منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث10%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110991 / تحميل: 8816
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

قال: سنة.

قلت: كم السنة؟

قال: اثني عشر شهراً.

قلت: فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان، ويؤخِّرُ الله من الحمل ما شاء، ويُقدِّمُ. قال: فاستراح عمر إلى قولي(١) .

١٠ - عليّ بن أبي طالب:

أ - عن ابن عبّاس، قال: أُتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أُناساً، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علي‏ رضي الله عنه فقال: ما شأن هذه؟

قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم!

فقال: ارجعوا به.

ثمّ أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمت أنّ رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله قال: رُفع القلم عن ثلاث: عن الصبيّ حتّى يبلغ، والنائم حتّى يستيقط، والمعتوه حتّى يبر؟! وإنّ هذه معتوهة بني فلان، لعلّ الذي أتاها أتاها وهي في بلائها، فخلّى سبيلها، وجعل عمر يكبِّر(٢) .

ب - أُتي عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلّقت بشابّ من الأنصار، وكانت تهواه، فلمّا لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة فألقت صُفرتها، وصبّت البياض على ثوبها وبين فخذيها، ثمّ جاءت إلى عمر صارخة، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله!

فسأل عمر النساء فقلن له: إنّ ببدنها وثوبها أثر المنيّ، فهمّ بعقوبة الشابّ، فجعل

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ٧: ٣٥٢، باب التي تضع لستة أشهر، ح ١٣٤٤٩ الدرّ المنثور ٧: ٤٤٢، فتح القدير ٥: ١٩.

(٢) سنن أبي داود ٤: ١٤٠، باب في المجنون يسرق أو يصيب، ح ٤٤٠٢، ٤٣٩٩، المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ٢: ٦٨، ح ٢٣٥١، السنن الكبرى للبيهقي ٤: ٢٦٩، ٨: ٢٦٤، سنن الدارقطني ٣: ١٣٨، ح ١٧٣، السنن الكبرى للنسائي ٤: ٣٢٤، ح ٧٣٤٧.

١٤١

يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين! تثبّت في أمري فو الله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فلقد راودتْني عن نفسي فاعتصمت.

فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهم؟

فنظر عليٌّ إلى ما على الثوب، ثمّ دعا بماء حارّ شديد الغليان، فصبّ على الثوب،

فجمد ذلك البياض، ثمّ أخذه وشمّه وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة، فاعترفت(١) .

١١ - عبد الرحمان بن عوف:

أ - عن ابن عبّاس، أنّه قال له عمر: يا غلام! هل سمعت من رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله أو من أحد من الصحابة إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟

قال: فبينما هو كذلك، إذ أقبل عبد الرحمان بن عوف.

فقال: فيم أنتم؟

فقال عمر: سألت هذا الغلام: هل سمعت من رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله أو أحد من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ قال عبد الرحمان: سمعت من رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله يقول: إذا شكّ أحدكم... إلى آخر الحديث(٢) .

ب - عن قتادة، قال: سئل عمر بن الخطّاب عن رجل طَلَّقَ امرأته في الجاهليّة تطليقتين وفي الإسلام تطليقة.

قال: لا آمرك ولا أنهاك.

فقال عبد الرحمان: لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء(٣) .

١٢ - وامرأة خطَّأتهُ فيما ذهب إليه من عدم جواز الغلاء في المهور(٤) .

كانت هذه نصوص نقلناها عن أكثر من عشرة من الصحابة والتابعين، من بينهم

____________________

(١) الطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة: ٧٠، كما في الغدير ٦: ١٢٦، عنه.

(٢) مسند أحمد ١: ١٩٠، ح ١٦٥٥، الأحاديث المختارة ٣: ٩٧ - ٩٨، ح ٨٩٩.

(٣) المصنف لعبد الرزاق ٧: ١٨١، ح ١٦٢٨٩.

(٤) تفسير الكشّاف ١: ٢٥٨، تفسير القرآن العظيم ١: ٤٦٧، تفسير القرطبي ٥: ٩٩، الدرّ المنثور ٢: ٤٦٦.

١٤٢

كبار الصحابة، أمثال.

١ - معاذ بن جبل.

٢ - زيد بن ثابت.

٣ - أبو عبيدة بن الجرّاح.

٤ - حذيفة بن اليمان.

٥ - عبد الله بن مسعود.

٦ - أُبيّ بن كعب.

٧ - الضحّاك بن سفيان الكلابيّ.

٨ - شيبة بن عثمان.

٩ - عبد الله بن عبّاس.

١٠ - عليّ بن أبي طالب.

١١ - عبد الرحمان بن عوف.

١٢ - امرأة من نساء المسلمين.

وفي ما تقدّم صراحة في أنَّ المنهج الصحيح هو الانصياع لما حكم به الله ورسوله، وأنَّه لابدَّ للخليفة من الرجوع إلى الكتاب والسنّة في تبيين الأحكام، وهذه الحالة كانت مستقرّة في نفوس الصحابة لما رأيت من تصحيحهم للخليفة؛ مستدلّين تارة بالقرآن العزيز وأُخرى بالسنّة المطهّرة. وهذه الوقائع تؤكّد أنّ الخليفة لا يدّعي أنّه قد اختصّ بمعرفة الأحكام جميعاً أو (أنّه كان يتفرّد بتكوين عقليّ خاصّ به، وبلغ من النضج حدّ العبقريّة بدليل موافقات الوحي له، وشهادة رسول الله بأنّ الحقّ يدور مع عمر حيث دار)(١) .

أو أنّه حمل جميع علم رسول الله دون غيره، بل إنّ انصياعه لقول الصحابة، وقبوله ما استدلوا به عليه من الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة، يؤكّد عدم اختلافه معهم في هذا

____________________

(١) اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية العمريّ: ٢٩٩.

١٤٣

الفهم ولزوم استقاء الأحكام من الكتاب والسنّة لا غير، وأن ليس للخليفة الحاكم من شي، لكنّه وبمرور الأيّام غيّر اتجاهه وأخذ يؤكّد على رأيه، وجاء ليعطي الخلفاء سمة يمتازون بها عن الآخرين ولزوم حصر الإفتاء بالأُمراء لما ستعرف ذلك لاحقاً.

والذي نخلص إليه من مجموع النصوص السابقة ثلاثة أُمور:

١ - أنّ عمر لم يحط علماً بسنة الرسول‏ صلّى الله عليه وآله، فضلاً عن القرآن، ولم يخضع الصحابة لآرائه.

٢ - أنّ القرآن والسنّة هما ينبوعا الشريعة الإسلامية، ولا يقوم مقامهما شيء آخر بنظر الصحابة حتى عمر.

٣ - إنّ ما ينتزع من هذه النصوص أنّ عمر كان على أعتاب الدخول في أشدّ الحرج؛ إذ ليس بالأمر الهيّن على حاكم الدولة الإسلامية المطلق أن يقر باحتياجه العلمي على الدوام، خصوصاً وأنّ الكثير من أولئك الذين لا يستغني عمر عن إحاطتهم بالسنّة وبالقرآن متقاطعون معه في المبدأ وفي الفكر وفي القيم...، وأنّ مجموع البحوث اللاحقة ستبين هذا الأمر بوضوح أكثر.

١٤٤

امتداد النهجين بعد الرسول‏ (صلّى الله عليه وآله)

(الأزمة والحل)

من الطبيعيّ أنّ استمرار ظاهرة تخطئة الخليفة ممّا يؤدّي إلى تضعيف مركزه، ويقلّل من مكانته الاجتماعيّة عند المسلمين، وسيؤثّر مآلاً على قوام الخلافة الإسلاميّة؛ لأنَّ الخليفة قد رأى الصحابة - وخصوصاً المحدّثين منهم - قد جدّوا في تخطئته مرّة بعد مرّة، وأنّ المواقف المخطِّئة في بعض الأحيان، والمشكّكة في أحيان أُخرى، لو كتب لها أن تستمرّ لأسفرت عن تجرّؤ الصحابة على الوقوف أمام شخصيّة الخليفة نفسه.

فكان من المحتّم عليه - والحالة هذه - أن يطرح نهجاً جديداً يتلافى معه ظاهرة التخطئة والتصحيح التي يقوم بها الصحابة، ويغلق أمامها المنافذ، ليتكوّن عنده من بعدُ المبرّر لأعماله، والمصحِّح لاجتهاداته، إذ إنّ مقايسة فتاوى الخليفة بما في القرآن وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، ثمّ بيان وجوه الخلاف بينهما وبين أُصول التشريع سيسوق الناس للتعريض به، والوقوف أمام آرائه وما يشرِّعه من رأي، وهو يعني تضعيف مكانته عندهم، ويجعله في موضع المستسلم لقبول ما سيطرحه المخالفون له، فرأى من الضرورة تقوية ما كان يذهب إليه من تعرّف المصلحة على عهد الرسول، وتقوية فكرة الاجتهاد وتعميمها للصحابة، كي يُعذر في فتاواه، ومن هنا ظهرت رؤيتان عند الخليفة، ومن ثمّ عند بعض المسلمين.

١٤٥

الأُولى: القول بالمصلحة.

الثانية: القول بحجّيّة اجتهاد الصحابيّ.

وستقف لاحقاً على السير التاريخيّ لهاتين الرؤيتين ومدى قربهما أو بعدهما عن الواقع. وقبل ذلك ننقل كلام الإمام محمّد عبده عن المصلحة عند الصحابة وأنّهم (كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به وإن خالف السنّة، كأنّهم يرون أنّ الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة لا بجزئيّات الأحكام وفروعه)(١) .

وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف: وكانوا إذا لم يجدوا نصّاً في القرآن أو السنّة يدلُّ على حكم ما، عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه، وكانوا في اجتهادهم يعتمدون على مَلَكتهم التشريعيّة التي تكوّنت لهم من مشافهة الرسول، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامّة.

فتارة كانوا يقيسون ما لا نصّ فيه على ما فيه نصّ، وتارة كانوا يشرِّعون ما تقضي به المصلحة، أو دفع المفسدة ولم يتقيَّدوا بقيدٍ في المصلحة الواجب مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نصَّ فيه فسيحاً مجاله، وفيه متّسعٌ لحاجات الناس ومصالحهم(٢) .

وممّا يدلّ على صحّة قول عبده وخلاّف: هو فتاوى عمر نفسه، والتي مرّ قسم منها، والقارئ يعرف مدى نسبة اجتهاد الخليفة التي اصطدمت مع واقع التشريع.

فلا غرو أن تكون هذه المواقف المخطِّئة للخليفة، من قبل الصحابة، عاملاً آخر من عوامل منع عمر بن الخطّاب من التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته.

وعلى كلّ حال، فإنَّ المحصّل الذي لا ريب فيه هو امتداد الاتّجاهين في الشريعة عند المسلمين حتّى بعد وفاة رسول الله:

الأوّل: يأخذ بالنصوص ويتعبّد بها، والذي سمّيناه (التعبُّد المحض).

والثاني: يأخذ بقول الرجال ويذهب إلى حجّيّة اجتهادات الصحابة المدركين

____________________

(١) تفسير المنار ٤: ٣١ لمحمّد رشيد رضا.

(٢) خلاصة تاريخ التشريع الإسلاميّ: ٤٠.

١٤٦

لروح التشريع كما يقال، حتّى توسّعت خطواتهم، ولم تقف عند حدود بعد وفاة النبيّ الذي كان يكبح من جماح هذا الاتّجاه، ولم تختصّ اجتهاداتهم فيما لا نصّ فيه بل تعدّتها إلى ما فيه نصّ صريح، وقد سمّينا هذا النهج نهج (الاجتهاد والرأي).

قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور:... وهكذا من تتبّع تصرّفات الصحابة، وعلى رأسهم الخليفة عمر الذي طالما بدّل بعض الأحكام إلى ما يرى أنّه مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيراً يتّفق مع المصلحة، وقد درج التابعون على ذلك فأفتَوا بجواز تسعير السلع مع نهي الرسول عن ذلك، وقالوا: إنّ الناس قد فَجَروا بما أصابهم من الجشع(١) .

وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف:... (في عهد الصحابة) لمّا تعدّد رجال التشريع منهم، وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، وإنّ هذا الاختلاف كان لابُدّ أن يقع بينهم؛ لأنّ فهم المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر؛ ولأنّ السنّة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربّما وقف بعضهم على ما لا يقف عليه الآخر؛ لأنّ المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الأسباب اختلفت فتاواهم وأحكامهم في بعض الوقائع والقضايا.

ولمّا آلت السلطة التشريعيّة في القرن الثاني الهجريّ إلى طبقة الأئمّة المجتهدين، اتّسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة، بل جاوزتها إلى أسباب تتّصل بمصادر التشريع، وبالنزعة التشريعيّة وبالمبادئ اللغويّة التي تطبّقُ في فهم النصوص.

وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان (الاختلاف أيضاً في أُسس التشريع وخُططه، وصار لكلّ فريق منهم مذهب خاصّ يتكوّن من أحكام فرعيّة

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٠٣.

١٤٧

استنبطت بخطّةٍ تشريعيّة خاصّة)(١) .

وهذا يدلّ على أنّ تعدّد مراكز الإفتاء قد أدّى ويؤدّي إلى الاختلاف في الرأي والاجتهاد، وقد يكون هذا الاختلاف عند الصحابة، فيما بينهم، أو بينهم وبين الخليفة.

وقد وضَّح الدكتور مدكور هذه الحقيقة بعبارة أُخرى فقال:... واجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس و إنَّما شمل كلّ وجوه الرأي؛ عمدتهم في ذلك البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع، مع وعي كامل للأساس العقليّ الذي يقوم عليه الرأي، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الأحكام الشرعيّة، فاجتهدوا وهم على بيّنة من أمرهم.

وكانت اجتهاداتهم متنوّعة، فمنها ما يعتمد على القياس، ومنها ما يعتمد على المصلحة، وهكذا بالنسبة للمصادر العقليّة التي عرفت فيما بعد بأسماء اصطلاحيّة.

ثمّ يقول:... ومن الطبيعيّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة النظر، والتفاوت في الفتاوى والأحكام، ولمّا تفرّق الفقهاء مع هذا في الأقاليم كانوا نواة الاتّجاهات المختلفة التي نشأت عنها مدرسة الحديث ومدرسة الرأي(٢) .

وقال الدكتور ديب البغا في معرض بيانه لوجوه أدلّة النافين لحجّيّة قول الصحابيّ:

إنّ الصحابة قد اختلفوا في مسائل، وذهب كلُّ واحد خلاف مذهب الآخر، كما في مسائل (الجدّ مع الإخوة) وقول القائل (أنتِ عَلَيّ حرام) وغيرها، فلو كان مذهب الصحابيّ حجّة على التابعين، لكانت حجج الله متناقضة مختلفة ولم يكن اتّباع التابعيِّ للبعض أولى من البعض الآخر(٣) .

فالذهاب إلى مشروعيّة الاجتهاد، يعني شرعيّة تعدّد الآراء، وكذا اختلافها!!

فعمر بن الخطّاب حينما رأى ضرورة استخدام الاجتهاد كمنطلق ومبرّر في فهم الشريعة، كان عليه أن يسمح للآخرين بالإفتاء كذلك، حتّى يصحّ اجتهاده، وكي يجد في كلام الآخرين ما يؤيّد كلامه ويفسّره، أو أن يُحترم رأيه ويسكت عنه على أقلّ تقدير.

____________________

(١) خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، لخلاّف: ٧٢.

(٢) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٧٩ - ٨٠.

(٣) أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغ: ٢٤٧.

١٤٨

إنّ أمره قرظة بالإقلال من الحديث ثمّ تجويز الاجتهاد للصحابة، ممّا يبرهن على أنّ الخليفة كان يريد نقل مدار التشريع وتعديته من النصوص الشرعيّة إلى الأخذ بآراء الرجال، وقد أشار بعض الصحابة إلى خطأ هذه الفكرة، وإلى أنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فجاء عن الإمام عليّ:

(إنّك لملبوس عليك، إنَّ الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله) (١) .

فالخليفة - وبتوسيع وتحكيم دائرة الاجتهاد - كان يريد أن يعطي لنفسه مكانة في التشريع، من خلال السماح بالاجتهاد لغيره.

قال الملا علي القاري في شرح الشفا بعد أن شرح حديث (ائتوني بكتاب): والحاصل أنّه [ أي عمر ] رضي الله تعالى عنه كان في حزب يقولون: لا احتياج إلى الكتابة، والله أعلم(٢) .

وقد نقل الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض قول الخطابي مؤكّداً ما قلناه، فقال: إنّما ذهب عمر إلى أنّه لو مضي ‏صلّى الله عليه وآله على شي أو أشياء بطلت أقوال العلماء والاجتهاد(٣) .

فالمدبّر السياسيّ في عهد الخلافة الراشدة ليعلم أنّه لا يمكنه أن يطبّق ما يريده لو جرّد عن الدور التشريعيّ، وممّا لا محيص عنه أن يجعل الحقّ لنفسه أكثر من غيره؛ لأنّه الأجدر بمزاولة التشريع لكونه متصدّياً لمنصب الخلافة.

وقد تدرّج الخليفة وانفرد بسلّم الفتيا فعلاً، فصار بعد برهة من الزمان يطلق العنان لنفسه فقط في الإفتاء بالرأي والاجتهاد، وتعرّف المصلحة ويحكرهُ على نفسه ويحظره على باقي المسلمين أو يحدّ منه، أو يجعل رأيه ونظره هو الراجح المطلق أو الأرجح الذي لا يُجارى.

من هنا انطلقَ ليحدّد معالم ما رسمه في الاجتهاد سابقاً كي يجعل النصيب الأوفر

____________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢١٠، فيض القدير ١: ٢٢، ٤: ١٧، أبجد العلوم ١: ١٢٦.

(٢) نسيم الرياض للقاضي عياض وبهامشه شرح الشفا للملاّ علي القاري ٤: ٢٨٠.

(٣) نسيم الرياض ٤: ٢٧٨.

١٤٩

له، فتراه يجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من الصحابة، ولم يرتضِ قبول رأي آخر يعارض رأيه، وصار داعياً إلى اتّباع رأيه وسيرته بعد أن كان سائلاً وباحثاً عن سنّة رسول الله، وأصرَّ على الأخذ برأيه وإن خالف سنّة رسول الله والذكر الحكيم؛ لأنّه أعلم منهم بأحكام الله وسنّة رسوله - على حدّ قوله لمن جمعهم من الصحابة - فقال لهم: (لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم ما نأخذ ونرد عليكم)(١) .

وفوق ذلك أنَّ الخليفة لم يكتفِ بهذا المقدار، بل تراه لا يسمح لعمّار بن ياسر وغيره من الصحابة أن يذكّروه بما فعله أيّام رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله.

أخرج مسلم: أنّ رجلاً أتى عمر، فقال: إنّي أجنبت فلم أجد ماءً.

فقال: لا تصل.

فقال عمّار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماءً، فأمّا أنت فلم تصل وأمّا أنا فتمعكت في التراب وصلّيت، فقال النبي‏ صلّى الله عليه وآله: إنّما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك.

فقال عمر: اتق الله يا عمّار.

قال: إن شئت لم أحدث به(٢) .

وفي رواية أُخرى: كنّا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء!

فقال عمر: أمّا أنا فلم أكن لأصلّي حتّى أجد الماء.

فقال عمّار: يا أمير المؤمنين! تذكر حيث كنّا بمكان كذا، ونحن نرعى الإبل، فتعلم أنّا أجنبنا؟

قال: نعم.

____________________

(١) تاريخ دمشق ٤٠: ٥٠٠، كنز العمّال ١٠: ٢٩٣، ح ٢٩٤٧٩ عن كر.

(٢) صحيح مسلم ١: ٢٨٠، باب التيمّم، ح ٣٦٨، المنتقى لابن الجارود ١: ٤١، ح ١٢٥، وفي المسند للشاشي ٢: ٤٢٥، ح ١٠٢٨ مثله، المسند المستخرج على صحيح مسلم ١: ٤٠٤، ح ٨١٢، سنن النسائي ١: ١٦٥، ح ٣١٢، ١: ١٧٠، ح ٣١٩، سنن ابن ماجة ١: ١٨٨، ح ٥٦٩.

١٥٠

قال: فإنّي تمرّغت في التراب، فأتيت النبيّ ‏صلّى الله عليه وآله فحدّثته فضحك وقال: كان الصعيد كافيك، وضرب بكفّيه الأرض، ثمّ نفخ فيهما ثمّ مسح بهما وجهه وبعض ذراعيه.

قال: اتَّقِ الله يا عمّار.

قال: يا أمير المؤمنين! إن شئت لم أذكره ما عشت، أو ما حييت.

قال: كلاّ والله، ولكن نولِّيك من ذلك ما تولَّيت(١) .

يوضِّح هذا النصّ أنّ الخليفة لم يكن يرى التيمّم للجُنب، بل يسمح له بترك الصلاة إذا تعذّر الماء!

قال العينيّ: فيه [ يعني الحديث ] أنّ عمر رضي الله عنه لم يكن يرى للجنب التيمّم؛ لقول عمّار له: فأمّا أنت فلم تصلِّ!

وقال: إنّه جعل آية التيمّم مختصّة بالحدث الأصغر، وأدّى اجتهاده إلى أنّ الجنب لا يتيمّم(٢) .

قال ابن حجر: هذا مذهب مشهور عن عمر(٣) .

وأخرج البخاريّ، عن الأعمش، عن شقيق، قال:

كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى الأشعريّ، فقال له أبو موسى: لو أنّ رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمّم ويصلّي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة:( فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً ) ؟!(٤) .

فقال عبد الله: لو رخّص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمّموا الصعيد.

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ٣١٩، سنن أبي داود ١: ٨٨، ح ٣٢٢، سنن النسائيّ (المجتبى) ١: ١٦٨، وسننه الكبرى ١: ١٣٣، ح ٣٠٢، التمهيد لابن عبد البر ١٩: ٢٧٣، تفسير الطبري ٥: ١١٣.

(٢) عمدة القاري ٤: ١٩.

(٣) فتح الباري ١: ٤٤٣، ح ٣٣١.

(٤) المائدة: ٦.

١٥١

قلت: و إنّما كرهتم هذا لذا؟

قال: نعم.

فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمّار لعمر؟! بعثني رسول الله... الخبر(١) .

النصوص السابقة أكّدت على أنّ الخليفة كان وراء هذا الحكم الشرعيّ وغيره من الأحكام، وأنت ترى مخالفته الواضحة لما نزل به القرآن وبَيَّنَهُ رسول الله، ولذلك احتجّ عمّار، وأبو موسى، واستغرب فقهاء المسلمين هذا الحكم الذي أسّسه الخليفة عمر. ومن هنا يعلم أنّه لا يصحّ القول بأنّ مثل هذه الفتاوى والآراء مقرّرة من قبل الشرع، وأنّ للصحابة حقّ الاجتهاد المطلق، ولهم الإفتاء طبق ما عرفوه من روح التشريع واعتبار ذلك هو الدين لا غير!

فلو صحَّ هذا الفرض لما صحَّ للخليفة عمر أن يلزم عمّاراً بالسكوت، ويواجهه بلهجة فيها شيء من العنف والتهديد، إذ حسب هذا القول يقتضي أن يكون عمّار قد عرف الحكم الشرعيّ من النصّ ومن روح التشريع، مضافاً إلى ما سمعه من النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولا يجوز للخليفة بعد هذا الاعتراض عليه، بل يلزمه احترام رأيه كصحابيّ يدرك روح التشريع.

ونفس الأمر يقال عن الصحابة: فلو جاز اجتهاد الجميع، لما صحّ لعمّار أن ينكر على الخليفة عمر ذلك، وكذا أبو موسى الأشعريّ وغيرهما من الصحابة الذين لم يوافقوا الخليفة في الفتوى.

وليتني أعرف: هل خفي على الخليفة عمر ما رواه الصحابيّ الجليل عمران بن الحصين:

أنّ رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَلِّ في القوم، فقال‏ صلّى الله عليه وآله: يا فلان! ما منعك أن تصلّي في القوم؟

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ١٣٣، باب التيمم، ح ٣٤٠، صحيح مسلم ١: ٢٨٠، باب التيمم، ح ٣٦٨، سنن أبي داود ١: ٨٧، ح ٣٢١، مسند أحمد ٤: ٢٦٤، سنن الدارقطني ١: ١٧٩، ح ١٥.

١٥٢

فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة، ولا ماء.

فقال‏ صلّى الله عليه وآله: عليك بالصعيد، فإنّه يكفيك(١) .

وقوله‏ صلّى الله عليه وآله في مورد آخر: عليك بالتراب(٢) .

وفي حديث ثالث: أعلّمك التيمّم، مثل ما علّمني جبرئيل، فأتيته...(٣) .

أم هل خفي عليه ما رواه أبو هريرة وأبو ذرّ وغيرهم في التيمّم؟

وكذلك ما وصل إلينا من أخبار المحافظة على الصلاة، وأنّها لا تُترك بحال؟

كلّ هذه النصوص تحكم بخطأ ما ذهب إليه الخليفة، وأنّه لم يكن أعرف من غيره بالأحكام الشرعيّة كما ادّعى ذلك لنفسه متأخّراً، كما أنّه لم يختصّ بعقليّة متميّزة عن غيره كما ادّعته الدكتورة نادية العمريّ وغيرها.

مع العلم بأنّ رأي الخليفة عمر بن الخطّاب لم يقتصر على الفاقد للماء حتّى يمكن القول بالاستثناء، وقبول ما عَلَّل به الآخرون، بل تطوّر الأمر وجاوز الحد، إذ صار الخليفة يؤكّد على لزوم اتّباع آرائه وإن حصل بينها الاختلاف في الواقعة الواحدة.

فعن الحكم بن مسعود الثقفيّ أنّه قال:

شهدتُ عمر بن الخطّاب‏ رضي الله عنه أشرك الإخوة من الأب والأُمّ مع الإخوة من الأُمّ في الثلث.

فقال له رجل: قضيت في هذا عامَ أوّل بغير هذا!

قال: كيف قضيت؟

قال: جعلته للإخوة من الأمّ ولم تجعل للإخوة من الأب والأمّ شيئاً.

____________________

(١) صحيح البخاريّ ١: ١٣٤، باب التيمم، ح ٣٤١، سنن الدارمي ١: ٢٠٧، ح ٧٤٣، سنن الدارقطني ١: ٢٠٢، باب الوضوء والتيمم من آنية المشركين، ح ٣، سنن النسائي ١: ١٧١، باب التيمم بالصعيد، ح ٣٢١، تيسير الوصول ٣: ١١٥.

(٢) مسند أحمد ٢: ٢٧٨، ح ٧٧٣٣، ٢: ٣٥٢، ح ٨٦١١، السنن الكبرى للبيهقي ١: ٢١٦، باب ما روي في الحائض والنفساء...، ح ٩٧٩.

(٣) تاريخ بغداد ٨: ٣٧٣، كنز العمّال ٩: ٥٩٨، ح ٢٧٥٨٢، عن مسند أسلع بن الأسقع.

١٥٣

قال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا(١) .

وفي لفظ آخر: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم(٢) .

فهذه النصوص تؤكّد على أنّ الخليفة يجدُّ في رسم أُصول فقهه واعتبارها المقياس الأوّل والأخير في الأخذ به. وهي رؤية أملتها الظروف عليه ودَعَتْه إلى القول بها، ثمّ امتدّت بعده حتّى بلغ الأمر ببعض المسلمين أن يقول: إنّ قول الصحابيّ وفعله يُخصّص كلام الله!

قال الدكتور مدكور: وأيّاً ما كان فمن الثابت أنّه لا يوجد حكم تشريعيّ في هذا العهد [ أي عهد الرسالة ] إلاّ ومصدره الوحي، ولم يقُل أحد غير ذلك سوى مَن أجازوا للرسول الاجتهاد(٣) .

ثمّ نَقَلَ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه، للدواليبيّ: أنّ الرسول قد جعل الاجتهاد أصلاً ثالثاً للأحكام في عصره(٤) ، ثمّ نفى الدكتور سلّام هذا الرأي، وذهب إلى عدم كونه مصدراً للتشريع في عهده صلّى الله عليه وآله(٥) .

نعم، علّل أتباع مدرسة الخلافة وأنصاره، ما ذهب إليه الخليفة عمر بن الخطّاب من اجتهادات تخالف القرآن والسنّة المطهّرة، وذكروا وجوهاً في ذلك، منها ما قاله الدكتور سلاّم: (... ولم ينهض عنده [ أي المستشكل القادح ] حجّة لقادح خفيٍّ رآه فيه [ أي عند عمر ] حتّى استفاض الحديث في الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحلّ وَهَمُ القادح فأخذا به)(٦) وغيرها من وجوه التعليل التي ذكرها المؤرّخون والفقهاء.

إنّ دعوة الخليفة المسلمين إلى اتّباع قوله، كانت حاجة سياسيّة فرضها الواقع

____________________

(١) السنن الكبرى ٦: ٢٥٥، باب المشركة، ح ١٢٢٤٧، ١٠: ١٢٠، باب من أجتهد من الحكام.

(٢) سنن الدارقطني ٤: ٨٨، كتاب الفرائض والسير، ح ٦٦، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٥٥، باب المشركة ح ١٢٢٤٩.

(٣) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٥٦.

(٤) مناهج الاجتهاد في الإسلام عن‏علم أُصول الفقه للدواليبيّ: ١١.

(٥) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٥٦.

(٦) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ١٥٤.

١٥٤

الاجتماعيّ عليه، وكذا منعه للتدوين وللتحديث؛ إذ لم يصدر نصّ شرعيّ عن رسول الله فيه؛ لأنّه لو ثبت ذلك عنه صلّى الله عليه وآله لذكَّر الخليفة عمر بن الخطّاب المسلمين به واستعان بقوله صلّى الله عليه وآله - في منعه للتحديث والتدوين - ولم ينسب المنع لنفسه وحده لئلا يتحمّل وزره.

إنّ الظروف هي التي ألزمت الخليفة أن يقول بالرأي وإن خالف النصّ، انطلاقاً من الخلفيّات التي ذكرنا بعضه، وعلى ذلك يمكننا أن نعدّ مواقفه السابقة مع رسول الله من هذا الباب، إذ كان في الجاهليّة على شي من ذلك، فكان يريد تطبيق ممارسة صلاحيّاته - التي يرتأيها لنفسه - بأوسع نطاق في الإسلام ومع رسول الله، ولكنّ الفرق بين العصرين واضح بيّن.

نعم، إنّ البعض قد نفى أن يكون اجتهاد الخليفة من هذا القبيل، حيث أنّه كان من الذين قد تعبّدوا بسنّة الرسول، ثمّ مثّلوا لذلك ببعض النصوص، كقوله وهو واقف على الركن: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أنّي رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله قبلك ما قبلتك ثم دنا فقبله(١) .

وقال يعلى بن أُميّة: طُفت مع عمر بن الخطّاب، فلمّا كنت عند الركن الذي يلي الباب ممّا يلي الحجر، أخذت بيده ليستلم، فقال: أما طُفتَ مع رسول اللَّه‏صلّى الله عليه وآله؟

قلت: بلى.

قال: فهل رأيته‏صلّى الله عليه وآله يستلمه؟

قلت: ل.

قال: فانفذ عندك فإنّ لك في رسول الله أُسوة حسنة(٢) .

لكنّ مثل هذه النصوص لا تفي بالمدّعى بعدما عرفت عن حجم الاجتهاد فكراً

____________________

(١) مسند أحمد ١: ٤٦، ح ٣٢٥، مسند ابن الجعد ١: ٣١٦، ح ٢١٥٢، السنن الكبرى للنسائي ٢: ٤٠٠، ح ٣٩١٨، مسند الشاميين ٢: ٣٩٥، ح ١٥٦٧، شعب الإيمان ٣: ٤٥١، ح ٤٠٤٠، فيض القدير ٣: ٤٠٩.

(٢) مسند أحمد ١: ٣٧، ح ٢٥٣، و ١: ٤٥، ح ٣١٣، أخبار مكة ١: ١٥٠، ح ١٨٤، الأحاديث المختارة ١: ٤١٨، ح ٢٩٧.

١٥٥

وتطبيقاً عند الخليفة عمر(١) ، فإذا لحظت هذا وأقواله في ضرورة التمسّك بالأحاديث ونبذ الاجتهاد، ثمّ لحظت اجتهاداته وتوسّعه في الاستنباط حتّى مع وجود النصّ، إذا لحظت هاتين المسألتين علمتَ أنّ الظروف هي التي حدت به أن يتّخذ موقفاً انجرّ في نهاية المطاف إلى مخالفة السنّة النبويّة، من حيث يشعر أو لا يشعر بذلك.

لأنّ استمرار ظاهرة التخطئة عند المسلمين تؤدّي لا محالة إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الأخرى، وهذا يعني خروج المسلمين عمّا اعتادوا عليه في عهد رسول الله من الأخذ عن شخص واحد والخدش في مكانته الروحيّة، ونظراً للمصلحة العامّة - كما يقولون - ذهبوا إلى القول بالمصلحة وحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة، وخصوصاً اجتهادات الشيخين؛ لأنّهم قد عرفوا ملاكات الأحكام وروح التشريع، كما طرحها المبرّرون لآراء واجتهادات الشيخين - زاعمين أن اجتهادات أمثال هؤلاء جديرة بالامتثال - ثمّ رووا أحاديث عن رسول الله في ذلك.

ثمّ إنّ المسلمين كانوا قد عرفوا أنّ الأحكام المُستجدّة يلزم أن يستنبطوها من النصوص الشرعيّة، وما جاء عن رسول الله، ولا يجوز لأحد القول فيها بالرأي والاجتهاد، وحيث إنّ الخليفة لم يحفظ جميع تلك النصوص الصادرة عن رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله، أو لا يعرف تفسيره، فتراه يشرّع القياس ليكون المبرّر لما يذهب إليه، وليقال في تبريره إنّ كلامه مأخوذ من الأصل الفلاني والآية الفلانيّة.

____________________

(١) هذا على فرض تسليم دلالة مفردة الحجر على التعبّد تنزّلاً، وإن كان الواقع يدلّ على أنّ مفردة تقبيل الحجر هي أيضاً من الأدلّة الدالّة على جهل عمر بالأحكام؛ لأنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال له: أمّا إنّ الحجر ينفع، وقال له ما مفاده أنّه يشهد يوم القيامة لمن وافاه واستلمه، هذا مع ما أخبر به النبي صلّى الله عليه وآله من أنّ الحجر الأسود من أحجار الجنّة، فتقبيله ارتياح إلى الجنّة وآثارها، وما أخبر به صلّى الله عليه وآله من أنّ الحجر يمين الله في الأرض، يصافح به عباده مصافحة الرجل أخاه، وأنّ مَن لم يدرك بيعة رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمّ استلم الحجر فقد بايع الله ورسوله. شرح العمدة ٣: ٤٣٦، شرح فتح القدير ٢: ٤٤٩، فتح الباري ٣: ٤٦٣، عون المعبود ٥: ٢٢٩، الباب ٤٨، مصنف عبد الرزاق ٥: ٣٩، ح ٨٩٢٠، وانظر عمدة القاري ٩: ٢٤٠، وإرشاد الساري ٣: ١٩٠، ونصب الراية ٣: ١١٦، وسبل الهدى والرشاد ١: ١٧٦ كذلك.

١٥٦

وبذلك صار الاجتهاد أمراً مألوفاً عند المسلمين ولا يختصّ بالخليفة؛ لأنّه قد عمّ جميع الصحابة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ البعض منهم: كان يفتي طبق الرأي والاجتهاد، والآخر: طبق النصّ ولا يرضى بالتحديث إلاّ عن كتاب الله وسنّة رسوله، فإن توصّل هؤلاء إلى الحلّ المراد كان ذلك في إطار الاستنباط الصحيح المتين من الكتاب والسنّة، بمعنى سلوك السُّبُل الكفيلة بالدلالة على ما أراده الله ورسوله، وهذا ليس من الرأي بشي.

بلى، إنّها كانت خطوة سياسيّة اتّخذها لكي لا يجرؤ أحد على مخالفة فتاواه، بل ليسلّم الجميع لما يذهب إليه.

عن أبي موسى الأشعريّ: أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رُويدك ببعض فُتياك، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدك، حتّى لقيه بعد فسأله.

فقال عمر: قد علمت أنّ النبيّ قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلّوا معرسين بهنّ في الأراك، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم(١) .

إنّ هذا النصّ وأمثاله ممّا يؤكّد فكرة خضوع الأحكام الشرعيّة لرأي الخليفة، إذ ترى أبا موسى الأشعري - وهو من كبار الصحابة - لا يمكنه أن يفتي بالمتعة؛ لأنّه لا يدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك! بل يجب عليه التروّي حتّى يأتي أمر الخليفة وقراره الأخير فيه!!

وقد أنكر عمر بن الخطّاب على البعض لإفتائه من عند نفسه بقوله: كيف تفتي الناس ولست أميراً؟ وَلِّ حارَّها مَن توَلّى قارّها(٢) .

ونحن، بعد وقوفنا على ملابسات التشريع، يمكننا القول: إنّ الذهاب إلى حجّيّة

____________________

(١) صحيح مسلم ٢: ٨٩٦، باب في نسخ التحلّل من الإحرام، ح ١٢٢٢، السنن الكبرى للبيهقي ٢: ٣٤٨، ح ٣٧١٥، مسند البزار ١: ٣٤٦، ح ٢٢٦، فتح الباري ٣: ٤١٨، سنن ابن ماجة ٢: ٩٩٢، ح ٢٩٧٩، مسند أحمد ١: ٥٠ ح ٣٥١.

(٢) الجامع لمعمر بن راشد ١١: ٣٢٩، مصنف عبد الرزاق ٨: ٣٠١، باب هل يقضي الرجل بين الرجلين ولم يول، ح ١٥٢٩٣، سير أعلام النبلاء ٢: ٤٩٥، ٤: ٦١٢.

١٥٧

كلام الصحابيّ، واستغلال مفهوم اجتهاد النبيّ وأنّه قد أخطأ في فداء أسرى بدر، والصلاةِ على المنافق، وقوله: إنّما أنا بشر إذا أمرتُكم بشي من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتُكم بشي من رأيي فإنّما أنا بشر أُخطى وأُصيب(١) وغيرها... كلّها رؤىً قد رُسمت لتصحيح اجتهادات الخليفة، ولرسم المبرِّر لما يذهب إليه.

فسؤال الصحابة الخليفة عن الحكم الشرعيّ وبالعكس، يعني طلب الجميع الوقوف على ما حكم به الله ورسوله، فلو كان اجتهاد الخليفة عمر بن الخطّاب عندهم حجّة، لأخذوا به ولَما ذكّروه بما قاله الرسول ‏صلّى الله عليه وآله وما فعله، ولَمَا تراجع هو عمّا أفتى به في كثير من المواطن! وهذا دليل على أنّ سيرة الشيخين لم تكن حجّة عند المسلمين في الصدر الإسلاميّ الأوّل - وعلى التحديد قبل تأسيس الشورى - حيث وقفت على تخطئة الصحابة لعمر، وتخطئة الواحد منهم للآخر.

فلو صحّ ما نُسب إلى رسول الله من أنّه أكّد على لزوم اتّباع سنّة الشيخين بقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر...)، فَلِم نرى الصحابة لا يأخذون بأمر الرسول حيث خالفوا رأي الشيخين من بعده؟

قال الدكتور ديب البغا، وهو بصدد بيان أدلّة النافين لحجّيّة مذهب الصحابيّ: (... أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كلّ واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر، فلم ينكر أبو بكر وعمر(٢) رضي الله عنهما على مخالفيهما بالاجتهاد، بل أوجبوا على كلّ مجتهد في مسائل الاجتهاد أن يتّبع اجتهاد نفسه، ولو كان مذهب الصحابيّ حجّة لما كان كذلك، ولكان يجب على كلّ واحد منهم اتّباع الآخر، وهو محال)(٣) .

إنّ عامة الناس كانوا يريدون الوقوف على سنّة رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله لا سنّة الشيخين،

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٤٩.

(٢) بل أنكر عمر - بعد أن أعلن نفسه مرجعاً وحيداً لا في بدايات حكومته - على الكثير منهم وهدّدهم وعاقب كما مرّ، ويأتيك أكثر من ذلك.

(٣) أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغا: ٣٤٧.

١٥٨

والخليفةُ - كما عرفت - لا يعرفها جميعاً، ومن هنا بدأ يواجه مشكلة جدّيّة ينبغي له أن يضع الحلّ له؛ لأنّ المحدّثين من الصحابة وبنقلهم الأحاديث عن رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة، وإنّ هذه الظاهرة التوعوية - بطبيعة الحال وحسب نظر الخليفة - ستمسُّ كيان الخلافة والدولة الإسلاميّة الفتيّة، وتؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الأخرى، وهو ممّا لا يخدم الوضع العامّ ولا قرار الخليفة.

فلابدّ له والحال هذه من رسم خطّة واتّخاذ نهج للخروج ممّا هو فيه، فذهب أوّلاً إلى القول بحجّيّة الرأي والقياس، بعد أن كان معارضاً لهما في ظاهر الأمر؛ لأنّه رأى فيهما ما يطيّب النفس ويُقنع السائل. وقد وقفت على نصوص للصحابة يتّخذون فيها التمثيل والتشبيه أُسلوباً لإقناع عمر بن الخطّاب وفقاً لرأيه وفهمه، منه: ما قاله أبو عبيدة بن الجرّاح للخليفة في قتل المسلم بالذمّيّ: أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله؟! فصمت عمر، أو تمثيل زيد بن ثابت في الإرث بالشجرة، وغيره.

فالقياس والتمثيل هو المنفذ العقليّ الذي اتَّخذه البعض نهجاً في معرفة الأحكام، والصحابة قد اتَّخذوه لإقناع الخليفة عمر، واتّخذه الخليفة عمر أيضاً لإِقناع الناس برأيه مركّزاً على القياس بشكل خاصّ؛ فجاء في كتاب عمر بن الخطّاب إلى شريح:

إن جاءك شيء في كتاب الله فأقض به ولا يلتفتنك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنّة رسول اللَّه ‏صلّى الله عليه وآله فاقض به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن في سنّة رسول اللَّه‏ صلّى الله عليه وآله، ولم يتكلّم فيه أحد من قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد برئيك ثم تقدم فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر ولا أرى التأخّر إلاّ خيراً لك(١) .

____________________

(١) سنن الدارمي ١: ٧١، باب الفتيا وما فيه من الشدة، ح ١٦٧، مصنف ابن أبي شيبة ٤: ٥٤٣، باب في القاضي ما ينبغي أن يبدأ به من قضائه، ح ٢٢٩٩٠، السنن الكبرى للبيهقي ١٠: ١١٥.

١٥٩

وفي كتاب الخليفة عمر لأبي موسى الأشعريّ:

فاعرف الأشباه والأمثال ثمّ قس الأمور عند ذلك فأعمِد إلى أحبها عند الله وأشبهها بالحقّ(١) .

هذا وقد شكّ ابن حزم في صدور هذه الرسالة من عمر إلى واليه أبي موسى الأشعريّ، لكنّه قَبِل صدور الرسالة لشريح و إن كان له فيها بعض الكلام(٢) .

قالت الدكتورة نادية شريف العمريّ: وقد استعمل عمر بن الخطّاب مصطلح القياس في رسالته إلى أبي موسى الأشعريّ، إلاّ أنّ تلك الاصطلاحات والقواعد لم تكن شائعة بمسمّياتها تلك(٣) .

وهذا كلام صحيح؛ إذ إنَّ القياس بمفهومه الاصطلاحيّ لم يظهر إلاّ في زمان متأخّر عن الخلافة الراشدة، لكنَّ بذوره وجذوره الأوّليّة كانت قد ظهرت نتائجها بشكل واضح عند الخليفتين عموماً، وعند الثاني منهما بشكل خاصّ، وذلك ما لا يستطيع إنكاره إلاّ مكابر، فسواء صحّ استعماله لكلمة القياس أم لم يصحّ، فإنَّ الثابت أنّه استفاد وعمل وطبّق القياس وغيره في فقهه.

والذي أشكلناه على منهجيّة الشيخين ومَن حذا حذوهما من الصحابة في التفكير، لم يكن ليخفى على جمّ غفير من الصحابة، فقد تصدّى الكثير منهم في موارد عدّة للاجتهادات والأقيسة والمصالح التي بُدّلت وغيّرت على أساسها الأحكام، أو مُنع من تطبيق بعضها أو زِيد فيها أحكام أُخرى.

وهناك من عيون الصحابة من لم يكتف بالمخالفة والتغليط والتصحيح في مورد أو أكثر، بل أطلقوا قاعدة عامّة نصَّ عليها الكتاب وجاءت بها سُنّة النبيّ، مفادها عدم جواز إعمال الرأي في الأحكام؛ لأنّ الإتيان بحكم جديد لم يُسْتَقَ من القرآن والسنّة

____________________

(١) سنن الدارقطنيّ ٤: ٢٠٦ - ٢٠٧، باب كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، ح ١٥ و ح ١٦، السنن الكبرى للبيهقي ١٠: ١٥٠، شرح النهج ١٢: ٩١.

(٢) انظر مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجيّ، للدكتور تركي: ٣٩٨ عن الإحكام ٧: ٤٤٣.

(٣) اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية: ٣٢٦.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

«ثمود» : من أقدم الأقوام ، ونبيّهم صالحعليه‌السلام ، وكانوا يعيشون في (وادي القرى) بين المدينة والشام ، وكانوا يعيشون حياة مرفهة ، ومدنهم عامرة.

وقيل : «ثمود» اسم جدّ القبيلة ، وقد سميت به(١) .

«جابوا» : من (الجوبة) ـ على زنة توبة ـ وهي الأرض المقطوعة ، ثمّ استعملت في قطع كلّ أرض ، وجواب كلام ، هو ما يقطع الهواء فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع ، (أو لأنّه يقطع السؤال وينهيه).

وعلى أيّة حال ، فمراد الآية : قطع أجزاء الجبال وبناء البيوت القوية ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٨٢) من سورة الحجر ـ حول ثمود أنفسهم ـ :( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) ، والآية (١٤٩) من سورة الشعراء ، والتي جاء فيها :( ... بُيُوتاً فارِهِينَ ) .

وقيل : قوم ثمود أوّل من قطع الأحجار من الجبال ، وصنع البيوت المحكمة في قلبها.

«واد» : في الأصل (وادي) ، وهو الموضع الذي يجري فيه النهر ، ومنه سمي المفرج بين الجبلين واديا ، لأنّ الماء يسيل فيه.

والمعنى الثّاني أكثر مناسبة بقرينة ما ورد في القرآن من آيات تتحدث عن هؤلاء القوم ، وما ذكرناه آنفا يظهر بأنّهم كانوا ينحتون بيوتهم في سفوح الجبال(٢) .

وروي : إنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما وصل إلى وادي ثمود ـ شمال الجزيرة العربية ـ في طريقه إلى تبوك ، قال وهو راكب على فرسه : «أسرعوا ، فهي أرض ملعونة»(٣) .

__________________

(١) «ثمود» : من (الثمد) ، وهو الماء القليل الذي لا مادة له ، والمثمود : إذا كثر عليه السؤال حتى فقد مادة ما له ، ويقال أنّها كلمة أعجمية (مفردات الراغب).

(٢) الباء في «الواد» : تعطي معنى الظرفية.

(٣) روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٢٥ (ما مضمونه).

١٨١

ممّا لا شكّ فيه أنّ ثمود قوم قد وصلوا إلى أعلى درجات التمدن في زمانهم ، ولكنّ ما يذكر عنهم في بعض كتب التّفسير ، يبدو وكأنّه مبالغ فيه أو اسطورة ، كأن يقولوا : إنّهم بنوا ألفا وسبعمائة مدينة من الحجر!

وتتعرض الآية التالية لقوم ثالث :( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) .

أي : ألم تر ما فعل ربّك بفرعون الظالم المقتدر؟!

«أوتاد» : جمع (وتد) ، وهو ما يثبّت به.

ولم وصف فرعون بذي الأوتاد؟

وثمّة تفاسير مختلفة :

الأوّل : لأنّه كان يملك جنودا وكتائبا كثيرة ، وكانوا يعيشون في الخيم المثبتة بالأوتاد.

الثّاني : لما كان يستعمل من أساليب تعذيب من يغضب عليهم ، حيث غالبا ما كان يدق على أيديهم وأرجلهم بأوتاد ليثبتها على الأرض ، أو يضعهم على خشبة ويثبتهم بالأوتاد ، أو يدخل الأوتاد في أيديهم وأرجلهم ويتركهم هكذا حتى يموتوا.

وورد هذا الكلام في رواية نقلت عن الإمام الصادقعليه‌السلام (١) .

وتنقل كتب التاريخ إنّه قد عذّب زوجته «آسية» بتلك الطريقة البشعة حتى الموت ، لأنّها آمنت بما جاء به موسىعليه‌السلام وصدّقت به.

الثّالث : «ذي الأوتاد» : كناية عن قدرة واستقرار الحكم.

ولا تنافي فيما بين التفاسير الثلاثة ، ويمكن إدخالها جميعها في معنى الآية.

وينتقل القرآن العرض ما كانوا يقومون به من أعمال :( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ ) ( فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ )

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧١ ، الحديث (٦) ، كما نقله عن علل الشرائع.

١٨٢

الفساد الذي يشمل كلّ أنواع الظلم والاعتداء والانحراف ، والذي هو نتيجة طبيعية من نتائج طغيانهم ، فكلّ من يطغى سيؤول أمره إلى الفساد لا محال.

ويذكر عقابهم الأليم وبعبارة موجزة :( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ )

«السوط» : هو الجلد المضفور الذي يضرب به ، وأصل السوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، وهو هنا كناية عن العذاب ، العذاب الذي يخلط لحم الإنسان بدمه فيؤذيه أشدّ الإيذاء.

وجاء في كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام عن الامتحان : «والذي بعثه بالحقّ للتبلبلن بلبلة ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر»(١) .

«صبّ عليهم» : تستعمل في الأصل لانسكاب الماء ، وهنا إشارة إلى شدّة واستمرار نزول العذاب ، ويمكن أن يكون إشارة لتطهير الأرض من هؤلاء الطغاة أمّا أنسب معاني «السوط» فهو المعروف بين النّاس به.

فعلى إيجاز الآية ، لكنّها تشير إلى أنواع العذاب الذي أصابهم ، فعاد أصيبوا بريح باردة ، كما تقول الآية (٦) من سورة الحاقة :( وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ) ، وأهلك قوم ثمود بصيحة سماوية عظيمة ، كما جاء في الآية (٥) من سورة الحاقة أيضا :( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) ، والآية (٥٥) من سورة الزخرف تنقل صورة هلاك قوم فرعون :( فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

وتحذر الآية التالية كلّ من سار على خطو أولئك الطواغيت :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) .

«المرصاد» : من (الرصد) ، وهو الاستعداد للترقب ، وهو في الآية يشير إلى عدم وجود أيّ ملجأ أو مهرب من رقابة الله وقبضته ، فمتى شاء سبحانه أخذ المذنبين بالعقاب والعذاب.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦.

١٨٣

وبديهي ، أنّ التعبير لا يعني أنّ الله تعالى له مكان وكمين يرصد فيه الطواغيت ، بل كناية عن إحاطة القدرة الإلهية بكلّ الجبارين والطغاة والمجرمين ، وسبحانه وتعالى عن التجسيم وما شابه.

وقد ورد في معنى الآية عن الإمام عليعليه‌السلام قوله : «إنّ ربك قادر على أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم»(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : «المرصاد قنطرة على الصراط ، لا يجوزها عبد بمظلمة عبد»(٢) .

وهذا مصداق جلّي للآية ، حيث أنّ المرصاد الإلهي لا ينحصر بيوم القيامة والصراط ، بل هو تعالى بالمرصاد لكلّ ظالم حتى في هذه الدنيا ، وما عذاب تلك الأقوام الآنفة الذكر إلّا دليل واضح على هذا.

«ربّك» : إشارة إلى أنّ هذه السنّة الإلهية لم تقف عند حدّ الذين خلوا من الأقوام السالفة ، بل هي سارية حتى على الظالمين من امّتك يا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك تسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطمينا لقلوب المؤمنين ، فالوعد الإلهي قد أكّد على عدم انفلات الأعداء المعاندين من قبضة القدرة الإلهية أبدا أبدا ، وفيه تحذير أيضا لأولئك الذين يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويظلمون المؤمنين ، تحذير بالكف عن ممارساتهم تلك وإلّا سيصيبهم ما أصاب الأكثر منهم قدرة وقوّة ، وعندها فسوف لن تقوم لهم قائمة إذا ما أتتهم ريح عاصفة أو صيحة مرعبة أو سيل جارف يقطع دابرهم.

روي عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «أخبرني الروح الأمين أنّ الله لا إله غيره إذا وقف الخلائق وجميع الأولين والآخرين ، أتى بجهنّم ثمّ يوضع عليها صراط أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، عليه ثلاث قناطر الاولى : الأمانة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٧.

(٢) المصدر السابق.

١٨٤

والرحم ، والثّانية : عليها الصلاة ، والثّالثة : عليها عدل ربّ العالمين لا إله غيره ، فيكلّفون الممر عليها ، فتحبسهم الرحم والأمانة ، فإن نجوا منها حبستهم الصلاة ، فإن نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين جلّ ذكره ، وهو قول الله تبارك وتعالى :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) (١) .

وعن الإمام عليعليه‌السلام : «ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد ، على مجاز طريقه ، وبموضع الشجى من مساغ ريقه»(٢) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٧٣ ، عن روضة الكافي الحديث ٤٨٦ ، اقتباس.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٩٧.

١٨٥

الآيات

( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) )

التّفسير

موقف الإنسان من تحصيل النعمة وسلبها!

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن عقاب الطغاة ، وتحذيرهم وإنذارهم ، تأتي هذه الآيات لتبيّن مسألة الابتلاء والتمحيص وأثرها على الثواب والعقاب الإلهي ، وتعتبر مسألة الابتلاء من المسائل المهمّة في حياة الإنسان.

وتشرع الآيات ب :( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) .

وكأنّه لا يدري بأنّ الابتلاء سنّة ربّانية تارة يأتي بصورة اليسر والرخاء

١٨٦

واخرى بالعسر والضراء.

فلا ينبغي للإنسان أن يغتر عند الرخاء ، ولا أن ييأس عند ما تصيبه عسرة الضراء ، ولا ينبغي له أن ينسى هدف وجوده في الحالتين ، وعليه أن لا يتصور بأن الدنيا إذا ما أرخت نعمها عليه فهو قد أصبح مقرّبا من الله ، بل لا بدّ أن يفهمها جيّدا ويؤدّي حقوقها ، وإلّا فسيفشل في الامتحان.

ومن الجدير بالملاحظة ، أنّ الآية ابتدأت بالحديث عن إكرام الله تعالى للإنسان «فأكرمه ونعمه» ، في حين تلومه على اعتقاده بهذا الإكرام في آخرها :( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) ، وذلك لأنّ الإكرام الأوّل هو الإكرام الطبيعي ، والإكرام الثّاني بمعنى القرب عند الله تعالى.

( وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) .

فيأخذه اليأس ، ويظن إنّ الله قد ابتعد عنه ، غافلا عن سنّة الابتلاء في عملية التربية الربّانية لبني آدم ، والتي تعتبر رمزا للتكامل الإنساني ، فمن خلال نظرة ومعايشة الإنسان للابتلاء يرسم بيده لوحة عاقبته ، فأمّا النعيم الدائم ، وأمّا العقاب الخالد.

وتوضح الآيتان بأنّ حالة اليسر في الدنيا ليست دليل قرب الله من ذلك الإنسان ، وكذا الحال بالنسبة لحالة العسر فلا تعني بعد الله عن عبده ، وكلّ ما في الأمر أنّ الحالتين صورتان مختلفتان للامتحان الذي قررته الحكمة الإلهية ، ليس إلّا.

وتأتي الآية (٥١) من سورة فصّلت في سياق الآيتين :( وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ ) .

وكذا الآية (٩) من سورة هود :( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ) .

وتنبهنا الآيتان أيضا ، بأن لا نقع في خطأ التشخيص ، فنحكم على فلان بأن

١٨٧

الله راضي عنه لأنّه يفعم بالنعم الإلهية ، وأن فلان قد سخط عليه الله لأنّه محروم من نعم كثيرة ، ولا بدّ لنا من الرجوع إلى المعايير الثابتة عند القيام بعملية التشخيص والتقييم ، فالعلم والإيمان والتقوى هي أسس التقييم ، وليس ظاهر التمتع بحالة السراء

فما أكثر الأنبياء الذين تناوشتهم أنياب البلايا والمصائب ، وما أكثر الكافرين والطغاة الذين تنعموا بمختلف ملاذ الدنيا ، إنّها من سنن طبيعة الحياة الدنيا ، ولكن

أين الأنبياء من الكافرين و.. عقبى الدار؟!

فالآية إذن ، تشير إلى فلسفة البلاء ، وما يصيب الإنسان من محن وإحن في دنياه.

وتوجه الآيتان التاليتان نظر إلى الإنسان والأعمال التي تؤدّي بحقّ للبعد عن الله ، وتوجب عقابه :( كَلَّا ) فليس الأمر كما تظنون من أنّ أموالكم دليل على قربكم من الله ، لأنّ أعمالكم تشهد ببعدكم عنه ،( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) ( وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) .

والملاحظ أنّ الآية لم تخص اليتيم بالإطعام بل بالإكرام ، لأنّ الوضع النفسي والعاطفي لليتيم أهم بكثير من مسألة جوعه.

فلا ينبغي لليتيم أن يعيش حالة الانكسار والذلة بفقدان أبيه ، وينبغي الاعتناء به وإكرامه لسدّ الثغرة التي تسببت برحيل أبيه ، وقد أولت الأحاديث الشريفة والرّوايات هذا الجانب أهمية خاصّة ، وأكّدت على ضرورة رعاية وإكرام اليتيم.

فعن الإمام الصادقعليه‌السلام ، إنّه قال : «ما من عبد يمسح يده على رأس يتيم رحمة له إلّا أعطاه الله بكلّ شعرة نورا يوم القيامة»(١) .

وتقول الآية (٩) من سورة الضحى :( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) .

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٥ ، ص ١٢٠ (الطبعة القديمة).

١٨٨

وهذه الدعوة الربّانية تقابل ما كان سائدا في عصور الجاهلية ، كيف وكانوا يتعاملون مع اليتامى ، ولا تنفصل جاهلية اليوم عن تلك الجاهلية ، فنرى من لم يدخل الإيمان قلبه ، كيف يتوسل بمختلف الحيل والألاعيب لسرقة أموال اليتامى ، والأشد من هذا فإنّهم يتركون اليتامى جانبا بلا اهتمام ولا رعاية ليعيشوا غمّ فقدان الآباء وبأشدّ صورة!

فإكرام اليتيم لا ينحصر بحفظ أموالهم ـ كما يقول البعض ـ بل يشمل حفظ الأموال وغيرها.

«تحاضون» : من (الحض) ، وهو الترغيب ، فلا يكفي إطعام المسكين بل يجب على النّاس أن يتواصوا ويحث بعضهم البعض الآخر على ذلك لتعم هذه السنّة التربوية كلّ المجتمع(١) .

وقد قرنت الآية (٣٤) من سورة الحاقة عدم الإكرام بعدم الإيمان باللهعزوجل :( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ) (٢) .

وتعرض الآية التالية ثالث أعمالهم القبيحة :( وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا ) (٣) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ الاستفادة من الميراث المشروع عمل غير مذموم ، ولذا فيمكن أن يكون المذموم في الآية أحد الأمور التالية :

الأوّل : الجمع بين حقّ الإنسان وحقّ الآخرين في الميراث ، لأنّ كلمة «لمّ» بمعنى الجمع ، وفسّرها الزمخشري في الكشّاف بمعنى الجمع بين الحلال والحرام.

وكانت عادة العرب في الجاهلية أن يحرموا النساء والأطفال من الإرث لاعتقادهم بأنّه نصيب المقاتلين (لأنّ أكثر أموالهم تأتيهم عن طريق السلب والإغارة).

__________________

(١) «تخاضون» : في الأصل (تتحاضون) ، وحذفت إحدى التائين للتخفيف.

(٢) «طعام» هو في الآية ذو معنى مصدري أي : (إطعام).

(٣) «لمّ» : بمعنى الجمع ، وتأتي بمعنى الجمع مع الإصلاح أيضا.

١٨٩

الثّاني : عدم الإنفاق من الإرث على المحرومين والفقراء من الأقرباء وغيرهم ، فإن كنتم تبخلون بهذه الأموال التي وصلت إليكم بلا عناء ، فأنتم أبخل فيما تكدّون في تحصيله ، وهذا عيب كبير فيكم.

الثّالث : هو أكل إرث اليتامى والتجاوز على حقوق الصغار ، وذلك من أقبح الذنوب ، لأنّ فيه استغلال فاحش لحقّ من لا يستطيع الدفاع عن نفسه.

والجمع بين هذه التّفاسير الثلاث ممكن(١) .

ثمّ يأتي الذّم الرّابع :( وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) (٢) .

فأنتم عبدة دنيا ، طالبي ثروة ، عشاق مال ومتاع ومن يكون بهذه الحال فمن الطبيعي أن لا يعتني في جمعه للمال ، أكان من حلال أم من حرام ، ومن الطبيعي أيضا أن يتجاوز على الحقوق الشرعية المترتبة عليه ، بأن لا ينفقها أو ينقص منها ومن الطبيعي كذلك إنّ القلب الذي امتلأ بحبّ المال والدنيا سوف لا يبقى فيه محل لذكر اللهعزوجل .

ولذا نجد القرآن الكريم بعد ذكره لمسألة امتحان الإنسان ، يتعرض لأربعة اختبارات يفشل فيها المجرمين.

إكرام اليتيم.

إطعام المسكين.

أسهم الإرث.

وجمعه من طريق مشروع وغير مشروع.

وجمع المال بدون قيد أو شرط.

والملاحظ أنّ الاختبارات المذكورة إنّما تدور حول محور الأموال ، للإشارة ما للمال من مطبات مهلكة ، ولو تجاوزها الإنسان لسهلت عليه بقية العقبات في

__________________

(١) «تراث» : في الأصل (وراث) ، ثمّ أبدلت الواو تاء.

(٢) «الجم» : بمعنى الكثير ، كما جاء في (مصباح اللغة) ، و (المقاييس) ، و (الجمّة) الشعر المتجمع في مقدمة الرأس.

١٩٠

طريقه نحو التكامل والرقي والسمو.

وثمّة من يكون متذبذبا في الأمانة (بين أن يؤدي أو يخون) ، وهكذا إنسان غالبا ما تصرعه ووساوس الشيطان وترميه في جانب الخيانة أمّا أولئك الصادقون في إيمانهم فهم الأمناء حقّا في الرعاية والاهتمام لأداء الحقوق الواجبة والمستحبة للآخرين ، ولا تراهم يتهاونون بأدنى درجات التهاون ، ومثلهم هو الذي يتمكن من صعود سلم الرفعة والسمو على طريق الإيمان والتقوى.

والخلاصة : من تجاوز اختبار المال بنجاح ، فهو أهل للاعتماد ، ومن أهل التقوى والورع ، وهو خير أخ وصديق ، وغالبا ما تراه صالحا في كافة مجالات حياته والمجتمع.

ولذلك ، نرى الاختبارات هنا دارت حول محور المال.

* * *

١٩١

الآيات

( كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) )

التّفسير

يوم لا تنفع الذكرى!

بعد أن ذمت الآيات السابقة الطغاة وعبدة الدنيا والغاصبين لحقوق الآخرين ، تأتي هذه الآيات لتحذرهم وتهددهم بوجود القيامة والحساب والجزاء.

فتقول أوّلا : «كلا» (فليس الأمر كما تعتقدون بأن لا حساب ولا جزاء ، وأنّ الله قد أعطاكم المال تكريما وليس امتحانا)( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) .

«الدك» : الأرض اللينة السهلة ، ثمّ استعملت في تسوية الأرض من الارتفاعات والتعرجات ، و (الدكان) : المحل السوي الخالي من الارتفاعات و (الدكة) : المكان السوي المهيأ للجلوس.

١٩٢

وجاء تكرار «دكّا» في الآية للتأكيد.

وعموما ، فالآية تشير إلى الزلازل والحوادث المرعبة التي تعلن عن نهاية الدنيا وبداية يوم القيامة ، حيث تتلاشى الجبال وتستوي الأرض ، كما أشارت لذلك الآيات (١٠٦ ـ ١٠٨) من سورة طه :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) .

وبعد أن ينتهي مرحلة القيامة الاولى (مرحلة الدمار) ، تأتي المرحلة الثّانية ، حيث يعود النّاس ثانية للحياة ليحضروا في ساحة العدل الالهي :( وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) .

نعم ، فسيقف الجميع في ذلك المحشر لإجراء الأمر الالهي وتحقيق العدالة الربّانية ، وقد بيّنت لنا الآيات ما لعظمة ذلك اليوم ، وكيف أنّ الإنسان لا سبيل له حينها إلّا الرضوخ التام بين قبضة العدل الالهي.

( وَجاءَ رَبُّكَ ) : كناية عن حضور الأمر الالهي لمحاسبة الخلائق ، أو أنّ المراد : ظهور آيات عظمة الله سبحانه وتعالى ، أو ظهور معرفة اللهعزوجل في ذلك اليوم ، بشكل بحيث لا يمكن لأيّ كان إنكاره ، وكأنّ الجميع ينظرون إليه بأم أعينهم.

وبلا شك ، إنّ حضور الله بمعناه الحقيقي المستلزم للتجسيم والتحديد بالمكان ، هذا المعنى ليس هو المراد ، لأنّ سبحانه وتعالى مبرّأ من الجسمية وخواص الجسمية(١) .

وقد ورد هذا المعنى في كلام للإمام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام (٢) .

كما وتؤيد الآية (٣٣) من سورة النحل هذا التّفسير بقولها :( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا

__________________

(١) يقول الفخر الرازي في تفسيره : إن في الآية محذوف ، تقديره (أمر) أو (قهر) أو (جلائل آيات) أو (ظهور ومعرفة) وظهرت هذه التقديرات في كتب غيره من المفسرين أيضا ، وخصوصا التقدير الأول.

(٢) راجع تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤١٦.

١٩٣

أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) .

( صَفًّا صَفًّا ) : إشارة إلى ورود الملائكة عرصة يوم القيامة على هيئة صفوف ، ويحتمل تعلق الصفوف بكلّ السماوات.

وتقول الآية التالية :( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ) .

وما نستنبطه من الآية ، إنّ جهنم قابلة للحركة ، فتقرب للمجرمين ، كما هو حال حركة الجنّة للمتقين :( وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١) .

وثمّة من يعطي للآية معنى مجازيا ، ويعتبرها كناية عن ظهور الجنّة والنّار أمام أعين المحسنين والمسيئين.

ولكن ، لا دليل على الأخذ بخلاف الظاهر ، ومن الأفضل التعامل مع ظاهر الآية ، لأنّ حقائق عالم القيامة لا يمكن فهمها وتصورها بشكل دقيق لمحدودية عالمنا أمام ذلك العالم من جهة؟ ولاختلاف القوانين والسنن التي تحكم ذلك العالم من جهة اخرى ثمّ ، ما المانع في تحرك كلّ من الجنّة والنّار في ذلك اليوم؟

وروي : لمّا نزلت هذه الآية ، تغيّر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله ، وانطلق بعضهم إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبيّ الله ، فجاء عليعليه‌السلام فاحتضنه ثمّ قال : «يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ، ما الذي حدث اليوم؟».

قال : «جاء جبرائيلعليه‌السلام فأقرأني( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) .

قال : فقلت : كيف يجاء بهم؟

قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثمّ أتعرض لجهنم ، فتقول : ما لي ولك يا محمّد ، فقد

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ٩٠.

١٩٤

حرّم الله لحمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلّا قال : نفسي نفسي ، وإنّ محمّدا يقول : ربّ أمّتي أمّتي»(١) .

نعم ، فحينما يرى المذنب كلّ تلك الحوادث تهتز فرائصه ويتزلزل رعبا ، فيستيقظ من غفلته ويعيش حالة الهمّ والغمّ ، ويتحسر على كلّ لحظة مرّت من حياته بعد ما يرى ما قدّمت يداه ، ولكن. هل للحسرة حينها من فائدة؟!

وكم سيتمنى المذنب لو تسنح له الفرصة ثانية للرجوع إلى الدنيا وإصلاح ما أفسد ، ولكنّه سيرى أبواب العودة مغلقة ، ولا من مخرج!

ويودّ التوبة وهل للتوبة من معنى بعد غلق أبوابها؟!

ويريد أن يعمل صالحا ولكن أين؟ فقد طويت صحائف الأعمال ، ويومها يوم حساب بلا عمل!

وعندها بملإ يصرخ كيانه :( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) .

وفي قولته نكتة لطيفة ، فهو لا يقول قدّمت لآخرتي بل «لحياتي» ، وكأنّ المعنى الحقيقي للحياة لا يتجسد إلّا في الآخرة.

كما أشارت لهذه الآية (٦٤) من سورة العنكبوت :( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

نعم ، ففي دنياهم : يسرقون أموال اليتامى ، لم يطعموا المساكين ، يأخذون من الإرث أكثر ممّا يستحقون ويحبّون المال حبّا جمّا.

وفي أخراهم ، يقول كلّ منهم : يا ليتني قدّمت لحياتي الحقيقية الباقية ولكنّ التمني ليس أكثر من رأس مال المفلسين.

وتشير الآية التالية إلى شدّة العذاب الإلهي :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ) .

نعم ، فمن استخدم في دنياه كلّ قدرته في ارتكاب أسوء الجرائم والذنوب ،

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٨٣ ؛ وعنه الميزان ، ج ٢٠ ، ص ٤١٥ ، ومثله في تفسير الدّر المنثور.

١٩٥

فلا يجني في آخرته إلّا أشد العذاب

فيما سينعم المحسنون والصالحون في أحسن الثواب ، ويخلدون بحال ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، فالله «أرحم الراحمين» لمن أخلص النيّة وعمل ، و «أشدّ المعاقبين» لمن تجاوز حدود هدف خلقه.

وتكمل الآية التالية تصوير شدّة العذاب :( وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) .

فوثاقه ليس كوثاق الآخرين ، وعذابه كذلك ، كلّ ذلك بما كسبت يداه حينما أوثق المظلومين في الدنيا بأشدّ الوثاق ، ومارس معهم التعذيب بكلّ وحشية ، متجرد عن كلّ ما وهبه الله من إنسانية.

* * *

١٩٦

الآيات

( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠) )

التّفسير

الشّرف العظيم :

وتنتقل السّورة في آخر مطافها إلى تلك النفوس المطمئنة ثقة بالله وبهدف الخلق ، بالرغم من معايشتها في خضم صخب الحياة الدنيا ، فتخاطبهم بكلّ لطف ولين ومحبّة ، حيث تقول :( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) ( ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) ( وَادْخُلِي جَنَّتِي ) .

فهل ثمّة أجمل وألطف من هذا التعبير!

تعبير يحكي دعوة الله سبحانه وتعالى لتلك النفوس المؤمنة ، المخلصة ، المحبّة والواثقة بوعده جلّ شأنه دعوتها لتعود إلى ربّها ومالكها ومصلحها الحقيقي

دعوة مفعمة برضا الطرفين ، رضا العاشق على معشوقه ، ورضا المعشوق على عاشقه

١٩٧

وتتوج تلك النفوس الطاهرة بتاج العبودية ، لتدخل في صف المقرّبين عند الله ، ولتحصل على إذن دخول جنان الخلد ، وما قوله تعالى : «جنتي» إلّا للإشارة إلى أنّ المضيف هو الله جلّ جلاله فما أروعها من دعوة! وما أعظمه وأكرمه من داع! وما أسعده من مدعو!

ويراد بالنفس هنا : الروح الإنسانية.

«المطمئنة» : إشارة إلى الاطمئنان الحاصل من الإيمان ، بدلالة الآية (٢٨) من سورة الرعد :( أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) .

ويعود اطمئنان النفس ، لاطمئنانها بالوعود الإلهية من جهة ، ولاطمئنانها لما اختارت من طريق

وهي مطمئنة في الدنيا سواء أقبلت عليها أم أدبرت ، ومطمئنة عند أهوال حوادث يوم القيامة الرهيبة أيضا.

أمّا (الرجوع إلى الله) ، فهو ـ على قول جمع من المفسّرين ـ رجوع إلى ثوابه ورحمته

ولكنّ الأنسب أن يقال : إنّه رجوع إليه جلّ وعلا ، رجوع إلى جواره وقربه بمعناها الروحي المعنوي ، وليست بمعناها المكاني والجسماني.

وثمّة سؤال يرد إلى الذهن متى ستكون دعوته المباركة ، هل ستكون بعد مفارقة الروح البدن ، أم في يوم القيامة؟؟

لو أخذنا بظاهر الآيات المباركة ، فسياقها يرتبط بالقيامة ، وإن كان تعبير الآية ذو شمولية.

«راضية» : لما ترى من تحقق الوعود الإلهية بالثواب والنعيم بأكثر ممّا كانت تتصور ، وشمول العبد برحمة وفضل الله سيدخل في قلبه الرضا بكلّ ما يحمل الرضا من معان وأكثر.

«مرضيّة» : لرضا الله تبارك وتعالى عنها.

١٩٨

فعبد بما ذكر من أوصاف ، بلا شكّ مكانه الجنّة ، وذلك لأنّه عمل بكلّ ما يملك في سبيل رضوان معبوده الأحد الصمد ، ووصل في عمله لمقام الرضا التام والتسليم الكامل لخالقه تبارك وتعالى ، حتى نال وسام حقيقة العبودية ، ودخل طائعا وواثقا في صف عباد الله الصالحين

وقد خصّ بعض المفسّرين سبب نزول هذه الآيات في (حمزة سيد الشهداء) ، ولكن بلحاظ كون السّورة مكّية ، فيمكن اعتبار ذلك أحد تطبيقات (مصاديق) الآيات وليس شأنا للنزول ، كما هو الحال في ما ذكرنا في أوّل السّورة بشأن الإمام الحسينعليه‌السلام .

روي أنّ أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام قد سأله قائلا : جعلت فداك يا ابن رسول الله ، هل يكره المؤمن على قبض روحه؟

قال : «لا والله ، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك ، فيقول له ملك الموت : يا وليّ الله ، لا تجزع ، فو الذي بعث محمّدا لأنا أبرّبك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك ، افتح عينيك فانظر ، قال : ويمثل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ذريتهمعليهم‌السلام ، فيقال له : هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك ، قال : فيفتح عينيه فينظر ، فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول : «يا أيّتها النفس المطمئنة (إلى محمّد وأهل بيته) ارجعي إلى ربّك راضية (بالولاية) مرضيّة (بالثواب) فادخلي في عبادي (يعني محمّدا وأهل بيته) وادخلي جنّتي» ، فما شيء أحبّ إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي»(١) .

اللهمّ! اجعل نفوسنا مطمئنة ليشملنا خطابك الكريم

اللهمّ! ولا ينال ذلك إلّا بلطفك ، فاغمرنا به

__________________

(١) الكافي ، ج ٣ ، ص ١٢٧ ، باب إنّ المؤمن لا يكره على قبض روحه ، الحديث ٢.

١٩٩

اللهمّ! منّ علينا بكرمك الذي لا ينفد ، واجعلنا من النفوس المطمئنة

اللهمّ! لا يكون الاطمئنان إلّا بذكرك ، فوفقنا إليه بفضلك

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الفجر

* * *

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586