢) .

ب - أُتي عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلّقت بشابّ من الأنصار، وكانت تهواه، فلمّا لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة فألقت صُفرتها، وصبّت البياض على ثوبها وبين فخذيها، ثمّ جاءت إلى عمر صارخة، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله!

فسأل عمر النساء فقلن له: إنّ ببدنها وثوبها أثر المنيّ، فهمّ بعقوبة الشابّ، فجعل

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ٧: ٣٥٢، باب التي تضع لستة أشهر، ح ١٣٤٤٩ الدرّ المنثور ٧: ٤٤٢، فتح القدير ٥: ١٩.

(٢) سنن أبي داود ٤: ١٤٠، باب في المجنون يسرق أو يصيب، ح ٤٤٠٢، ٤٣٩٩، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٢: ٦٨، ح ٢٣٥١، السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٢٦٩، ٨: ٢٦٤، سنن الدارقطني ٣: ١٣٨، ح ١٧٣، السنن الكبرى للنسائي ٤: ٣٢٤، ح ٧٣٤٧.

١٤١

يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين! تثبّت في أمري فو الله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فلقد راودتْني عن نفسي فاعتصمت.

فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهم؟

فنظر عليٌّ إلى ما على الثوب، ثمّ دعا بماء حارّ شديد الغليان، فصبّ على الثوب،

فجمد ذلك البياض، ثمّ أخذه وشمّه وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة، فاعترفت(١) .

١١ - عبد الرحمان بن عوف:

أ - عن ابن عبّاس، أنّه قال له عمر: يا غلام! هل سمعت من رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله أو من أحد من الصحابة إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟

قال: فبينما هو كذلك، إذ أقبل عبد الرحمان بن عوف.

فقال: فيم أنتم؟

فقال عمر: سألت هذا الغلام: هل سمعت من رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله أو أحد من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ قال عبد الرحمان: سمعت من رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله يقول: إذا شكّ أحدكم... إلى آخر الحديث(٢) .

ب - عن قتادة، قال: سئل عمر بن الخطّاب عن رجل طَلَّقَ امرأته في الجاهليّة تطليقتين وفي الإسلام تطليقة.

قال: لا آمرك ولا أنهاك.

فقال عبد الرحمان: لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء(٣) .

١٢ - وامرأة خطَّأتهُ فيما ذهب إليه من عدم جواز الغلاء في المهور(٤) .

كانت هذه نصوص نقلناها عن أكثر من عشرة من الصحابة والتابعين، من بينهم

____________________

(١) الطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة: ٧٠، كما في الغدير ٦: ١٢٦، عنه.

(٢) مسند أحمد ١: ١٩٠، ح ١٦٥٥، الأحاديث المختارة ٣: ٩٧ - ٩٨، ح ٨٩٩.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ٧: ١٨١، ح ١٦٢٨٩.

(٤) تفسير الكشّاف ١: ٢٥٨، تفسير القرآن العظيم ١: ٤٦٧، تفسير القرطبي ٥: ٩٩، الدرّ المنثور ٢: ٤٦٦.

١٤٢

كبار الصحابة، أمثال.

١ - معاذ بن جبل.

٢ - زيد بن ثابت.

٣ - أبو عبيدة بن الجرّاح.

٤ - حذيفة بن اليمان.

٥ - عبد الله بن مسعود.

٦ - أُبيّ بن كعب.

٧ - الضحّاك بن سفيان الكلابيّ.

٨ - شيبة بن عثمان.

٩ - عبد الله بن عبّاس.

١٠ - عليّ بن أبي طالب.

١١ - عبد الرحمان بن عوف.

١٢ - امرأة من نساء المسلمين.

وفي ما تقدّم صراحة في أنَّ المنهج الصحيح هو الانصياع لما حكم به الله ورسوله، وأنَّه لابدَّ للخليفة من الرجوع إلى الكتاب والسنّة في تبيين الأحكام، وهذه الحالة كانت مستقرّة في نفوس الصحابة لما رأيت من تصحيحهم للخليفة؛ مستدلّين تارة بالقرآن العزيز وأُخرى بالسنّة المطهّرة. وهذه الوقائع تؤكّد أنّ الخليفة لا يدّعي أنّه قد اختصّ بمعرفة الأحكام جميعاً أو (أنّه كان يتفرّد بتكوين عقليّ خاصّ به، وبلغ من النضج حدّ العبقريّة بدليل موافقات الوحي له، وشهادة رسول الله بأنّ الحقّ يدور مع عمر حيث دار)(١) .

أو أنّه حمل جميع علم رسول الله دون غيره، بل إنّ انصياعه لقول الصحابة، وقبوله ما استدلوا به عليه من الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة، يؤكّد عدم اختلافه معهم في هذا

____________________

(١) اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية العمريّ: ٢٩٩.

١٤٣

الفهم ولزوم استقاء الأحكام من الكتاب والسنّة لا غير، وأن ليس للخليفة الحاكم من شي، لكنّه وبمرور الأيّام غيّر اتجاهه وأخذ يؤكّد على رأيه، وجاء ليعطي الخلفاء سمة يمتازون بها عن الآخرين ولزوم حصر الإفتاء بالأُمراء لما ستعرف ذلك لاحقاً.

والذي نخلص إليه من مجموع النصوص السابقة ثلاثة أُمور:

١ - أنّ عمر لم يحط علماً بسنة الرسول‏ صلّى الله عليه وآله، فضلاً عن القرآن، ولم يخضع الصحابة لآرائه.

٢ - أنّ القرآن والسنّة هما ينبوعا الشريعة الإسلامية، ولا يقوم مقامهما شيء آخر بنظر الصحابة حتى عمر.

٣ - إنّ ما ينتزع من هذه النصوص أنّ عمر كان على أعتاب الدخول في أشدّ الحرج؛ إذ ليس بالأمر الهيّن على حاكم الدولة الإسلامية المطلق أن يقر باحتياجه العلمي على الدوام، خصوصاً وأنّ الكثير من أولئك الذين لا يستغني عمر عن إحاطتهم بالسنّة وبالقرآن متقاطعون معه في المبدأ وفي الفكر وفي القيم...، وأنّ مجموع البحوث اللاحقة ستبين هذا الأمر بوضوح أكثر.

١٤٤

امتداد النهجين بعد الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله)

(الأزمة والحل)

من الطبيعيّ أنّ استمرار ظاهرة تخطئة الخليفة ممّا يؤدّي إلى تضعيف مركزه، ويقلّل من مكانته الاجتماعيّة عند المسلمين، وسيؤثّر مآلاً على قوام الخلافة الإسلاميّة؛ لأنَّ الخليفة قد رأى الصحابة - وخصوصاً المحدّثين منهم - قد جدّوا في تخطئته مرّة بعد مرّة، وأنّ المواقف المخطِّئة في بعض الأحيان، والمشكّكة في أحيان أُخرى، لو كتب لها أن تستمرّ لأسفرت عن تجرّؤ الصحابة على الوقوف أمام شخصيّة الخليفة نفسه.

فكان من المحتّم عليه - والحالة هذه - أن يطرح نهجاً جديداً يتلافى معه ظاهرة التخطئة والتصحيح التي يقوم بها الصحابة، ويغلق أمامها المنافذ، ليتكوّن عنده من بعدُ المبرّر لأعماله، والمصحِّح لاجتهاداته، إذ إنّ مقايسة فتاوى الخليفة بما في القرآن وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ بيان وجوه الخلاف بينهما وبين أُصول التشريع سيسوق الناس للتعريض به، والوقوف أمام آرائه وما يشرِّعه من رأي، وهو يعني تضعيف مكانته عندهم، ويجعله في موضع المستسلم لقبول ما سيطرحه المخالفون له، فرأى من الضرورة تقوية ما كان يذهب إليه من تعرّف المصلحة على عهد الرسول، وتقوية فكرة الاجتهاد وتعميمها للصحابة، كي يُعذر في فتاواه، ومن هنا ظهرت رؤيتان عند الخليفة، ومن ثمّ عند بعض المسلمين.

١٤٥

الأُولى: القول بالمصلحة.

الثانية: القول بحجّيّة اجتهاد الصحابيّ.

وستقف لاحقاً على السير التاريخيّ لهاتين الرؤيتين ومدى قربهما أو بعدهما عن الواقع. وقبل ذلك ننقل كلام الإمام محمّد عبده عن المصلحة عند الصحابة وأنّهم (كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به وإن خالف السنّة، كأنّهم يرون أنّ الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة لا بجزئيّات الأحكام وفروعه)(١) .

وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف: وكانوا إذا لم يجدوا نصّاً في القرآن أو السنّة يدلُّ على حكم ما، عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه، وكانوا في اجتهادهم يعتمدون على مَلَكتهم التشريعيّة التي تكوّنت لهم من مشافهة الرسول، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامّة.

فتارة كانوا يقيسون ما لا نصّ فيه على ما فيه نصّ، وتارة كانوا يشرِّعون ما تقضي به المصلحة، أو دفع المفسدة ولم يتقيَّدوا بقيدٍ في المصلحة الواجب مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نصَّ فيه فسيحاً مجاله، وفيه متّسعٌ لحاجات الناس ومصالحهم(٢) .

وممّا يدلّ على صحّة قول عبده وخلاّف: هو فتاوى عمر نفسه، والتي مرّ قسم منها، والقارئ يعرف مدى نسبة اجتهاد الخليفة التي اصطدمت مع واقع التشريع.

فلا غرو أن تكون هذه المواقف المخطِّئة للخليفة، من قبل الصحابة، عاملاً آخر من عوامل منع عمر بن الخطّاب من التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته.

وعلى كلّ حال، فإنَّ المحصّل الذي لا ريب فيه هو امتداد الاتّجاهين في الشريعة عند المسلمين حتّى بعد وفاة رسول الله:

الأوّل: يأخذ بالنصوص ويتعبّد بها، والذي سمّيناه (التعبُّد المحض).

والثاني: يأخذ بقول الرجال ويذهب إلى حجّيّة اجتهادات الصحابة المدركين

____________________

(١) تفسير المنار ٤: ٣١ لمحمّد رشيد رضا.

(٢) خلاصة تاريخ التشريع الإسلاميّ: ٤٠.

١٤٦

لروح التشريع كما يقال، حتّى توسّعت خطواتهم، ولم تقف عند حدود بعد وفاة النبيّ الذي كان يكبح من جماح هذا الاتّجاه، ولم تختصّ اجتهاداتهم فيما لا نصّ فيه بل تعدّتها إلى ما فيه نصّ صريح، وقد سمّينا هذا النهج نهج (الاجتهاد والرأي).

قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور:... وهكذا من تتبّع تصرّفات الصحابة، وعلى رأسهم الخليفة عمر الذي طالما بدّل بعض الأحكام إلى ما يرى أنّه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيراً يتّفق مع المصلحة، وقد درج التابعون على ذلك فأفتَوا بجواز تسعير السلع مع نهي الرسول عن ذلك، وقالوا: إنّ الناس قد فَجَروا بما أصابهم من الجشع(١) .

وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف:... (في عهد الصحابة) لمّا تعدّد رجال التشريع منهم، وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، وإنّ هذا الاختلاف كان لابُدّ أن يقع بينهم؛ لأنّ فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر؛ ولأنّ السنّة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربّما وقف بعضهم على ما لا يقف عليه الآخر؛ لأنّ المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الأسباب اختلفت فتاواهم وأحكامهم في بعض الوقائع والقضايا.

ولمّا آلت السلطة التشريعيّة في القرن الثاني الهجريّ إلى طبقة الأئمّة المجتهدين، اتّسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة، بل جاوزتها إلى أسباب تتّصل بمصادر التشريع، وبالنزعة التشريعيّة وبالمبادئ اللغويّة التي تطبّقُ في فهم النصوص.

وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان (الاختلاف أيضاً في أُسس التشريع وخُططه، وصار لكلّ فريق منهم مذهب خاصّ يتكوّن من أحكام فرعيّة

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٠٣.

١٤٧

استنبطت بخطّةٍ تشريعيّة خاصّة)(١) .

وهذا يدلّ على أنّ تعدّد مراكز الإفتاء قد أدّى ويؤدّي إلى الاختلاف في الرأي والاجتهاد، وقد يكون هذا الاختلاف عند الصحابة، فيما بينهم، أو بينهم وبين الخليفة.

وقد وضَّح الدكتور مدكور هذه الحقيقة بعبارة أُخرى فقال:... واجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس و إنَّما شمل كلّ وجوه الرأي؛ عمدتهم في ذلك البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع، مع وعي كامل للأساس العقليّ الذي يقوم عليه الرأي، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الأحكام الشرعيّة، فاجتهدوا وهم على بيّنة من أمرهم.

وكانت اجتهاداتهم متنوّعة، فمنها ما يعتمد على القياس، ومنها ما يعتمد على المصلحة، وهكذا بالنسبة للمصادر العقليّة التي عرفت فيما بعد بأسماء اصطلاحيّة.

ثمّ يقول:... ومن الطبيعيّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة النظر، والتفاوت في الفتاوى والأحكام، ولمّا تفرّق الفقهاء مع هذا في الأقاليم كانوا نواة الاتّجاهات المختلفة التي نشأت عنها مدرسة الحديث ومدرسة الرأي(٢) .

وقال الدكتور ديب البغا في معرض بيانه لوجوه أدلّة النافين لحجّيّة قول الصحابيّ:

إنّ الصحابة قد اختلفوا في مسائل، وذهب كلُّ واحد خلاف مذهب الآخر، كما في مسائل (الجدّ مع الإخوة) وقول القائل (أنتِ عَلَيّ حرام) وغيرها، فلو كان مذهب الصحابيّ حجّة على التابعين، لكانت حجج الله متناقضة مختلفة ولم يكن اتّباع التابعيِّ للبعض أولى من البعض الآخر(٣) .

فالذهاب إلى مشروعيّة الاجتهاد، يعني شرعيّة تعدّد الآراء، وكذا اختلافها!!

فعمر بن الخطّاب حينما رأى ضرورة استخدام الاجتهاد كمنطلق ومبرّر في فهم الشريعة، كان عليه أن يسمح للآخرين بالإفتاء كذلك، حتّى يصحّ اجتهاده، وكي يجد في كلام الآخرين ما يؤيّد كلامه ويفسّره، أو أن يُحترم رأيه ويسكت عنه على أقلّ تقدير.

____________________

(١) خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، لخلاّف: ٧٢.

(٢) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٧٩ - ٨٠.

(٣) أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغ: ٢٤٧.

١٤٨

إنّ أمره قرظة بالإقلال من الحديث ثمّ تجويز الاجتهاد للصحابة، ممّا يبرهن على أنّ الخليفة كان يريد نقل مدار التشريع وتعديته من النصوص الشرعيّة إلى الأخذ بآراء الرجال، وقد أشار بعض الصحابة إلى خطأ هذه الفكرة، وإلى أنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فجاء عن الإمام عليّ:

(إنّك لملبوس عليك، إنَّ الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله) (١) .

فالخليفة - وبتوسيع وتحكيم دائرة الاجتهاد - كان يريد أن يعطي لنفسه مكانة في التشريع، من خلال السماح بالاجتهاد لغيره.

قال الملا علي القاري في شرح الشفا بعد أن شرح حديث (ائتوني بكتاب): والحاصل أنّه [ أي عمر ] رضي الله تعالى عنه كان في حزب يقولون: لا احتياج إلى الكتابة، والله أعلم(٢) .

وقد نقل الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض قول الخطابي مؤكّداً ما قلناه، فقال: إنّما ذهب عمر إلى أنّه لو مضي ‏صلّى الله عليه وآله على شي أو أشياء بطلت أقوال العلماء والاجتهاد(٣) .

فالمدبّر السياسيّ في عهد الخلافة الراشدة ليعلم أنّه لا يمكنه أن يطبّق ما يريده لو جرّد عن الدور التشريعيّ، وممّا لا محيص عنه أن يجعل الحقّ لنفسه أكثر من غيره؛ لأنّه الأجدر بمزاولة التشريع لكونه متصدّياً لمنصب الخلافة.

وقد تدرّج الخليفة وانفرد بسلّم الفتيا فعلاً، فصار بعد برهة من الزمان يطلق العنان لنفسه فقط في الإفتاء بالرأي والاجتهاد، وتعرّف المصلحة ويحكرهُ على نفسه ويحظره على باقي المسلمين أو يحدّ منه، أو يجعل رأيه ونظره هو الراجح المطلق أو الأرجح الذي لا يُجارى.

من هنا انطلقَ ليحدّد معالم ما رسمه في الاجتهاد سابقاً كي يجعل النصيب الأوفر

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٠، فيض القدير ١: ٢٢، ٤: ١٧، أبجد العلوم ١: ١٢٦.

(٢) نسيم الرياض للقاضي عياض وبهامشه شرح الشفا للملاّ علي القاري ٤: ٢٨٠.

(٣) نسيم الرياض ٤: ٢٧٨.

١٤٩

له، فتراه يجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من الصحابة، ولم يرتضِ قبول رأي آخر يعارض رأيه، وصار داعياً إلى اتّباع رأيه وسيرته بعد أن كان سائلاً وباحثاً عن سنّة رسول الله، وأصرَّ على الأخذ برأيه وإن خالف سنّة رسول الله والذكر الحكيم؛ لأنّه أعلم منهم بأحكام الله وسنّة رسوله - على حدّ قوله لمن جمعهم من الصحابة - فقال لهم: (لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم)(١) .

وفوق ذلك أنَّ الخليفة لم يكتفِ بهذا المقدار، بل تراه لا يسمح لعمّار بن ياسر وغيره من الصحابة أن يذكّروه بما فعله أيّام رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله.

أخرج مسلم: أنّ رجلاً أتى عمر، فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً.

فقال: لا تصل.

فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأمّا أنت فلم تصل وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلّيت، فقال النبي‏ صلّى الله عليه وآله: إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك.

فقال عمر: اتق الله يا عمّار.

قال: إن شئت لم أحدث به(٢) .

وفي رواية أُخرى: كنّا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء!

فقال عمر: أمّا أنا فلم أكن لأصلّي حتّى أجد الماء.

فقال عمّار: يا أمير المؤمنين! تذكر حيث كنّا بمكان كذا، ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنّا أجنبنا؟

قال: نعم.

____________________

(١) تاريخ دمشق ٤٠: ٥٠٠، كنز العمّال ١٠: ٢٩٣، ح ٢٩٤٧٩ عن كر.

(٢) صحيح مسلم ١: ٢٨٠، باب التيمّم، ح ٣٦٨، المنتقى لابن الجارود ١: ٤١، ح ١٢٥، وفي المسند للشاشي ٢: ٤٢٥، ح ١٠٢٨ مثله، المسند المستخرج على صحيح مسلم ١: ٤٠٤، ح ٨١٢، سنن النسائي ١: ١٦٥، ح ٣١٢، ١: ١٧٠، ح ٣١٩، سنن ابن ماجة ١: ١٨٨، ح ٥٦٩.

١٥٠

قال: فإنّي تمرّغت في التراب، فأتيت النبيّ ‏صلّى الله عليه وآله فحدّثته فضحك وقال: كان الصعيد كافيك، وضرب بكفّيه الأرض، ثمّ نفخ فيهما ثمّ مسح بهما وجهه وبعض ذراعيه.

قال: اتَّقِ الله يا عمّار.

قال: يا أمير المؤمنين! إن شئت لم أذكره ما عشت، أو ما حييت.

قال: كلاّ والله، ولكن نولِّيك من ذلك ما تولَّيت(١) .

يوضِّح هذا النصّ أنّ الخليفة لم يكن يرى التيمّم للجُنب، بل يسمح له بترك الصلاة إذا تعذّر الماء!

قال العينيّ: فيه [ يعني الحديث ] أنّ عمر رضي الله عنه لم يكن يرى للجنب التيمّم؛ لقول عمّار له: فأمّا أنت فلم تصلِّ!

وقال: إنّه جعل آية التيمّم مختصّة بالحدث الأصغر، وأدّى اجتهاده إلى أنّ الجنب لا يتيمّم(٢) .

قال ابن حجر: هذا مذهب مشهور عن عمر(٣) .

وأخرج البخاريّ، عن الأعمش، عن شقيق، قال:

كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى الأشعريّ، فقال له أبو موسى: لو أنّ رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمّم ويصلّي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة:( فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً ) ؟!(٤) .

فقال عبد الله: لو رخّص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا الصعيد.

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٣١٩، سنن أبي داود ١: ٨٨، ح ٣٢٢، سنن النسائيّ (المجتبى) ١: ١٦٨، وسننه الكبرى ١: ١٣٣، ح ٣٠٢، التمهيد لابن عبد البر ١٩: ٢٧٣، تفسير الطبري ٥: ١١٣.

(٢) عمدة القاري ٤: ١٩.

(٣) فتح الباري ١: ٤٤٣، ح ٣٣١.

(٤) المائدة: ٦.

١٥١

قلت: و إنّما كرهتم هذا لذا؟

قال: نعم.

فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمّار لعمر؟! بعثني رسول الله... الخبر(١) .

النصوص السابقة أكّدت على أنّ الخليفة كان وراء هذا الحكم الشرعيّ وغيره من الأحكام، وأنت ترى مخالفته الواضحة لما نزل به القرآن وبَيَّنَهُ رسول الله، ولذلك احتجّ عمّار، وأبو موسى، واستغرب فقهاء المسلمين هذا الحكم الذي أسّسه الخليفة عمر. ومن هنا يعلم أنّه لا يصحّ القول بأنّ مثل هذه الفتاوى والآراء مقرّرة من قبل الشرع، وأنّ للصحابة حقّ الاجتهاد المطلق، ولهم الإفتاء طبق ما عرفوه من روح التشريع واعتبار ذلك هو الدين لا غير!

فلو صحَّ هذا الفرض لما صحَّ للخليفة عمر أن يلزم عمّاراً بالسكوت، ويواجهه بلهجة فيها شيء من العنف والتهديد، إذ حسب هذا القول يقتضي أن يكون عمّار قد عرف الحكم الشرعيّ من النصّ ومن روح التشريع، مضافاً إلى ما سمعه من النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولا يجوز للخليفة بعد هذا الاعتراض عليه، بل يلزمه احترام رأيه كصحابيّ يدرك روح التشريع.

ونفس الأمر يقال عن الصحابة: فلو جاز اجتهاد الجميع، لما صحّ لعمّار أن ينكر على الخليفة عمر ذلك، وكذا أبو موسى الأشعريّ وغيرهما من الصحابة الذين لم يوافقوا الخليفة في الفتوى.

وليتني أعرف: هل خفي على الخليفة عمر ما رواه الصحابيّ الجليل عمران بن الحصين:

أنّ رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَلِّ في القوم، فقال‏ صلّى الله عليه وآله: يا فلان! ما منعك أن تصلّي في القوم؟

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ١٣٣، باب التيمم، ح ٣٤٠، صحيح مسلم ١: ٢٨٠، باب التيمم، ح ٣٦٨، سنن أبي داود ١: ٨٧، ح ٣٢١، مسند أحمد ٤: ٢٦٤، سنن الدارقطني ١: ١٧٩، ح ١٥.

١٥٢

فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة، ولا ماء.

فقال‏ صلّى الله عليه وآله: عليك بالصعيد، فإنّه يكفيك(١) .

وقوله‏ صلّى الله عليه وآله في مورد آخر: عليك بالتراب(٢) .

وفي حديث ثالث: أعلّمك التيمّم، مثل ما علّمني جبرئيل، فأتيته...(٣) .

أم هل خفي عليه ما رواه أبو هريرة وأبو ذرّ وغيرهم في التيمّم؟

وكذلك ما وصل إلينا من أخبار المحافظة على الصلاة، وأنّها لا تُترك بحال؟

كلّ هذه النصوص تحكم بخطأ ما ذهب إليه الخليفة، وأنّه لم يكن أعرف من غيره بالأحكام الشرعيّة كما ادّعى ذلك لنفسه متأخّراً، كما أنّه لم يختصّ بعقليّة متميّزة عن غيره كما ادّعته الدكتورة نادية العمريّ وغيرها.

مع العلم بأنّ رأي الخليفة عمر بن الخطّاب لم يقتصر على الفاقد للماء حتّى يمكن القول بالاستثناء، وقبول ما عَلَّل به الآخرون، بل تطوّر الأمر وجاوز الحد، إذ صار الخليفة يؤكّد على لزوم اتّباع آرائه وإن حصل بينها الاختلاف في الواقعة الواحدة.

فعن الحكم بن مسعود الثقفيّ أنّه قال:

شهدتُ عمر بن الخطّاب‏ رضي الله عنه أشرك الإخوة من الأب والأُمّ مع الإخوة من الأُمّ في الثلث.

فقال له رجل: قضيت في هذا عامَ أوّل بغير هذا!

قال: كيف قضيت؟

قال: جعلته للإخوة من الأمّ ولم تجعل للإخوة من الأب والأمّ شيئاً.

____________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ١٣٤، باب التيمم، ح ٣٤١، سنن الدارمي ١: ٢٠٧، ح ٧٤٣، سنن الدارقطني ١: ٢٠٢، باب الوضوء والتيمم من آنية المشركين، ح ٣، سنن النسائي ١: ١٧١، باب التيمم بالصعيد، ح ٣٢١، تيسير الوصول ٣: ١١٥.

(٢) مسند أحمد ٢: ٢٧٨، ح ٧٧٣٣، ٢: ٣٥٢، ح ٨٦١١، السنن الكبرى للبيهقي ١: ٢١٦، باب ما روي في الحائض والنفساء...، ح ٩٧٩.

(٣) تاريخ بغداد ٨: ٣٧٣، كنز العمّال ٩: ٥٩٨، ح ٢٧٥٨٢، عن مسند أسلع بن الأسقع.

١٥٣

قال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا(١) .

وفي لفظ آخر: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم(٢) .

فهذه النصوص تؤكّد على أنّ الخليفة يجدُّ في رسم أُصول فقهه واعتبارها المقياس الأوّل والأخير في الأخذ به. وهي رؤية أملتها الظروف عليه ودَعَتْه إلى القول بها، ثمّ امتدّت بعده حتّى بلغ الأمر ببعض المسلمين أن يقول: إنّ قول الصحابيّ وفعله يُخصّص كلام الله!

قال الدكتور مدكور: وأيّاً ما كان فمن الثابت أنّه لا يوجد حكم تشريعيّ في هذا العهد [ أي عهد الرسالة ] إلاّ ومصدره الوحي، ولم يقُل أحد غير ذلك سوى مَن أجازوا للرسول الاجتهاد(٣) .

ثمّ نَقَلَ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه، للدواليبيّ: أنّ الرسول قد جعل الاجتهاد أصلاً ثالثاً للأحكام في عصره(٤) ، ثمّ نفى الدكتور سلّام هذا الرأي، وذهب إلى عدم كونه مصدراً للتشريع في عهده صلّى الله عليه وآله(٥) .

نعم، علّل أتباع مدرسة الخلافة وأنصاره، ما ذهب إليه الخليفة عمر بن الخطّاب من اجتهادات تخالف القرآن والسنّة المطهّرة، وذكروا وجوهاً في ذلك، منها ما قاله الدكتور سلاّم: (... ولم ينهض عنده [ أي المستشكل القادح ] حجّة لقادح خفيٍّ رآه فيه [ أي عند عمر ] حتّى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحلّ وَهَمُ القادح فأخذا به)(٦) وغيرها من وجوه التعليل التي ذكرها المؤرّخون والفقهاء.

إنّ دعوة الخليفة المسلمين إلى اتّباع قوله، كانت حاجة سياسيّة فرضها الواقع

____________________

(١) السنن الكبرى ٦: ٢٥٥، باب المشركة، ح ١٢٢٤٧، ١٠: ١٢٠، باب من أجتهد من الحكام.

(٢) سنن الدارقطني ٤: ٨٨، كتاب الفرائض والسير، ح ٦٦، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٥٥، باب المشركة ح ١٢٢٤٩.

(٣) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٥٦.

(٤) مناهج الاجتهاد في الإسلام عن‏علم أُصول الفقه للدواليبيّ: ١١.

(٥) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٥٦.

(٦) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ١٥٤.

١٥٤

الاجتماعيّ عليه، وكذا منعه للتدوين وللتحديث؛ إذ لم يصدر نصّ شرعيّ عن رسول الله فيه؛ لأنّه لو ثبت ذلك عنه صلّى الله عليه وآله لذكَّر الخليفة عمر بن الخطّاب المسلمين به واستعان بقوله صلّى الله عليه وآله - في منعه للتحديث والتدوين - ولم ينسب المنع لنفسه وحده لئلا يتحمّل وزره.

إنّ الظروف هي التي ألزمت الخليفة أن يقول بالرأي وإن خالف النصّ، انطلاقاً من الخلفيّات التي ذكرنا بعضه، وعلى ذلك يمكننا أن نعدّ مواقفه السابقة مع رسول الله من هذا الباب، إذ كان في الجاهليّة على شي من ذلك، فكان يريد تطبيق ممارسة صلاحيّاته - التي يرتأيها لنفسه - بأوسع نطاق في الإسلام ومع رسول الله، ولكنّ الفرق بين العصرين واضح بيّن.

نعم، إنّ البعض قد نفى أن يكون اجتهاد الخليفة من هذا القبيل، حيث أنّه كان من الذين قد تعبّدوا بسنّة الرسول، ثمّ مثّلوا لذلك ببعض النصوص، كقوله وهو واقف على الركن: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله قبلك ما قبلتك ثم دنا فقبله(١) .

وقال يعلى بن أُميّة: طُفت مع عمر بن الخطّاب، فلمّا كنت عند الركن الذي يلي الباب ممّا يلي الحجر، أخذت بيده ليستلم، فقال: أما طُفتَ مع رسول اللَّه‏صلّى الله عليه وآله؟

قلت: بلى.

قال: فهل رأيته‏صلّى الله عليه وآله يستلمه؟

قلت: ل.

قال: فانفذ عندك فإنّ لك في رسول الله أُسوة حسنة(٢) .

لكنّ مثل هذه النصوص لا تفي بالمدّعى بعدما عرفت عن حجم الاجتهاد فكراً

____________________

(١) مسند أحمد ١: ٤٦، ح ٣٢٥، مسند ابن الجعد ١: ٣١٦، ح ٢١٥٢، السنن الكبرى للنسائي ٢: ٤٠٠، ح ٣٩١٨، مسند الشاميين ٢: ٣٩٥، ح ١٥٦٧، شعب الإيمان ٣: ٤٥١، ح ٤٠٤٠، فيض القدير ٣: ٤٠٩.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٧، ح ٢٥٣، و ١: ٤٥، ح ٣١٣، أخبار مكة ١: ١٥٠، ح ١٨٤، الأحاديث المختارة ١: ٤١٨، ح ٢٩٧.

١٥٥

وتطبيقاً عند الخليفة عمر(١) ، فإذا لحظت هذا وأقواله في ضرورة التمسّك بالأحاديث ونبذ الاجتهاد، ثمّ لحظت اجتهاداته وتوسّعه في الاستنباط حتّى مع وجود النصّ، إذا لحظت هاتين المسألتين علمتَ أنّ الظروف هي التي حدت به أن يتّخذ موقفاً انجرّ في نهاية المطاف إلى مخالفة السنّة النبويّة، من حيث يشعر أو لا يشعر بذلك.

لأنّ استمرار ظاهرة التخطئة عند المسلمين تؤدّي لا محالة إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الأخرى، وهذا يعني خروج المسلمين عمّا اعتادوا عليه في عهد رسول الله من الأخذ عن شخص واحد والخدش في مكانته الروحيّة، ونظراً للمصلحة العامّة - كما يقولون - ذهبوا إلى القول بالمصلحة وحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة، وخصوصاً اجتهادات الشيخين؛ لأنّهم قد عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع، كما طرحها المبرّرون لآراء واجتهادات الشيخين - زاعمين أن اجتهادات أمثال هؤلاء جديرة بالامتثال - ثمّ رووا أحاديث عن رسول الله في ذلك.

ثمّ إنّ المسلمين كانوا قد عرفوا أنّ الأحكام المُستجدّة يلزم أن يستنبطوها من النصوص الشرعيّة، وما جاء عن رسول الله، ولا يجوز لأحد القول فيها بالرأي والاجتهاد، وحيث إنّ الخليفة لم يحفظ جميع تلك النصوص الصادرة عن رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله، أو لا يعرف تفسيره، فتراه يشرّع القياس ليكون المبرّر لما يذهب إليه، وليقال في تبريره إنّ كلامه مأخوذ من الأصل الفلاني والآية الفلانيّة.

____________________

(١) هذا على فرض تسليم دلالة مفردة الحجر على التعبّد تنزّلاً، وإن كان الواقع يدلّ على أنّ مفردة تقبيل الحجر هي أيضاً من الأدلّة الدالّة على جهل عمر بالأحكام؛ لأنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال له: أمّا إنّ الحجر ينفع، وقال له ما مفاده أنّه يشهد يوم القيامة لمن وافاه واستلمه، هذا مع ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وآله من أنّ الحجر الأسود من أحجار الجنّة، فتقبيله ارتياح إلى الجنّة وآثارها، وما أخبر به صلّى الله عليه وآله من أنّ الحجر يمين الله في الأرض، يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه، وأنّ مَن لم يدرك بيعة رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله. شرح العمدة ٣: ٤٣٦، شرح فتح القدير ٢: ٤٤٩، فتح الباري ٣: ٤٦٣، عون المعبود ٥: ٢٢٩، الباب ٤٨، مصنف عبد الرزاق ٥: ٣٩، ح ٨٩٢٠، وانظر عمدة القاري ٩: ٢٤٠، وإرشاد الساري ٣: ١٩٠، ونصب الراية ٣: ١١٦، وسبل الهدى والرشاد ١: ١٧٦ كذلك.

١٥٦

وبذلك صار الاجتهاد أمراً مألوفاً عند المسلمين ولا يختصّ بالخليفة؛ لأنّه قد عمّ جميع الصحابة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ البعض منهم: كان يفتي طبق الرأي والاجتهاد، والآخر: طبق النصّ ولا يرضى بالتحديث إلاّ عن كتاب الله وسنّة رسوله، فإن توصّل هؤلاء إلى الحلّ المراد كان ذلك في إطار الاستنباط الصحيح المتين من الكتاب والسنّة، بمعنى سلوك السُّبُل الكفيلة بالدلالة على ما أراده الله ورسوله، وهذا ليس من الرأي بشي.

بلى، إنّها كانت خطوة سياسيّة اتّخذها لكي لا يجرؤ أحد على مخالفة فتاواه، بل ليسلّم الجميع لما يذهب إليه.

عن أبي موسى الأشعريّ: أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رُويدك ببعض فُتياك، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدك، حتّى لقيه بعد فسأله.

فقال عمر: قد علمت أنّ النبيّ قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم(١) .

إنّ هذا النصّ وأمثاله ممّا يؤكّد فكرة خضوع الأحكام الشرعيّة لرأي الخليفة، إذ ترى أبا موسى الأشعري - وهو من كبار الصحابة - لا يمكنه أن يفتي بالمتعة؛ لأنّه لا يدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك! بل يجب عليه التروّي حتّى يأتي أمر الخليفة وقراره الأخير فيه!!

وقد أنكر عمر بن الخطّاب على البعض لإفتائه من عند نفسه بقوله: كيف تفتي الناس ولست أميراً؟ وَلِّ حارَّها مَن توَلّى قارّها(٢) .

ونحن، بعد وقوفنا على ملابسات التشريع، يمكننا القول: إنّ الذهاب إلى حجّيّة

____________________

(١) صحيح مسلم ٢: ٨٩٦، باب في نسخ التحلّل من الإحرام، ح ١٢٢٢، السنن الكبرى للبيهقي ٢: ٣٤٨، ح ٣٧١٥، مسند البزار ١: ٣٤٦، ح ٢٢٦، فتح الباري ٣: ٤١٨، سنن ابن ماجة ٢: ٩٩٢، ح ٢٩٧٩، مسند أحمد ١: ٥٠ ح ٣٥١.

(٢) الجامع لمعمر بن راشد ١١: ٣٢٩، مصنف عبد الرزاق ٨: ٣٠١، باب هل يقضي الرجل بين الرجلين ولم يول، ح ١٥٢٩٣، سير أعلام النبلاء ٢: ٤٩٥، ٤: ٦١٢.

١٥٧

كلام الصحابيّ، واستغلال مفهوم اجتهاد النبيّ وأنّه قد أخطأ في فداء أسرى بدر، والصلاةِ على المنافق، وقوله: إنّما أنا بشر إذا أمرتُكم بشي من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتُكم بشي من رأيي فإنّما أنا بشر أُخطى وأُصيب(١) وغيرها... كلّها رؤىً قد رُسمت لتصحيح اجتهادات الخليفة، ولرسم المبرِّر لما يذهب إليه.

فسؤال الصحابة الخليفة عن الحكم الشرعيّ وبالعكس، يعني طلب الجميع الوقوف على ما حكم به الله ورسوله، فلو كان اجتهاد الخليفة عمر بن الخطّاب عندهم حجّة، لأخذوا به ولَما ذكّروه بما قاله الرسول ‏صلّى الله عليه وآله وما فعله، ولَمَا تراجع هو عمّا أفتى به في كثير من المواطن! وهذا دليل على أنّ سيرة الشيخين لم تكن حجّة عند المسلمين في الصدر الإسلاميّ الأوّل - وعلى التحديد قبل تأسيس الشورى - حيث وقفت على تخطئة الصحابة لعمر، وتخطئة الواحد منهم للآخر.

فلو صحّ ما نُسب إلى رسول الله من أنّه أكّد على لزوم اتّباع سنّة الشيخين بقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر...)، فَلِم نرى الصحابة لا يأخذون بأمر الرسول حيث خالفوا رأي الشيخين من بعده؟

قال الدكتور ديب البغا، وهو بصدد بيان أدلّة النافين لحجّيّة مذهب الصحابيّ: (... أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كلّ واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، فلم ينكر أبو بكر وعمر(٢) رضي الله عنهما على مخالفيهما بالاجتهاد، بل أوجبوا على كلّ مجتهد في مسائل الاجتهاد أن يتّبع اجتهاد نفسه، ولو كان مذهب الصحابيّ حجّة لما كان كذلك، ولكان يجب على كلّ واحد منهم اتّباع الآخر، وهو محال)(٣) .

إنّ عامة الناس كانوا يريدون الوقوف على سنّة رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله لا سنّة الشيخين،

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٤٩.

(٢) بل أنكر عمر - بعد أن أعلن نفسه مرجعاً وحيداً لا في بدايات حكومته - على الكثير منهم وهدّدهم وعاقب كما مرّ، ويأتيك أكثر من ذلك.

(٣) أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغا: ٣٤٧.

١٥٨

والخليفةُ - كما عرفت - لا يعرفها جميعاً، ومن هنا بدأ يواجه مشكلة جدّيّة ينبغي له أن يضع الحلّ له؛ لأنّ المحدّثين من الصحابة وبنقلهم الأحاديث عن رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة، وإنّ هذه الظاهرة التوعوية - بطبيعة الحال وحسب نظر الخليفة - ستمسُّ كيان الخلافة والدولة الإسلاميّة الفتيّة، وتؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الأخرى، وهو ممّا لا يخدم الوضع العامّ ولا قرار الخليفة.

فلابدّ له والحال هذه من رسم خطّة واتّخاذ نهج للخروج ممّا هو فيه، فذهب أوّلاً إلى القول بحجّيّة الرأي والقياس، بعد أن كان معارضاً لهما في ظاهر الأمر؛ لأنّه رأى فيهما ما يطيّب النفس ويُقنع السائل. وقد وقفت على نصوص للصحابة يتّخذون فيها التمثيل والتشبيه أُسلوباً لإقناع عمر بن الخطّاب وفقاً لرأيه وفهمه، منه: ما قاله أبو عبيدة بن الجرّاح للخليفة في قتل المسلم بالذمّيّ: أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله؟! فصمت عمر، أو تمثيل زيد بن ثابت في الإرث بالشجرة، وغيره.

فالقياس والتمثيل هو المنفذ العقليّ الذي اتَّخذه البعض نهجاً في معرفة الأحكام، والصحابة قد اتَّخذوه لإقناع الخليفة عمر، واتّخذه الخليفة عمر أيضاً لإِقناع الناس برأيه مركّزاً على القياس بشكل خاصّ؛ فجاء في كتاب عمر بن الخطّاب إلى شريح:

إن جاءك شيء في كتاب الله فأقض به ولا يلتفتنك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنّة رسول اللَّه ‏صلّى الله عليه وآله فاقض به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله، ولم يتكلّم فيه أحد من قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد برئيك ثم تقدم فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ولا أرى التأخّر إلاّ خيراً لك(١) .

____________________

(١) سنن الدارمي ١: ٧١، باب الفتيا وما فيه من الشدة، ح ١٦٧، مصنف ابن أبي شيبة ٤: ٥٤٣، باب في القاضي ما ينبغي أن يبدأ به من قضائه، ح ٢٢٩٩٠، السنن الكبرى للبيهقي ١٠: ١١٥.

١٥٩

وفي كتاب الخليفة عمر لأبي موسى الأشعريّ:

فاعرف الأشباه والأمثال ثمّ قس الأمور عند ذلك فأعمِد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحقّ(١) .

هذا وقد شكّ ابن حزم في صدور هذه الرسالة من عمر إلى واليه أبي موسى الأشعريّ، لكنّه قَبِل صدور الرسالة لشريح و إن كان له فيها بعض الكلام(٢) .

قالت الدكتورة نادية شريف العمريّ: وقد استعمل عمر بن الخطّاب مصطلح القياس في رسالته إلى أبي موسى الأشعريّ، إلاّ أنّ تلك الاصطلاحات والقواعد لم تكن شائعة بمسمّياتها تلك(٣) .

وهذا كلام صحيح؛ إذ إنَّ القياس بمفهومه الاصطلاحيّ لم يظهر إلاّ في زمان متأخّر عن الخلافة الراشدة، لكنَّ بذوره وجذوره الأوّليّة كانت قد ظهرت نتائجها بشكل واضح عند الخليفتين عموماً، وعند الثاني منهما بشكل خاصّ، وذلك ما لا يستطيع إنكاره إلاّ مكابر، فسواء صحّ استعماله لكلمة القياس أم لم يصحّ، فإنَّ الثابت أنّه استفاد وعمل وطبّق القياس وغيره في فقهه.

والذي أشكلناه على منهجيّة الشيخين ومَن حذا حذوهما من الصحابة في التفكير، لم يكن ليخفى على جمّ غفير من الصحابة، فقد تصدّى الكثير منهم في موارد عدّة للاجتهادات والأقيسة والمصالح التي بُدّلت وغيّرت على أساسها الأحكام، أو مُنع من تطبيق بعضها أو زِيد فيها أحكام أُخرى.

وهناك من عيون الصحابة من لم يكتف بالمخالفة والتغليط والتصحيح في مورد أو أكثر، بل أطلقوا قاعدة عامّة نصَّ عليها الكتاب وجاءت بها سُنّة النبيّ، مفادها عدم جواز إعمال الرأي في الأحكام؛ لأنّ الإتيان بحكم جديد لم يُسْتَقَ من القرآن والسنّة

____________________

(١) سنن الدارقطنيّ ٤: ٢٠٦ - ٢٠٧، باب كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، ح ١٥ و ح ١٦، السنن الكبرى للبيهقي ١٠: ١٥٠، شرح النهج ١٢: ٩١.

(٢) انظر مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجيّ، للدكتور تركي: ٣٩٨ عن الإحكام ٧: ٤٤٣.

(٣) اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية: ٣٢٦.

١٦٠