منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث10%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110118 / تحميل: 8725
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ومن الذين كانوا يدركون سياسة الشيخين وابن عوف في الشريعة، ويعرفون ما كان يريد هؤلاء بفعلهم وتأكيدهم على الرأي - الذي يدور في إطار تصحيح ما أفتى به عمر وأبو بكر - هو الإمام عليّ بن أبي طالب الذي رفض تسلّم الخلافة بالشرط المذكور - لكي لا يصحّح بفعله اجتهاداتهما المخالفة في بعض الأحيان للكتاب والسنّة - ذلك أنّ قبول هذا الشرط يعني: إضفاء الشرعيّة على هذه الفكرة المستحدثة، وهو ما لا يريده علي بن أبي طالب ولا يرتضيه.

إنّ رفض عليّ للشرط المذكور، وامتناع ابن عوف تسليم الخلافة له، ليؤكّدان على مخالفة سيرة الشيخين واجتهادهما للكتاب والسنّة؛ لأنّ إيمان عليّ وفهمه وفقهه ممّا لا يرتاب فيه أحد، بعد أن تواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه أعلم الصحابة وأفقههم وأقضاهم(١) وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار(٢) . ويوضّح موقف الشورى هذا ارتسام معالم النهجين بوضوح، فأُولئك يدعون عليّاً أو الخليفة الجديد إلى الالتزام والتمسّك بنهج الاجتهاد والرأي، وعليّ عليه السلام ومَن سار بسيرته يدعو إلى التمسّك بالتعبّد المحض - بكتاب الله وسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله - وإن أُبْعِدَ بسبب موقفه التعبدي عن تسلّم أُمور الخلافة الفعليّة للمسلمين.

تأويلات وآراء

صرّح الخليفة أبو بكر بأنّه يعتمد الرأي والتأويل في تفسير معنى الكلالة، مع وجود آية في الذكر الحكيم تبيّن الحكم في الكلالة، فقال لمّا سئل عن الكلالة: (سأقول فيها برأي، فإن يك صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمنّي

____________________

(١) إعلام النبوّة للماوردي ١: ١٧٤، الإحكام للآمدي ٤: ٢٤٤، تفسير القرطبي ١٥: ١٦٢، ١٦٤، طبقات الحنفية: ٥٢٤، مقدمة ابن خلدون: ١٩٧، كشف الخفاء ١: ١٨٤.

(٢) انظر المعتمد لأبي الحسين البصري ٢: ٣٦٨، ٣٦٩ وفيه قوله‏ صلّى الله عليه وآله:اللّهمّ أدر الحق مع علي حيث ما دار ، المستصفى للغزالي: ١٧٠، المحصول للرازي ٦: ١٨١، الغرة المنيفة للغزنوي الحنفي: ٥١، مجمع الزوائد ٧: ٢٣٥. وقد جاء في تاريخ بغداد ١٤: ٣٢٠، بسنده عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله يقول:عليّ مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة .

٢٤١

ومن الشيطان، والله منه بري، أراه ما خلا الولد والوالد)(١) .

وأنت ترى مخالفة هذا الرأي لصريح القرآن في قوله:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢) .

وقوله:( وإنْ كَانَ رَجُلٌ يُوَرثُ كَلالةً... ) (٣) .

نعم، إنّهم علّلوا استعمال الرأي عند الصحابة بأنّه تفسير للنصوص، وأضاف الدكتور مدكور إلى ما قاله سابقاً، وهو يشير إلى مراحل الرأي:

(ثمّ أُطلقت كلمة (رأي) بعد ذلك على ما يقابل النصوص التي اختصّت بكلمة (علم). ثمّ نجد من الأصوليّين مَن يفسّر الرأي بالقياس وحده، ومنهم مَن يجعله شاملاً كافّةَ ما يقابِل الكتاب والسنّة والإجماع.

والرأي بهذا المفهوم الأخير يكون أخصّ من الاجتهاد إذ هو نوع منه، وهو ما قلنا إنّهم سمّوه (الاجتهاد بالرأي) في مقابلة (الاجتهاد في دائرة تفسير النصّ). ويكون المراد بالرأي: التعقّل والتفكير بوسيلة من الوسائل التي أرشد الشرع إلى الاهتداء بها في استنباط حكم ما لا نصّ فيه. أمّا الاجتهاد فيشمل استنباط الحكم من النصّ الظنّيّ، كما يشمل الاجتهاد للتوفيق بين النصوص المتعارضة في الظاهر، كما يشمل الاجتهاد بالرأي الذي قلناه.

ولمّا كان الرأي يعتمد على أنّ الشريعة معقولة المعنى كان مجاله الغالب في الأمور

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١٠: ٣٠٤، باب الكلالة، تفسير الطبري ٦: ٤٣، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٢٣، باب حجب الإخوة والأخوات، ح ١٢٠٤٣، التمهيد لابن عبد البر ٥: ١٩٦، تفسير البغوي ١: ٤٠٣، تحفة المحتاج ٢: ٣٢٣، ح ١٣٥٠، تلخيص الحبير ٣: ٨٩، كتاب التقرير والتحبير ٣: ٤١٢، الدر المنثور ٢: ٧٥٦، واللفظ له.

(٢) النساء: ١٧٦.

(٣) النساء: ١٢.

٢٤٢

العاديّة التي يُقصد منها تحقيق مصالح دنيويّة، أمّا ما لا يُدرَك لها معنى خاصّ كأُصول العبادات فإنّ الشأن فيها الاتّباع لا إعمال الرأي)(١) .

وقال الدكتور الردينيّ في (المناهج الأصوليّة):

(وقد رأينا الصحابيّ الجليل إمام أهل الرأي عمر بن الخطّاب، يخصّص عموم الآية الكريمة في سورة الأنفال من قوله تعالى( واعْلَمُوا أنّما غَنِمْتُمْ مِن شَيٍ فأنّ للهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ ولِذي القُرْبى واليتامَى والمَساكِين وابنِ السّبيل ) (٢) .

- فالآية الكريمة تقرّر أنّ خُمْس الغنائم لِمَن ذُكروا فيها، وأربعة أخماس الغنيمة للغانمين عملاً بمفهوم الآية.

- وقد تأيّد هذا بعمل الرسول‏ صلّى الله عليه وآله في خيبر، إذ قسّم أربعة أخماس الغنيمة من منقول وعقار بين الغانِمين.

- وهكذا كان حقّ الغانمين في كل ما يُغنم ثابتاً بالقرآن والسنّة العمليّة.

- لكن عمر بن الخطّاب اجتهد برأيه في الآية، وخالف ما تفيده بظاهرها وعمومها من شمول حقّ الغانمين لكلّ ما يغنم من عقار أو منقول، فخصّص عموم الآية وجعله قاصراً على المنقول دون العقار - كما علمت - ودليل التخصيص هو (المصلحة العامّة) كما يشهد بذلك استدلاله وحواره مع مخالفيه من الصحابة.

- بل قد حمل عمر بن الخطّاب مخالفيه على أن يفهموا نصوص الشريعة كلّها في ضوء المصلحة العامّة.

- ولم يكن من دليل لعمر بن الخطّاب في اجتهاده برأيه، يستند إليه في تخصيص عموم الآية إلاّ (المصلحة العامّة) أو (روح الشريعة)؛ إذ لم يثبت أنّه استند إلى دليل خاصّ في المسألة بعينها.

والواقع أنّ تطبيق النصّ رُوعي فيه ظروف الدلالة ومصلحتها العامّة آنذاك. وللظروف

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٣٤٣.

(٢) الأنفال: ٤١.

٢٤٣

أثر في تكييف هذا التطبيق المنبثق عن فهم الآية الكريمة، وتحديد مراد الشارع منها في ظلّ ذاك الظرف، لسبب بسيط هو أنّ مآل هذا التطبيق في مثل تلك الظروف ذو أثر بالغ على المصلحة العامّة نفسها، فوجب إذاً تحديد مراد الشارع من نصّ الآية لا على أساس منطقها اللغويّ فحسب، بل وعلى أساس ما تقتضيه الأصول العامّة في التشريع، وإلاّ فما معنى قول عمر وهو يصرّ على هذا الفهم بقوله: هذا (رأيي)؟!

- ثمّ يعلّل هذا (الرأي) بما يُسنده من مقصد أساسيّ في الشريعة وهو (المصلحة العامّة)، يقول: وقد رأيت أن أحبس الأرضين بِعُلوجها، وأضع على فيئِها الخراج، وفي رقابهم الجزية يؤدّونها فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرّيّة، ولمن يأتي بعدهم.

ثمّ قال:

(فالتأويل عند الصحابة إذن من صُلب الرأي؛ لأنّه استند إلى (المصلحة العامّة) في صَرف الآية عن عمومها الواضح، والمستفاد من ذات الصيغة إلى قصر حكمها على بعض ما يتناوله، وهو هنا المنقول دون العقار، كما ذكرنا)(١) .

اتّضح إذَن أنّ الأخذ بالرأي عند الخلفاء خضع لظروف خاصّة - سياسيّة كانت أم اجتماعيّة - وأنّ موقف أبي بكر في عدم إجراء الحدّ على خالد، وقوله بالكلالة، وسهم ذي القربى، ونحلة الزهراء، ومنعه كتابة العلم، وحرقه للأحاديث، وتخلُّفه عن سَرِيّة أُسامة وغيرها... كلّ ذلك ممّا ينبئ عن هذا المعنى.

وعلى هذا فعلى الباحث أن يقف عند النصوص التي ترجّح رأي الخليفة: فإن كان فيها ما يوافق القرآن أو قد استُقي حكمه من السنّة، أُخِذ به، وإن كان القول قد ابتنى على الرأي فيطرحه، لعدم جواز الأخذ بالرأي، مع إمكان الوقوف على الحكم من السنّة النبويّة والذكر الحكيم.

وهناك أُمور كثيرة ينبغي البحث في أطرافها، منها ما نسبوه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله من أنّه قد منع من تدوين حديثه، أو ما حُكي عنه صلّى الله عليه وآله من أنّ للمجتهد إن أخطأ أجرٌ وإن

____________________

(١) المناهج الأصوليّة: ١٧١.

٢٤٤

أصاب أجران، وغيرها من الروايات التي نُقلت في مشروعيّة الاجتهاد عن معاذ وغيره.

إنّ الغالب في هذه الأمور هو تحكيم رأي الحاكم كما عرفنا من قبل، والمنع عن التدوين - بعد ما عرفت دور الشيخين فيه - يوضّح أنّ القرار قرار حكوميّ وذلك لمعرفتنا بإذن الرسول في تدوين حديثه صلّى الله عليه وآله، ووجود مدَوّنات عند الصحابة عن النبيّ، وغيرها من الأدلّة، فلا ضرورة لدراسة أحاديث المنع المُدّعى صدورها عن النبي صلّى الله عليه وآله - بعد هذا - والجدّ في الجمع بينها، وبين الأحاديث الحاثّة على التحديث والكتابة والتدوين.

بين الوحدويّة والتعدّديّة

والموقف من أحاديث (الاجتهاد) ينبغي أن يكون مماثلاً بعد أن وضحت جهود الخلفاء في التهيئة لقضيّة الاجتهاد وفي إشاعتها والتأكيد عليها، من أجل إضفاء الشرعيّة على كونهم مجتهدين لا يصحّ الاعتراض على ما يُصدرونه من فتاوى وأحكام. إنّ ذلك يتطلّب وقفة عند تلك الأحاديث التي تروى في هذا السياق للتثبُّت من صدورها عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وعدمه.

أتراها تصحّ جميع التأويلات المطروحة في الفقه؟

أحقّاً أنّ (اختلاف أُمّتي رحمة)(١) بالمعنى الذي أُريد لهذا الحديث أن يُفسّر به؟

ولو صحّ ذلك فكيف نفسّر قوله‏ صلّى الله عليه وآله: (لا تختلفوا فإنّ مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)(٢) ، وقوله ‏صلّى الله عليه وآله: (ستفترق أُمّتي إلى نيف وسبعين فرقة، فرقة ناجية والباقي في

____________________

(١) أحكام القرآن للجصاص ٢: ٣١٤، شرح النووي على صحيح مسلم ١١: ٩١، الجامع الصغير للسيوطي ١: ٤٨، ح ٢٨٨، قال العجلوني في كشف الخفاء ١: ٦٦، ح ١٥٣، زعم كثير من الأئمة انه لا اصل له.

(٢) صحيح البخاري ٢: ٣٤٩، باب ما يذكر في الاشخاص والملازمة والخصومة...، ح ٢٢٧٩، و ٣: ١٢٨٢، باب ام حسبت أن اصحاب الكهف، ح ٣٢٨٩ واللفظ له، مسند أحمد ١: ٤١١، ح ٣٩٠٧ و ٣٩٠٨، مسند ابن الجعد ١: ٨٣، ح ٤٦٤، مسند أبي يعلى ٩: ٢٣٤، ح ٥٣٤١.

٢٤٥

النار)؟(١) ولماذا نرى الاختلاف في الأحكام بين المسلمين إلى هذا الحدّ وكتابُهم واحد ونبيّهم واحد؟

فهذا يسدل يديه والآخر يقبضهما، والثاني يُفْرِج بين رجلَيه في الصلاة والآخر يجمع بينهما. وثالث يجعل يديه ما فوق السرّة، وغيره يجعلهما تحت السرّة، وهذا يجهر بالبسملة والآخر لا ينطق بها مجهورة. وهذا يقول بالتأمين وذلك لا يقول به. والعجيب أنّهم جميعاً ينسبون أفعالهم - على ما فيها من تضارب ظاهر - إلى رسول الله! أفيكون رسول الله صلّى الله عليه وآله قد قالها جميعاً وفعلها جميعاً وصحّ عنه ذلك، كما يقولون؟! أم أنّ فعله كان واحداً في كلّ الحالات؟ وإذا كان ذلك كذلك... فمن أين جاء هذا الاختلاف الذي لا يمكن دفعه وإنكاره؟

أترانا مكلّفين في شريعة الله أن نقف على الرأي الواحد، أم أنّا قد أُمرنا بالاختلاف؟

وإذا بُرّرَ الاختلاف بما فسّروه ألا يلزم منه العكس وهو أنّ جميع الفرق ناجية وواحدة في النار؟!!

ولِمَ ظهرت رؤيتان في الشريعة، إحداهما تدعو إلى التعدّديّة في الرأي، والأخرى تنادي بالوحدويّة؟

فلو كانت التعدّديّة والاختلاف هي مطلوب الشارع، فلم يحصر النبيُّ الفِرقةَ الناجية من أُمّته بواحدة من الثلاث والسبعين، ويقول عن الباقي: إنّها في النار؟! وإذا كانت الوحدويّة هي مطلوب الشارع فِلَم تُصحّح التعدّديّة وتُلتزم؟!

وهل يصحّ ما قيل في اختلاف الأمّة باعتباره رحمة؟ فما معنى تأكيد الله سبحانه إذَن على وحدة الكلمة؟ وهل أمرنا الله بالوحدة أم بالفرقة؟ ولو كانت الفرقة مطلوب الشارع

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١٠: ١٥٦، باب ما جاء في الحرورية، مسند احمد ٣: ١٤٥، ح ١٢٥٠١، سنن الدارمي ٢: ٣١٤، باب افتراق الأمّة، ح ٢٥١٨، سنن أبي داود ٤: ١٩٨، ح ٤٥٩٧، سنن ابن ماجة ٢: ١٣٢٢، ح ٣٩٩٣.

٢٤٦

فما يعني قوله تعالى:( ولَو كانَ مِن عِنْدِ غَيرِ اللهِ لَوجَدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً ) (١) ؟!

وكذا قوله:( إنّ هذا صِراطي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعوا السبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكُمْ وَصّاكُمْ بهِ لَعّلكُمْ تَتَّقُونَ ) (٢) .

لتوضيح كلّ ذلك ننقل الحوار الذي دار بين عمر بن الخطّاب وابن عبّاس:

أخرج المتّقي الهنديّ، عن إبراهيم التيميّ أنّه قال:

خلا عمر بن الخطّاب ذات يوم فجعل يحدّث نفسه، فأرسل إلى ابن عبّاس فقال: كيف تختلف هذه الأمّة، وكتابها واحد، ونبيّها واحد، وقِبلتها واحدة؟!

قال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين! إنّا أُنزِل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيما نزل، وأ نّه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن لا يعرفون فيم نزل، فيكون لكلّ قوم فيه رأي، فإذا كان لكلّ قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا، فَزَبره عمر وانتهره، وانصرف ابن عبّاس. ثمّ دعاه بعدُ، فعرف الذي قال، ثمّ قال: إيهاً أَعِدْ(٣) .

هذا الحديث ونظائره ممّا يشكّل قاعدة لتمحيص كثير من النصوص والأفكار الموروثة، خاصّة فيما يتّصل بأحاديث الخلاف بين المسلمين، الأمر الذي يفتح الطريق أمام الباحث الموضوعيّ لدراسة ملابسات هذه الأحاديث، ويجعله يتأثّم من التسليم بها على علاّتها دونما احتياط وتحرّج في الدين؛ لأنّ دراسة ملابسات التشريع وما يتعلّق بزمن صدور النصّ ومعرفة خلفيّات المسائل وكيفيّة تبنّي الخلفاء لها، تجعلنا أكثر تمييزاً للصحيح من غيره، وأقوى كشفاً عن حقائق تاريخيّة يُفيد منها المسلم في بناء مواقفه الشرعيّة في الموضوع، وهذه الخطوة تجعلنا من الذين تعبّدوا بقول سيّد المرسلين(رحم الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلّغها مَن لم يسمعها) .

وهناك رأي آخر تتبنّاه مدرسة الاجتهاد، وهو ما نقل عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: ما أُحبّ أنّ أصحاب رسول الله لا يختلفون؛ لأنّه لو كان قولاً واحداً لكان الناس

____________________

(١) النساء: ٨٢.

(٢) الأنعام: ١٥٣.

(٣) كنز العمّال ٢: ٣٣٣، ح ٤١٦٧.

٢٤٧

في ضيق(١) . وقريب منه ما ورد عن القاسم بن محمّد. وهذا رأي كما تراه يميل إلى الدعة والراحة، ولو على حساب التهاون بدين الله، وإلاّ فإنّ من البديهيّ أنّ الله لم يُرد التناقض والتضادّ، ولو صحّ ما علّل به ابن عبد العزيز، لكان بإمكان الباري سبحانه وتعالى أن يجعل الأحكام كلّها على نحو التخيير، أو لقال: خذ ما سهل من الأحكام ودع العسير.

وهل يسمّى الالتزام بقول الله الواحد ضيقاً؟

فيجب إذن البحث عن الحكم الواحد في الفقه، وكما قال الشاطبيّ: (إنّ الشريعة يلزم أن ترجع إلى قولٍ واحد في فروعها، مهما كَثُر الخلاف. كما أنّها في أُصولها كذلك ترجع إلى قول واحد، بمعنى أنّه لا يوجد فيها ما يُفهم منه قولان متناقضان، وإنّما أدلّتها سالمة من التعارض في ذاتها، رغم وجود التعارض)(٢) .

وإذا دقّقنا الروايات التي ترشد إلى عرض السُّنَّة على الكتاب، وضرورة متابعة ضوابط خاصّة لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه، والنصوص الواردة في وجوب التثبّت من صدق الجائي بالخبر ووثاقته و و... كلّ هذه الروايات والموازين المتّفق عليها بين المسلمين، تؤيّد الرؤيا القائلة بوحدة الحكم الشرعيّ والفقه الإسلاميّ، وتردّ الرأي الذاهب إلى الاجتهاد بالرأي. والتعدّد والاختلاف(٣) . فرأي ابن عبد العزيز ما هو إلاّ خطوة في تأصيل الرأي وخلق المعاذير للحكّام المجتهدين بالرأي.

وكذا لا مناص من القول بضرورة دراسة النصوص الصادرة في الصدر الأوّل الإسلاميّ، وأن لا نسكت عن دراستها بحجّة أنّ عائشة (أُمّ المؤمنين) قالت بهذا الرأي مثلاً، أو أنّ عمر (خليفة المسلمين) ذهب إلى ذلك الرأي، أو أنّ هذا الحديث رواه أبو

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ١٤٢ - ١٤٣.

(٢) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ١٤١ عن الموافقات للشاطبيّ.

(٣) إذ قال ابن عبد البرّ وبعد نقله حديث عرض السنّة على القرآن: (إنَّ هذه الألفاظ لا تصحّ عنه صلّى الله عليه وآله عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه...) جامع بيان العلم وفضله ٢: ١٩١، وانظر عارضة الأحوذيّ ١٠: ١٣٢، وقال في مكان آخر: إنَّ هذا الحديث وضعه الزنادقة والخوارج، وفي حجّيّة السنّة: ٤٧٤ بحث في تضعيف أحاديث العرض يمكنك مراجعته.

٢٤٨

هريرة واتّفق الشيخان على صحّته! أو...

إنّ غيرة المسلم على دينه، وحرصه على أن يكون أخذُه هذا الدينَ أخذاً سليماً قويّاً لا وهن فيه ولا شبهة معه -( خُذُوا مَا آتَيْناكُم بِقُوَّة ) (١) - و إنّ خصال التقوى والصدق والإنصاف والاستمساك بالحقائق الواقعيّة... كلّ ذلك يدفع المسلم لأن لا يتساهل في البحث عن المصادر النقيّة التي يأخذ منها معرفته، ويقوده لأن لا يأخذ بعض القضايا الموروثة على أنّها مسلّمات نهائيّة لا تقبل الحوار والنقاش. بل لابدّ أن يكون ميزانه في ذلك - بعد السنّة النبوية الأصيلة - كتاب الله عزّ وجلّ الذي هو الفرقان بين الحقّ والباطل، وبين الأصيل والدخيل، وهو المائز بين ما هو معنىً دينيّ إلهيّ خالص، وبين ما هو غير دينيّ أُقْحِم في ظروف تاريخيّة في الدين.

وهذا - كما ترى - يتطلّب منّا شيئاً من الشجاعة الدينيّة والجرأة الوحدويّة، التي لا تنشد غير المعاني الأصيلة الصافية صفاء الحقّ، المستقيمة استقامة نأْيَها عن سخط الله وعذابه.

والذي يجب الإشارة إليه هنا هو إضفاء بعض الناس هالة من القدسيّة على السلف، ولزوم ترك مناقشة أقوالهم وأفعالهم؛ لأنّهم رجال ذهبوا، لهم مالهم وعليهم ما عليهم، فلا يصحّ لنا الدخول فيما كانوا فيه!!

نعم، يصحّ هذا الكلام لو اعتبرناهم رجال عاديّين ليس لهم دور في الشريعة، لكنّ حقيقة الحال غير هذا؛ لأنّ غالب قضايانا الشرعيّة أُخذت عنهم ولهم دور فعال في الشريعة، فلا محالة من الوقوف على نصوصهم، وسيرتهم وسلوكهم؛ لأنّه ممّا يرتبط بحياتنا العلميّة والعمليّة الشرعيّة.

مع تأكيدنا في لزوم ابتناء الدراسات على الأصول الثابتة العلميّة: كالقرآن، والسنّة، والإجماع المحصّل، والعقل في إطار نتائجه المقطوعة.

ومن هنا نرى في النصوص الواردة عن أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه وآله تأكيدهم على اتّخاذ

____________________

(١) البقرة: ٦٣.

٢٤٩

كتاب الله ميزاناً يُرَدّ إليه ما اختُلِف فيه، ودعوتهم المسلمين لأن يتحرّروا من عقدة الخوف من إخضاع كلّ شي للقرآن العظيم على أنّه الحاكم المهيمن الناطق بكلمة الفصل والحقّ... الذي ينبغي طرح كلّ ما يخالفه ولا ينسجم معه. فإنّ أحاديث أهل البيت، التي قالوها لتعليم المسلمين وإمدادهم بالوعي الدينيّ المتبصّر، صريحة في أنّ ما خالف كتابَ الله فهو زُخرف مكذوب.

ودعوتنا هذه التي نريد أن نخلُص إليها، لا تتصادم مع ما قيل عن الشيخين - مثلاً - من عزوفهما عن كثير من الملذّات، وفيما أسْدَوه من خدمات لتوسيع رقعة الدولة وانتشار صيتها في الآفاق؛ فهذا أمر محفوظ... بَيْد أنّ ما ينبغي التفطّن له هو أنّ التقشّف والفتوحات وحمل هموم الحرب والسلم شيء، وقضايا الشريعة الإلهيّة في خصائصها ونقاوة مصادرها شيء آخر مختلف، كما هو بيّن لمن يميّز الأمور ويملك ذهنيّة دقيقة لا تخلط الفرع بالأصل، ولا تُدخل ملابسات الظروف الاجتماعيّة التاريخيّة في صُلب مضامين الدين.

إنّ المنع من تناقل حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، مع إصرار الصحابة على ضرورة التدوين، كما مرّ في خبر عروة بن الزبير(١) ، ثمّ مخالفة الخليفة لرأيهم، مع ملاحظة كونه قد رسم أُصول الشورى في الخلافة من بعده... لأمر عظيم، ينبئ عن كون التدوين أمراً ثقافيّاً حضاريّاً يرتبط بالسياسة لا يمكن للخليفة تجاهله، وعليه فإنّ قضيّة منع تدوين السنّة الشريفة لم تكن قضيّة ثقافيّة خالصة، كما علّلها الخليفة بأنّها وليدة الخوف من اختلاط السنّة بالقرآن، والخوف من تأثّر المسلمين بالأمم السابقة.

فالمسألة هنا ترتبط بالعلم، كما اتّضحت خلال شواهد عديدة على ذلك، وأنّ الخليفة لم يكن يملك الرؤية العامّة للأحكام ولم يكن على إحاطة تامّة ببيانات رسول الله صلّى الله عليه وآله.

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٣: ٢٨٧، تقييد العلم: ٥٠، جامع بيان العلم وفضله ١: ٦٤، كنز العمّال ١٠: ٢٩٣، ح ٢٩٤٨٠.

٢٥٠

وأمّا ما قيل عن مقدرتهم في الجوانب الأخرى، فالأمر يتعلّق بالمقدرة العسكريّة والحنكة السياسيّة فقط.

والمعروف - عند أهل الخبرة - أنّ مَن له الحنكة السياسيّة يمكنه أن يوظّف كرسيّ العلم و يحتويه من خلال بعض القنوات الملتوية، بعكس الأوّل.

إنّ هذا يفرِض علينا قراءة جديدة للنصوص الصادرة عن الشيخين أو عن غيرهما. ممّن يسير على خطاهما. وهذه القراءة ينبغي أن تنطلق من دوافع دينيّة صرفة، تطلب الوصول إلى الحقّ... من خلال دراسة موضوعيّة متأنيّة لا تتعجّل الأمور ولا تبتر النتائج. وإنّ إحاطة ما صدر منهما من أقوال وأفعال بهالة من التقديس القَبْليّ، بحيث يهاب المسلم مناقشة هذه الأقوال والأفعال... غير بعيد أن يجعل هذه الحالة نوعاً من الإرهاب الفكريّ الذميم الذي يصادر أيّ احتمال للحوار، أو المناقشة فضلاً عن الاعتراض... ممّا يُراد له جعل الشيخين في مصافّ الأنبياء، أو فوق مصافّ الأنبياء، وهذا ما لا يرتضيه ذو عقل ودين؛ خاصّة ونحن نعلم كما تُجلي وقائع التاريخ أنّ الصحابة رجال متفاوتون علماً و إيماناً وقَدْراً. وكثيراً ما لاحظنا أنّهم كانوا يخطّئُ بعضُهم بعضاً، و ينقد بعضهم مواقف بعض... ولا حرج في ذلك ولا ضير.

إنّ كلّ مَن له دراية بالأخبار والأحاديث وتاريخ صدر الإسلام يعلم بوضوح: أنّ الخليفة أبا بكر والخليفة عمر بن الخطّاب لم يكونا معصومين... بل استبان من خلال النصوص أنّ جُلّ اجتهاداتهم كانت قائمة على الرأي المحض، ولم تكُنْ مُستقاةً أو مُشتقّة من القرآن الكريم أو من السنّة التي لم يعرفاها.

وقفة عند رأي ابن قيّم الجوزيّة:

وعلى هذا فإنّ الفتاوى الصادرة عن أبي بكر وعمر لا تنحصر بما قاله ابن قيّم الجوزيّة، من أنّها لا تخرج عن ستّة أوجه:

(أحدها: أن يكون سَمِعها من النبيّ صلّى الله عليه وآله.

الثاني: أن يكون سمعها ممّن سمعها منه صلّى الله عليه وآله.

٢٥١

الثالث: أن يكون فَهِمَها من آيةٍ من كتاب الله فهماً خَفِيَ علينا.

الرابع: أن يكون قد اتّفق عليها ملؤهم(١) ، ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي بها وحده.

الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة، ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد به عنّا، أو لقرائن حاليّة اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أُمور فهموها على طول الزمان من رؤية النبيّ صلّى الله عليه وآله ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته، وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي، ومشاهدة تأويله الفعل، فيكون فَهِم ما لا نفهمه نحن. وعلى التقادير الخمسة تكون فتواه حجّة يجب اتّباعها.

السادس: أن يكون فَهِمَ ما لم يُرِده الرسول وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجّة. ومعلوم قطعاً أنّ وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظنّ من وقوع احتمال واحد معيّن، هذا ممّا لا يشكّ فيه عاقل...)(٢) .

والواقع أنّ الأمر ليس على ما ظنّ ابن القيّم بل هو أبعد منه؛ لأنَّك قد وقفت على فتاواهم ومخالفة بعضها لصريح الكتاب والسنّة، مع علم صاحبها بقيام النصّ في غيره ووضوح ظهوره فيه، ولولا الحمل على الصحّة والتماس العذر لمَن سلف، لكانت أقرب إلى التحدِّي منها إلى الاجتهاد!

وبعضها الآخر - أي من اجتهادات الشيخين - صريح المخالفة للنصوص أيضاً، لكنّها تختلف عن سابقتها، بأنّها صدرت لعدم علم صاحبها بتلكم النصوص الصادرة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وعودته إليها بعد تنبّهه، ومثل هذا القسم - عادةً - أهون مؤونةً وأقلّ مؤاخذة.

فالاجتهاد لو كان جارياً على وفق ما تقرّر لدى الأعلام من القواعد، للزم أن يكون صاحبه قد أكمل عدّته وانتهى من الفحص عن الدليل الأوّلي، وعاد يائساً من العثور عليه، فأفتى أو حَكَم بعد اليأس.

____________________

(١) أي جميعهم.

(٢) إعلام الموقعين ٤: ١٤٨.

٢٥٢

غير أنّ هذه الفتاوى والمواقف والأحكام لم تكن جارية - في نهج الخليفة وكثير من السلف الأوّل - على هذا النمط من الاستنباط الدقيق المأمون، بسبب التسرّع في الإفتاء والحكم قبل بذل الجهد للفحص الكافي، أو بسبب التقصير في استيعاب ما ينبغي استيعابه في الموضوع بإهمالهم سؤال العالمين بالقرآن والتشريع ممّن كانوا بين ظهرانيهم، فإذا شَجَر ما يوجب الفحص والسؤال، ولم يبادروا إلى الرجوع إلى هؤلاء العالمِين... فإنّ هذا يعني، ولا ريب المؤاخذة والتقصير؛ لقيام الحجّة عليهم بهؤلاء العالمِين كما قال ابن حزم في النصّ الذي أوردناه مِن قبل.

وعلى هذا ففتاوى الأصحاب الصادرة عنهم لا تنحصر فيما حصره ابن القيّم من الصور الستّ، بل هناك احتمالات أُخرى ينبغي أن تضاف إلى احتمالات ابن القيّم، وهي:

الأوّل: أن يكون إفتاؤهما مخالفاً لكلام رسول الله، وقد ذكّرهما الصحابة بهذا فرجعا عمّا أفتيا به، فمن الطبيعيّ أن لا نرى - غالباً - امتداداً لرأي الخليفة في مثل هذه المسائل قِبال سنّة رسول الله في العصور اللاحقة؛ لرجوع الخليفة عمّا كان قد ذهب إليه وتنصَّل عنه.

الثاني: أن يتخالف إفتاؤهما مع حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله أو الآية القرآنيّة، والصحابة ذكّروهما بذلك لكنّهما لم يتراجعا عمّا أفتيا به، ومن هنا نرى وجود أحكام كهذه في الفقه الإسلاميّ، مع ترجيح الفقهاء لرأي الخليفة، والقول بأنّ آراء أُولئك الصحابة كان اجتهاداً منهم لا يمكن نقضه؛ لحجّيّة اجتهادات الصحابة في الصدر الإسلاميّ الأوّل!

الثالث: أن يفتي الخليفة في مسألة بما هو مخالف لسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله والذِّكر الحكيم، مع عدم حضور الصحابة في تلك الواقعة ليوقفوه على ما سمعوه من رسول الله، أو ما جاء به الوحي في تلك المسألة، فترى امتداد خطّ الخليفة أقوى ممّا عند الصحابة من مرويّات في هذه المسائل!

الرابع: أن يفتي الخليفة بما يخالف الآية القرآنيّة وحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولكنّ

٢٥٣

الصحابة لم يذكّروه خوفاً من درّته أو مهابةً له، أو لاكتساح هذا الرأي عموم المسلمين وتبنّي أغلبهم له، فنهج الخليفة في مثل هذا القسم هو أقوى ممّا سبقه؛ لعمل المسلمين به وقد يحدُث أن نقف بين الحين والآخر على نصوص من الصحابة، أو التابعين، تخالف رأي الخليفة، لكنّها أضعف ممّا سبقها!

الخامس: أن يكون ما أفتى به اجتهاداً منه، صدر عن مصلحة ارتضاها بمفرده، أو للرأي العامّ! لأنّه فيما يقول أعرف بها من سائر الصحابة. مع أنّه لم تكن تلك المصلحة بالمنزلة التي تَصوّرها الخليفة فيكون الحكم خاطئاً تبعاً للخطأ في تشخيص المصلحة، إلاّ أنّ أحداً لم ينتبه أو ينبّه على ذلك فسرى الحكم عامّاً شاملاً في كلّ العصور!

وهذه الاحتمالات التي نساها أو تناساها ابن القيم لها شواهد تاريخية كثيرة قد عرضنا لك بعضها فيما سبق.

حسبنا كتاب الله

فاتّضح إذن أنّ الاجتهاد قِبالَ النصّ قد مُورِسَ في عهد النبيّ صلّى الله عليه وآله - رغم نهيه عنه - والعصر الإسلاميّ الأوّل، وفي نفس الظرف أُطلِقَ القول بـ (حسبُنا كتاب الله) و (بيننا وبينكم كتاب الله)، مع وقوفنا على نهي رسول الله عنه!!

لكنّ بين الصحابة مَن كان لا يرتضي تلك النبرة الغريبة الُمحْدَثة، منهم: عليّ بن أبي طالب، الذي أوصى ابن عبّاس عندما أراد حِجاج الخوارج بقوله:(لا تُخاصِمْهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجِجْهم بالسنّة؛ فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً) (١) .

أوصاه بهذا لأنّ المعروف عن الخوارج تمسّكهم الأعمى بظواهر نصوص الكتاب، وقد جرّ أُسلوبهم هذا الويلاتِ على المسلمين، فكان من العقل والتدبير أن

____________________

(١) نهج البلاغة ٣: ١٣٦، الخطبة ٧٧، من وصية له‏ عليه السلام لعبد الله بن عباس، شرح النهج ١٨: ٧١، مفتاح الجنّة ١: ٥٩.

٢٥٤

يحتجّ عليهم بسيرة النبيّ وأفعاله التي لا يختلف فيها اثنان دون ما يُختلف فيه؛ لئلاّ يقعوا في نفس مشكلة فهمهم الخاطئ للكتاب، فاحتجّ عليهم بعمل النبيّ صلّى الله عليه وآله حينما أوعز بمحو وصفه بـ (رسول الله) في كتاب صلح الحديبيّة، فلم يبق مجال لاعتراض الخوارج على محو عليّ بن أبي طالب وصفَه بـ (أمير المؤمنين) في كتاب الصلح مع معاوية(١) ، وهذا الأسلوب هو الأنجح والأنسب في التعامل مع الخوارج.

نعم، إنّ القرآن والسنّة يكمل أحدهما الآخر، فلا يمكن الاكتفاء بالقرآن دون السنّة، وكذا العكس. وليس هناك أدنى تعارض بين هذين الأصلين، وإنَّ الذهاب إلى أحدهما دون الآخر ليس بصحيح.

قال ابن حزم في الإحكام: لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبيّ صلّى الله عليه وآله وما نُقل من أفعاله، فقال سبحانه مُخبراً عن رسوله:

( وما يَنْطقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحى ) (٢) وقوله تعالى:( لَقَدْ كانَ لَكْمْ فِي رَسُول اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) وقوله:( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غيرِ اللهِ لَوَجدُوا فيهِ اختلافاً كثيراً ) (٤) ، فأخبر عزّ وجلّ أنّ كلام نبيّه وحي من عنده، كالقرآن في أنّه وحي(٥) .

والخليفة أبو بكر لمّا قال - بعد وفاة رسول الله - كما في مرسلة ابن أبي مليكة المارّة الذكر: (بيننا وبينكم كتاب الله) أراد بقوله الاكتفاء بالقرآن، وقد سبقه إلى هذا الرأي عمر بن الخطّاب عند مرض الرسول عندما قال (حسبنا كتاب الله). وقد احتجّت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله على أبي بكر بالقرآن وحده في نزاعها معه في

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ١٠: ١٥٨، سنن النسائي ٥: ١٦٦، ح ٨٥٧٥، المعجم الكبير ١٠: ٢٥٧، ح ١٠٥٩٨، المستدرك على الصحيحين ٢: ١٦٤، ح ٢٦٥٦، قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، حلية الأولياء ١: ٣١٩، الأحاديث المختارة ١٠: ٤١٤.

(٢) النجم: ٣ - ٤.

(٣) الأحزاب: ٢١.

(٤) النساء: ٨٢.

(٥) الإحكام في أُصول الأحكام ٢: ١٧٠.

٢٥٥

فدك إلزاماً له بما ألزم به نفسه حين قال: (حسبنا كتاب الله) فاستدلّت على أحقّيّتها بعموم آيات الإرث والآيات الدالّة على أنّ الأنبياء يورِّثُون ويُورثون، فاستدلّ هو بقوله صلّى الله عليه وآله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، فاستدلّ بالسنّة المُدَّعاة بعد أن قال حسبنا كتاب الله، وهذا تهافت واضح.

فماذا كانوا يعنون بكلامهم هذا وهم أقرب المسلمين زمناً للتشريع؟

أكانوا يريدون ما أراده الخوارج لاحقاً من الاستعانة بالقرآن في فهم جميع الأمور والتشاغل به عن السنّة، أم كانوا يرجون غير ذلك؟

إنّ الدعوة إلى الأخذ بالقرآن ووضع السنّة جانباً، مع تصريح الرسول في حديث الأريكة بأنّ كلامه كلام الله، وهو المبيّن لأحكام الله، ثمّ إحلال اجتهاداتهم محل السنّة، ما هو إلاّ قرار سياسيّ اتُّخذ لتصحيح ما يذهب إليه الشيخان؛ إذ لا يخفى على أبي بكر وعمر أنّ الأحكام بأسرها لا يمكن استقاؤها من القرآن وحده، وقد جاء في كلام عمران بن الحصين - مجيباً مَن قال: تحدّث بالقرآن واترك السنّة:

أرأيتَ لو وكلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنتَ تجد فيه صلاة العصر أربعاً، وصلاة الظهر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والصبح تقرأ في اثنتين؟ وأكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟(١)

فلا يعقل إذن أن تخفى مثل هذه القضايا على أبي بكر وعمر، وإذا كانت غير خافية عليهما فَلِمَ يَدْعُوان إلى الاكتفاء بالقرآن، ويقولان بـ (حسبنا كتاب الله)؟!

بهذا يتأكّد لنا أنَّ المحظور من الروايات هو ما لا يعرفه الخليفة، وما يُسبّب له مشاكل محرجة. وأمّا الأحاديث المعروفة التي تناقلها المسلمون وعرفوها، والتي لا تخفى على الخليفة كما لا تخفى على غيره، فلا تخوُّف منها ولا نهي عن تناقلها إن لم تمسّ أصل مشروعية الخلافة.

إنّ في كلام أبي بكر: (والناس بعدهم أشدّ اختلافاً) ما يكشف عن أنّ المسلمين

____________________

(١) الكفاية في علم الرواية ١: ١٥.

٢٥٦

ستختلف اتّجاهاتهم فيما بعد؛ لأخذِ كلّ واحدٍ منهم برأي صحابيّ. ويعضد كلامَ أبي بكر ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: أنّ أُمّته مختلفة من بعده.

ولا ريب أنّ اختلاف نُقول هؤلاء الصحابة سيعارض اجتهادات الشيخين.

إنَّ تشريع سنّة الشيخين بإزاء سنّة رسول الله، أو الارتقاء بها إلى سنّة رسول الله، ثمّ تعبّد الخلفاء بها من بعدهم جاعلين منها منهاج حياة ودستور دولة... ما هو إلاّ تعبير عن المصلحة التي دعا إليها الخليفة، والمفتاح الذي يفتح به كلّ مشكل!

لأنّك قد عرفت أنّ الخليفة قد تخوّف من المحدِّثين، وحدّد نشاطهم - بالفعل - وأمرهم بالإقلال من الحديث. وقد حدّ من تحديثهم عن رسول الله، وعلّل حبسه لهم بقوله: (أكثرتُم الحديثَ عن رسول الله)، وقوله: (أفشيتم الحديث عن رسول الله).

فالإفشاء والإكثار كان يؤذي الخليفتين؛ لأنّه يؤدّي إلى تعارض ما نُقِل عنه صلّى الله عليه وآله مع نُقول الشيخين واجتهاداتهما، فكان عليهما - والحالة هذه - أن يَدْعُوا للأخذ بالقرآن أوّلاً، لا اعتقاداً منهما بكونه كافياً في معرفة الأحكام؛ فهما - حينما أرجعا الناس إلى القرآن - كانا يعلمان حقّ العلم أنّ القرآن محتاج إلى السنّة وأنّ رسول الله مكلّف بتبيين الأحكام للناس في قوله تعالى( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) ، لكنّ إبعادهما الناس عن السنّة المطهّرة والدعوة إلى الاكتفاء بالقرآن إنّما يمكّن لهما رسم البديل الذي هو اجتهاداتهما وأن يُصار إلى الاعتقاد بأنّهما أعلم من غيرهم: يؤخَذُ منهما ويردّ عليهما!

لذا نجد بين الصحابة مَن لا يرتضي العمل باجتهادات الشيخين؛ لأنّه عرف أنّ الكتاب والسنّة هما الأصلان الرئيسيّان في التشريع لا الاجتهاد بالرأي. ولو كان قد ورد في اجتهاد الشيخين نصّ خاصّ لسمعوه وتلقّوه، ولَمَا قالوا: أسنّة عمر نتّبع أم سنّة رسول الله؟!(٢) .

____________________

(١) النحل: ٤٤.

(٢) مسند أحمد ١: ٤٢٠، ح ٧٥٠٠، مثله، وانظر سنن الترمذي ٣: ١٨٥، ح ٨٢٤، شرح معاني الآثار ٢:

=

٢٥٧

أو قولهم: أراهم سيهلكون، أقول: قال رسول الله، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر(١) .

ومن الطريف ونحن ندرس الحوادث أن نرى في سجلّ أصحاب الرأي والاجتهاد - ذرّاً للرماد في العيون وخلطاً للحابل بالنابل - أسماءً لرجال أمثال ابن مسعود ومعاذ وابن عبّاس وغيرهم من أصحاب المدوّنات المتعبّدين، نُسبت إليهم نصوص من البعيد أن تكون ممّا وقع فعلاً في التاريخ، بعد غضّ النظر عن سندها، لِما عرفنا من ملابسات الأمور وحاجة أنصار الخليفة إلى مثلها. ولو درسنا هذه القضايا بروح علميّة لوقفنا فيها على كثير من المؤاخذات والاضطرابات.

هذا وقد أكّد ابن حزم وغيره من أعلام العامّة أنّ حديث معاذ في الاجتهاد موضوع.

فقال ابن حزم ضمن كلامه: وبرهانُ وضعِ هذا الخبر وبطلانه هو أنّ من الباطل الممتنع أن يقول رسول الله: فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه، وهو يسمع قول ربّه( واتّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكُم مِن ربّكُم ) (٢) ، وقوله:( اليوم أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٣) وقوله:( ومَن يَتَعدَّ حُدودَ اللهِ فقد ظَلَمَ نَفْسَه ) (٤) - مع الثابت عنه ‏صلّى الله عليه وآله من تحريم القول بالرأي في الدين(٥) .

إن دراسة مثل هذه القضايا في الشريعة ستحلّق بالباحث للنظر في أُمور الشريعة من أُفق أوسع وزاوية علميّة أجدر، مؤكّداً بأنَّ عليه لزوم التجرّد عمّا يحمله من عواطف وأحاسيس، وليكن حرّاً في تفكيره وعقله وأن يدرس النصوص مع ملابساتها كما هي، وأن لا تسيّره الأهواء والعواطف، ثمّ فلينظر أحقاً أنّ رسول الله قد

____________________

=

٢٣١، وفيه قول أم المؤمنين عائشة: فسنّة رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله أحق أن يؤخذ بها من سنّة عمر، الفروع ٣: ٢٢٤، شرح سنن ابن ماجة: ٢١٤، ح ٢٩٧٨.

(١) حجّة الوداع: ٣٥٣، ح ٣٩٢، سير أعلام النبلاء ١٥: ٢٤٣، تذكرة الحفّاظ ٣: ٨٣٧، الأحاديث المختارة ١٠: ٣٣١، ح ٣٥٧.

(٢) الزمر: ٥٥.

(٣) المائدة: ٣.

(٤) الطلاق: ١.

(٥) الإحكام في أصول الأحكام ٦: ٢٠٨، الباب (٣٥) في الاستحسان والاستنباط بالرأي.

٢٥٨

جوّز القول بالرأي وهو بين ظَهراني الأمّة، أم أنَّ المراد هو سماحه العمل طبق النصوص الصحيحة الموجودة عند الصحابيّ من الكتاب والسنّة، لا الاجتهاد وفق الظنّ والتخمين؟ وإلى غيرها من الأسئلة.

نظرات في الرأي

نُقل عن المستشرق (جولد تسيهر) أنّه ذهب إلى أنّ الرأي لم يكن على عهد النبيّ، بل هو ممّا طرأ لاحقاً على الشريعة. وقد نقل هذا الرأي عنه الدكتور محمّد يوسف موسى بقوله:

(نعم إنّ هذا المستشرق البحّاثة الحفيّ بالدراسات الإسلاميّة، يرى أنّه قد حصل العمل بالرأي في الجيل الأوّل من التاريخ الإسلاميّ. ولكنّ الرأي في هذه المرحلة كان غامضاً، عارياً عن التوجيه الإيجابيّ، وبعيداً عن المذهب والطريقة الخاصّة به، ثمّ اكتسب في العصر التالي تحديداً معيّناً، وبدأ يتحرّك في اتّجاه ثابت، وحينئذٍ أخذ هذه الصيغة المنطقيّة: القياس)(١) .

ثمّ تهجّم الدكتور موسى على (جولد تسيهر) وشكّ في قيمة رأيه ورأي زملائه المستشرقين، لبعدهم عن فهم روح الإسلام، مُعلّلاً بأنّ الروايات التي ذكرها ابن القيّم كافية للدلالة على ذلك. إلاّ أنّه عاد فقاربه بقوله:

حقّاً أنّ الرأي في هذه الفترة من فترات تاريخ الفقه الإسلاميّ ليس هو القياس الذي عُرف فيما بعد في عصر الفقهاء - أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة - ولكنّ الرأي الذي استعمله بعض الصحابة لا يبعد كثيراً عن هذا القياس إن لم يَكُنه، وإن كانوا لم يُؤْثَر عنهم في العلّة ومسالكها وسائر البحوث التي لابُدّ منها لاستعمال القياس شيء ممّا عرفناه في عصر أُولئك الفقهاء(٢) .

____________________

(١) محاضرات في تاريخ الفقه الإسلاميّ للدكتور محمّد يوسف موسى: ٢٤ كما في مقدّمة النصّ والاجتهاد: ٥٢ للسيّد محمّد تقي الحكيم.

(٢) المصدر نفسه.

٢٥٩

ومهما تكن قيمة شكّ الدكتور، فلا يهمّنا أن نعرفه بقدر ما يهمّنا أن نعرف موقف الشيخين من الرأي، وهل كانا حقّاً يذهبان إليه عند عدم علمهم بحكم الله ورسوله؟ أم كانا يَرَيان لآرائهما الحجّيّة حتّى مع وجود نصّ من القرآن وأثر عن رسول الله؟

أكّدت النصوص السابقة على أنّهم كانوا يقولون بالرأي حتى مع وجود النصّ؛ إذ لا يعقل أن يخفى قوله تعالى:( والّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُم ويَذَرُونَ أزواجاً يَتَرَبصْنَ بأنْفُسِهنّ أربعةَ أشْهُرِ وَعَشْراً ) (١) على أبي بكر في قضيّة خالد بن الوليد الذي دخل بزوجة مالك بن نويرة، وهي في العدّة!

وكيف يقول الخليفة أبو بكر لعمر: ما كنت أقتله؛ فإنّه تأوّل فأخطأ(٢) ، مع وقوفه على النصّ؟

ألم يكن هذا هو الاجتهاد قبال النصّ بعينه؟

وليتني أعرف هل خفيت الآية على الخليفة، أم أنّه رأى المصلحة فيما ذهب إليه؟

وهل المصلحة والقياس يُعمل بهما عند فقدان النصّ أم يَرِدان حتّى مع وجود النصّ؟

وإليك مجمل خبر خالد في رواية الطبريّ، قال: (فلمّا دخل (خالد) المسجد، قام إليه عمر فانتزع الأسهُم من رأسه فحطّمها، ثمّ قال: أرئاءً؟! قتلت أمرءاً مسلماً ثمّ نزوتَ على امرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك. ولا يكلّمه خالد بن الوليد ولا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتّى دخل على أبي بكر، فلمّا...)(٣) .

وروى الطبريّ: أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لقي في خلافته رجلاً له قضيّة نَظَرَ فيها عليّ بن أبي طالب، فسأله عمر: ماذا صنعت؟

فقال: قضى عليٌّ بكذا.

قال عمر: لو كنتُ أنا لقضيت بكذا!

____________________

(١) البقرة: ٢٣٤.

(٢) الإصابة ٥: ٧٥٥.

(٣) تاريخ الطبريّ ٢: ٢٧٣، ثقات ابن حبان ٢: ١٦٩، الإصابة ٢: ٢٥٥، سير أعلام النبلاء ١: ٣٧٨، شذرات الذهب ١: ١٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400


وإذا ضممنا إلى ذلك أنّ الأكثر ـ أيضاً ـ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينصّ على خلافة أحدٍ من بعده كما جاء في المواقف وشرحها « والإمام الحقّ بعد النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : أبوبكر ثبتت إمامته بالإجماع ، وإن توقّف فيه بعضهم ولم ينصّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم على أحدٍ خلافاً للبكرية ، فإنّهم زعموا النصّ على أبي بكر ، وللشيعة فإنّهم يزعمون النصّ على ‘لي كرّم الله وجهه ، إمّا نصّاً خفيّاً ، والحقّ عند الجمهور نفيهما »(١) .

وقال المناوي بشرحه : « فإن قلت : هذا الحديث يعارض ما عليه أهل الأصول من أنّه لم ينصّ على خلافة أحدٍ.

قلت : مرادهم : لم ينصّ نصّاً صريحاً ، وهذا كما يحتمل الخلافة يحتمل الاقتداء بهم في الرأي والمشورة والصلاة ونحو ذلك(٢) .

علمنا أنّ المستدلّين بهذا الحديث في جميع المجالات ـ ابتداءً بباب الإمامة والخلافة ، وانتهاءً بباب الاجتهاد والإجماع ـ هم « البكرية » وأتباعهم

إذن فالأكثر يعرضون عن مدلول هذا الحديث ومفاده وإنّ المستدلّين به قوم متعصّبون لأبي بكر وإمامته وهذا وجه آخر من وجوه وضعه واختلاقه

قال الحافظ ابن الجوزي : « قد تعصَّب قوم لا خلاق لهم يدّعون التمسّك بالسُنّة فوضعوا لأبي بكر فضائل »(٣) .

لكن من هم؟

هم « البكرية أنفسهم!!

__________________

(١) شرح المواقف ـ مباحث الإمامة.

(٢) فيض القدير ٢/٥٦.

(٣) الموضوعات ١/٣٠٣.


٤٠١


قال العلاّمة المعتزلي : « فلمّا رأت البكرية ما صنعت الشيعه(١) ، وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث ، نحو : ( لو كانت متّخذاً خليلاً ) فإنّهم وضعوه في مقابلة ( حديث الإخاء ). ونحو ( سدّ الأبواب ) فإنّه كان لعليعليه‌السلام ، فقلبته البكرية إلى أبي بكر. ونحو : ( إيتني بدواةٍ وبياض أكتب فيه لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه إثنان ) ثم قال : ( يأبي الله والمسلمون إلاّ أبابكر ) فإنّهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه : ( إبتوني بدواةٍ وبياض أكتب لكم ما لا تضلّون بعده أبداً. فاختلفوا عنده وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ) ونحو حديث : ( أنا راضٍ عنك ، فهل أنت عنّي راض؟ ) ونحو ذلك »(٢) .

وبعد ، فما مدلول هذا الحديث ونحن نتكلّم هنا عن هذه الجهة وبغضّ النظر عن السند؟

يقول المناوي : « أمره بمطاوعتهما يتضمّن الثناء عليهما ، ليكونا أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه ».

لكنّ أوّل شيء يعترض عليه به تخلّف أمير المؤمنينعليه‌السلام ومن تبعه عن البيعة مع أمرهما به ، ولذا قال :

« فإن قلت : حيث أمر باتّباعهما فكيف تخلّف علي رضي الله عنه عن البيعة؟

قلت : كان لعذر ثم بايع ، وقد ثبت عنه الانقياد لأوامرهما ونواهيهما »(٣) .

أقول : لقد وقع القوم ـ بعد إنكار النصّ وحصر دليل الخلافة في الإجماع ـ في مأزق كبير وإشكال شديد ، وذلك لأنّهم قرّروا في علم الاصول أنّه إذا خالف

__________________

(١) الذي صنعته الشيعة أنّها استدلّت بالأحاديث التي رواها أهل السنّة في فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام باعتبار أنّها نصوص جليّة أو خفيّة على امامته كما ذكر صاحب « شرح المواقف » وغيره.

(٢) شرح نهج البلاغة ١١/٤٩.

(٣) فيض القدير ٢/٥٦.


٤٠٢


واحد من الاُمّة أو اثنان لم ينعقد الإجماع.

قال الغزّالي : « إذا خالف واحد من الاُمّة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه ، فلو مات لم تصر المسألة إجماعاً ، خلافاً لبعضهم. ودليلنا : أنّ المحرّم مخالفة الاُمّة كافّة »(١) .

وفي مسلّم الثبوت وشرحه : « قيل : إجماع الأكثر مع ندرة المخالف بأنْ يكون واحداً أو أثنين إجماع والمختار أنّه ليس بإجماع لانتفاء الكلّ الذي هو مناط العصمة. ثم اختلفوا فقيل : ليس بحجّةٍ أصلاً كما أنّه ليس بإجماع ، وقيل : بل حجّة ظنّية غير الإجماع ، لأنّ الظاهر إصابة السواد الأعظم قيل : ربّما كان الحقّ مع الأقل وليس فيه بعد ».

فقال المكتفون بإجماع الأكثر : « صحّ خلافة أبي بكر مع خلاف علي وسعد ابن عبادة وسلمان ».

فأجيب : « ويدفع بأنّ الإجماع بعد رجوعهم إلى بيعته. هذا واضح في أمير المؤمنين علي ».

فلو سلّمنا ما ذكروه من بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فما الجواب عن تخلّف سعد بن عبادة »؟!

أمّا المناوي فلم يتعرّض لهذه المشكلة وتعرّض لها شارح مسلّم الثبوت فقال بعد ما تقدّم : « لكنّ رجوع سعد بن عبادة فيه خفاء ، فإنّه تخلّف ولم يبايع وخرج عن المدينة ، ولم ينصرف إلى أن مات بحوران من أرض الشام لسنتين ونصف مضتا من خلافة أمير المؤمنين عمر ، وقيل : مات سنة إحدى عشرة في خلافة أمير المؤمنين الصدّيق الأكبر. كذا في الاستيعاب وغيره. فالجواب الصحيح عن تخلّفه : أنّ تخلّفه لم يكن عن اجتهاد ، فإنّ أكثر الخزرج قالوا : منّا أمير ومنكم أمير ، لئلاّ تفوت رئاستهم ولم يبايع سعد لما كان له حبّ السيادة ، وإذا لم

__________________

(١) المستصفى ١/٢٠٣.


٤٠٣


تكن مخالفته عن الاجتهاد فلا يضرّ الإجماع

فإن قلت : فحينئذٍ قد مات هو رضي الله عنه شاقّ عصا المسلمين مفارق الجماعة وقد قال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وأصحابه وسلّم : لم يفارق الجماعة أحد ومات إلاّ مات ميتة الجاهلية. رواه البخاري. والصحابة لا سيّما مثل سعد برآء عن موت الجاهلية.

قلت : هب أنّ مخالفة الإجماع كذلك ، إلاّ أنّ سعداً شهد بدراً على ما في صحيح مسلم ، والبدريّون غير مؤاخذين بذنب ، مثلهم كمثل التائب وإن عظمت المصيبة ، لما أعطاهم الله تعالى من المنزلة الرفيعة برحمته الخاصة بهم. وأيضاً : هو عقبي ممّن بايع في العقبة ، وقد وعدهم رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وأصحابه وسلّم الجنّة والمغفرة. فإيّاك وسوء الظنّ بهذا الصنيع. فاحفظ الأدب »(١) .

ولو تنزّلنا عن قضية سعد بن عبادة ، فما الجواب عن تخلّف الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام ؟! وهي من الصحابة ، بل بضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فإذا كان الصحابة ـ لا سيّما مثل سعد ـ برآء عن موت الجاهلية ، فما ظنّك بالزهراء التي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني »(٢) وقال : « فاطمة بضعة منّي ، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها »(٣) . وقال : « فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة إلاّ مريم بنت عمران »(٤) هذه الأحاديث التي استدلّ بها الحافظ السهيلي وغيره من الحفّاظ على أنّها أفضل من الشيخين فضلاً عن غيرهما(٥) .

__________________

(١) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ٢/٢٢٣ ـ ٢٢٤.

(٢) فيض القدير ٤/٤٢١ عن البخاري في المناقب.

(٣) فيض القدير ٤/٤٢١.

(٤) فيض القدير ٤/٤٢١.

(٥) فيض القدير ٤/٤٢١.


٤٠٤


 ... فإنّ من ضروريّات التاريخ أنّ الزهراءعليها‌السلام فارقت الدنيا ولم تبايع أبابكر وأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يأمرها بالمبادرة إلى البيعة ، وهو يعلم أنّه « لم يفارق الجماعة أحد ومات إلاّ مات ميتة الجاهليّة »!!

أقول :

إذن لا يدلّ هذا الحديث علي شيء ممّا زعموه أو أرادوا له الاستدلال به فما هو واقع الحال؟

سنذكر له وجهاً على سبيل الاحتمال في نهاية المقال

ثمّ إنّ ممّا يبطل هذا الحديث من حيث الدلالة والمعنى وجوهاً اُخر.

ـ ١ ـ

إنّ أبابكر وعمر اختلفا في كثير من الأحكام ، والأفعال ، واتّباع المختلفين متعذّر غير ممكن فمثلاً : أقرّ أبوبكر جواز المتعة ومنعها عمر. وأنّ عمر منع أن يورّث أحداً من الأعاجم إلاّ واحداً ولد في العرب فبمن يكون الاقتداء؟!

ثم جاء عثمان فخالف الشيخين في كثير من أقواله وأفعاله وأحكامه وهو عندهم ثالث الخلفاء الراشدين

وكان في الصّحابة من خالف الشيخين أو الثلاثة كلّهم في الأحكام الشرعية والآداب الدينيّة وكلّ ذلك مذكور في مظانّه من الفقه والاُصول ولو كان واقع هذا الحديث كما يقتضيه لفظه لوجب الحكم بضلالة كلّ هؤلاء!!

ـ ٢ ـ

إنّ المعروف من الشيخين الجهل بكثير من المسائل الإسلاميّة ممّا يتعلّق


٤٠٥


بالاُصول والفروع ، وحتّى في معاني بعض الألفاظ العربية في القرآن الكريم فهل يأمر النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بالاقتداء المطلق لمن هذه حاله ويأمر بالرجوع إليه والانقياد له في أوامره نواهيه كلّها؟!

ـ ٣ ـ

إنّ هذا الحديث بهذا اللفظ يقتضي عصمة أبي بكر وعمر والمنع من جواز الخطأ عليهما ، وليس هذا بقول أحدٍ من المسلمين فيهما ، لأنّ إيجاب الاقتداء بمن ليس بمعصوم إيجاب لما لا يؤمن مِن كونه قبيحاً

ـ ٤ ـ

ولو كان هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا حتجّ به أبوبكر نفسه يوم السقيفة ولكن لم نجد في واحدٍ من كتب الحديث والتاريخ أنّه احتجّ به على القوم فلو كان لَنقل واشتهر ، كما نقل خبر السقيفة وما وقع فيها من النزاع والمغالبة

بل لم نجد احتجاجاً له به في وقتٍ من الأوقات.

ـ ٥ ـ

بل وجدناه في السقيفة يخاطب الحاضرين بقوله : « بايعوا أيَّ الرجلين شئتم » يعني : أبا عبيدة وعمر بن الخطّاب(١) .

__________________

(١) اُنظر : صحيح البخاري ـ باب فضل أبي بكر ، مسند أحمد ١/٥٦ ، تاريخ الطبري ٣/٢٠٩ ، السيرة الحلبية ٣/٣٨٦ ، وغيرها.


٤٠٦


ويلتفت إلى أبي عبيدة الجرّاح قائلاً : « اُمدد يدك اُبايعك »(١) .

ـ ٦ ـ

ثمّ لمّا بويع بالخلافة قال :

« أقيلوني ، أقيلوني ، فلست بخيركم »(٢) .

ـ ٧ ـ

ثمّ لمّا حضرته الوفاة قال :

« وددت أنّي سألت رسول الله لمن هذا الأمر ، فلا ينازعه أحد ، وددت أني كنت سألت : هل للأنصار في هذا الأمر نصيب »(٣) .

ـ ٨ ـ

وجاء عمر يقول :

« كانت بيعة أبي بكر فلتة ، وقى المسلمين شرّها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه »(٤) .

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣/١٢٨ ، مسند أحمد ١/٣٥ ، السيرة الحلبية ٣/٣٨٦.

(٢) الإمامة والسياسة ١/١٤ ، الصواعق المحرفة : ٣٠ ، الرياض النضرة ١/١٧٥ ، كنز العمّال ٣/١٣٢.

(٣) تاريخ الطبري ٣/٤٣١ ، العقد الفريد ٢/٢٥٤ ، الإمامة والسياسة ١/١٨ ، مروج الذهب ٢/٣٠٢.

(٤) صحيح البخاري ٥/٢٠٨ ، الصواعق المحرقة : ٥ ، تاريخ الخلفاء : ٦٧.


٤٠٧


وبعد :

فما هو متن الحديث؟ وما هو مدلوله؟

قد عرفتَ سقوط هذا الحديث معنىً على فرض صدوره

وعلى الفرض المذكور فلا بدّ من الالتزام بأحد أمرين : إمّا وقوع التحريف في لفظه ، وإمّا صدوره في قضيّة خاصّة

أمّا الأوّل فيشهد به : أنّه قد روي هذا الخبر بالنصب ، أي جاء بلفظ « أبابكر وعمر » بدلاً عن « أبي بكر وعمر » وجعل أبوبكر وعمر مناديين مأمورين بالاقتداء(١) .

فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر المسلمين عامةً بقوله « اقتدوا » ـ مع تخصيصٍ لأبي بكر وعمر بالخطاب ـ « باللذين من بعده » وهما « الكتاب والعترة » ، وهما ثقلاه اللذان طالما أمر بالاقتداء والتمسّك والاعتصام بهما(٢) .

وأمّا الثاني فهو ما قيل : من أن سبب هذا الخبر : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان سالكاً بعض الطرق ، وكان أبوبكر وعمر متأخّرين عنه ، جائيين على عقبه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض من سأله عن الطريق الذي سلكه في اتّباعه واللحوق به : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » وعني في سلوك الطريق دون غيره(٣) .

وعلى هذا فليس الحديث على إطلاقه ، بل كانت تحفّه قرائن تخصّه بمورده ، فأسقط الرّاوي القرائن عن عمدٍ أو سهو ، فبدا بظاهره أمراً مطلقاً بالاقتداء بالرجلين وكم لهذه القضية من نظير في الأخبار والأحاديث الفقهية والتفسيريّة

__________________

(١) تلخيص الشافي ٣/٣٥.

(٢) راجع حديث الثقلين بألفاظه وطرقه ودلالاته في الأجزاء الثلاثة الأولى من « خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار » بقلم علي الحسيني الميلاني.

(٣) تلخيص الشافي ٣/٣٨.


٤٠٨


والتاريخيّة ومن ذلك ما في ذيل « حديث الاقتداء » نفسه في بعض طرقه وهذا ما نتكلّم عليه بإيجاز ليظهر لك أنّ هذا الحديث ـ لو كان صادراً ـ ليس حديثاً واحداً ، بل أحاديث متعدّدة صدر كلّ منها في موردٍ خاصّ لا علاقة له بغيره

تكملة :

لقد جاء في بعض طرق هذا الحديث :

« اقتدوا باللذين

واهتدوا بهدي عمّار.

وتمسكوا بعهد ابن أُمّ عبد : أو : إذا حدّثكم ابن أُمّ عبدٍ فصدّقوه. أو : ما حدّثكم ابن مسعود فصدّقوه ».

فالحديث مشتمل على ثلاث فقرات ، الاُولى تخصّ الشيخين ، والثانية عمّار ابن ياسر ، والثالثة عبدالله بن مسعود.

أمّا الفقرة الاُولى فكانت موضوع بحثنا ، فلذا أشبعنا فيها الكلام سنداً ودلالة وظهر عدم جواز الاستدلال بها والأخذ بظاهر لفظها ، وأنّ من المحتمل قويّاً وقوع التحريف في لفظها أو لدى النقل لها بإسقاط القرائن الحافّة بها الموجب لخروج الكلام من التقييد إلى الإطلاق ، فإنّه نوع من أنواع التحريف ، بل من أقبحها وأشنعها كما هو معلوم لدى أهل العلم.

وأمّا الفقرتان الاُخريان فلا نتعرّض لهما إلاّ من ناحية المدلول والمفاد لئلا يطول بنا المقام وإن ذكرا في فضائل الرجلين ، وربّما استدلّ بهما بعضهم في مقابلة بعض فضائل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام فنقول :

قوله : « اهتدوا بهدي عمار » معناه : « سيروا بسيرته واسترشدوا بإرشاده ».

فكيف كانت سيرة عمار؟ وما كان إرشاده؟

وهل سار القوم بسيرته واسترشدوا بإرشاده؟!!


٤٠٩


هذه كتب السير والتواريخ بين يديك!!

وهذه نقاط من « سيرته » و « إرشاده » :

تخلّف عن بيعة أبي بكر(١) وقال لعبد الرحمن بن عوف ـ حينما قال للناس في قصة الشورى : أشيروا عليَّ ـ « إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّاً »(٢) .

وقال : بعد أن بويع عثمان ـ : « يا معشر قريش ، أمّا إذ صدفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم هاهنا مرّةً هاهنا مرّةً ، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله »(٣) وكان مع عليعليه‌السلام منذ اليوم الأول حتى استشهد معه بصفّين وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عمار تقتله الفئة الباغية »(٤) و« من عادى عمّاراً عاداه الله »(٥) .

ثم لماذا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاهتداء بهدي عمّار والسير على سيرته؟ لأنّه قال له من قبل : « يا عمّار ، إن رأيت علياً قد سلك وادياً وسلك الناس كلّهم وادياً غيره فاسلك مع علي ، فإنّه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى يا عمار : إنّ طاعة علي من طاعتي ، وطاعتي من طاعة الله عزّ وجلّ(٦) .

وقوله : « وتمسّكوا بعهد ابن أُمّ عبد » أو « إذا حدّثكم ابن أُمّ عبد فصدّقوه » ما معناه؟

إن كان « الحديث » فهل يصدّق في كلّ ما حدّث؟

هذا لا يقول به أحد وقد وجدناهم على خلافه فقد منعوه من

__________________

(١) المختصر في أخبار البشر ١/١٥٦ ، تتمّة المختصر ١/١٨٧.

(٢) تاريخ الطبري ٣/٢٩٧ ، الكامل ٣/٣٧ ، العقد الفريد ٢/١٨٢.

(٣) مروج الذهب ٢/٣٤٢.

(٤) المسند ٢/١٦٤ ، تاريخ الطبري ٤/٢ و ٤/٢٨ ، طبقات ابن سعد ٣/٢٥٣ ، الخصائص : ١٣٣ ، المستدرك ٣/٣٧٨ ، عمدة القاري ٢٤/١٩٩٢ ، كنز العمّال ١٦/١٤٣.

(٥) الاستيعاب ٣/١١٣٨ ، الإصابة ٢/٥٠٦ ، كنز العمال ١٣/٢٩٨ ، إنسان العيون ٢/٢٦٥.

(٦) تاريخ بغداد ١٣/١٨٦ ، كنز العمّال ١٢/٢١٢ ، فرائد السمطين ١/١٧٨ ، المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٥٧ و ١٢٤.


٤١٠


الحديث ، بل كذّبوه ، بل ضربوه فراجع ما رووه ونقلوه(١) .

وإنْ كان « العهد » فأيّ عهدٍ هذا؟

لابدّ أنْ يكون إشارةً إلى أمر خاصّ صدر في موردٍ خاصّ لم تنقله الرواة

لقد رووا في حقّ ابن مسعود حديثاً آخر ـ جعلوه من فضائله ـ بلفظ : « رضيت لكم ما رضي به ابن اُمّ عبد »(٢) ولكن ما هو؟

لابدّ أنْ يكون صادراً في موردٍ خاصّ بالنسبة إلى أمرٍ خاصّ لم ننقله الرواة

إنّه ـ فيما رواه الحاكم ـ كما يلي :

« قال النبيّ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم لعبد الله بن مسعود : إقرأ.

قال : اقرأ وعليك اُنزل؟!

قال : إنّي اُحبّ أن أسمع من غيري.

قال : فافتتح سورة النساء حتى بلغ :( فكيف إذا جئنا من كلّ امّةٍ بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ) فاستعبر رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، وكفّ عبدالله.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : تكلّم.

فحمد الله في أول كلامه وأثنى على الله وصلّى على النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وشهد شهادة الحقّ. وقال :

رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً ، ورضيت لكم ما رضي الله ورسوله.

فقال رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : رضيت لكم ما رضي لكم ابن أُمّ عبد.

__________________

(١) مسند الدارمي ١/٦١ ، طبقات ابن سعد ٢/٣٣٦ ، تذكرة الحفّاظ ١/٥ ـ ٨ ، المعارف : ١٩٤ ، الرياض النضرة ٢/١٦٣ ، تاريخ الخلفاء ١٥٨ ، اُسد الغابة ٣/٢٥٩.

(٢) هكذا رووه في كتب الحديث انُظر : فيض القدير ٤/٣٣.


٤١١


هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه »(١) .

فانظر كيف تلاعبوا بأقوال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصرّفوا في السُنّة الشريفة فضلّوا وأضلّوا ...!!

ونعود فنقول : إنّ السنّة الكريمة بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تحقيق وتمحيص ، لا سيّما في القضايا التي لها صلة وثيقة بأساس الدين الحنيف ، تبنى عليها أُصول العقائد ، وتتفرّع منها الأحكام الشرعيّة.

والله نسأل أن يوفقنا لتحقيق الحقّ وقبول ما هو به جدير ، إنّه سميع مجيب وهو على كلّ شيء قدير.

* * *

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣/٣١٩.


٤١٢


رسالة

في المتعتين


٤١٣



٤١٤


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين.

وبعد فإنّ البحث عن المتعتين قديم جدّاً ، وكتابات السلف والخلف عنهما من النواحي المختلفة كثيرة جدّاً أيضاً ، وهذه رسالة وجيزة كتبتها بمناسبة أحاديث رووها في أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي حرّم متعة النساء ، وعمدتها ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام منها أنّه قال لابن عبّاس ـ وقد بلغه يقول أنّه بالمتعة ، واللفظ لمسلم ـ : « إنّك رجلّ تائه ، نهانا رسول الله عن متعة النساء يوم خيبر ، وهي. أحاديث موضوعة مختلفة ، يعترف بذلك كلّ من ينظر في أسانيدها ومداليلها وينصف ، والله هو الموفّق.

تمهيد :

لا خلاف بين المسلمين في نزول القرآن المبين بالمتعتين

أمّا متعة الحجّ ، فقد قال عزّ وجلّ :

( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري


٤١٥


المسجد الحرام ) (١) .

وأمّا متعة النساء ، فقد قال عزّ وجلّ :( فما استمتعتم به منهنَّ فآتوهنّ أُجورهنّ فريضة ) (٢) .

وكان على ذلك عمل المسلمين

حتّى قال عمر بعد شطرٍ من خلافته :

« متعتان كانتا على عهد رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما ».

فوقع الخلاف

وحار التابعون له ، الجاعلون قوله أصلاً من الأُصول ، كيف يوجِّهونه وهو صريح في : قال الله وأقول ...؟!

متعة الحجّ :

ومتعة الحجّ : أن ينشئ الإنسان بالمتعة إحرامه في أشهر الحجّ من الميقات ، فيأتي مكّة ، ويطوف بالبيت ، ثمّ يسعى ، ثمّ يقصرّ ، ويحلّ من إحرامه ، حتّى ينشئ في نفس تلك السفرة إحراماً آخر للحجّ من مكّة ، والأفضل من المسجد الحرام ، ويخرج إلى عرفات ، ثمّ المشعر إلى آخر أعمال الحج

فيكون متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ.

وإنّما سمّي بهذا الاسم لما فيه من المتعة ، أي اللذّة بإجابة محظورات الإحرام ، في تلك المدّة المتخلّلة بين الإحرامين

وهذا ما حرّمه عمر وتبعه عليه عثمان ومعاوية وغيرهما

موقف علي وكبار الصحابة من تحريمها :

وكان في المقابل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الحافظ للشريعة المطهّرة

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٩٦.

(٢) سورة النساء ٤ : ٢٤.


٤١٦


والذابّ عن السُنّة المكرّمة.

أخرج أحمد ومسلم عن شقيق قال ـ واللفظ للأوّل ـ : « كان عثمان ينهى عن المتعة ، وكان عليّ يأمر بها ، فقال عثمان لعليّ : إنّك كذا وكذا. ثمّ قال(١) علي : لقد علمت أنّا تمتّعنا مع رسول الله عليه [ وآله ] وسلّم؟ فقال : أجل »(٢) .

وعن سعيد بن المسيّب ، قال : « اجتمع عليٌّ وعثمان بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة والعمرة. فقال له عليٌّ : ما تريد إلى أمرٍ فعله رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم تنهى عنه؟! فقال عثمان : دعنا عنك! فقال عليٌّ : إنّي لا أستطيع أن أدعك »(٣) .

وعن مروان بن الحكم ، قال : « شهدت عثمان وعليّاً ، وعثمان ينهى عن المتعة وأنْ يجمع بينهما. فلمّا رأى عليٌّ ذلك أهلّ بهما : لبيّك بعمرةٍ وحجّةٍ معاً ، قال : ما كنت لأدع سُنّة النبّي لقول أحد »(٤) .

وعلى ذلك كان أعلام الصحابة

*كابن عبّاس فقد أخرج أحمد أنّه قال : « تمتّع النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، فقال عروة بن الزبير : نهى أبوبكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عبّاس : ما يقول عُرَيّة(٥) !! قال : يقول : نهى أبوبكر وعمر عن المتعة.

فقال : ابن عبّاس : أراهم سيهلكون ، أقول : قال النبي ؛ ويقولون : نهى أبوبكر وعمر! »(٦) .

__________________

(١) لقد أبهم الرواة ما قاله خليفتهم عثمان لعليّعليه‌السلام ، كما أبهموا جواب الإمامعليه‌السلام على كلمات عثمان وفي بعض المصادر : « فقال عثمان لعلّي كلمة ».

(٢) مسند أحمد ١/٩٧.

(٣) مسند أحمد ١/١٣٦. ورواه البخاري ومسلم في باب التمتّع.

(٤) مسند أحمد ١/٩٥. ورواه البخاري أيضاً وجماعة.

(٥) تصغير « عروة » تحقيراً له.

(٦) مسند أحمد ١/٣٣٧.


٤١٧


*وسعد بن أبي وقّاص فقد أخرج الترمذي : « عن محمد بن عبدالله ابن الحارث بن نوفل أنّه سمع سعد بن أبي وقاص الضحّاك بن قيس ـ وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ ـ فقال الضحّاك بن قيس : لا يصنع ذلك إلاّ من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد : بئسما قلت يا ابن أخي. فقال الضحّاك : فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى ذلك. فقال سعد : قد صنعها رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم وصنعناها معه.

هذا حديث صحيح »(١) .

*وأبي موسى الأشعري فقد أخرج أحمد : « أنّه كان يفتى بالمتعة فقال له رجل : رويدك ببعض فُتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك! حتى لقيه أبو موسى بعدُ فسأله عن ذلك ، فقال عمر ، قد علمت أنّ النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قد فعله هو وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا بهنّ معرّسين في الأراك ، ثم يروحون بالحج تقطر رؤوسهم »(٢) .

*وجابر بن عبدالله ...فقد أخرج مسلم وغيره عن أبي نضرة ، قال : « كان ابن عبّاس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها. قال فذكرت ذلك لجابر ابن عبدالله. فقال : على يدي دار الحديث. تمتّعنا مع رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم فلمّا قام عمر(٣) قال : إنّ الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله ، فافصلوا حجّكم من عمرتكم ، وأبتوا(٤) نكاح هذه النساء فلنْ أوتى برجلٍ نكح امرأةً إلى أجلٍ إلاّ رجمته بالحجارة »(٥) .

__________________

(١) صحيح الترمذي ٤/٣٨.

(٢) مسند أحمد ١/٥٠.

(٣) أي بأمر الخلافة.

(٤) أي : اقطعوا ، اتركوا.

(٥) صحيح مسلم ، باب جواز التمتع.


٤١٨


*وعبدالله بن عمر فقد أخرج الترمذي : « أنّ عبدالله بن عمر سئل عن متعة الحجّ. فقال : هي حلال. فقال له السائل : إنّ أباك قد نهى عنها. فقال : أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله أمر أبي نتّبع أم أمر رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم؟‍ فقال الرجل : بل أمر رسول الله. قال : فقد صنعها رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم »(١) .

*وعمران بن حصين (٢) ـ وكان شديد الإنكار لذلك حتّى في مرض موته ـ فقد أخرج مسلم : « عن مطرف قال : بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفّي فيه فقال : إنّي محدّثك بأحاديث ، لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي. فإن عشت فاكتم علي(٣) وإنْ متّ فحدّث بها إنْ شئت. إنّه قد سُلّم عليَّ. واعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم قد جمع بين حجّ وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب الله ، ولم ينه عنها نبيّ الله. فقال رجل برأيه فيها ما شاء »(٤) .

قال النووي بشرح أخبار إنكاره : « وهذه الروايات كلّها متّفقة على أنّ مراد عمران أنّ التمتّع بالعمرة إلى الحجّ جائز ، وكذلك القِران ، وفيه التصريح بإنكاره على عمر بن الخطّاب منع التمتّع ».

دفاع ابن تيميّة ثمّ إقراره بالخطأ :

وذكر شيخ إسلامهم ابن تيميّة في الدفاع عن عمر وجوهاً ، كقوله : « إنّما

__________________

(١) صحيح الترمذي ٤/٣٨.

(٢) ذكر كلّ من ابن عبدالبرّ في الاستيعاب وابن حجر في الإصابة أنّه كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم ، بل نصّ ابن القيّم في زاد المعاد على كونه أعظم من عثمان ، وذكروا أنّه كان يرى الملائكة وتسلّم عليه وهو ما أشار إليه في الحديث بقوله : « قد سُلِّم عليَّ » توفّي سنة ٥٢ بالبصرة.

(٣) لاحظ إلى أين بلغت التقيّة!!

(٤) صحيح مسلم باب جواز التمتّع. وفي الباب من صحيح البخاري وسنن ابن ماجة ، وهو عند


٤١٩


كان مراد عمر أن يأمر بما هو أفضل » واستشهد له بما رواه عن ابنه من أنّه « كان عبدالله بن عمر يأمر بالمتعة ، فيقولون له : إنّ أباك نهى عنها. فيقول : إنّ أبي لم يرد ما تقولون » وحاصل كلامه ما صرّح به في آخره حيث قال : « فكان نهيه عن المتعة على وجه الاختيار ، لا على وجه التحريم ، وهو لم يقل : « أنا أُحرّمهما ».

قلت : أمّا أنّ مراده كان الأمر بما هو أفضل ، فتأويل باطل ، وأمّا ما حكاه عن ابن عمر فتحريف لِما ثبت عنه في الكتب المعتبرة ، وقال ابن كثير : « كان ابنه عبدالله يخالفه فيقال له : إنّ أباك كان ينهى عنها! فيقول : خشيت أنْ يقع عليكم حجارة من السماء! قد فعل رسول الله ، أفسُنّة رسول الله نتّبع أم سُنّة عمر بن الخطّاب؟! »(١) .

والعمدة إنكاره قول عمر : « وأنا اُحرمّهما ». وسنذكر جمعاً ممّن رواه!

هذا ، وكأنّ ابن تيميّة يعلم بأن لا فائدة فيما تكلّفه في توجيه تحريم عمر والدفاع عنه ، فاضطرّ إلى أن يقول :

« أهل السُنّة متّفقون على أنّ كلّ واحدٍ من الناس يؤخذ بقوله ويترك إلاّ رسول الله ، وإنّ عمر أخطأ ، فهم لا ينزّهون عن الإقرار على الخطأ إلاّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم »(٢) .

لكنّه ليس « خطأ » من عمر ، بل هو « إحداث » كما جاء في الحديث المتقدّم عن أبي موسى الأشعري وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ رجال منكم ثم ليختلجنَّ دوني ، فأقول : يا ربّ أصحابي! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! »(٣) .

__________________

أحمد في المسند ٤/٤٣٤.

(١) تاريخ ابن كثير ٥/١٤١.

(٢) منهاج السنّة ٢/١٥٤.

(٣) أخرجه البخاري وغيره في باب الحوض.


٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586