منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102868
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102868 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

الصحابيّ وقاله!

فلو كان الاجتهاد بالرأي في عهده ‏صلّى الله عليه وآله حجّة - كما هو المصطلح اليوم - فلماذا ألزم أُسامةَ أن يدفع ديّة الرجل الذي قتله اجتهاداً منه؟!(١) .

ولماذا قال‏ صلّى الله عليه وآله:(اللّهمّ أبرأ إليك ممّا صنع خالد) (٢) .

وقد مرّ عليك سابقاً كلام الدكتور مدكور إذ قال: (... إنّ الرسول - على مقتضى هذه النظريّة نفسها - لم يكن بحاجة إلى هذا المعنى من الاجتهاد... أمّا بعد انتقال الرسول من الحياة الدنيا وفي عصر الصحابة الذي ينتهي بنهاية القرن الهجريّ الأوّل فقد عرضت لهم...).

وقال الدكتور معروف الدواليبيّ: (لا جديد في الغالب من أحداث لم يألفها ووقائع لم يتخرج في أحكامها، على نحو ما في الكتاب والسنّة من حكم وإرشاد.

وهذا يعني: أنّ الاجتهاد في أثناء حياة النبيّ لم يلعب دوراً هامّاً ذا شأن، بل بقي ضمن نطاقٍ من القضايا محدود، وعددٍ منها معدود)(٣) .

وقالت الدكتورة نادية العمريّ: (حتّى لقد كان يقترح [ عمر ] من التشريعات في عهد رسول الله ما يراه متّفقاً مع الفضيلة والحقّ والمصلحة)(٤) وهذه الكلمات تعضد ما توصّلنا إليه من أنّ الاجتهاد - بمعناه اليوم - لم يكن حجّة في زمان النبي‏ صلّى الله عليه وآله، وإنّما تكامل اصطلاحيّاً في وقت متأخّر على يد الشيخين ومَن سار مسيرهما، وأنّ انبثاقه وتكامله كان لحاجتهم إلى الأحكام، ولعدم إحاطتهم بجميع الأحكام ووجوه الاستدلال فيه.

* * *

____________________

(١) انظر أحكام القرآن للجصاص ٣: ٢٢٣.

(٢) صحيح البخاري ٤: ١٥٧٧، باب بعث النبي‏ صلّى الله عليه وآله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، ح ٤٠٨٤، مسند أحمد ٢: ١٥٠، ح ٦٣٨٢، الطبقات الكبرى ٢: ١٤٨، الاستيعاب ٢: ٤٢٨ قال: وخبره بذلك في صحيح الأثر.

(٣) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: ٣٢ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه: ٧٨ ط ٥ - ١٩٦٥.

(٤) اجتهاد الرسول: ٢٥٩.

٢٢١

والآن... نعود إلى صلب البحث لكي نعرف موقف الخليفة عمر بن الخطّاب من الصحابة ونعرف موقفهم منه. وقد استبان لك موقفه من ابن مسعود وهو الصحابيّ الذي أرسله مع عمّار إلى الكوفة ليعلّماهم أُمور الدين، وقوله لأهل الكوفة لمّا أرسلهما إليهم:(إنّهما من النجباء من أصحاب محمّد من أهل بدر، فاقتدوا بهما واستمعوا من قولهما، وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي) (١) . وكذا موقفه مع غيره من الصحابة.

نعم، عَمَد إلى صحابيّ جليل كابن مسعود فحبسه وحاسبه على نشره حديث الرسول و إكثاره منه، وهذا الموقف من عمر هو الذي جرّأ عثمان أن يتّخذ موقفاً أشدّ من موقفه إزاء ابن مسعود، فمنعه من التحديث، ونهاه عن قراءة مصحفه، ورسول الله يؤكّد: (اقرؤوا بقراءة ابن أُمّ عبد) - يعني: ابنَ مسعود - وجلَده أربعين سوطاً(٢) ، وكسر بعض أضلاعه حتّى آل الأمر به أن يموت و يُدفن مقهوراً!

وقد مرَّ أنّه اتّخذ أُسلوب العنف إزاء الصحابة؛ لأنّه أدرك مواقفهم من فقهه، وعلم أنّهم لا يرتضون اجتهاداته المخالفة لسنّة رسول الله، وأنّهم ما يزالون يعترضون عليه، وأنّهم مع ذلك العنف ظلّوا مصرّين على ما تلقّوه من النبي‏ صلّى الله عليه وآله، حتّى بلغ الأمر ببعضهم أن يعمد إلى اختبار فهم الخليفة أمام المسلمين؛ لإِعلامهم أنّ اجتهادات عمر خاطئة، بعيدة عن السنّة.

مُسائلة الصحابة للخليفة

وإليك نصّين في ذلك:

الأوّل: عن الحارث، عن عبد الله بن أوس، قال: أتيتُ عمر بن الخطّاب، فسألته عن المرأة تطوف بالبيت ثمّ تحيض؟

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٦: ٨، تذكرة الحفّاظ ١: ١٤، معتصر المختصر لأبي المحاسن ٢: ٣١٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣: ٤٤.

٢٢٢

قال: ليكن آخر عهدها الطواف بالبيت.

قال الحارث: فقلت: كذلك أفتاني رسول الله.

فقال عمر: أربت على يدك، سألتني عمّا سألت عنه رسول الله لكيما أُخالف؟!(١) .

الثاني: عن هشام بن يحيى المخزوميّ: أنّ رجلاً من ثقيف أتى عمر بن الخطّاب، فسأله: عن امرأة حاضت، وقد كانت زارت البيت يوم النحر: ألَها أن تنفر قبل أن تطهر؟

قال عمر: لا.

فقال له الثقفيّ: فإنّ رسول الله أفتاني في هذه المرأة بغير ما أفتيتَ به!

فقام إليه عمر يضربه بالدرّة ويقول: لِمَ تستفتيني في شيءٍ قد أفتى فيه رسول الله؟!(٢) .

والجدير بالذكر هنا هو استخدام لفظة (الإفتاء) في هذا العهد، وأنّ الخليفة قد قالها عن النبيّ كذلك، في حين نعلم بوجود (فرق بين الرسالة والفتوى؛ أنّ الفتوى تقبل النسخ من حيث الجملة في جنسيهما، وأمّا الرسالة فهي لا تقبل النسخ بأن تكون خبراً صِرْفاً)(٣) .

وكأنّه راح يوسّع فكرة الاجتهاد - التي رأى فيها علاج كلّ شيء - بأقصى ما يملك من قدرة، حيث لم يُمكنه القول بمشروعيّة رأيه وارتقائه إلى مرتبة قول الرسول إلاّ بعد المرور بعدّة مراحل، منها القول بأنّ النبيّ كان من المجتهدين وأنّ بعض أحكامه قد صدرت عن رأي، وبذلك قد تنزّلت أقواله ‏صلّى الله عليه وآله إلى مرتبة غيره من المجتهدين، بحيث يمكن مضاهاتها من حيث إمكان الأخذ والطرح، وهذا من أعجب العجائب.

____________________

(١) مسند أحمد ٣: ٤١٦، سنن أبي داود ٢: ٢٠٨، باب الحائض تخرج بعد الإفاضة، ح ٢٠٠٤، واللفظ له، الآحاد والمثاني ٣: ٢٢٨، ح ١٥٨٩، المعجم الكبير ٣: ٢٦٢، ح ٣٣٥٣، وجاء في الغدير للاميني ٦: ١١٢، عن سنن أبي داود وفيه (قال عمر: تبّت يداك أو ثكلتك أُمّك سألتني عمّا سألت عنه رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله كيما أخالفه).

(٢) المدخل إلى السنن الكبرى ١: ١٠٤، باب الحديث الذي يرو خلافه عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، ح ٢٤، مفتاح الجنة للسيوطي ١: ٤٤، إيقاظ الهمم ١: ٨، ورواه أبو داود بنحوه.

(٣) انظر اجتهاد الرسول: ٣٥٢ - ٣٥٣.

٢٢٣

ولو دقّقتَ النظر في مخالفة - بل مخالفات - الصحابة إيّاه في طروحاته وآرائه؛ لعرفت أنّ الشكّ في سلامة فقه عمر بن الخطّاب كان أمراً مطروحاً عند الصحابة.

ونحنُ باستعراضنا هذه النصوص لا نُريد الذهاب إلى مشروعيّة اختبار المسلم، وجواز السؤال عن الشيء تعنّتاً وتجربة له، فهناك نصوص كثيرة دلّت على ذمّ سؤال المختبر المتعنّت:

فعن عليّ بن أبي طالب:سَل تفقّهاً، ولا تسأل تعنّتاً، فإنّ الجاهل المتعلّم شبيهٌ بالعالم، وإنّ العالم المتعسّف شبيه بالجاهل المتعنّت (١) .

وقوله:الناس منقوصون مدخولون إلاّ مَن عصم الله، سائلهم متعنّت ومجيبهم متكلّف (٢) .

لكنّ الذي نريده هو الوقوف على الحقائق؛ لأنَّ الصحابة - على رغم وقوفهم على النصوص الذامّة للسؤال اختباراً - كانوا ينزعون إلى هذا اللّون منه في تعاملهم مع عمر؛ لأنّهم يجدون فيه أُسلوباً للخروج من الأزمة التي هم فيها؛ ولأنّ تكرار مواقفهم هذه من الخليفة، من شأنه أن يبصّر الآخرين بأنّ فقه الخليفة الثاني لا يتطابق في كثير من الأحيان مع ما ورد عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، سواء أَعَلِمَ الخليفة بورود نصّ آخر يخالف ما أفتى به، أم لم يعلم بورود شيء فيه أصلاً.

ولأنّهم أرادوا إيقاف عامة المسلمين على عدم امتلاك الخليفة عمر دوراً في التشريع، وعدم امتلاكه القدرة الكافية على استنباط الأحكام من الكتاب العزيز والسنة الشريفة، وعدم أهليته لأَن يكون رأيه قسيم الكتاب والسنّة في هذا الشأن.

ويبدو لي أنّ إثارة الصحابة لهذه القضايا وتكرارهم السؤال عنها، لم يَعْنوا به المساس بشخصيّة الخليفة بقدر ما كانوا يريدون به الدفاع عن حياض التشريع الإسلاميّ، ومنع الآخرين عن إدخال الآراء في الشريعة.

____________________

(١) نهج البلاغة (الحكم) ٤: ٧٦.

(٢) نهج البلاغة (الحكم) ٤: ٨٠، حلية الأولياء ٩: ٢٩٠.

٢٢٤

وقد استبان لك بجلاء تخالف وجهات النظر بين الخليفة وكثير من الصحابة في الأحكام، وتبيّن هذا التخالف حتّى بين فتاويه في الواقعة الواحدة، وكان من الطبيعيّ أن يؤثّر هذا التخالف في الأحكام الشرعيّة فيما بعد.

من هنا عمد قسط كبير من الأعلام - تفادياً لاختلاط الأحكام الاجتهاديّة الصادرة عنهم بالأحكام النبويّة - إلى ضرورة الفصل والتمييز بينهم، لكيلا يقع المسلمون في حرج حين الأخذ؛ لأنّ الخبر الذي يصدر عن اجتهاد هو غير الذي يصدر عن وحي، فسمّيت أحكامهم بالاجتهاد - ثم أضفي عليها اسم الأثر - وما صدر عن النبيّ بالسنّة. وقد صرّح بعض الصحابة بأنّ ما يقوله من نفسه وليس مأثوراً عن سنّة النبي‏ صلّى الله عليه وآله.

وقال الدكتور مدكور: ومن الطبيعيّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة النظر والتفاوت في الفتاوى والأحكام(١) .

وقال أيضاً: وإنّ اجتهاد الصحابة لم يقف عند القياس، وإنّما شمل كلّ وجوه الرأي. عمدتهم في ذلك البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع مع وعي كامل للأساس العقليّ الذي يقوم عليه الرأي، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الأحكام الشرعيّة(٢) .

الآراء وتأثيرها على الفقه

علّل بعض الكتّاب والباحثين اختلاف نظر الصحابة - إضافة لما سبق - بتفاوتهم في العقل والإدراك والمناهج، متناسين منطلقات الخليفة - وأنصاره من أتباع الرأي على عهد رسول الله - ومتطلّبات الوضع العامّ في الدولة الإسلاميّة؛ إذ الجميع يعلم أنّ الاختلاف بين المسلمين لم يقع في حجّيّة الكتاب أو السنّة، بل الكلام هو في المنسوب إلى رسول الله: هل هو حقّاً سنّته ‏صلّى الله عليه وآله لكي يجب

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٨٠.

(٢) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٨٠.

٢٢٥

اتّباعها أم لا؟

وهل وُضع لتأييد المذهب الفلاني والخليفة الفلاني أم ليس له ارتباط بذلك، بل هو بيانٌ محض؟

ويبدو أنّ اختلاف النُّقول عن الصحابة في الأحكام له مفهوم آخر، غير ما قالوه من أنّه نتيجة طبيعيّة للاجتهاد؛ ذلك لأنّ الاختلاف يشير إلى تخالف الاتّجاهات الفكريّة آنذاك وليس كلّ اختلاف يمكن تعليله بأنّه اجتهاد رأي، كما يقولون.

فلنأخذ البسملة مثلاً: فلو راجعت كتب الصحاح والسنن لرأيت الأقوال فيها مختلفة، حتّى عن الصحابيّ الواحد، فتارة يروون عن أنس أنّه جهر بالبسملة، وأُخرى يروون عنه أنّه قال: لا تجهروا؛ لأنّي صلّيت خلف أبي بكر وعمر فكانا لا يجهران، وتارة ثالثة يذكرون حكماً آخر يختلف عن سابقيه... وهكذا.

وقد أشار الفخر الرازيّ إلى الآراء الأربعة المنسوبة إلى أنس، ثمّ قال: (فهذه الروايات الثلاث تقوّي قول الحنفيّة، وثلاث أُخرى تناقض قولهم:

أحدها: ما ذكرنا من أنّ أنساً روى أنّ معاوية لمّا ترك( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار، وقد بيّنا أنّ هذا يدلّ على أنّ الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم.

وثانيها: روى أبو قلابة، عن أنس: أنّ رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم.

وثالثها: أنّه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار بها، فقال: لا أدري هذه المسألة.

فثبت أنّ الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظُم فيها الخبط والاضطراب فبقيت متعارضة، فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضاً ففيها تهمة أُخرى وهي: أنّ عليّاً عليه السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أُميّة بالغوا في المنع من الجهر؛ سعياً في إبطال آثار عليّ‏ عليه السلام، فلعلّ أَنسَاً خاف منهم، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه.

٢٢٦

ونحن وإنْ شككنا في شيء فإنّا لا نشكّ أنّه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل، وبين قول عليّ بن أبي طالب الذي بقي عليه طول عمره، فإنّ الأخذ بقول عليٍّ أولى. فهذا جواب قاطع في المسألة)(١) .

هذا هو كلام الفخر الرازيّ، وهو يوضّح دور الحكومة في اختلاف الأحكام الشرعيّة.

وجاء عن ابن عبّاس: أغفل الناس آية من كتاب الله تعالى لم تنزل على أحد سوى النبيّ إلاّ أن يكون سليمان بن داود،بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٢) .

وروى محمّد بن منصور قال: سمعتُ جعفراً يقول: لقد أغفلوا اسماً عظيماً( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (٣) .

وجاء عن القاسم بن محمّد أنّه قال في القراءة: إنْ تركته فقد تركه ناس يُقتدى بهم، وإن قرأته فقد قرأه ناس يقتدى بهم!(٤) .

وهذا يوضّح امتداد النهجين ووجود كلا الاتّجاهين بين الصحابة والتابعين، وكلّهم ممّن يُقتدى بهم!

اتّضح إذاً أنّ اختلاف نُقول الصحابة بهذه السعة، وخصوصاً في المسائل التي خولف فيها أهلُ البيت، يُوحي بوجود نهجين في الشريعة:

١ - أهل البيت وطائفة من الصحابة يؤكّدون على جزئيّة البسملة، ولزوم الجهر فيها.

٢ - آخرون لا يرون ذلك كمعاوية الذي تركها رأساً.

وكذا الحال بالنسبة إلى الإرسال والقبض في الصلاة فنلحظ نصوصاً لكلا النهجين(٥) ، ومثله سائر الأحكام الشرعيّة؛ فاختلاف النظر بين الصحابة يرجع إلى جذور عميقة وأُصول مُبتناة عند بعضهم، فهذا يستند إلى ما صحّ عنده من حديث

____________________

(١) تفسير الفخر الرازيّ ٢٠٦: ١.

(٢) الدرّ المنثور ١: ٢٠، الإتقان ١: ١١٦، ٢١١، والبيهقيّ في شعب الإيمان ٢: ٤٣٨، ح ٢٣٢٨.

(٣) رأب الصدع ١: ٢٥٥ رقم ٣٥٣.

(٤) الحجّة للشيبياني ١: ١١٩.

(٥) وقد قَطَع الإمام مالك بأنّ السنّة هي الإرسال. انظر بدائع الصنائع ١: ٢٠١.

٢٢٧

رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، والآخر إلى ما أفتى به كبار القوم واجتهده في قول وفعل رسول الله، وما عرفوه من ملاكات للأحكام، وكذا كون التأمين سنّة أو بدعة، فمَن يقول بعدم جواز التأمين لا يعني بكلامه أنّه اجتهد في ذلك، بل إنّ له أصلاً تمسّك به في نفي ذلك، وكذا الحال بالنسبة إلى من يقول بجزئيّة الحيعلة الثالثة في الأذان فإنَّ له أصلاً في ذلك، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأحكام الشرعيّة التي خولف فيها أهل البيت.

وعليه فإنّ بعض اختلاف الصحابة في الأحكام، إنّما مَرَدّه إلى ما لهم من ميول واتّجاهات، وإلى ما أصّلوه وجعلوه دليلاً، وليس جميعها اجتهادات بحتة، وخصوصاً في المسائل التي اتّفقوا فيها مع مدرسة أهل البيت، فإنَّها ممّا تؤكّد وجود صحابة لهم أُصول وأدلّة التزموا بها رغم كلّ الظروف، وبعد هذا كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّ تلك الروايات هي روايات ضعيفة دخلت الفقه من قِبل الزنادقة، وما إلى ذلك من أقوال لا تعضدها حجّة ولا تقوم على دليل.

إنّ عيون الصحابة كانوا عبر استدلالهم بالقرآن المجيد والسنّة النبويّة لا غير، يريدون تبصير الآخرين بأنّ هناك اتّجاهاً يتّخذ الرأي قِبالَ النصّ، عند عدم الحصول على النصّ والعوز إليه بل حتى مع وجوده. فمَن شاء فليؤمن بالتعبّد بالقرآن والحديث، ومَن شاء فليعكف على اتّخاذ الرأي والتضحية بالنصّ.

ولنطبّق حكم المرأة التي حاضت بعد أن زارت، فهل أنّ حكمها أن تنفر قبل أن تطهر أم تنتظر، كما أفتى عمر بن الخطّاب؟

لقد أمر عمر بن الخطّاب المرأة التي حاضت أن تنتظر حتّى تطهر من حيضتها فتطوف طواف الوداع، ولم يرخّص لها الذهاب قبل ذلك(١) .

والمعروف عن زيد بن ثابت وابن عمر أنّهما قد تأثّرا برأي الخليفة وأفتَيا بما قاله في هذه المسألة.

____________________

(١) موسوعة فقه زيد بن ثابت: ١٠٧ عن المغني ٣: ٤٦١، المجموع ٨: ٢٢٩.

٢٢٨

لكن زيداً(١) وابن عمر(٢) قد عَدَلا عن رأيهما. وقيل: إنّ عمر قد ترك صنيعه الأوّل، ولعلّ سبب ذلك هو الحديث الذي بلغه - ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما - عن عائشة قالت: حاضت صفيّة بعد ما أفاضت، أي طافت طواف الإفاضة.

قالت عائشة، فذكرتُ حيضتها لرسول الله، فقال رسول الله: أحابِسَتُنا هي؟

قلت: يا رسول الله! إنّها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثمّ حاضت بعد الإفاضة.

فقال رسول الله، فلتنفر.

أو لحديث آخر(٣) .

وأمّا ما كتبه زيد إلى ابن عبّاس فجاء فيه قوله: إنّي وجدت الذي قلت كما قلت، فقال ابن عبّاس: إنّي لأعلم قول رسول الله للنساء، ولكنّي أحببت أن أقول بما في كتاب الله، ثمّ تلا الآية( ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بالبيتِ العَتيقِ ) (٤) فقد قَضت التفَث، ووَفَت النَّذر، وطافت بالبيت، فما بقي؟(٥) .

وفي كلام ابن عبّاس ما يؤكّد أنّ المنقول عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله ذو أصل في الكتاب العزيز، الذي دعا الخليفة الناس إلى الاقتصار عليه بقوله: (حسبنا كتاب الله)، فكأنّ موقف ابن عبّاس من هذه القضيّة هو إلزام عمر بما يقوله، وكان زيد بن ثابت قد أخبر بأنّ ما ذهب إليه الخليفة مخالف للكتاب العزيز.

على أنّ بروز ظاهرة استدلال الإمام عليّ والحَبْر ابن عبّاس بكثرة كاثرة على الأحكام المختلف فيه، بمنطوق الكتاب أو مفهومه أو كنهه، أو بأحد أنواع الدلالات الأخرى ليدلّ بما لا يقبل الشكّ على أُمور:

أوّلها: إرشاد المسلمين عمليّاً إلى إمكان استنباط الأحكام الشرعيّة أو الكثير منها

____________________

(١) موسوعة زيد بن ثابت: ١٠٧.

(٢) موسوعة عبد الله بن عمر: ٢٨٥.

(٣) انظر موسوعة عمر بن الخطاب: ٣٣٣ عن المحلّى ٧: ١٧٠.

(٤) الحجّ: ٢٩.

(٥) سنن البيهقيّ ٥: ١٦٣، ح ٩٥٤٣، كما في الدراسات للأعظميّ: ١٣٦.

٢٢٩

من كتاب الله، وذلك بالتأمّل، والتفكير، والاستنتاج، والعقليّة الفقهيّة السليمة، وهذا برهنةٌ منهما على ما يدّعيانه من عدم الضرورة الملجئة إلى اختراع مقاييس جديدة، و إنشاء قواعد مستحدثة، وإطلاق عنان الاجتهاد والرأي؛ إذ من الممكن الواقع معرفة الأحكام من خلال آيات الكتاب والاستدلال بها.

وثانيها: وقوع الاختلاف الفاحش بين الصحابة ومرويّاتهم، بل بين مرويّات الصحابيّ الواحد في الواقعة الواحدة، بالإضافة إلى المسموعات الناقصة التي تلقّوها عبر واسطة أو أكثر دون السماع المباشر، مع ملاحظة عدم تنبه جميع الرواة لوجه الحكم المروي أو المسموع إلى جوار منع الحكّام للتحديث والتدوين وخوف الصحابة... هذا كلّه مجتمعاً جعل الاحتجاج بالسنّة أمراً متعسّراً قليل الجدوى، ضعيف الإقناع اللّهمّ إلاّ ما تطابَق النقل فيه - وهو نزر قليل - ممّا يجدر معه باللبيب أن يعمد إلى الاحتجاج بالقرآن الذي لم يجرؤ أحدٌ على ردّ الاستدلال به.

وثالثها: هو إلزام أتباع نهج الاجتهاد بما ألزموا به أنفسهم، من كفاية كتاب الله (حسبنا كتاب الله) في حلّ المعضلات، ممّا يظهر التهافت البيّن بين هذه الكلّيّة التي أطلقوها وبين إخفاقهم على الصعيد العلميّ والعمليّ في تطبيقها واستنتاج بعض مفرداتها، بعكس الملتزمين بنهج التعبّد الذين يرون ضرورة إشفاع الكتاب بالسنّة لبيان الأحكام، مع امتلاكهم القدرة الفائقة على استخراج الأحكام واستنباطها من آيات الذكر الحكيم.

وعلى كلّ حال: فالفقه الإسلاميّ قد تأثّر بلا ريب باجتهادات عمر بن الخطاب، وانعكس اختلاف وجهات نظره على الأحكام؛ لأنّه جَدَّ في لزوم تطبيق ما أفتى به وجعله بمنزلة السنّة التي أكّد الرسول عليها، فقد تأثّر البعض من الصحابة بهذه الرؤية وألزموا أنفسهم بالسير على نهج الشيخين، وبذلك ترى الاختلاف أخذ مجاله في التشريع الإسلاميّ، وأثّر في الأحكام الشرعيّة المتداولة بين المذاهب الإسلاميّة، فمثلاً:

أبو حنيفة وصاحباه وابن حنبل وزفر وابن أبي ليلى قالوا بحرمان الأخوين

٢٣٠

الشقيقين من الإرث لما حكم به عمر في الواقعة الأولى.

أمّا مالك والشافعيّ فإنّهما يُشركان الشقيقين مع الأخوين لأمّ في الثلث لما قضى به عمر في الواقعة الثانية.

والعجيب أنّهم يرون صحّة الرأيين لصدورهما عن الخليفة، وهو رجل غير معصوم، باتّفاق الجميع.

نعم، إنّهم في استدلالاتهم لم يكتفوا برأي عمر وحده، فراحوا يعضدونه بقرائن أُخرى ترجّح أحد القولين!

و إزاء حالة كهذه يحقّ للمرء أن يتساءل عن حكم الله: في أيّ هذين الرأيين يجده؟

أتراه طابق الرأي الأوّل للخليفة عمر أم وافق الثاني، فإذا كان يطابق الحكم الأوّل وأنَّ الحقّ حرمانهما، فكيف يعطي الشقيقين في الواقعة الثانية، مع العلم بأنّ الإرث حقّ ماليّ، وعندها تظلّ ذمّة عمر مشغولة بمقدار ما أعطى للشقيقين لمن أخذ منهم؟

وإن قيل: إنَّ الحقّ إعطاؤهما، فكيف منعهما وحرمهما في الواقعة الأُولى؟ وهكذا وهلّم جرَّا.

ونظراً للتأكيد الشديد على اتّباع سيرة الشيخين أمست سنّة رسول الله منسيّة أو كالمنسيّة في مثل هذه القضايا، ولم يعد يعرفها إلاّ أهلها، وهذا اللون من الاجتهاد المنفلت من النصّ قد بدأ يتّخذ طريقه إلى حياة المسلمين، وصار فقه الشيخين هو الحاكم، والروايات الداعية لمنع كتابة الحديث هي الراجحة في الميدان، في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام.

نعم صارت سيرة الشيخين هي المطبَّقة في الشريعة، وأصبحت مسائلة الخلفاء ظاهرة يتخذها الصحابة في تعاملهم مع الخلفاء، فأحس بها الخلفاء فراحوا يهددون من يحترفها، فجاء في تاريخ دمشق وحياة الصحابة(١) أنّ سعيد بن سفيان سأل عثمان

____________________

(١) تاريخ دمشق ١: ٢٤٨، وفيه ضربت عنقك، تهذيب تاريخ دمشق ١: ٥٤ واللفظ له، حياة الصحابة ٢: ٣٩٠، ٣٩١ عنهما في الصحيح للعاملي ١: ٨٩.

٢٣١

بن عفان عن مسألة فقال: فهل سألت أحداً قبلي؟

قال لا.

قال: لئن استفتيت أحداً قبلي فأفتاك غير الذي أفتيتك به ضربت عنقك.

أترك النص للقارئ دون تعليق!.

متابعة الخليفة في تعليل المنع

أخذ محبّو الخليفة يتناقلون بأوسع نطاق تعاليل عمر في منع التدوين، فصارت تعاليله تتّحد معها تعاليل الآخرين الناهين من الصحابة، وفي هذا ما يشير بوضوح إلى حقيقة سياسيّة لا تخفى على البصير، تومئ إلى كون الخليفة - وأنصاره - وراءها!

لقد دعا عمر بن الخطّاب إلى ترك تدوين السنّة الشريفة خوفاً من اختلاطها بالقرآن، أو أنّ الناس سيأخذون بالحديث ويتركون القرآن. ونفس التعليل - أو التعاليل - تراها ترد في حديث أبي هريرة، وفي المحكيّ عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدريّ وأبي موسى الأشعريّ:

روى عبد الرحمان بن زيد بن أسلم عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: (ما هذا الذي تكتبوه؟).

قلنا: أحاديث سمعناها منك.

فقال: (أكتاباً غيرَ كتاب الله تريدون؟! ما أضلّ الأممَ من قبلكم إلاّ ما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله).

فقال أبو هريرة: أنتحدّث عنك يا رسول الله؟

فقال: نعم، (تحدّثوا عنّي ولا حرج، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار)(١) .

وعن إبراهيم التيميّ، قال: بلغ ابنَ مسعود أنّ عندنا كتاباً يعجبون به، فلم يزل معهم

____________________

(١) مسند أحمد ٣: ١٢، ح ١١١٠٧، تقييد العلم: ٣٣، واللفظ له، مجمع الزوائد ١: ١٥١، باب كتابة العلم.

٢٣٢

حتّى أتوه به، فمحاه، ثمّ قال: إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم، إنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب الله(١) .

وفي نقل آخر عنه: أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم، تركوا التوراة والإنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والأحكام(٢) .

وعن أبي نضرة قال: قلت لأبي سعيد الخُدريّ: أكتبتنا!

فقال: لن أكتبكم ولكن خذوا عنّا كما كنّا نأخذ عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله(٣) .

وروى عنه أيضاً: قلت لأبي سعيد الخدريّ: ألا نكتب ما نسمع منك؟ قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟! إنّ نبيّكم كان يحدّثنا فنحفظ(٤) . وقال أيضاً: قلت لأبي سعيد الخدريّ: إنّك تحدّثنا عن رسول الله حديثاً عجيباً، وإنّا نخاف أن نزيد فيه أو ننقص.

قال: أردتم أن تجعلوه قرآناً؟! لا، ولكن خذوا عنّا كما أخذنا عن رسول الله(٥) .

وعن أبي موسى الأشعريّ قال: إنّ بني إسرائيل كتبوا كتاباً فتبعوه، وتركوا التوراة(٦) .

فلاحظ اشتراك التعليل في جميع هذه النصوص، وأنّ النهي قد انحصر عندهم في التشبّه ببني إسرائيل الذين اتّبعوا كتب علمائهم وتركوا التوراة! وهو بعينه ما قاله عمر بن الخطّاب!! وأنّهم قد نسبوا نفس التعليل إلى عليّ بن أبي طالب وابن عبّاس، ممّا يؤكّد أنّ هناك اتّجاهاً يتبنّى رأي الخليفة ويدعمه، في حين بسطنا القول سابقاً في تعليل الخليفة للمنع وأكّدنا على أنّه ضعيف.

وعلى هذا فلا معنى لتعارض أحاديث الإذن مع أحاديث النهي حتّى نقوم بموازنة بينهما(٧) ، وإن كان فيما قالوه تأكيد لرؤيتنا؛ لأنَّ قولهم - لو صحّ - من كون التدوين قد

____________________

(١) سنن الدارمي ١: ١٣٣، ح ٤٦٩، تقييد العلم: ٥٣، ٥٥، ٥٦.

(٢) شرح النهج ١٢: ١٠٢، تقييد العلم: ٥٦.

(٣) تقييد العلم: ٣٧.

(٤) تقييد العلم: ٣٧.

(٥) تقييد العلم: ٣٨، وانظر المستدرك على الصحيحين ٣: ٦٥١، ح ٦٣٩٣.

(٦) سنن الدارمي ١: ١٣٥، ح ٤٨٠، المعجم الأوسط ٩: ٣٥٨ - ٣٥٩، ح ٥٥٤٨، تقييد العلم: ٥٦.

(٧) كما فعل الدكتور صبحي الصالح في علوم الحديث: ١١، والدكتور عجاج الخطيب في السنّة قبل

=

٢٣٣

شُرِّعَ للنابهين من الصحابة والمنع لعمومهم، فهذا يخالفه فعل عمر بن الخطّاب وتعامله مع فحول الصحابة في قضيّة التدوين وغيرها؛ إذ أصدر أمراً لهم بأن يأتوه بمدوّناتهم ولم يستثن أحداً منهم، ولم نسمع أو نقرأ قبوله لمدوّنة أحد النابهين!

وكذا ما قالوه بأنَّ المنع جاء في العصر الإسلاميّ الأوّل - حين نزول القرآن - وأنَّه ‏صلّى الله عليه وآله منعهم كي لا يختلط القرآن بالسنّة، لكن حينما نزل القرآن جميعاً وعرفه الصحابة سمح الرسول لهم بكتابة حديثه، وهذا المدّعى يوضّح بأنَّ المنع قد رُفِعَ أواخر عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنّ مشروعيّة تدوين الحديث كانت على عهده، وهو يؤكّد من أنّ منع عمر من تدوين الحديث لم يكن شرعياً، بل هو قرار شخصيّ من الخليفة؛ إذ لو صحّ قوله ‏صلّى الله عليه وآله: (لا تكتبوا عنّي) أو (ومَن كتب عنّي غير القرآن فليمحه)(١) وصدور ذلك في عهده الشريف لعلمه الأصحاب، وللزم أن يكون هو الدليل الأوّل للشيخين في منعهما عن الحديث! مع أنّهما لم يحتجّا بمنع النبيّ صلّى الله عليه وآله عن التدوين، وكفى بهذا دليلاً على بطلان دعوى نهي النبيّ عن التدوين.

ولو صحّ الحديث السابق فلماذا دوّن أبو بكر أحاديثه الخمسمائة، خلافاً لأمره‏ صلّى الله عليه وآله؟! وكيف يستشير عمر الصحابة في أمر التدوين، إذا كان قد ورد النهي فيه؟! بل كيف يسوغ أن يتخلّف عن رأيهم وهم يشيرون عليه بالتدوين؟! بل كيف يشيرون عليه بالتدوين إذا كانوا قد سمعوا المنع من النبي‏ صلّى الله عليه وآله؟!

ألا يعني قول عمر: (مَن كان عنده شيء فليمْحُه) أو (لا يبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني) على وجود مصاحف وكتب قد دوّنت قبل عهده؟

على أنّ التعليل الوارد في كلماتهم لا يقوم دليلاً على مدّعاهم؛ لأنّ الأمم السابقة إنّما ضلّوا لأنّهم عكفوا على كتب أحبارهم ورهبانهم وتركوا التوراة والإنجيل، ولم

____________________

=

التدوين: ٣٠٦ - ٣٠٩ و ٣١٦، والسيّد محمّد رضا الجلاليّ في تدوين السنّة الشريفة: ٣١٢ - ٣٠٤ وغيرهم.

(١) صحيح مسلم ٤: ٢٢٩٨، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، ح ٣٠٠٤، مسند أحمد ٣: ١٢، ح ١١١٠٠، سنن الدارمي ١: ١٣٠، باب من لم ير كتابة الحديث، ح ٤٥٠.

٢٣٤

يكن سبب ضلالهم العكوف على أقوال وكتابات أنبيائهم، وشتّان بين كتب الأحبار والرهبان والأساقفة، وبين كلمات وسنن وأقوال تكتب عن سيّد الخلائق محمّد صلّى الله عليه وآله؛ إذ المدوّن أو المطلوب تدوينه هو أحاديث النبيّ وسنّته لا غير، مع أنّ علماء الأمم السابقة كانوا قد انحرفوا فغيّروا نصوص ومفاهيم كتبهم، وهذا بعكس علماء أُمّة محمّد صلّى الله عليه وآله المحافظين على الدين المفسّرين للقرآن المدوّنين لآثار النبيّ صلّى الله عليه وآله وأحكامه.

نعم، يصحّ هذا التعليل للمنع عن تدوين آرائهم الخاصّة وفتاواهم الشخصيّة، وما توصّلوا إليه من اجتهادات مختلفة، فإنّ المنع عن تأليف مثل هذه الكتب التي لا تضم بين دفتيها سنّة الرسول صلّى الله عليه وآله، بل تضم الآراء الشخصية قد يكون فيه المبرّر المعقول، باعتبار أنّ مثل هذه الكتب فيها الصحيح والخطأ والغثّ والسمين، وربّما أُلِّف كتاب من شخص منحرف عن الدين، وبذلك تختلط الأحكام على الأجيال القادمة من المسلمين، وأمّا منع عمر من تدوين المسموعات عن النبيّ والآثار النبويّة المباركة فلا يتلائم مع التعليل المذكور.

ولعلّ هذا الأمر فات على البعض من الذين فسَّروا المنع بسبب كتب العلماء، إلى المنع عن كتابة السنّة المباركة، غفلةً منهم عن أنّ الدليل لا يفي ولا يقوم بالمدَّعى، وعن أنَّ هذا النهي منهم جاء لمنع عمر بن الخطّاب، فاستقرّ الأمر في نفوسهم، وظلّ المنع يسري إلى الأجيال الآتية حتّى ارتفع ذلك المنع في زمن عمر بن عبد العزيز.

وعلى كلّ حال، فإنّ الأدلّة تُخبر عن مشروعيّة التدوين في عهده صلّى الله عليه وآله، وتُخبر عن أنّ المنع جاء متأخّراً وتحت ظروف خاصّة. وقد تأكّد كذلك أنّ من الصحابة والتابعين ومَنْ بَعْدَهم، مَن كان يريد ترسيخ نهي الخليفة في قلوب المسلمين، حتّى صار التدوين عندهم مكروهاً لكراهيّة الخليفة عمر بن الخطّاب له، ثمّ صار هذا المكروه عندهم حسناً لمّا نَدَب الخليفة عمر بن عبد العزيز إليه!

قال الزهريّ: كنّا نكره كتابة العلم، حتّى أكْرَهَنا هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه

٢٣٥

أحداً من المسلمين(١) .

وفي سنن الدارميّ: حتّى أكرهنا السلطان على ذلك(٢) .

وفي آخر: استكتبني الملوك فأكتَبْتُهُم، فاستحييت الله إذ كتبتها للملوك ولا أكتبها لغيرهم(٣) .

قال أبو مليح: كنّا لا نطمع أن نكتب، ثم الزهريّ، حتّى أكره هشامٌ الزهريَّ، فكتب لبنيه، فكتب الناس الحديث(٤) .

وقد بسطنا الكلام على هذا في كتابنا (وضوء النبيّ / المدخل)، ووضّحنا دور الحكّام في تدوين السنّة الشريفة، وبيّنّا سرّ عنايتهم بهذا الجانب، وأكدّنا على أنّ العوز العلميّ الذي كانوا يعانون منه هو الذي دعاهم إلى المنع، ثمّ دعاهم إلى التدوين؛ لأنّ الصحابة كانوا يعارضونهم بالأحاديث، فما لا محيص عنه هو منع التحديث والتدوين لسدّ هذا الفراغ، ولكي لا يظهر الضعف العلميّ أمام تيّار فكريّ قويّ يعارض آراء الحكومة بما يرويه عن النبي‏ صلّى الله عليه وآله(٥) .

وتطوّر الأمر وتوسّع حتّى قنّن نهج الاجتهاد حجّيّة الإجماع - كي يلزموا الناس بما أجمعت عليه الأمّة بأمر الخليفة - وقرّروا أنّ إفتاء اللجنة الخاصّة التي وضعها الخلفاء يقوم مقام جميع الصحابة، ويعتبر ذلك إجماعاً لا يجوز تخطّيه ولا خرقه.

قال الدكتور الوافي المهدي عن عصر الصحابة: (... وفي هذا العصر ظهر مصدر جديد من مصادر التشريع الإسلاميّ لم يعرف في العهد التأسيسيّ للتشريع ألا وهو الإجماع، فإنّ أبا بكر كان يشرّع فيما لا نصّ فيه من كتاب ولا سنّة عن طريق جمعيّة تشريعيّة. وكذلك الأمر بالنسبة لأوّل خلافة عمر، وكان ما يصدر عن تلك الجمعيّة

____________________

(١) الجامع لمعمر بن راشاد ١١: ٢٥٨، باب كتاب العلم، الطبقات الكبرى ٢: ٣٨٩، المدخل إلى السنن الكبرى ١: ٤٠٩، ح ٧٣٩.

(٢) سنن الدارمي ١: ١٢٢، باب التسوية في العلم، ح ٤٠٤.

(٣) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ ١: ٧٧.

(٤) حلية الأولياء ٣: ٣٦٣، البداية والنهاية ٩: ٣٤٥ كما في الرواية التاريخيّة: ١٠٧.

(٥) وضوء النبي / المدخل: ٢٠٧ - ٢١١.

٢٣٦

التشريعيّة من أحكام يعتبر صادراً عنهم جميعاً(١) .

وقد شكّل بالفعل الخليفة عمر بن الخطّاب لجنة علميّة لإِدارة شؤون المسلمين، ولسدّ احتياجاتهم وطلباتهم الشرعيّة، وأناط بمَن يثق به منصب الإفتاء حتّى يتفرّغ لأمور أُخرى.

روى عليّ بن رباح اللخميّ عن أبيه، قال: إنّ عمر خطب الناس، فقال: مَن أراد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أُبيّ بن كعب، ومَن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأتِ معاذ بن جبل، ومَن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومَن أراد أن يسأل عن المال فليأتِني؛ فإنّي له خازن(٢) .

هذا النصّ يؤكّد على أنّ الخليفة احتاج إلى تأسيس مركز لدرء الخطر عن نفسه، ولتأصيل ما يذهب إليه من رأي واستحسان.

ومن المفيد التذكير هنا بأنّ اتّخاذ الرأي كمنهج في الأحكام لم يكن عمر هو أوّل مَن اعتمده، بل سبقه إلى ذلك الخليفة أبو بكر؛ إذ عرفتَ تخطّيه عن قتل الرجل المتنسِّك لِما رأى من خشوعه، وعُلِمَ إعلانه عن مبدأ الرأي والاجتهاد في أوّل حكومته حين قال: (ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوّموني)(٣) ، وكذا قوله عن فعل خالد: إنّه تأوّل فأخطأ(٤) .

وكذا اعتذار خالد لأبي بكر: يا خليفة رسول الله! إنّي تأوّلت وأصبت وأخطأت(٥) .

____________________

(١) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: ٤٦ عن خلاصة تاريخ التشريع الإسلاميّ: ٤١.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣: ٣٠٦، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٣) ثقات ابن حبان ٢: ١٥٧، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٢٧، واللفظ له، الاكتفاء بما تضمّنه من مغازي رسول الله ٢: ٤٤٦، البداية والنهاية ٥: ٢٤٨، ٦: ٣٠١، تخريج الدلالات السمعية ١: ٤٢، السيرة الحلبية ٣: ٤٨٣.

(٤) تاريخ الطبري ٢: ٢٧٣، الإصابة ٥: ٧٥٥.

(٥) راجع تاريخ الطبريّ، تاريخ اليعقوبي ٢: ١٣٢.

٢٣٧

موقف أهل البيت من المدّ الاجتهاديّ

هذه النصوص تؤكّد - من جهة أُخرى - على أنّ مصطلح الرأي والتأويل راح يأخذ مجاله بين أقوال الصحابة وأفعالهم؛ ولذلك كان الإمام عليّ عليه السلام - أيّامَ خلافته - يحاول معالجة وسدّ هذه الثغرة التي فُتحت على الفقه والتاريخ والدين الإسلاميّ، ويبيّن سبب ذلك، ويصنّف الناس المختلفين في الأحكام، ويبرهن على بطلان منهجهم ودعاواهم المطلقة العنان، وإليك بعض النصوص عنه عليه السلام في ذمّ الرأي؛ لتتّضح المسألة بمزيد من الجلاء: قال عليه السلام - من كلام له في ذمّ اختلاف العلماء في الفُتيا -:

(تَرِد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام، فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترِد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا، وإلههم واحد! ونبيّهم واحد! وكتابهم واحد!

أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف، فأطاعوه؟!

أم نهاهم عنه فعصَوه؟!

أم أنزل الله دِيناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟!

أم كانوا شركاءه فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟!

أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلّى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: ( مَا فرّطْنا في الكِتابِ مِن شيء ) (١) وقال: ( تِبْياناً لكلِّ شيء ) (٢) ، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضُه بعض، وأنّه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (٣) وإنّ القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تُكشف الظلمات إلاّ به (٤) .

____________________

(١) الأنعام: ٣٨.

(٢) النحل: ٨٩.

(٣) النساء:٨٢.

(٤) نهج البلاغة ١: ٥٥ خطبة ١٨، من كلام له‏عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتي، وشرح النهج ١: ٢٨٨.

٢٣٨

ومن كلام له ‏عليه السلام في صفة مَن يتصدّى لحكم الأمّة وهو ليس له بأهل:(... ورجلٌ قَمَش جَهْل، مُوضِعٌ في جُهَّالِ الأمَّةِ، عَادٍ في أغْبَاشِ الفِتْنَةِ، عَمٍ بِمَا في عَقْدِ الهُدْنَةِ، قَدْ سَمَّاهُ أشْبَاهُ النَّاسِ عَالماً وَلَيْسَ بِهِ، بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ، ما قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ، حَتَّى إذا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ واكْتَنَزَ مِن غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلى غَيْرِهِ، فَإنْ نَزَلَتْ بِهِ إحْدَى المُبْهَمَاتِ هَيَّأ لَهَا حَشْواً رَثّاً من رَأْيِهِ، ثُمَ قَطَعَ بِهِ، فَهُو مِنْ لَبْسِ الشبُهَاتِ في مِثْلِ نَسْجِ العَنْكَبوتِ: لا يَدْري أصَابَ أمْ أخْطأ؛ فَإنْ أصَابَ خَافَ أنْ يَكونَ أخْطأ؛ وإنْ أخْطأ رَجَا أنْ يَكُونَ قَدْ أصَابَ. جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالات، عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَات، لَمْ يَعَضَّ عَلى العِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ، يذري الرِّوَايَاتِ إذراء الرِّيحِ الهَشِيمَ، لا مَلِيٌّ واللهِ بإصدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ، ولا أهْلٌ لِمَا فوضَ إليه، لا يَحَْسبُ العِلْمَ في شيء ممّا أنْكَرَهُ، ولا يَرَى أنَّ مِنْ وَراءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ، وإنْ أظْلَمَ عليه أمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ، تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ، وَتَعَجُّ مِنْهُ المَواريثُ. إلى الله أشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعيشُونَ جُهَّال، وَيَمُوتُونَ ضُلاّلاً) (١) .

وقوله:

(إنّما بَدْءُ وقوعِ الفِتَنِ أهواءٌ تُتَّبع، وأحْكامٌ تُبْتَدَع، يُخالَفُ فيها كتاب الله، وَيَتولّى عليها رجالٌ رِجالاً على غَيْرِ دينِ اللهِ. فَلَو أنَّ الباطِلَ خَلَصَ مَنْ مِزاجِ الحَقِّ لَمْ يَخْفَ على المُرْتادِينَ، وَلو أنَّ الحَقَّ خَلَصَ من لَبْسِ الباطِلِ لانْقَطَعَتْ عنه ألْسُنُ المُعانِدين؛ ولكنْ يؤخَذُ مِن هذا ضِغْثٌ ومِنْ هذا ضِغْث فَيُمْزَجان! فَهُنالِكَ يَسْتَولي الشَّيْطانُ على أوْلِيائِهِ، ويَنْجو الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الحُسْنى) (٢) .

نعم، إنّ الرأي والتأويل - أي تأوّل فأخطأ - كانا المفردتين الأوليين اللتين دخلتا في الشريعة، وقد حدث الخلط بينهما، فعنَوا بالرأي: التأويل، وبهما (الرأي والتأويل): الاجتهاد. أمّا مصطلح القياس والاستحسان والمصالح وغيرها فإنّما هي مصطلحات حادثة لم يرد ذكرها إلاّ في نادر من العبارات، ولم تستعمل بوسعتها الاصطلاحيّة

____________________

(١) نهج البلاغة ١: ٥١ - ٥٤، خطبة ١٧، من كلام له ‏عليه السلام في صفة مَن يتصدّى للحكم بين الأمّة وليس لذلك أهل، وانظر شرح النهج ١: ٢٨٣.

(٢) نهج البلاغة ١: ٩٩ - ١٠٠، خطبة ٥٠ وشرح النهج ٣: ٢٤٠.

٢٣٩

اليوم، وإن كانت بذورها موجودة عمليّاً وتطبيقيّاً في ذلك العصر.

حتّى بلغ الأمر بالتابعين أن يفسّروا لفظ التأويل بالتغيير، ولا يتحرّجون عمّا لهذه الكلمة من مفهوم ومعنى، حتّى صارت سائدة مقبولة، إلى حدّ أنّهم قد طلبوا من الإمام الحسين وألحّوا عليه لكي يُؤوِّل قضاء الله، وعنوا بكلامهم أن يغيّره بانصرافه عن الذهاب إلى العراق. فقد جاء عن عمر بن عليّ أنّه قال للحسين‏ عليه السلام: (فلولا تأوّلت وبايعت)؟!(١) أي تأوّلت قضاء الله بقتلك، ببيعتك ليزيد. فصار مصطلح الاجتهاد معادلاً للتأويل وهذا المفهوم أخذ يتغّير مفهومه يوماً بعد يوم، حتّى وصل إلى أوسع دوائره في العهدين الأمويّ والعبّاسيّ.

ولم يكن ابن عوف، فيما طرحه يوم الشورى من تقييد عثمان والمسلمين بسيرة الشيخين، قادراً على إيقاف مدّ الرأي والتأويل الذي كان قد انتشر واتّسع بعد تأصيله من قِبل الشيخين. ولم تكن محاولته حصر الاجتهاد فيما فعله الخليفتان وحظره على سواهما من الصحابة بالتي تلقى أُذناً صاغية؛ لأنّ باب الرأي والتأوّل كان قد انفتح على مصراعَيه وتعذّر على مَن يريد إغلاقه أن يغلقه... وغدا كلّ يريد لرأيه واجتهاده أن يُقابَل بالقبول كما فعل الشيخان من قبل.

إنّ ابن عوف في اشتراطه هذا قد أراد أن يسلب عثمان حقّ التشريع والاجتهاد بالرأي، على الرغم من سابقته في الإسلام وكونه صهر الرسول‏ صلّى الله عليه وآله، وخليفة المسلمين القادم؛ فتراه يأخذ العهد منه أمام المسلمين على الالتزام بالكتاب والسنّة وسيرة الشيخين على السواء.

المهم هو: أنّ التخطيط السياسيّ الدينيّ، الذي رسمه الشيخان في حصر دائرة الشرعيّة بهما دون سواهما، قد أُريد له أن يجعل أقوالهما في عداد شرعيّة السنّة. بَيْدَ أنّ الواقع ما كان يرى وجهاً مقبولاً لهذا الحصر والتخصيص، وهذا هو الذي جعل الأمر على غير ما أُريد له أن يكون.

____________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف: ١٩ - ٢٠.

٢٤٠