منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث10%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 110421 / تحميل: 8735
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

الاستضعاف والاستكبار:

ولمّا كانت هذه المهمّة التي يتولّى أمرها الطاغوت لا تتحقّق إلاّ من خلال استضعاف الإنسان، فإنّ الطاغوت يتّبع أساليب كثيرة في استضعاف الإنسان، وانتزاع ما أودع الله تعالى في نفسه مِن القيَم.

يقول تعالى عن فرعون وقوم فرعون:

( فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ) (1) .

ومهما يكن من أمْر فإنّ الصراع بين هذين المحورَين، مِن كُبريات قضايا التاريخ، ومِن أهمّ العوامل المحرّكة لعجَلة التاريخ.

ومِن خلال فهْم هذا الصراع نستطيع أن نفْهم الكثير من أحداث التاريخ وقضاياه الكبرى ومنعطفاته وثوابته ومتغيّراته.

خصائص الصراع:

ونشير هنا إلى بعض خصائص هذا الصراع التاريخي بين هذين المحورَين: (الحقّ والباطل).

إنّ هذه المعركة، معركة عقائدية تستبطن صراعاً عقائدياً ضارياً حَول الشِرك والتوحيد. وقد أشرنا قريباً، أنّ جوهر هذا الصراع يدور حول الشِرك والتوحيد، وإنّ أكثر معاني الشِرك والتوحيد في القرآن، الشِرك في الولاء والتوحيد في الولاء.

ولهذا السبب فهي معركة عقائدية في جوهرها. هذا أوّلاً.

وثانياً: هي معركة حضارية؛ لأنّها تعتبر صِداماً بين حضارتين: الحضارة

____________________

(1) الزخرف / 54.

٢٢١

الربانية والحضارة الجاهلية، ولكلّ منهما خصائصها... والانتماء إلى أيٍّ مِن المحورَين ليس انتماءً سياسياً فقط إلى أحد محاور القوّة والسيادة، وإنّما هو انتماء حضاري، ويستتبع هذا الانتماء خصائص وميّزات حضارية في أسلوب التفكير، والإخلاص، والعمل، والعلاقة مع الله تعالى، ومع النفس ومع الآخَرين ومع الأشياء... والصراع بين هذين المحورَين يعني الصراع بين حضارتين بشكلٍ دقيق.

وثالثاً: إنّ هذا الصراع معركة سياسية على مراكز القوى.

ولا شكّ أنّ كلاًّ من هذين المحورَين يعمل للاستيلاء على مراكز القوى في المجتمع: المال والسلطان، والقوى العسكرية، وثقة الناس ومراكز التوجيه، والإعلام، والثقافة.

وكلٌّ منهما يعمل لاستخدام هذه المراكز في تمكين محوَره وخطِّه.

رابعاً: هذه المعركة تدخل في حتميات التاريخ الكبرى، ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان بحالٍ من الأحوال، فإنّ تعاكس المحاور والخطوط تستدعي بصورة حتمية هذه المعركة في كلّ زمان ومكان. ولا يمكن أن يتخلّص منها الإنسان.

إنّ هذا الدِين يصادر كلّ مصالح الطاغوت ووجوده ومراكزه ومواقعه، ولا يمكن أن يتخلّى الطاغوت عن دَوره في الإفساد على وجه الأرض من دون أن يخوض هو وجُنده صراعاً مريراً مع هذا الدِين. وهذا الصراع لم يخلُ منه عصر مِن العصور، منذ أن خلَق الله تعالى الإنسان بهذه التركيبة الخاصّة على وجه الأرض إلى اليوم الحاضر.

والقرآن الكريم يقرّر حتميّة الصراع بين هذين المحورَين بشكلٍ جازم، يقول تعالى:

٢٢٢

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (1) .

خامساً: إنّ هذا الصراع معركة مصيرية تدوم وتطول... ويعمل كلّ من المحورَين على استئصال المحور الآخَر من على وجه الأرض، وإنهائه وتصفيّة وجوده ومراكزه ومواقعه بشكلٍ عام... وليست معركة على قطعةٍ من الأرض، أو حدود برّية أو بحرية، وليست معركة على بضعة آبار من النفط، أو على كمّية من الذهب والفضة... إنّها معركة على الوجود والكيان، ولا يرضى كلّ من الطرفين إلاّ بالتصفية الكاملة للطرف الآخَر.

( وَلَنْ تَرْضَى‏ عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النّصَارَى‏ حَتّى‏ تَتّبِعَ مِلّتَهُمْ ) (2) .

( وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ للّهِ‏ِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى‏ وَنِعْمَ النّصِيرُ ) (3) .

فهذه المعركة تستمرّ حتّى الاستئصال الكامل للفتنة من على وجه الأرض... وبطبيعة الحال لن تكون معركة بسيطة، وإنّما هي معركة شرسة، لا يعرف التاريخ نظيراً لها في الحروب من حيث الشراسة والقسوة.

ولذلك فالتفكير في اللقاء والتفاهم والحلول النصفية مع الكفر والطاغوت، تفكيرٌ فيه كثير من الفجاجة والبساطة والضعف والهزيمة النفسية.

وإنّ بداية كلّ هزيمة ميدانية، هزيمة في النفس... وبداية الهزيمة النفسية التفكير في إمكان اللقاء والتفاهم مع الطاغوت، وإنهاء الصراع، والجلوس مع الطاغوت على موائد الصُلح.

____________________

(1)النساء / 76.

(2)البقرة / 120.

(3)الأنفال / 39 و40.

٢٢٣

إنّ المعركة مع الطاغوت على الوجود، وليس على اختلاف الحدود أو اختلاف في الاعتبار، حتّى يمكن التفاهم والتصافي والتعايش بسلام، وتطبيع العلاقات.

وسادساً: إنّ هذه المعركة التاريخية تتطلّب مِن الأمّة مواقف واضحة، وحدّية وصارخة في إعلان الولاء والبراءة... الولاء لله ولرسوله ولأولياء أمور المسلمين، والبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

فلابدّ من موقف...

ولابدّ أن يكون الموقف جدّياً...

ولابدّ أن يكون الموقف واضحاً ومعلَناً...

لأنّ المعركة مع أئمّة الكفر جدٌّ لا هزل فيه، ولا يكفي أن يضمر الإنسان الحبّ لله ولرسوله ولأوليائه، من دون موقف، ومن دون أن يعرف الناس عنه ذلك... ولا يكفي أن يكون قلبه مع الله ورسوله وأوليائه، وسيفه وحرابه عليهم(1) .

ولا يكفي أن يعطي لله ورسوله وأوليائه بعض وقته وماله... ليعطي للطاغوت البعض الآخَر...

إنّ الولاء كلٌّ لا يتجزّأ، فإمّا أن يكون الكلُّ لله، أو لا يكون لله منه شيء، فإنّ الله غنيٌ عن العالَمين.

إنّ الولاء يتطلّب الموقف المحدّد، والإشهار بالموقف في الانتماء

____________________

(1)التقى الحسينعليه‌السلام في مسيره إلى العراق بمنزل (الصفاح) بالفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن خبر الناس خلْفه، فقال الفرزدق: قلوبهم معك والسيوف مع بني أُمية، فقال الحسينعليه‌السلام : والقضاء ينزل من السماء، وكلّ يوم ربّنا في شأن، إن نزل القضاء، بما نُحبّ فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتدّ مَن كان الحقّ نسَبُه والتقوى سريرته. مقتل الحسين للمقرّم / 182، نقلاً عن الطبري 6 / 218، وابن الأثير 4 / 16.

٢٢٤

والانفصال... وفي الحبّ والبغض... وفي المودّة والمعاداة... وفي السِلْم والحرب...

وسابعاً: إنّ الولاء والبراءة وجْها حقيقةٍ واحدة في هذه المعركة... ولا ينفع ولاء مِن دون براءة، ولا يؤدّي الولاء دَوره الفاعل في حياة الأمّة، ما لم يقترن بالبراءة من أعداء الله ورسوله وأوليائه.

ولا يتكوّن الموقف هنا مِن الولاء فحسْب، إنّ للموقف وجهَين: وجْه إيجابي ووجه سلبي، سِلمٌ وحرب، وانتماء وانفصال، وحبٌّ وبُغْض، وما لم يجتمع هذا وذاك لن يكون الموقف موقفاً حقيقياً، وإنّما يكون شُعْبة من شُعَب النفاق، وطَوراً من أطوار المجاملة السياسية واللعب على الحبال...

يقول تعالى في هذين الوجهين:

( أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (1) .

ثامناً: وكما إنَّ محوَر الولاية، مركز واحد، وخطّ واحد، وامتداد واحد، على طول التاريخ، كذلك محور البراءة.

ونحن لا نفرّق في الولاء بين أنبياء الله وأوليائه، القريب منهم من عصرنا والبعيد منهم عن عصرنا... فكلّهم يحملون رسالة الله ويبلّغون دِين الله، وآتاهم الله من لدُنه النبوّة والإمامة والولاية على عباده... نواليهم جميعاً، ونؤمن بما أنزل الله إليهم، لا نفرّق بين أحدٍ منهم.

( قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى‏ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى‏ وَعِيسَى‏ وَمَا أُوتِيَ النّبِيّونَ مِن رَبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (2) .

____________________

(1)الفتح / 29.

(2)البقرة / 136.

٢٢٥

( آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (1) .

كذلك.. نتبرّأ من أعدائهم جميعاً.. نتبرأ من فرعون ونمرود، كما نتبرّأ من أبي جهل ويزيد، وكما نتبرّأ من طُغاة وجلاوزة عصرنا.

وكما أنّ الولاء أمْرٌ واحد، كذلك البراءة أمْر واحد.

ومثلما نتبرّأ من طغاة عصرنا ونلعنهم؛ لنفس الأسباب نلعن الحجّاج ويزيد وأبي جهل ونمرود وفرعون وقابيل.

فإنّ المعركة بين محوَرَي الحقّ والباطل، ليست معركة شخصية، وإنّما هي معركة حضارية، تمتدّ جذورها إلى أعماق التاريخ.

وكما أنّ المعركة في جوهرها واحدة في كلّ مراحلها، كذلك الولاء والبراءة.

عاشوراء مسرح للولاء والبراءة:

وننتقل الآن إلى (عاشوراء)

إنّ وقعة الطف مِن المواقع المؤثّرة، العقائدية والحضارية الكبرى في التاريخ. التي لا يملك الإنسان نفسه مِن أن يمرّ عليها مروراً عابراً، أو يقف عليها وقوفاً متفرّجاً، أو يقرأها بلا مبالاة ولا اكتراث.. ورغم مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على هذه الواقعة المفجعة.. فإنّها لا تزال تملك تأثيراً فوق العادة على النفوس والقلوب والعقول، وتفرض نفسها على كلّ مَن آتاه الله بصيرة ووعْياً في دِينه.

____________________

(1)البقرة / 285.

٢٢٦

ولا تزال الأجيال تتلقّى قضية كربلاء بحرارة وحماسة، وتتفاعل معها في الإيجاب والسلب والولاء والبراءة.

فما هو السرّ الكامن في هذه الوقعة، والذي جعل منها مرآة للولاء والبراءة. عِبر هذا التاريخ الطويل.

عاشوراء يوم الفرقان:

إنّ عاشوراء تتميّز بالوضوح الكامل الذي لا يُبقي شكّاً لأحدٍ في طرفَي المعركة.

فلم يكن هناك التباس في أمْر المعركة التي حدثت على أرض الطف، ولم يكن أحدٌ من المسلمين يومئذٍ يشكّ في أنّ الحسينعليه‌السلام ، يدعو إلى الله ورسوله وإلى الاستقامة على صراط الله المستقيم، وأنّ يزيد بن معاوية قد تجاوز حدود الله، وأعلن الحرب على الله رسوله، وأعلن الفسْق والفجور، وهو يجلس مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولم يكن احدٌ من المسلمين يومئذٍ يتردّد لحظة واحدة، وهو يقف على ساحة الصراع بين أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويزيد بن معاوية، أنّ الحسين على هدىً، ويزيد على ضلالة.

وعليه فلم يكن في أمر هذه المعركة خفاء أو لبْس.. فمَن وقف مع الحسينعليه‌السلام وقف عن بيّنة، ومَن وقف مع يزيد وقف عن بيّنة...

وقليلٌ مِن مشاهد الصراع بين الحقّ والباطل يمتلك هذا الوضوح، الذي تمتلكه واقعة الطف.

وقف الحسين يوم عاشوراء بين الصفّين، وقال مخاطباً جيش ابن زياد: (أيّها الناس أنبئوني مَن أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحلّ لكم

٢٢٧

قتْلي وانتهاك حُرمتي؟ ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء مِن عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيد الشهداء عمّي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي؟ أوَ لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ. فو الله ما تعمّدت الكَذِب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرُّ به مَن اخْتلَقه.

وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم. سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة مِن رسول الله لي ولأخي. أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفْك دمي.

فقال شمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: (والله إنّي أراك تعبُد الله على سبعين حرفاً. وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، وقد طبع الله على قلبك)(1) .

وقال الحسينعليه‌السلام للوليد عامل يزيد على المدينة، لمّا أراد أن يَجبُر الحسينعليه‌السلام على البيعة ليزيد والرضوخ له:

(يا أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجُل شارب الخمور، وقاتل النفس المحترمة مُعلن الفسْق، ومثْلي لا يبايع مثْله)(2) .

الفاصل الحضاري بين المعسكرَين في عاشوراء:

لقد كانت الجَبْهتان المتصارعتان في كربلاء متميّزتين في انتمائهما لمحوَر

____________________

(1)تاريخ الطبري 6: 223.

(2)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم (رضي الله عنه): ص127 ط النجف.

٢٢٨

الولاية الإلهية، والطاغوت، ولم يكن الأمر يخفى على أحد.

(لقد مضى أصحاب الحسينعليه‌السلام ليلة العاشر ولهم دويّ كدَويّ النحْل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد)(1) .

سِمة العبيد من الخشوع عليهم

لله أن ضمّتهم الأسحار

وإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم

بِيض القواضب أنّهم أحرار

وتقول فاطمة بنت الحسين:(وأمّا عمّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة في محرابها تستغيث إلى ربّها.. والله، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة) (2) .

كذلك كان الأمر في معسكر الحسينعليه‌السلام الشوق إلى لقاء الله و الإعراض عن الدنيا وزخْرفها، والانقطاع عن الدنيا إلى الله حتّى لقد كان بعضهم يداعب أصحابه ويمازحهم في الليلة العاشرة.

فقد هازل بُرَير عبد الرحمن الأنصاري رحمه الله. فقال له عبد الرحمن: (ما هذه ساعة باطل. فقال برير: لقد عَلِم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحُور العِين، إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم.. ولَوَددتُ أنّهم مالوا علينا الساعة)(3) .

والطرف الآخَر في هذه المعركة كان همّه ما يُصيب مِن الذهب والفضة، والإمارة والجائزة في قتال ابن بنت رسول الله.

فقد تولّى عمَر بن سعد أمْر قتال ابن بنت رسول الله طمعاً في إمارة الرَي.

____________________

(1)مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم: ص238.

(2)مثير الأحزان: ص56.

(3)تاريخ الطبري: 6 ص241.

٢٢٩

يقول اليافعي: (ووَعد الأمير المذكور (عمَر بن سعد) أن يملّكه مدينة الرَي، فباع الفاسق الرُشدَ بالغيّ، وفيه يقول:

أأترك ملك الريّ والريّ بُغيَتي

وأرجع مأثوماً بقتل حسين

ثمّ يقول: (وحزّ رأس الحسين بعض الفجَرة والفاسقين، وحمَله إلى ابن زياد ودخل به عليه وهو يقول:

أوقِر ركابي فضةً أو ذهباً

إنّي قتلت الملك المحجّبا

قتلت خير الناس أمّاً وأبا

وخيرهم إذ يذكرون نسَبا

فغضب ابن زياد مِن قوله وقال له: (إذا علِمت أنّه كذلك فلِمَ قتلته؟ والله لا سُلِّمت منّي خيراً أبداً)(1) .

ويتبجّح الأخنس بن مرثد الحضرمي في رضّه للأجساد الطاهرة بعد استشهادهم، وهو يعلم أنّه يعصي الله تعالى في طاعة أميره، ويقول كما يروي الخوارزمي:

نحن رضضنا الظَهر بعد الصدر

بكلّ يعبوب شديد الأسْر

حتّى عصينا الله ربّ الأمر

بصُنعنا مع الحسين الطُهر(2)

لقد كان همّ الحسين وأصحابه في كربلاء مرضاة الله ولقاء الله... وكان همّ جُند ابن زياد، ما يدفع لهم الأمير مِن الجائزة والإمارة والذهب والفضة.

لم يكن في الأمْر إذن أيّ خفاء. وجميع الذين عاصروا المعركة أو شاهدوها أو وقفوا عليها من قريب أو بعيد... كانوا يُميّزون فيها الحقّ مِن الباطل، ودعوة الله عن دعوة الطاغوت.

____________________

(1)انظر مرآة الجنان لليافعي 1 / 132. روايات السيد المهزبان.

(2)مقتل الحسين للخطيب الخوارزمي 2 / 39.

٢٣٠

ولم يتخلّف أحد عنها عن جهل أو لَبْس، وإنّما عن إيثار العافية والراحة على القتل في سبيل الله... ولم يشهر أحد فيها السيف على ابن رسول الله عن لبْس أو جهل... وإنّما عن وضوح وعِلم بأنّهم يحاربون الله ورسوله وأوليائه بقتال الحسينعليه‌السلام .

وهذا الوضوح في ساحة المعركة يجعل معركة الطف معركة متميّزة مِن بين سائر المواقع التاريخية... إنّها تعكس صورة صارخة من صراع الحقّ والباطل، ومجابهة بين الولاء لله والولاء للطاغوت؛ ولذلك كانت هذه المعركة رمزاً خالداً للصراع بين الحقّ والباطل. ومسرحاً للولاء والبراءة، في حياة المؤمنين.

إنّ وقعة الطف لا تُبقي مجالاً لأحد في التردّد والتأمّل.

فهي المواجهة الصارخة بين الحقّ والباطل، وجُند الله وجُند الشيطان، والهدى والضلال...

... فلابدّ من موقف محدّد واضح في هذه القضية... فإن لم يكن هذا الموقف موقف الولاء لجُند الله والبراءة من أعدائهم... فهو لا محالة موقف الرضا بفِعل يزيد وجُنده، وهو الموقف الذي يستحقّ اللعْن والطرد من رحمة الله، ففي زيارة وارث:

(فلعَن الله أُمّة قتلتك

ولعَن الله أُمّة ظلمتك

ولعن الله أُمّةً سمعت بذلك فرضيَت به)(1) .

إنّ فقدان الموقف في عاشوراء هو بنفسه الموقف الرافض. فمَن لم يقف مع الحسينعليه‌السلام يوم استنصر المسلمين، وخذله، فلابدّ أن يكون راضياً بفِعل يزيد،

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣١

ولو لم يكن راضياً بفِعل يزيد، لَما أبطأ عن تلبية دعوة الحسين ونصرته.

وحدة الولاء والبراءة في زيارة (وارث):

إنّ النصّ المعروف في زيارة الحسينعليه‌السلام باسم زيارة (وارث) نصٌّ حافل بمشاهد الولاء والبراءة.

ومِن أهمّ هذه المشاهد: وحدة الولاء والبراءة، ووراثة الحسينعليه‌السلام للأنبياءعليهم‌السلام ، وربْط الولاء للحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه بالولاء للأنبياء: وربْط قيَم عاشوراء بالقيَم الموروثة من تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام .

ولعلَّ التسليم على الحسينعليه‌السلام في زيارة وارث، بصفته وارثاً للأنبياءعليهم‌السلام للإشارة إلى هذه الحقيقة.

(السلام عليك يا وارث آدم صَفوة الله،

السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله،

السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله،

السلام عليك يا وارث موسى كليم الله،

السلام عليك يا وارث عيسى روح الله،

السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله،

السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين وليّ الله)(1) .

فإنّ هذه الصفْوة مِن أولياء الله وعباده الصالحين امتداد واحد لولاية الله على وجه الأرض، وخطٌّ حضاريّ واحد، يدعون إلى الالتفاف حَول محوَر واحد، ويحملون قضية واحدة، كما أنّ أعداءهم أُمّة واحدة، وخطٌّ حضاري واحد،

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣٢

وحربٌ واحدة، رغم كلّ التباينات والتقاطعات الموجودة بينهم.

فالإحساس بوحدة الولاء، ووحدة البراءة، يُعمّق الشعور بأنّ الأمّة المسلمة على امتداد التاريخ منذ آدمعليه‌السلام إلى اليوم الحاضر أسرة واحدة، تلتفّ حول محوَر واحد، وتُحارب جبهةً واحدة، وتشترك في الحبّ والبغض والسِلم والحرب، وقضيّتها قضية واحدة، ومهمّتها على وجه الأرض مهمّة واحدة، وخطّها واحد، وحضارتها واحدة، وإيمانها واحد.

إنَّ هذا الإحساس بمعيّة الله ومعيّة المؤمنين يُزيل الشعور بالوَحشة عن نفوس الدُعاة إلى الله تعالى، في خِضَمّ الصراع مع الطاغوت، وفي مواجهة شَوكة الطاغوت وجبَروته وكبريائه.

فقد كان إبراهيمعليه‌السلام وحده أُمّة قانتاً لله في مواجهة نمْرود.

( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1).

مشاهد الولاء في زيارة (وارث):

مشاهد الولاء في متْن هذه الزيارة ثلاثة:

1 - التسليم: السلام عليك يا وارث آدم صفوت الله..

2 - الشهادة: أشهد أنّك الإمام البَرّ التقيّ الرضيّ...

3 - الموقف: قَلْبي لقلْبِكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبِع...

وضِمن هذه المراحل الثلاثة يعبّر الزائر عن ولائه للحسينعليه‌السلام في المعركة الكبرى التي وقف فيها أبو عبد الله في مواجهة طاغية عصْره... ينطلق فيها مِن جذور هذه المعركة التاريخية إلى يومنا هذا.

____________________

(1)النحل / 120.

٢٣٣

والولاء يتجسّد في هذه الزيارة ضمن هذه المفاهيم الثلاثة وهي:

1 - السلام والأمن والمحبّة (التسليم).

2 - الثقة المطلقة (الشهادة بالإمامة وإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

3 - الموقف تجاه محوَر الولاية.

وسنعرض فيما يأتي هذه المشاهد الثلاثة للولاء في زيارة وارث.

السلام في (النفس) و (المجتمع):

وأوّل هذه المشاهد التسليم ضمن ثلاث فقَرات:

(السلام عليك يا وارث آدم صفْوة الله...

السلام عليك يا بن محمّد المصطفى...

السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره...)(1) .

والتسليم مِن أهمّ عناصر الولاء، وهو بمعنى ترك المشاكسة، والمشاققة، والاختلاف، واللجاج، والعناد، داخل النفس وفي السلوك، وإزالة عوامل البغضاء والكراهية والضغينة والاختلاف في الرأي والمخالفة، وإحلال المحبّة والمودّة والانسجام النفسي والطاعة والانقياد والتسليم محلّ المشاققة والمخالفة واللجاج والبغضاء.

وهذه العلاقة في التسليم، تأتي في خاتمة الصلاة، في السلام، (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وكأنَّ حصيلة الصلاة، وحصيلة هذا العروج الروحي إلى الله تعالى هي التسليم والطاعة والانقياد والمحبّة والمودّة لله ولرسوله ولأوليائه.

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣٤

و (السلام) ليس فقط أساساً للعلاقة مع الله ورسوله، وإنّما هو أيضاً أساس للعلاقة مع الأُمّة المسلمة الملتفّة حول هذا المحوَر.

وقد اعتبر الإسلام (السلام) تحيّة بين المؤمنين، وجعل هذه التحية خاتمة للصلاة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).

وهذا الاهتمام بنشْر السلام بين أعضاء هذه الأسرة؛ للتأكيد على نوع العلاقة القائمة بين أفراد وأعضاء الأسرة المسلمة، وأنّ هذه العلاقة قائمة على أساس ترك المشاققة والمخالفة وإزالة البغضاء والضغائن والكراهية من النفوس، وبذْل المحبّة والمودّة في النفوس والانسجام والوفاق والتعاون والتناصر في السلوك.

الشهادة للحسينعليه‌السلام بإمامة المسيرة:

تأتي بعد ذلك الشهادة ضمن ثلاثة فقرات:

1 - الشهادة للحسينعليه‌السلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف: (أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمَرت بالمعروف، ونَهَيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين)(1) .

و (إقامة الصلاة) هنا غير أداء الصلاة.

إنّ أداء الصلاة تكليف شخصيّ وفريضة شخصية.

أمّا إقامة الصلاة فهي تثبيت الصلاة، والارتباط بالله، وإعلان الصلاة وتفعيلها في حياة الإنسان.

... ثمّ (وأمرتَ بالمعروف ونهَيت عن المنكر).

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يبتغي من خروجه على يزيد مُلكاً أو سلطاناً أو جاهاً،

____________________

(1)زيارة وارث.

٢٣٥

وإنّما كان يعمل لتثبيت دعائم المعروف وهدْم أُسُس المنكر، وإقامة محوَر الولاية لله وهدْم محوَر الطاغوت.

وقد خطب الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء فقال:

(ألا ترَون إلى الحقّ لا يعمل به وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله... وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما)(1) .

وفي منزل (البيضة) خطب الحسينعليه‌السلام في أصحابه فقال: (أيّها الناس إنّ رسول الله قال: مَن رأى سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرام الله، ناكثاً عهده، مخالفاً لسُنّة رسول الله، يعمل في عِباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيّر عليه بفِعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يُدخله مدْخله.

ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقّ مَن غيّر...)(2) .

فلم يكن الحسينعليه‌السلام يطلب سلطاناً أو مالاً... وهو يرى أنّه يستقبل الموت في سَفرِه هذا، وإنّما كان يرى ظالماً جائراً، يفسد في الأرض، ويهلك الحرْث والنسل، ويحلّل حرام الله، ويتجاوز حدود الله.. فنهضعليه‌السلام بالعُصبة المؤمنة التي احتفت به في كربلاء؛ لفضْح الطاغية وكسرِه والتشهير به و تسقيطه أمام الرأي العام الإسلامي المضلّل، وتوعية الرأي العام بحقيقة الطاغية وإفساده في الأرض، وانتزاع الأمّة من محوَر الطاغوت وإعادتها إلى محوَر الولاية الإلهية.

2 - الشهادة بـ (الطُهر) والنزاهة للحسينعليه‌السلام ، النزاهة مِن كلّ إثْمٍ وذَنْب،

____________________

(1)حلية الأولياء لأبي نعيم 2 / 39.

(2)تاريخ الطبري 6 / 229.

٢٣٦

والعصمة مِن كلّ خطأ وزلَل وعصيان... طهارة النفس والسلوك...( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) .

والشهادة بأنّ هذه النزاهة وهذا الطُهر طُهرٌ موروث، خلَفاً عن سلَف. وقد شاء الله تعالى أن يحتفظ بهذا الطُهر في هذه السلالة الطيّبة، عِبر الحضارات الجاهلية التي سادَت حياة الإنسان... وعِبر ظُلمات الحضارات الجاهلية.

استمرّ إشعاع هذا النور الإلهي في ظلمات حياة الإنسان، واستمرّ هذا الطُهر بين أرجاس الجاهلية، لم يتلوّث، ولم يُلبِسْه شيء مِن مدلهمّات ثيابها...

وقد اصطفى الله تعالى هذه السلالة المباركة للإمامة في حياة الإنسان عِبر العصور المختلفة.

( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (2) .

ولنقرأ هذه الفقرة من الشهادة في زيارة وارث:

(أشهد أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليةُ بأنجاسها، ولم تُلبِسْك من مدلهمّات ثيابها...)(3) .

ولا أُحبّ أن أتجاوز هذه الفقرة دون أن أُشير إلى جمال التعبير في هذه الفقرة...

إنّ الطُهر في هذا البيت الطاهر حصيلة اللقاح بين أصلابٍ شامخة وأرحامٍ

____________________

(1)الأحزاب / 33.

(2)آل عمران / 32. (حُماة الوحي) للشيخ شهاب الدين الإشرافي والشيخ محمّد موحدي فاضل، في تفسير هذه الآية الكريمة وعلاقتها بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام ص176 - 168.

(3)زيارة وارث.

٢٣٧

مطهّرة. أصلابٌ شمخَت وترفَّعت ممّا يتساقط حوله الناس مِن متاعٍ وزُخرُفٍ زائل، وأرحام طَهُرت وسلمت من أوضار وأوساخ وأدناس الحضارات الجاهلية التي تناوبت على حياة الإنسان...

3 - الشهادة بموقع الحسينعليه‌السلام مِن حياة الأمّة، ومركزه القيادي الذي وضَعه الله فيه، وما آتاه الله تعالى من الإمامة والولاية على المسلمين.

(أشهد أنّك مِن دعائم الدِين وأركان المؤمنين، وأشهد أنّك الإمام البرّ التقيّ، الرضيّ، الزكيّ، الهاديّ، المهديّ.

وأشهد أنّ الأئمّة مِن وُلدك كلمة التقوى، وأعلام الهدى، والعروة الوثقى، والحجّة على أهل الدنيا)(1) .

الـمَوقف:

ثمّ يأتي بعد هذه المرحلة من التعبير عن الولاء: (التسليم)، و (الشهادة) و (الموقف).

والـمَوقف هنا في (الإيمان والرأي) وفي (العمل).

الموقف النفسي في (الإيمان والرأي): (أنّي بكُم مؤمن وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سِلم)(2) .

والموقف في (العمل): (وأمْري لأمْركم متّبع)(3) .

مؤمن بولايتكم وإمامتكم وقيادتكم. وأصدق دليل على هذه الدعوة: أنّني

____________________

(1)زيارة وارث.

(2)زيارة وارث.

(3)زيارة وارث.

٢٣٨

أُسلّمكم شرائع دِيني وخواتيم عملي.. فليس شيء أعزّ عند الإنسان المؤمن من شرائع دِينه الذي يدين به لله تعالى، وخواتيم عمله، الذي يختم بها حياته، حيث لا يمكن أن يتدارك منه شيئاً.

فإنّ مِن الممكن أن يتدارك الإنسان ما فرّط فيه من أعماله، وإصلاحها بالتوبة.. ومراجعة النفس، وتصحيح العمل... أمّا خواتيم العمل فهي التي تقرّر عاقبة الإنسان ومصيره.. ونحن نأخذ منكم شرائع ديننا وخواتيم أعمالنا... وليس شيء أدَلّ على الثقة والصِدق في الولاء من ذلك.. ومِن خلالكم نأخذ معالم ديننا وبكُم هدانا الله تعالى.

ثمّ هذا التسليم المطلق الذي لا يشوبه شِقاق، ولا يعكّره رَيب في أعماق النفوس: تسليم القلْب للقلْب، (وقَلْبي لقَلْبكم سِلم)، فإنّ انسجام القلوب، وتلاقي القلوب، وتفاهم القلوب مِن أسمى معاني و مصاديق (السِلم).

ثمّ (التبعية المطلقة) والانقياد والتسليم في مقام العمل (وأمْري لأمْركم متّبع)، وهو يؤول إلى التسليم لأمْر الله تعالى.

والموقف هنا إيمان مطلق، وتسليم مطلق، وثقة مطلقة في النفس.. و يستتبعه الالتزام الكامل، والتبعية الكاملة في مقام العمل.

وورَد في زيارة الحسينعليه‌السلام الخاصّة في يوم عَرَفة (إنّي سِلمٌ لـمَن سالَمَكم، وحرب لـمَن حاربكم، ووليٌّ لـمَن والاكم وعدوٌ لـمَن عاداكم إلى يوم القيامة)(1) .

وفي زيارة الأربعين الخاصّة: (أشهدُ أنّي بكم مؤمن، وبإيابكم موقِن، بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلْبي لقلْبكم سِلم، وأمْري لأمْركم متّبع، ونُصرتي لكُم معدّة حتى يأذن الله لكم، فمعكم معكم، لا مع عدوّكم، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسامكم وشاهدكم وغائبكم)(1) .

____________________

(1)انظر زيارة الحسين الخاصّة ليوم عَرفة، وزيارة عاشوراء.

(2)زيارة الأربعين.

٢٣٩

فالنصرة معدّة وجاهزة، انتظرُ فيها إذن الله تعالى.

معكم، معكم:

ثمّ بعد ذلك يأتي هذا التشييد الولائي الرائع.. وهذه النغمة الإيمانية العذِبة... (فمعكم، معكم، لا مع عدوّكم...).

بالتأكيد، بتكرار المعيّة (فمعكم، معكم...) وبالسلب والإيجاب... والولاء والبراءة (لا مع عدوّكم). نردّد هذه التلبية الولائية لداعي الله، الذي وقف يوم عاشوراء في كربلاء... يدعو البشرية إلى العودة إلى الله وتحطيم الطاغوت، وكسْر كِبريائه وجبَروته، والعودة إلى عبودية الله.

(لبّيك داعيَ الله، إن كان لم يُجبْك بدَني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلْبي..)(1) .

وإنّ أفضل التلبية تّلبية القلب... فإذا فاتتنا تلبية داعيَ الله بأبداننا في كربلاء، فإنّ قلوبنا التي عمّرها الله تعالى بوَلائه ووَلاء أوليائه لا تنفكّ عن الاستجابة لدعوته، وبمقارعة الظالمين، وكسْر شَوكتهم وسلطانهم، وتعبيد الناس لله، وتحكيم شريعة الله تعالى وحدوده في حياة الإنسان، وانتزاع الإنسان من محوَر الطاغوت إلى محوَر الولاء لله تعالى.

البراءة:

والوجه الآخَر لمسألة الولاية البراءة.. ولا ولاية مِن دون البراءة.. والولاء والبراءة وجهان لقضية واحدة.

____________________

(1) الزيارة المخصوصة لأوّل مِن رجب.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؟

قال عمر: لو أردّك إلى كتاب الله أو سنّة رسوله لفعلت، ولكنّي أردّك إلى رأي، والرأي مشترك، ولست أدري أيّ الرأيين أحقّ(١) .

وجاء في (الإحكام) لابن حزم: (قال أبو محمّد: فقد ثبت أنّ الصحابة لم يُفتوا برأيهم على سبيل الإلزام، ولا على أنّه حقّ، لكن على أنّه ظنّ يستغفرون الله تعالى منه، أو على سبيل صلح بين الخصمين فلا يحل لمسلم أن يحتج بشيء أتى عنهم على هذه السبيل)(٢) .

وقال ابن حزم: وليس في تعليم عمر رضي الله عنه الناس التشهّد على المنبر ما يدلّ على أنّه عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله. وقد نهى عمر وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء، وعلّم الناس ذلك. ولا شكّ عند أحد في أنّ نهيه عن ذلك ليس عن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله، وأنّ ذلك من اجتهاد عمر فقط، وقد أقر بذلك في ذلك الوقت، ورجع عن النهي عنه، إذ ذُكِّر أنَّ نهيه مخالف لِما في القرآن.

وأمّا التشّهدات المرويّة عن ابن عبّاس وعائشة وابن مسعود وأبي موسى - رضوان الله عليهم - فهي التي لا يحلّ تعدّيها لصحّة سندها إلى النبيّ. وقد خالف تشهّد عمر - الذي علّمه للناس على المنبر - ابنُه عبد الله وابن مسعود وابن عبّاس وعائشة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم، وقد شَهِدوه يخطب به...)(٣) .

وقالت الدكتورة نادية العمريّ، وهي بصدد نفي ما قيل عن عمر: إنّه إذا أعياه أن يجد حكماً في القرآن والسنّة نظر: هل فيه لأبي بكر قضاء، فإنْ وجد له قضاء اتّبعه، قالت:

(وبناءً على ذلك لم يكن يلتزم (أي عمر) برأي أبي بكر التزاماً مطلقاً، برغم مكانته الكبيرة في نفسه، إلاّ إذا استند إلى نصّ من كتاب أو سنّة. وهو في هذا الالتزام إنّما يتّبع

____________________

(١) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: ٤٧، لاحظ محاولته إضفاء مشروعية الرأي لكل الصحابة ودَرْج اسم علي بن أبي طالب المتعبّد فيهم.

(٢) الإحكام في أُصول الأحكام ٦: ٢٢٢.

(٣) الإحكام في أُصول الأحكام ٢: ١٨٣ - ١٨٤.

٢٦١

هذا النصّ في الحقيقة، كما حصل بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله عندما ذكّره أبو بكر بآية من القرآن. أمّا حين يصبح الأمر شورى ورأياً خاصّاً، فإنّ الرأي مشترك، كما قال عمر. وقد خالف أبا بكر في مسألة إقطاع المؤلّفة قلوبهم، التي رجع أبو بكر فيها إلى رأي عمر، وخالفه أيضاً في الاستخلاف حين جعل الأمر شورى. وعلى هذا فإنّ عمر كان يستأنس برأي أبي بكر، ولكن لا يأخذه على سبيل الإلزام كالنصوص القرآنيّة والنبويّة، بدليل مخالفته له في أكثر من قضيّة وأكثر من موطن)(١) .

والآن نتساءل كيف يمكننا الأخذ بسيرة الشيخين ونرى الاختلاف بين نُقولهما واجتهاداتهما؟ وكيف يمكن تصحيح ما نُسب إلى رسول الله: (اقتدوا بالذين من بعدي)(٢) وقوله (عضّوا عليها بالنواجذ)(٣) وقد رأيت الاختلاف بينهم واضحاً بيّناً وفي أكثر من قضيّة وموطن؟!

أفَتُرى أنّ رأي أبي بكر في قضيّة خالد هو الحجّة أم رأي عمر؟

وهل يُعقل أن يفرِض علينا النبيّ اتّباع رأي شخص غير معصوم، وهو المطِّلع على آرائه واجتهاداته في الشريعة أيّام حياته صلّى الله عليه وآله؟!

وماذا يمكننا أن نقول عن اجتهاد عمر - كما يقولون - في ردّ سهم المؤلّفة قلوبُهم(٤) ، وصريح القرآن يفرض الصدقات في قوله:( إنّما الصدَقات للفقراء والمَساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبُهم... ) ؟(٥) .

وكيف يمكن تفسير رأيه في ميراث الجدّ مع الإخوة(٦) ، والطلاق ثلاثاً(٧) ، وبيع

____________________

(١) اجتهاد الرسول: ٢٩٩ - ٣٠٠.

(٢) مسند الحميدي ١: ٢١٤، ح ٤٤٩، المعجم الأوسط ٤: ١٤٠، ح ٣٨١٦، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ١٥٣، وغيرها من المصادر.

(٣) مسند أحمد ٤: ١٢٦، سنن الدارمي ١: ٥٧، باب اتباع السنّة، ح ٩٥، سنن الترمذي ٥: ٤٤، باب ما جاء في الأخذ بالسنّة واجتناب البدع، ح ٢٦٧٦، سنن أبي داود ٤: ٢٠٠، ح ٤٦٠٧، سنن ابن ماجة ١: ١٥، ١٦، ح ٤٢ و ح ٤٣.

(٤) انظر فتح القدير للشوكاني ٢: ٣٧٣. (٥) التوبة: ٦٠.

(٦) السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٤٥، باب تشديد الكلام في مسألة الجد مع الاخوة ح ١٢١٩٢، (بسنده عن ابن سيرين عن عبيدة قال: ثم إنّي لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضاً). وانظر أيضاً فتح الباري ١٢: ٢١، وشرح الزرقاني ٣: ١٤٢، باب ميراث الجد.

(٧) صحيح مسلم ٢: ١٠٩٩، باب الطلاق ثلاث، ح ١٤٧٢، المستدرك على الصحيحين ٢: ٢١٤، كتاب الطلاق، ح ٢٧٩٣. حديث صحيح ولم يخرجاه، مسند أحمد ١: ٣١٤، ح ٢٨٧٧.

٢٦٢

أُمّهات الأولاد(١) ، وعول الفرائض(٢) ، وعدم وجوب التيمّم للصلاة مع فقدان الماء(٣) ، ونهيه عن الصلاة بعد العصر(٤) ، وصلاته على الجنائز أربعاً(٥) ، وفي كلّ ذلك نصوص عن النبيّ تخالفه؟!

ليت شعري كيف يُعذر الشيخان ويصير ما قالاه حسناً مع تصريح عمر بن الخطّاب أنَّ صلاة التراويح كانت بدعة، ونعمت البدعة هي؟!

ثمّ يأتي العلماء ليفسّروا البدعة بمعناها اللغويّ لا الشرعيّ فيذكرون خبراً عن الرسول - في شرعيّة صلاة التراويح - مجمله: أنّه خرج ليلاً للصلاة في المسجد فائْتَمَّ به الناس، وفي اليوم الثاني كثر العدد، وفي اليوم الثالث أكثر حتّى خرج بهم إلى خارج المسجد، فترك الرسول الخروج إلى المسجد، ولم يَنْه عنها ثمّ راحوا يفسّرون البدعة بمعناها اللغويّ!

فلو كان الأمر في صلاة التراويح شرعيّاً ولم ينه عنه الرسول صلّى الله عليه وآله فما معنى حمل كلام عمر على معناه اللغويّ عند الأعلام؟!

وإن كان الخليفة عمر بن الخطّاب يعني معنى البدعة الشرعيّ، فما معنى ما يقولونه في تأويل فعل عمر؟ إنّها تناقضات الأخبار والمعاذير المختلقة للأشخاص وهي مشهودة للباحث.

____________________

(١) مصنف عبد الرزاق ٧: ٢٩٢، ح ١٣٢٢٥، سنن الدراقطني ٤: ١٣٤، كتاب المكاتب، ح ٣٣ و ح ٣٤، المبسوط للسرخسي ١٣: ٥، سبل السلام ٣: ١٢.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٤: ٣٧٨، ح ٧٩٨٥، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٥٣، باب العول، ح ١٢٢٣٧، المغني ٦: ١٧٥، منار السبيل ٢: ٧٦.

(٣) مصنف عبد الرزاق ١: ٢٣٨، ح ٩١٥، مسند احمد ٤: ٣١٩، سنن النسائي الكبرى ١: ١٣٣، ح ٣٠٢.

(٤) مصنف ابن أبي شيبة ٢: ١٣٣، ح ٧٣٤٢، مصنف عبد الرزاق ٢: ٤٣٣، ح ٣٩٧٤، المسند المستخرج على صحيح مسلم ٢: ٤٢٨، ح ١٨٨٥.

(٥) شرح معاني الآثار ١: ٤٩٩، مسند أبي حنيفة ١: ٨٢، المحلى ٥: ١٢٤.

٢٦٣

لا أدري: أتُصَدَّق النصوص وما جاء في تراثنا الغابر، أم ما يقوله الأساتذة من مبرّرات للشيخين؟!

أترى أنّ الله قد عصمهما من الخطأ وخُصّا بدليل يجوّز اجتهادهما ولزوم التعبّد برأيهما دون الآخرين، كما روي من قوله صلّى الله عليه وآله: (عليكم بما عرفتم من سنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين...)؟(١)

أكان هذا النقل صحيحاً عن رسول الله؟ أم يُستشمّ منه وجود نهج آخر قِبال سنّة رسول الله؟

وأيُعقل أن يجعل رسولُ الله سنّته عدلاً لسنة الخلفاء الراشدين من بعده وهو العالم باختلاف أُمتّه من بعده والقرآن الكريم يقول:( أفَإنْ ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أعْقابِكُمْ ) ؟!(٢) ونرى الاختلاف بين أقوالهم!

ولو ارتضينا هذا الحديث على علاّته، واجهتنا مشكلة أخرى، وهي تضارب وتناقص وتخالف آراء الخلفاء من بعده، فأيّها المأمور بأخذه والالتزام به؟ وأيّ الخلفاء هم المقصودون، الأربعة الراشدون؟ أم كلّ من تسلّم اُمور الخلافة والسلطة؟ وإذا صحّ الحديث فلماذا لا يحمل على الخلفاء الاثني عشر الذابّين عن سنّته والناشرين لحديثه صلّى الله عليه وآله؛ لما روي عن عليّ عليه السلام عن النبي:(اللّهمّ ارحم خلفائي الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنّتي ويعلّمونها الناس) (٣) ، والذي قال عنهم الرسول صلّى الله عليه وآله في حديث آخر:(فلا تقدموهم فتهلكوا، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم) (٤) .

____________________

(١) مسند أحمد ٤: ١٢٦، سنن ابن ماجة ١: ١٥، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، ح ٤٢، ح ٤٣، المستدرك على الصحيحين ١: ١٧٤ - ١٧٧، ح ٣٢٩، ح ٣٣١، ح ٣٣٢، ح ٣٣٣.

(٢) آل عمران: ١٤٤.

(٣) الفردوس بماثور الخطاب ١: ٤٧٩، ح ١٩٦٠، كنز العمال ١٠: ٢٢١، ح ٢٩١٦٧، وانظر مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٩٩، ح ٢١٤٠٣، فيض القدير ٢: ١٤٩.

(٤) المعجم الكبير للطبراني ٥: ١٦٦، ح ٤٩٧، وعنه في الصواعق المحرقة ٢: ٤٣٩، ٦٥٣، ٦٥٤.

٢٦٤

وقال:(ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) (١) وقال:(.. وأهل بيتي أمان لأُمتي من الاختلاف) (٢) ، وغيرها من النصوص المتواترة.

نعم، قد أوقَفَنا رسولُ الله في (حديث الحوض) على أنّ من بين أصحابه من يُذاد عن الحوض!

وليتني أعرف لِمَ لًمْ يكتفِ صلّى الله عليه وآله بقوله: (عليكم بكتاب الله وسنّتي) - حسب ما نقلوه عنه صلّى الله عليه وآله - حتّى يضيف إليهما شيئاً آخر؟ أيُعقل أن تكون السنّة ناقصة حتّى يلزم إكمالها بسيرة الشيخين؟!

وألا ينمُّ وضع قيد (سنّة الخلفاء من بعدي) أو (اقتدوا بالذين من بعدي) إلى جنب السنّة الشريفة، عن وجود اجتهادات جديدة حدثت في الحياة العلميّة للمسلمين تخالف السنة المطهّرة، أُريد لها وعلى لسان النبيّ تصحيح كلا الاتّجاهين؟

وهل يصحّ عقلاً وشرعاً هذا الذي قيل؟ بل كيف يمكن الجمع بين ما قاله عمر وقول رسول الله؟

فالمتعة - مثلاً - إمّا مشروعة، لقول عمر: (كانتا على عهد رسول الله).. أو محرّمة، لقوله: (أنا أُحرّمهما)! وأمثال هذه المفردات كثيرة في الشريعة.

إنّ ما يُحتمل راجحاً في هذه النصوص - التي جاء فيها ذكر أسماء الخلفاء، أو التأكيد على (الذين من بعدي) مرتَّباً طبق الترتيب الزمنيّ للخلافة (أبو بكر، عمر، عثمان، عليّ) - أنّها قد حرّفت عن أصلها المراد منها، أو وُضعت لاحقاً لتصحيح ما ذهب إليه الشيخان ومَن تابع مدرستهما الاجتهاديّة، ولنا في ذلك أدلّة مفصّلة نُرْجئُها إلى حينها.

____________________

(١) التبصرة للفيروزآبادي:٣٦٩، المبسوط للسرخسي ١٦: ٦٩، وأصوله: ٣١٤.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢: ٤٨٦، ح ٣٦٧٦ و ٣: ١٦٢، ح ٤٧١٥، ٣: ٥١٧، ح ٥٩٢٦، وقد قال الحاكم عنها: أحاديث صحيحة على شرط الشيخين ولم يخرجاها، وانظر مسند الروياني ٢: ٢٥٣، ح ١٥٢.

٢٦٥

تطوّرات وتغييرات

لابدّ هنا من الإشارة إلى ما وصل إليه أمر الأمّة في العصور اللاحقة.

قالت الدكتورة نادية العمريّ في كتابها الاجتهاد في الإسلام: (وممّا ثبت أنّ المتأخّرين من الفقهاء قد غيّروا كثيراً من الأحكام التي نُقلت عن أئمّتهم حين دعت الحاجة إلى التغيير، كما فعل الشافعيّ من قبل حينما انتقل إلى مصر وترك العراق والحجاز؛ فقد غيّر من مذهبه القديم إلى الجديد، وأملى كتابه الأمّ والرسالة، وكما فعل ابن القيّم الجوزيّة)(١) .

وقال الدكتور تركي: (أمّا فيما يتعلّق بالاستحسان - الذي هو طريقة للهرب من القياس لأسباب من التقدير الشخصيّ - فقد ظهر في القرن الثالث للهجرة، على ما ذكره ابن حزم)(٢) .

وقال الوافي المهدي: (وفي هذا الدور (أي زمن تأسيس المذاهب) تأثّر التشريع الإسلاميّ بالعرف، فأصبح الكثير من الفقهاء يعتبرونه مخصِّصاً للنصّ. ومن ذلك تخصيص البعض منهم منع بيع الإنسان ما ليس عنده الوارد فيه المنع بالاستصناع، وهو: أن يتفق شخص مع آخر على صنع شي يوضّحه بالوصف ويقدّر له الثمن، فقد أُجيز هذا العقد مع أنّه من قبيل بيع ما ليس عند الإنسان)(٣) .

وجاء عن الأستاذ رشيد رضا قوله: (من المجازفة في القياس والجرأة على الله القول بنسخ مئات الآيات، وإبطال اليقين بالظنّ وترجيح الاجتهاد على النصّ - ثمّ ذكر كلام الشافعيّ الذي ربّما قاله بنفسه: (إنّ القياس لا يصار إليه إلاّ عند الضرورة كأكل الميتة).

وقال الباحث المصريّ شفيق شحاته: (إنّ ترقية القياس إلى درجة أن يكون مصدراً للشريعة يجب أن تُعزى إلى أسباب تاريخيّة خالصة)(٤) .

____________________

(١) الاجتهاد في الإسلام: ١٠٤ ط ١ مؤسّسة الرسالة ١٤٠١ه - بيروت.

(٢) مناظرات في الشريعة الإسلاميّة بين ابن حزم والباجي: ٣٣٣.

(٣) الاجتهاد في الشريعة الإسلاميّة: ٢٠٨.

(٤) مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجي: ٣٣٠ عن، Logigue. P.٣٢

٢٦٦

ومن المؤسف أن اختم كلامي بنص لبعض المتطرفين وهو الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين إذ يقول: ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ولو وافق قولَ الصحابة، والحديث الصحيح، والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضالٌّ مضلٌّ، وربّما أدّاه ذلك للكفر، لأنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر(١) .

وهذا يخالف قول روساء المذاهب الأربعة أنفسهم الذين لم يجيزوا الناس الأخذ بأقوالهم لو خالفت الآية والحديث الصحيح، واعتبروا العمل بأي مذهب من المذاهب متروك للناس.

كانت هذه خلاصة لتاريخ التشريع الإسلاميّ وملابسات الفقه، ذكرناها ليكون القارئ على بصيرة من أمره، وليتعرّف على بعض الأصول التي أُوجِدت في الصدر الأوّل الإسلاميّ وجذور الاختلاف بين المسلمين، وكيف أصبحت شريعة الفقهاء من أهل الرأي تجوّز التعدّديّة في الرأي، مع علمنا أنّ الله واحد، ورسوله واحد، وكتابه واحد، وهو سبحانه يدعونا إلى الوحدة في الفقه والعقيدة، ويحذّرنا الاختلاف والفرقة، وقد أكّد رسول الله صلّى الله عليه وآله ونص على أنّ الفرقة الناجية من أُمّته هي واحدة، لا غير.

عود على بدء

الثابت عن رسول الله أنّه تصدّى لأمور الشريعة والدولة معاً، فكان من المحتّم على من يخلفه أن يكون مؤهّلاً في كلا الجانبين. وقد عرفت أن الشيخين كانا حاكمَين ولم يكونا عالِمَين. وبما أنّ مقام الحاكميّة في الإسلام كان يحتاج إلى علم، فلا محيص إذَن من التصرّف في بعض الأصول، حتّى يمكن تشريع أقوالهما وإخراجها عن دائرة اجتهادات شخصيّة يمكن تخطئتها في العصور اللاحقة.

في حين كنّا قد عرفنا أنّ الشيخين لم يكونا يدّعيان - في أوائل خلافتهما - أنهما قد حفظا جميع علم رسول الله، بل نراهما يسألان الصحابة عمّا قال الرسول فيما جهلاه من أحكام كمسائل الجدّة وغيرها، وإذا حدث تخالف بين رأيهما وقول رسول

____________________

(١) حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ١٠: ٣ ط دار إحياء التراث العربي، وقد رد الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر على كلام الصاوي في كتاب أسماه (تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران) هذا ما قاله العلاّمة الخليلي مفتي سلطنة عمان في كتابه الحق الدامغ: ١٠.

٢٦٧

الله فإنّهما كانا يتراجعان عمّا أفتيا به، كما حصل في موارد كثيرة، لكنّ عمر - في الفترة الأخيرة من خلافته - لم يرتضِ الرجوع عمّا أفتى به، بل أمر بحبس الصحابة عنده حتّى وافاه الأجل، وادّعى لنفسه أنّه الميزان الأوّل والأخير في الأخذ والردّ.

إنَّ الشيخين - بل عامّة المسلمين - كانوا يعلمون أن المشرِّع هو الله ورسوله، وليس لأحد حقّ التشريع أمام نصّ القرآن والسنّة، وكلّ ما لَهما هو أن يستنبطا الأحكام من القرآن والسنّة. وإنّ تراجعهما عمّا أفتيا به وأخذهما بكلام الصحابة والمحدِّثين عن رسول الله، ينبئ عن أنّ الأصل كان عندهما السنّة لا اجتهاداتهما.

لكنّهم وبمرور الأيّام أخذوا يؤكّدون على حجية آرائهم واجتهاداتهم، وإن كانت مخالفة لقول رسول الله أو مخالفة لاجتهادتهم السابقة، فمثلاً يقول عمر: (تلك على ما قَضَيْنا، وهذه على ما قَضَيْنا)! نعم إنّه يعلم أنّ بيان التخالف بين نُقُول الصحابة عن رسول الله واجتهاداته لو استمرّ فمن شأنه أن يؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة عمّا بينهما، وهذا ممّا لا يقبله الخليفة بأيّ وجه من الوجوه.

إنّ السماح بتناقل حديث رسول الله يودّي إلى رفع مستوى الوعي والتبصّر عند المسلمين بوقوفهم على سنّته صلّى الله عليه وآله. ولمّا كان الخليفة لا يعرف كلّ ما صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله فإنّه لا محالة سيخالف باجتهاده قول الرسول، وهذا سيضعه أمام مشكلة مع الصحابة، ويؤدّي إلى تخالف آرائهم في الأحكام. ومن أجل القضاء على كلّ هذا قال لمن جمعهم من الصحابة: (إنّكم أفشيتم الحديث عن رسول الله) وفي آخر: (أكثرتم الحديث عن رسول الله).

لأنّه كان يرى أنّ في الإفشاء والإكثار ثقل المواجهة!

نعم إنّه جاء ليؤكّد على القياس والأخذ بالرأي، كما مرّ في رسالتيه إلى أبي موسى الأشعريّ وشُريح القاضي، وكذا الحال بالنسبة إلى أحاديث الاجتهاد، التي رويت عن معاذ وعمرو بن العاص وغيرهما، عن النبيّ فإنّها جاءت لتصحيح الموقف.

وهذا الذي قلناه من أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي استعمل الاجتهاد واقترحه أكثر

٢٦٨

من أبي بكر، لا يتنافى مع ما قيل من أنّ القياس حدث في العصور المتأخّرة والأزمنة اللاحقة، نتيجة لضرورات زمنيّة مرّت بها الدولة وفقهاؤها آنذاك؛ لأنّ أصل نشوء فكرة الاجتهاد ببذراتها الأولى كان من مبتكرات عمر، كما اتّضح لك في البحوث السابقة، لكنّ ذلك النشوء لم يكن متكامل الجوانب والمباني، بل ظلّ يتعثّر في خطاه ويكبو، واعترض عليه الكثير من الصحابة والتابعين إلى أن اكتملت أُصوله، وصارت له بنيويّة متكاملة خاصّة تميّزه عن غيره من أُصول الاجتهاد التي رسموها، وذلك في العصور المتأخّرة، في أوائل القرن الثاني الهجريّ، فلذا نرى بروز أسماء أُخرى واصطلاحات مستجدّة أُخرى إلى جانبه كالاستحسان والمصالح المرسلة و و.. وهذا واضح لا غبار عليه.

بيان الإمام عليّ ‏عليه السلام

وبذلك صارت الفتاوى تؤخذ عن رأي وقياس، وليس جميعها عن نصّ ورواية؛ فلذلك كان بعض الصحابة - كما قلنا - لا يرتضون الاجتهاد فيما لا نصّ فيه؛ لقربهم من زمن التشريع ولمعرفتهم بمن عنده نصوص عن رسول الله صلّى الله عليه وآله‏في القضايا الحادثة، بَيدَ أنّ خفاءها على الخليفة لا يعذره ليفتح أبواباً واسعة للاجتهاد؛ لأنّ في ذلك خطراً على الفقه والعقيدة الإسلاميّة. وقد جسّم الإمام عليّ بن أبي طالب واقع الأمّة والصدر الأوّل من تاريخ الإسلام وفي هذه الفترة الحسّاسة بقوله في بعض مقاطع الخطبة الشِّقشقيّة:

(... يَكْثُر العِثارُ فيها، والاعْتِذارُ منها، فصاحِبُها كَراكِب الصَّعْبَةِ: إنْ أشْنَقَ لها خَرَمَ، وإنْ أسْلَسَ لها تَقَحَّم، فَمُنِيَ الناسُ لَعَمْرُ اللهِ بِخَبْطٍ وشِماسٍ، وتَلوُّنٍ واعْتِراضٍ، فَصَبَرْتُ على طولِ المُدّة وشِدّة المِحنَة...)(١) .

قال ابن أبي الحديد في شرح: قوله عليه السلام:(ويكثر العثار فيها والاعتذار منها) قال:

____________________

(١) نهج البلاغة: ٣٣، الخطبةرقم ٣ المعروفة بالشقشقية.

٢٦٩

ليست هذه الجهة جَدَداً مهيعاً، بل هي كطريق كثيرة الحجارة، لا يزال الماشي فيه عاثراً، وأمّا قوله عليه السلام: (والاعتذار منها) فيمكن أن تكون (من) على أصلها، يعني أنّ عمر كان كثيراً ما يحكم بالأمر، ثمّ ينقضه ويُفتي بالفُتيا، ثمّ يرجع عنها ويعتذر ممّا أفتى به أوّلاً. ويمكن أن يكون (من) هاهنا للتعليل والسببيّة، أي ويكثر اعتذار الناس عن أفعالهم وحركاتهم لأجلها، قال:

أمِن رسمِ دارٍ مربعٌ ومَصيفُ

لعينيكَ من ماء الشُّؤون وَكِيفُ؟

أي ألأجل أن رَسَمَ المربْعُ والمصيفُ هذه الدارَ وَكَف دمع عينيك؟ والصعبة من النُّوق: ما لم تُرْكُب ولم تُرَض، إن أشنق لها راكبها بالزمام خَرَم أنفها، وإن أسلس زمامها تقحّم في المهالك، فألقته في مهواة أو ماء أو نار، أو ندّت فلم تقف حتّى تُرديه عنها فهلك. وأشنق الرجل ناقته إذا كفّها بالزِّمام وهو راكبها)، إلى أن يقول في معنى قوله ‏عليه السلام (فَمُنِي الناس): أي بُلي الناس، قال:

مُنيتُ بِزَمَّرْدَةٍ كالعصا

و(الخَبْط) السير على غير جادّة. و(الشِّماس) النفار. و(التلوُّن) التبدّل. و(الاعتراض) السير لا على خطّ مستقيم، كأنّه يسير عرضاً في غضون سيره طولاً، وإنّما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط...)(١) .

ويبدو لنا من قوله هذا ما يجسّم مراحل التغيُّر والتبدّل الذي طرأ على الأمّة في زمن حكومة عمر بن الخطّاب، وكيف أنّ الناس (مُنُوا) بهذا الداء العضال الذي أبعدهم عن الجادّة، التي كان يفترض أن يسلكوها في حياتهم الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، فيقول الإمام عليّ في المرحلة الأولى(فمُنيَ الناسُ لعمر الله بخبطٍ) ، وهو السير دون اهتداء وعلى غير الجادّة؛ إذ بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله تبيّن واضحاً عجز من قام بعده في كلّ المجالات الدينيّة والثقافيّة والإرشاديّة، وحتّى السياسيّة، حيث خلطت السياسة آنذاك بين المرتدّين وغيرهم، بُغيَةَ التخلّص من الأعداء السياسيّين للخليفة

____________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ١: ١٧١ - ١٧٣.

٢٧٠

الأوّل، فترى قتل مالك بن نويرة تبقى ظلامة دون رادع من الخليفة، لكنّ قِصَر فترة خلافة أبي بكر غطّت شيئاً مّا من الفجوات، ولم تظهر (الخبط) بمظهر صارخ، بعكس خلافة عمر بن الخطّاب التي امتدّت عمراً طويلاً فتبيَّن فيها من الأمور والأحداث، ما لم يكن بائناً من ذي قبل، وهذا هو الذي جعل الإمام عليّاً يوكّد على فترة خلافة عمر، باعتبار أنّ لها الحصّة العظمى من التغيّر والتبدّل.

وبما أنّ الخليفة يجهل الكثير من الأمور، فقد جهلها الناس تبعاً لذلك؛ لأنّ الخليفة والحاكم هو المقوِّم للرعيّة، فإذا كان هو بحاجة إلى التقويم ومعترفاً بالعجز والقصور، حصل (الخبط) والسير في مناهج الحياة على غير الجادّة التي رسمها النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله للمسلمين، فتشعّبت الآراء والاجتهادات، وراح كلُّ يدّعي أنّ الصواب حليفه وأنّ الخطأ نصيب الآخرين، بل الخليفة نفسه راح يفتي بشي ثمّ يفتي بضدّه أو مخالفه ثمّ يدّعي صحّة الجميع وأنّ كلّ آرائه حجّة ملزِمة، وبذلك ضاعت الجادّة، ولم يبق الطريق مهيعاً لاحباً، فلذلك سار الناس على دروب ملتوية بعد أن فقدت الجادّة التي ينبغي السير عليها.

وهذا بعينه ما أشار إليه الإمام علي في حديث آخر قال فيه:(لا يدري أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خبّاط جهالات، عاشٍ ركّابُ عَشَوات، لم يعَضّ على العلم بضرس قاطع، يذري الرِّوايات ذَرْوَ الريح الهشيم...) (١) .

بعد ذكر الإمام المرحلة الأولى، جاء ليقول (وشماسٍ)؛ إذ إنّ النتيجة الطبيعيّة للسير على غير الجادّة وبدون هدىً أن يجرّ هذا السير إلى النفار، وإلى ضروب من ردود الفعل غير المدروسة؛ ولذلك نرى بروز أحداث وسلوك غير طبيعيّ عند المسلمين لم يكن من قبل، برز كنتيجة طبيعيّة لتركهم وإضاعتهم للجادّة الدينيّة الصحيحة، فترى ازدياد حالة قتل الأسياد لعبيدهم، ممّا حدا بالخليفة عمر أن يحاول تقنين قانون (قتل

____________________

(١) نهج البلاغة: ٥٣، الخطبة ١٧.

٢٧١

الحرّ بالعبد)(١) خلافاً لما نقل عنه صلّى الله عليه وآله (لا يقتل حرّ بعبد)(٢) ، فترى النفار والتصرّف غير الطبيعيّ من كلا الطرفين من الخليفة أوّلاً إذ أضاع عليهم الجادّة ومنهم ثانياً إذ أساءوا الاستفادة من هذا القانون الإسلاميّ، نتيجة لغياب حالة الوعي الدينيّ المستوحى من النصوص، التي تفرضُ حرمة قتل النفس والإساءة إلى الآخرين، وهذا هو عين النفار، وهي حالة خطيرة في المجتمعات تُراكِبُ فيها العُقَد، وحالات الانتقام والشجار والانفلات الاجتماعيّ.

ومثل ذلك بروز ظاهرة هَتْف النساء بالرجال كما في قضية المتمنية لنصر بن الحجّاج، وظاهرة اشمئزاز المجتمع من بعض المفردات الفقهيّة التي قد لا تتلاءم مع ذوقهم، متناسين حرمة الشارع المقدّس، كتحريمهم للمتعة، التي لها أكبر الأثر في استقرار المجتمع خصُوصاً في حالات الحرب وقلّة الرِّجال و و...

وإذا تأمّلت ما أسلفناه من تصرّفات عمر ومخالفة بعض الصحابة له، وتأييد آخرين له، وحصول الانشقاق، وبروز حالات شاذّة لم تكن في زمن النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله رأيت أنَّ الخليفة يقف أمامها موقف العاجز. أو المقوِّم لكن بشكل سلبيّ، كقضيّة مشاطرة عمّاله أموالهم. فمتى كان عمّال النبيّ صلّى الله عليه وآله خونة لمال الله ومال المسلمين!! ومتى كان النبيّ يشاطرهم!! وإن كان بعضه مسروقاً من المسلمين وجب على الخليفة تحرّي ذلك المقدار المسروق وأخذه دون غيره، وعلى كلّ التقادير، فالمهمّ هو حصول حالة (الشماس) أو (النفار) في المجتمع الإسلاميّ بعد أن سار على غير الجادّة.

ثمّ أشار الإمام عليّ عليه السلام إلى مرحلة ثالثة من مراحل التغيّر، وهي (التَّلوُّن) أي (التبدّل) إذ بدا تبدّل الأحكام في زمن الخليفة الثاني أمراً طبيعيّاً، باعتبار أنّ الخليفة له أن يؤسّس حكماً أو يلغي حكماً، وله أن يقيّد مطلقاً، أو يطلق مقيداً، وله أن ينسخ

____________________

(١) الديات للشيباني ١: ٥٤، باب الحر يقتل العبد، بسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ أبا بكر وعمر كانا يقولان الحر يقتل بالعبد.

(٢) سنن الدارقطني ٣: ١٣٣، كتاب الحدود والديات وغيره، ح ١٥٨، ح ١٦٠، السنن الكبرى للبيهقي ٨: ٣٥، وانظر مصنف ابن أبي شيبة ٥: ٤٠٩، ح ٢٧٤٧٧، وكذلك في الموطأ لمالك ٢: ٨٧٣.

٢٧٢

آيات القرآن وعمل النبيّ صلّى الله عليه وآله، وله أن ينفي ويغرّب، وله أن يعاقب أو يصفح، كلّ ذلك بدليل أنّه (خليفة) مجتهد له رأيه الخاصّ الذي لا بدّ من احترامه، وأنّه يعرف المصلحة أحسن من غيره.

وقد تركزت هذه الفكرة وترعرعت في نفوس الكثيرين ممّن لم يكونوا بالمستوى المطلوب، أو كانوا من الذين تأثّروا بالصحابة المائلين للرأي على عهد رسول الله، فصار كلّ شيٍ متبدّلاً عمّا هو عليه في واقع الأمّة والتشريع، فضرب الصحابيّ صار أمراً راجحاً باعتباره (تأديباً للمنحرفين)، وتحريم الحلال وتحليل الحرام صار حقّاً طبيعيّاً للخليفة باعتباره (مصلحة للمسلمين)، وصار تعدّد الإفتاءات في الجدّة وغيرها أمراً مألوفاً باعتبار (كلّ ما أفتى به المجتهد فهو حكم الله)، وصار كلُّ حكم صحيحاً في زمانه، كما قال الخليفة (تلك على ما أفتينا العامَ وهذه على ما أفتينا الآن)، وصار سهم المؤلّفة قلوبهم ملغى باعتبار (أنَّ الإسلام عزيز) و...

وهذا كلّه - تبديل وتبدُّلٌ - طرأ على المسلمين، فصيّر عندهم فقهاً غير صحيح، وعقائد لم يرتضها الرسول - كما في البكاء على الميّت وغيره - واستنتاجات ارتجاليّة.

وجاءت الطامّة الكبرى في المرحلة الرابعة من مراحل التغيّر وهي مرحلة (الاعتراض) وهي السير لا على خطّ مستقيم، كأنّ الماشي يسير عرضاً في أثناء سيره طولاً، فكلّما زاد سيره زاد بُعدُهُ، وهذا التعبير من الإمام عليّ دقيق جدّاً، وجدير بالوقوف عنده والتأمّل في اختصاره (الاعتراض) وكثرة مغزاه ومعناه.

ففي المراحل السابقة كان السير خبطاً لا على الجادّة، وكان يؤمَّل أن يرجع الناس إليها لو أُتيح لهم الدليل على ذلك الطريق المهيع، لكنّ فقدان الدليل المقوّم انجرّ عبر المرحلتين الأخريين إلى أن يكون السير (اعتراضاً)، بحيث لا يمكن تقويمه، فإنّ الأصول تأصّلت والسير أخذ مجراه غير الطبيعيّ كقاعدة وليس كحالة شاذّة في وقت معيّن بحيث يمكن معالجتها.

وإذا تصوّرت معنى (الاعتراض) فهمت أنّ السير مهما امتدّ ازدادت شُقة

٢٧٣

الانحراف، وكلّما طالت المدّة زاد البُعد عن الطريق الأوّل، فإذا رسمت الجادّة خطّاً مستقيماً، ثمّ رسمت (الاعتراض) خطّاً مائلاً، ثمّ مددت الخطّين رأيت أنّ الأوّل مهما امتد فهو في مسار واحد وهو الأصل، وأمّا الخطّ المائل فكلّما مددته زاد ابتعاده عن الخطّ الأوّل وهو معتقد بأنّه يسير على الجادّة المستقيمة، وهذا ما نلحظه بالفعل اليوم من اتّساع هوّة الخلاف بين المسلمين بحيث يتعذّر التأليف بين فرقتين منهم، بل يعسر توحيد وجهات نظرهم في مسألة خلافيّة واحدة.

فهذا يقول إنّ القياس حجّة، وذلك يقول (إنّ أوّل من قاس إبليس)، وهذا يقول بأنّ المتعة ما زالت مشرّعة، وذلك يقول (نسخت بقول عمر)، وهذا يقول إنّ الإمامة بالنصّ والتعيين، وذلك يقول تارة بالشورى وأُخرى بمن بايعه أهل الحلّ والعقد، وهكذا ترى)الاعتراض(في أغلب أُمور الشريعة الإلهيّة النبويّة الواحدة.

وقد أجاد الإمام عليّ في وصفه تلك الحقبة وما طُرح فيها من آراء.

فالاجتهاد وما يدعو إليه الخليفة من رأي له من المطّاطيّة والانسياب ما لا يمكن لأحد الحدّ من سيره؛ فهو كراكِبِ الصَّعْبة: إن أشنقَ لها خَرَم، و إن أسلس لها تقحّم.

ومن أجل كلّ هذا ترى ابن عوف - رغم أخذه العهد من عثمان في السير على نهج الشيخين - لا يمكنه الضغط عليه في اجتهاداته: كإتمامه الصلاة بمنى؛ لأنّه اتّخذ الرأي والاجتهاد الذي شرّعه عمر بن الخطّاب، فلا يمكن لابن عوف وغيره أن يحدّد عثمان في فعله؛ لأنّه اجتهد في الحكم رغم عرفانه أنّ النبيّ وأبا بكر وعمر قد قَصَروا الصلاة في منى.

وبعد هذا لم يَعُد بالإمكان أن يحدّد غيره من الصحابة والخلفاء بالنصوص الصادرة عن رسول الله، كمعاوية، ويزيد، وعبد الملك بن مروان؛ لأنّ ما يقولون به هو اجتهاد أيضاً!

وجاء عن الإمام عليّ عليه السلام:(واعلَمُوا عبادَ الله أنّ المؤمنَ يَسْتِحلّ العامَ ما استحَلّ عاماً أوّل، و يُحرِّم العامَ ما حَرّم عاماً أوّل، وأنّ ما أحدثَ الناسُ لا يُحلّ لكم شيئاً ممّا

٢٧٤

حُرّم عليكم، ولكنّ الحلال ما أحلّ الله والحرام ما حرّم الله) (١) .

وفي قول له آخر:(وأنزلَ عليكم الكتابَ تِبياناً لكلّ شيء، وعمَّر فيكم نَبيَّه أزماناً، حتّى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابهِ دينَه الذي رضِي لنفسه، وأنهى إليكم على لسانه محابَّه من الأعمال ومكارِهَه ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة، واتّخذ عليكم الحجّة، وقدّم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدَي عذاب شديد) (٢) .

تأكيدٌ لما استنتجناه

روى البيهقيّ بسند صحيح أنّ أبا بكر حين استُخلف قَعَد في بيته حزيناً، فدخل عليه عمر بن الخطّاب فأقبل [ أبو بكر ] على عمر يلومه، وقال: أنت كلّفتني هذا الأمر! وشكا إليه الحُكْمَ بين الناس، فقال عمر: أوَ ما علمت أنّ رسول الله قال: إنّ الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد؟!(٣) .

ونقل عن أبي بكر أنّه كان يقضي بالقضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة كبلال وصهيب ونحوهما(٤) .

أترك هذا النصّ للقارىِ دون أيّ تعليق، ليقارن ما قلناه بما كان يواجه الشيخين من مشاكل علميّة أوجدت كثيراً من الإحراج النفسيّ.

قال الدكتور محمّد رواس قلعة چي في مقدّمة كتابه (من موسوعة فقه السلف، إبراهيم النخعيّ): إنّ الأستاذ لمدرسة الرأي هو عمر بن الخطّاب؛ لأنّه واجه من الأمور المحتاجه إلى التشريع ما لم يواجهه خليفة قبله ولا بعده، فهو الذي على يديه فُتحت الفتوح، ومُصِّرت الأمصار، وخضعت الأمم المتمدّنة من فارس والروم لحكم الإسلام(٥) .

____________________

(١) نهج البلاغة ٢: ٩٤، ضمن الخطبة (١٧٦).

(٢) نهج البلاغة ١: ١٥٠، الخطبة ٨٦.

(٣) الجامع لمعمر راشد ٢: ٣٢٨، فضائل الصحابة لأحمد ١: ١٨٠، ح ١٨٥، شعب الايمان ٦: ٧٣، ح ٧٥٣٠ واللفظ له.

(٤) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢٠: ٢٧.

(٥) انظر مقدّمة موسوعة فقه إبراهيم النخعيّ.

٢٧٥

وقال الأستاذ أحمد أمين في (فجر الإسلام):

بل يظهر لي أنّ عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة، لكنّنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه. وهو أقرب شي إلى ما يُعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته.

وقال أيضاً:

وعلى كلّ حال، وجد العمل بالرأي، ونقل عن كثير من كبار الصحابة قضايا أفتَوا فيها برأيهم، كأبي بكر وعمر وزيد بن ثابت وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل. وكان حامل لواء هذه المدرسة أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن الخطّاب(١) .

وقالت الدكتورة نادية شريف العمريّ في (اجتهاد الرسول): ولم يكن الاجتهاد بالرأي والعمل بالقياس وتحقيق مقاصد الشريعة بدعة ابتدعها التابعون المقيمون في العراق، بل كان ذلك نموّاً لاتّجاه سبقهم فيه عدد من الصحابة، منهم عمر بن الخطّاب...(٢) .

وقال الدكتور محمّد سلّام مدكور في (مناهج الاجتهاد):

... وقد اقتضت الفتوحات الإسلاميّة المتتالية، في عصر الصحابة، مواجهة مسائل جديدة نابعة من طبيعة البلدان المفتوحة، وأُخرى ولّدتها ظروف الحرب، دفعتهم هذه المسائل إلى الاجتهاد بالرأي؛ إذ النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، فضلاً عن أنّ السنّة لم تكن قد دوّنت بعد(٣) .

ويقول في كلام آخر له: أمّا إذا كان قول الصحابيّ صادراً عن رأيه واجتهاده فيما يُدرَك بالعقل، وكان موضع خلاف من الصحابة، فهذا هو محلّ خلاف الفقهاء؛ فذهب

____________________

(١) فجر الإسلام: ٢٤٠.

(٢) اجتهاد الرسول: ٣٢١.

(٣) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٧٧.

٢٧٦

فريق إلى حجّيّته وإن خالف القياس. وذهب آخرون إلى حجّيّته بالنسبة لقول أبي بكر وعمر دون غيرهما، وذهب الشيعة والشافعيّ في أحد قولَيه، وأحمد في إحدى روايتين عنه، والكرخيّ من الحنفيّة إلى أنّه ليس بحجّة. وذهب مالك وبعض الحنفيّة والشافعيّ في قول له وأحمد بن حنبل في رواية عنه أنّه حجّة مقدّمة على القياس.

واختار الآمديّ أنّه ليس بحجّة. ويعلّل الغزاليّ في (المستصفى) لذلك بقوله: ليس بحجّة؛ لانتفاء الدليل والعصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم. كما يعلّل الشوكانيّ ذلك بقوله: والحقّ أنّه ليس بحجّة؛ فإنّ الله لم يبعث إلى هذه الأمّة إلاّ نبيّنا محمّداً صلّى الله عليه وآله، وجميع الأمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك(١) .

وقال الإمام الكرخيّ: (الأصل أنَّ كلّ آية تخالف قول أصحابنا فإنَّها محمولة على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق، الأصل: إن كان خبر يجي بخلاف قول أصحابنا فإنَّه يحمل على النسخ، أو على أنّه معارض بمثله، ثمّ يُصار إلى دليل آخر، أو ترجيح فيه بما يحتجّ به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق)(٢) .

وقال الشيخ خلاّف: وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع، وطرأت لهم طوارئ لم تواجه المسلمين، ولم تطرأ لهم في عهد الرسول، فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقَضَوا وأفْتَوا وشرّعوا وأضافوا إلى المجموعة الأولى عدّة أحكام استنبطوها باجتهادهم، فكانت مجموعة الأحكام الفقهيّة في طورها الثاني، مكوّنة من أحكام الله ورسوله وفتاوى الصحابة وأقضيتهم، ومصادرها القرآن والسنّة واجتهاد الصحابة...(٣) .

وبهذا عرفنا أنّ الرأي لم يكن شيئاً حادثاً عند الحنفيّة أو غيرهم لكي ينسب إليهم

____________________

(١) مناهج الاجتهاد في الإسلام: ٢٤٤، وله كلام آخر في ص ٣٤٧ فراجع.

(٢) أُصول الكرخيّ المطبوع مع تأسيس النظر للدبّوسيّ عن أثر الاختلاف في القواعد الأصوليّة للدكتور مصطفى سعيد الخن - مؤسّسة الرسالة، الطبعة الثانية ١٤٠٢هـ.

(٣) علم أُصول الفقه، لخلاّف: ١٥.

٢٧٧

اتّجاه الرأي، بل إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب هو الذي كان قد رسم أُصول هذه المدرسة. والنصوص السابقة تفنّد ما قيل عن عمر من أنّه كان يخالف الرأي، بل هو المشرّع الأوّل له. فأمّا النصوص الصادرة عنه، في النهي عن الرأي، فيحتمل صدورها في أوائل خلافته، أو في أواخرها، أي حينما أدرك تعذّر إمكان الحدّ من شيوع ظاهرة الرأي عند الصحابة، والتي تطوّرت بعد اجتهاداته الأخيرة.

أو لعلّه - كما هو الراجح - كان يرى لزوم التعبّد لغيره، وجواز الاجتهاد والرأي لنفسه، وأنّ على الآخرين أن يلتزموا بما يقوله هو باعتباره (أعلم) حسب ادّعائه المتأخّر زماناً!

فقد جاء عنه أنّه لمّا سمع اختلاف الصحابة صعد المنبر وقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله فعن أيّ فتياكم يصدر المسلمين؟! لا أسمع أثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلاّ فعلتُ وصنعت(١) .

وبهذا تكشّفت أُصول النهجين وعرفنا أنّ البعض منهم يقول بمشروعيّة الرأي والقياس، والآخر لا يرتضيهما مستدلاًّ بأنّ القرآن والسنّة يغنيان عن الرأي والقياس وأنّ الشريعة ليست بناقصة لكي تكمل بالقياس.

وكان النهجان على اختلاف دائم، فالذي دعا إلى الأخذ بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله نهى عن الرأي، وصرّح بلزوم تدوين السنّة وأكّد أنّ القرآن ليس بناقص، وأنّ فيه تبياناً لكلّ شي، وهؤلاء كانوا يحدّثون بالسنّة ولو وضعت الصمصامة على أعناقهم(٢) ، وأمّا الذي دعا إلى الاجتهاد والرأي فقد خالف التدوين وفتح باب الرأي في كلّ شيء.

رموز الاجتهاد والخلافة

من جهة أُخرى نرى أنّ الذين كانوا يذهبون إلى الأخذ بكلمات الشيخين - وحتّى المخالفة منها للنصوص - كانوا لا يرتضون إكثار الحديث عن رسول الله، ويعارضون

____________________

(١) المستصفى للغزالي ١: ٢٩٦، الإحكام للآمدي ٤: ١٣، إعلام الموقعين ١: ٢٦٠.

(٢) كأبي ذر انظر: صحيح البخاريّ ١: ٣٧، باب قول النبي‏ صلّى الله عليه وآله(رُبّ مبلغ أوعى من سامع) ، ح ٦٧، سنن الدارمي ١: ١٤٦، ح ٥٤٥، حجّيّة السنّة ٣: ٤٦٤.

٢٧٨

التدوين، ومن يراجع عهود يوم الشورى وسبب ترجيح الخليفة عمر بن الخطّاب كفّة ابن عوف فيها، وإلزامه الجميع بالخضوع لما يتّخذه من قرار، يجد أنّ هذه الوقائع تنبىُ عن حقيقة سياسيّة، قال عنها الدكتور إبراهيم بيضون:

(... ومن ناحية أُخرى، فإنّ البروز المفاجئ لعبد الرحمن بن عوف بعد حادثة الاغتيال وظهوره في الوقت المناسب إلى جانب عمر - حيث دعاه لأن يؤُمَّ الصلاة بعد طعنه - يحتاج أيضاً إلى بعض المناقشة؛ فقد انتقل هذا الصحابيّ الأرستقراطيّ فجأة إلى واجهة الأحداث، بعد أن عاش على هامشها، ليقوم بالدور الأوّل في تسمية الخليفة!)(١) .

فاستبان إذَاً أنّ السياسة كانت وراء رسم بعض الأصول المأخوذ بها اليوم في الشريعة، ومنها تطبيق ما سُنّ على عهد الشيخين، إذ أنّ محوره كان الشورى المبتنية على قبول هذا الشرط أو رفضه. فإن ارتضى الخليفة الجديد العمل بسيرة الشيخين فله الخلافة، و إلاّ فلا.

قال ابن عوف لعليّ، يوم الشورى:

يا عليّ! هل أنت مُبايِعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعلِ أبي بكر وعمر؟ فقال: أللهم لا(٢) .

ويحقّ هنا للحقوقيّ المنصف أن يسأل: كيف تكون هذه الخلافة شورى مع أنّهم يرسمون للخليفة اتّجاهه المستقبليّ ويحدّدون له ما يريدون من إلزامات؟

أترى أنّ الشورى تتّفق مع ضرب الأعناق إن تأخّروا عن البيعة فوق ثلاثة أيّام، أو تتّفق مع أمر عمر بقتل من خالف الأربعة منهم، أو الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمان بن عوف؟!

وهل مثل هذه التشكيلة المرتبكة المحاطة بالعنف والتهديد تسمّى شورى

____________________

(١) ملامح التيّارات السياسيّة في القرن الأوّل الهجريّ: ١٠٣.

(٢) تاريخ الطبري ٢: ٥٨٦، البداية والنهاية ٧: ١٤٦، سبل الهدى والرشاد ١١: ٢٧٨.

٢٧٩

منسجمة مع روح الإسلام، وحتّى مع الديمقراطيّة الحديثة؟!

وكيف يمكن أنّ يُقيّد صحابيّ بهذه القيود، وهو أحد الأعضاء الستّة للشورى ومن أصحاب الحلّ والعقد ومن أعيان الصحابة؟!

بل كيف يكون هؤلاء من أصحاب الحلّ والعقد وتراهم لا يحلون ولا يعقدون، إلاّ طبق المقرّرات؟!

وهل يسمّى هذا انتخاباً حرَّاً؟

وكيف يمكن تصوّر حرّيّة الانتخاب في حين نرى السيوف مشهورة على رؤوسهم، وهم مكلّفون بحسم القضيّة في ثلاثة أيّام مع حتميّة موافقتهم على اجتهادات الشيخين بإزاء الكتاب والسنّة؟!(١) .

بلى، إنّ الشورى لم تكن بالمعنى المعروف لهذه الكلمة اليوم، بل كانت تفتقد إلى روح الديمقراطيّة والحرّيّة - المعروفة اليوم - كما أنّها مُنِيَتْ بسلبيّة تشريع سيرة الشيخين بإزاء سنّة رسول الله، ونحن نعلم أنّ فرض هذا القيد بجنب الكتاب والسنّة يوحي أنّ القيد هو المطلوب من العمليّة كلّها، وإن كان بالقهر والغلبة؛ لأنّ الكتاب والسنّة لا اختلاف فيهما، وما من حاجة إلى هذا القدر الخطير من الإصرار والتهديد لأعيان الصحابة، من أجل الأخذ بهما في التطبيق.

نعم، إنّ ابن عوف لمّا فهم أنّ الإمام عليّاً قد رفض هذا الشرط الإضافيّ على التشريع، والذي أُريد إقحامه في مجال الحكم الإسلاميّ، التفت إلى عثمان بن عفّان وقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه وفعلِ أبي بكر وعمر؟

قال: اللّهمّ نعم، فأشار بيده إلى كتفَيه، وقال: إذا شئتما!

فنهضا حتّى دخلا المسجد وصاح صائح: الصلاة جامعة... الخبر(٢) .

لقد دلّ الشرط الأخير، وتأكيد ابن عوف عليه، على وجودِ تخالف بين سنّة رسول

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٥٨١، قصة الشورى.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٢: ٥٨٦، البداية والنهاية ٧: ١٤٧.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586