منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 103047
تحميل: 7812

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103047 / تحميل: 7812
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

العلم وعليّ بابها) (١) ، ولا بوسعهم أن ينكروا مكانته من رسول الله، وعلمه الغزير الواسع، وصدقه في الحديث، وهو القائل:(علّمني رسول الله ألفَ بابٍ من العلم، ينفتح لي من كلّ بابٍ ألف باب) (٢) .

بلى، كان على المسلمين أن يرجعوا إلى عليّ، ومَن سار على نهجه التعبّدي من عيون الصحابة الذين حفظوا سنّة رسول الله ودوّنوها في مجاميعهم ليأخذوا دينهم منه، وقد ثبت عند الجميع أنّ عليّ بن أبي طالب انصرف إلى العلم بعد أن أُقصي عن منصبه بعد رسول الله، فدوّن القرآن وحديث رسول الله، وكانت له ألواح يكتب فيها ما نزل على رسول الله، وما قاله‏ صلّى الله عليه وآله في بيان التنزيل.

بعض الأمثلة التطبيقية

على مخالفة الصحابي لحديث رسول الله‏ (صلّى الله عليه وآله)

أورد الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة في كتابه (مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية) المطبوع في الرياض سنة ١٤١٥ هـ، مكتبة الرشد، بعض الأمثلة التطبيقية لذلك، وذلك بعد أن عرّف المخالفة لغة و أنّها تعني المضادة، والعصيان، و عدم الاتفاق، والتغيير(٣) والمقصود من الصحابي لغةً واصطلاحاً...(٤) .

أقول: أورد آراء علماء الإسلام في ذلك وانقسامهم فيه إلى مذهبين:

المذهب الأول: يعتقد أنّ الحديث يبقى على حجّيّته ولا تؤثّر عليه مخالفة

____________________

(١) المعجم الكبير ١١: ٦٥، ح ١١٠٦١، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٧، ح ٤٦٣٧، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، و ٣: ١٣٨، ح ٤٦٣٩، الفردوس بمأثور الخطاب ١: ٤٤، ح ١٠٦ عن أنس، فيض القدير ١: ٣٦.

(٢) كنز العمّال ١٣: ١١٤، ح ٣٦٣٧٢ عن (حل)، روضة الواعظين: ٧٥، جواهر المطالب: ٧٥، نظم درر السمطين: ١١٣، ينابيع المودّة ١: ٢٣١.

(٣) انظر مخالفة الصحابي: ٢٢ - ٢٩.

(٤) انظر مخالفة الصحابي: ٣٠ - ٨٦.

٣٢١

الصحابي له، لا من قريب و لا من بعيد، فلا يترك العمل من أجل تلك المخالفة(١) .

المذهب الثاني: يرى لزوم الأخذ بقول الصحابي وسقوط الاحتجاج بالحديث النبوي(٢) .

ثمّ ذكر الدكتور (الأمثلة التطبيقية على مخالفة الصحابي للحديث الذي رواه مخالفة كلية، وبيان أثر الاختلاف في ذلك) فقال:

بعد أن عرفنا مذهبي العلماء في هذه المسألة الأصولية وأدلة أصحاب كل مذهب، لابدّ من ذكر بعض الأمثلة التطبيقية التي خالف فيها الصحابي الحديث الذي رواه مخالفة كلية، وذلك زيادة في إيضاح المسألة، و لكي يتصور القارئ تلك المسألة في ذهنه أكثر تصويراً فأقول، و بالله التوفيق:

المثال الأول:

ما أخرجه البخاري في صحيحه، و مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والترمذي في سننه، و النسائي في سننه، وابن ماجه في سننه، والدارمي في سننه، والإمام مالك في الموطأ و الإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله - قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهنّ بالتراب)(٣) .

هذا الحديث رواه عن النبي صلّى الله عليه وآله أبو هريرة - كما رأيت - ولم يعمل به، بل خالفه وغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات، فقد أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار، والدارقطني في سننه، و ابن الجوزي في العلل المتناهية أنّ أبا هريرة كان يغسل

____________________

(١) انظر مخالفة الصحابي: ٨٧ - ١٠٥.

(٢) انظر مخالفة الصحابي: ١٠٦ - ١٢٣.

(٣) صحيح البخاري ١: ٧٥، باب الماء الذي يغسل به شعر الانسان، ح ١٧٠، صحيح مسلم ١: ٢٣٤، باب حكم ولوغ الكلب، ح ٢٧٩، سنن أبي داود ١: ١٩، باب سؤر الكلب، ح ٧١، واللفظ له، سنن الترمذي ١: ١٥١، باب ما جاء في سؤر الكلب، ح ٩١، سنن النسائي ١: ٥٢، باب سؤر الكلب، ح ٦٣ و ٦٤، سنن ابن ماجة ١: ١٣٠، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، ح ٣٦٣ و ح ٣٦٤، الموطأ ١: ٥٢، باب جامع الوضوع، ح ٦٥، مسند أحمد ٢: ٤٦٠، ح ٩٩٣١.

٣٢٢

الإناء ثلاث مرات(١) .

فهنا خالف الصحابي - و هو أبو هريرة - الحديث الذي رواه.

فذهب أصحاب المذهب الأول - و هم الجمهور - إلى أنّه يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات واحتجّوا بالحديث، ولم يلتفتوا إلى مخالفة أبي هريرة له - تبعاً لقاعدتهم.

أمّا أصحاب المذهب الثاني فإنّهم لمّا رأوا أنّ أبا هريرة قد خالف ما رواه تمسّكوا بقاعدتهم - وهي: أنّه إذا خالف الصحابي ما رواه فيؤخذ بتلك المخالفة دون الحديث(٢) - لذلك ذهبوا إلى أنّه يكفي غسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات. ولم يعملوا بالحديث الذي رواه.

واختلف بعض أصحاب المذهب الثاني في الحديث هل يكون منسوخاً أم يحمل على أن التسبيع ندب؟ على أقوال ثلاثة:

القول الأول: أن الحديث منسوخ وهو رأي الكمال بن الهمام في (التحرير)، ووافقه على ذلك أمير بادشاه في (تيسير التحرير)، وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير).

القول الثاني: أن الحديث لم ينسخ، ولكن يحمل على الاستحباب، أي: أنّ الغسل ثلاث مرات واجب، والغسل سبع مرات مستحب، ذهب إلى ذلك السمرقندي في (بذل النظر)، و السمرقندي في (الميزان).

القول الثالث: أنّ الحديث يحتمل أنّه منسوخ، وأنّه على الندب ذهب إلى ذلك السرخسي في (أصوله)، و النسفي في (كشف الأسرار).

ثم قال الدكتور: الراجح في هذه المسألة - هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب

____________________

(١) شرح معاني الآثار ١: ٢٣، سنن الدارقطني ١: ٦٦، باب ولوغ الكلب في الإناء، ح ١٧، العلل المتناهية ١: ٣٣٣، باب حديث في عدد الغسل من ولوغ الكلب، ح ٥٤٤.

(٢) انظر تحفة الاحوذي على سبيل المثال ٢: ٧٨، حيث قال: وأصل علمائنا إذا خالف الصحابي في مروية فهو يدل على نسخه.

٣٢٣

الأول - و هو أنّه يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات - لوجوه:

الوجه الأول: ثبوت حديث أبي هريرة السابق (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) وصحته، ولم يثبت شي يصلح لمعارضته.

الوجه الثاني: أن غسل الإناء سبعاً ثبت عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله عن طريق آخر فقد أخرج مسلم في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه)، والنسائي في (سننه) وابن ماجه في (سننه)، والدارمي في (سننه)، و أحمد في (المسند) عن عبد الله بن مغفل أنّ رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، والثامنة عفروه بالتراب)(١) .

فإذا فرضنا - مع الفرض الممتنع أنّ مخالفة الصحابي تؤثر في الحديث الذي رواه، فإنّها لا يمكن أن تؤثّر في مروي غيره.

الوجه الثالث: أنّ ما قاله أصحاب المذهب الثاني - أو بعضهم وهو: أنّه يغسل الإناء ثلاث مرات؛ استناداً إلى ما روي عن أبي هريرة من أنه كان يغسل الإناء ثلاث مرات، و في ذلك مخالفة للحديث الذي رواه، هذا لا يصلح أن يكون مستنداً يعتمد عليه؛ وذلك لأنّ الرواية اختلفت عن أبي هريرة: فقد روى عنه أنّه أفتى بغسل الإناء سبع مرات، وروى عنه أنّه أفتى بغسله ثلاث مرات... إلى أن يقول الدكتور:

المثال الثاني:

ما أخرجه أبو داود في (سننه)، والترمذي في (سننه)، والدارمي في (سننه)، والدارقطني في (سننه)، والحاكم في (المستدرك)، والإمام أحمد في (المسند) والطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبي‏ صلّى الله عليه وآله قال:

____________________

(١) صحيح مسلم ١: ٢٣٥، باب حكم ولوغ الكلب، ح ٢٨٠، سنن أبي داود ١: ١٩، باب الوضوء بسؤر الكلب، ح ٧٤، سنن النسائي ١: ١٧٧، باب تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه، ح ٣٣٧، سنن الدارمي ١: ٢٠٤، باب في ولوغ الكلب، ح ٧٣٧، ورواه ابن عمر أيضاً عن النبي‏ صلّى الله عليه وآله كما في مصنف بن أبي شيبة ١: ٥٩، باب في الكلب يلغ الإناء، ح ١٨٣١، سنن ابن ماجة ١: ١٣٠، باب غسل الإناء من ولوغ الكلب، ح ٣٦٦، المعجم الكبير ١٢: ٣٦٥، ح ١٣٣٠٧.

٣٢٤

(أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل)(١) .

فهذا الحديث قد روته عن رسول الله صلّى الله عليه وآله - عائشة كما رأيت - و لكنّها لم تعمل به، بل خالفته، حيث إنّها - رضي الله عنها - زوجت بنت أخيها حفصة بنت عبد الرحمان بن أبي بكر على ابن أختها: المنذر بن الزبير، و كان أخوها - عبد الرحمان - غائباً في الشام(٢) .

فهنا: اختلف العلماء تجاه ذلك:

فذهب أصحاب المذهب الأول - وهم الذين يأخذون بالرواية، دون مخالفة الصحابي له - إلى العمل بمقتضى الحديث وهو أنّه لا يجوز أن تزوج المرأة نفسها، فلا يجوز النكاح بغير ولم يلتفتوا إلى مخالفة عائشة لهذا الحديث الذي روته؛ وهم الجمهور.

أمّا أصحاب المذهب الثاني فقد ذهبوا إلى الأخذ بمخالفة عائشة والعمل بذلك، وترك الاحتجاج بالحديث؛ لذلك يقولون: يجوز أن تزوّج المرأة نفسها.

قال عبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار) - مبيناً وجهة نظر الحنفية في ذلك -: (فلمّا رأت عائشة - رضي الله عنها - أنّ تزويجها بنت أخيها من غير أمره جائز، ورأت ذلك العقد مستقيماً حتى أجازت فيه التمليك، الذي لا يكون إلاّ عن صحّة النكاح وثبوته، استحال أن يكون ترى ذلك مع صحّة ما روت).

ثم ذكر وجه دلالة آخر لذلك قائلاً: (فلمّا أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة؛ لأنّ العقد لمّا انعقد بعبارة غير المتزوجة من النساء فلأن ينعقد بعبارتها أولى فيكون فيه عمل بخلاف ما روت).

وذكر وجه دلالة ثالث من ذلك إذ قال: (لمّا أنكحت فقد اعتقدت جواز نكاحها

____________________

(١) سنن أبي داود ٢: ٢٢٩، باب الولي، ح ٢٠٨٣، سنن الترمذي ٣: ٤٠٧، باب ما جاء لا نكاح إلاّ بولي، ح ١١٠٢، سنن الدرامي ٢: ١٨٥، باب النهي عن النكاح بغير ولي، ح ٢١٨٤، سنن الدارقطني ٣: ٢٢١، كتاب النكاح، ح ١٠، المستدرك على الصحيحين ٢: ١٨٢، ح ٢٧٠٦، قال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، مسند أحمد ٦: ٤٧، ح ٦: ٦٦، ٢٤٢٥١، ح ٢٤٤١٧، شرح معاني الآثار ٣: ٧، باب النكاح بغير عصبة.

(٢) انظر المحلى ٩: ٤٥٥، بدائع الصنائع ٢: ٢٤٩، فتح الباري ٢: ٢٢٥.

٣٢٥

بغير إذن وليها بالطريق الأولى؛ لأنّ مَن لا يملك النكاح لا يملك إلاّ نكاح بالطريق الأولى، ومَن ملك الإنكاح ملك النكاح بالطريق الأولى).

وذكر بعض الحنفية كالسرخسي في (أصوله)، والنسفي في (كشف الأسرار) بأنّ الحديث منسوخ؛ و ذلك لكون الراوية له - وهي عائشة - قد عملت بخلافه تبعاً لقاعدتهم(١) .

وقد نصّ على ذلك الإمام أحمد في رواية حرب بن إسماعيل، فقال: (لا يصح الحديث عن عائشة؛ لأنّها زوجت بنات أختها، والحديث عنها).

وقال - أيضاً - في رواية المروزي: (لا يصح الحديث؛ لأنّها فعلت بخلافه).

ثم علّق الدكتور على الكلام السابق بقوله: الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لأمرين:

الأمر الأول: ما أخرجه البخاري في (صحيحه)، وأبو داود في (سننه)، والترمذي في (سننه)، وابن ماجه في (سننه) والإمام أحمد في (المسند) عن عائشة - رضي الله عنها - أنّ النبي‏ صلّى الله عليه وآله قال: (لا نكاح إلاّ بوليّ)(٢) ورواه - أيضاً ابن عباس، وأبو موسى الأشعري، وهو صحيح قال المروزي: (سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث فقالا: صحيح)(٣) وهذا نص في المسألة.

الأمر الثاني: أنّ مخالفة عائشة لحديث (أيّما امرأة...) ليس صريحاً في المخالفةِ.

ولو سلمنا صراحة المخالفة، فإنّ فعل عائشة أو غيرها لا يمكن - بأيّ حال من الأحوال - أن يقوى على إسقاط حديث قد ثبت، ولم يشك فيه أي إمام من أئمة الحديث الذين يعتمد على أقوالهم. والله أعلم.

____________________

(١) انظر أصول السرخسي ٢: ٦، قال: فبعملها بخلاف الحديث يتبين النسخ.

(٢) صحيح البخاري ٥: ١٩٧٠، باب من قال لا نكاح إلاّ بوليّ، وفيه عدة أحاديث، سنن أبي داود ٢: ٢٢٩، باب في الولي، ح ٢٠٨٥، سنن الترمذي ٣: ٣٠٧، باب ما جاء لا نكاح إلاّ بوليّ، ح ١١٠١، ح ١١٠٢، سنن ابن ماجة ١: ٦٠٥، باب لا نكاح إلاّ بوليّ، ح ١٨٨٠، مسند أحمد ١: ٢٥٠، ح ٢٢٦١.

(٣) المغني ٦: ٧، كشاف القناع ٥: ٤٨.

٣٢٦

المثال الثالث:

ما أخرجه البخاري في (صحيحه)، ومسلم في (صحيحه)، و أبو داود في (سننه)، والترمذي في (سننه)، والنسائي في (سننه)، وابن ماجه في (سننه)، والإمام مالك في (الموطأ)، والإمام أحمد في (المسند)، عن الزهري عن سالم عن أبيه - عبد الله بن عمر - قال: (رأيت رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، و إذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود)(١) .

فهذا الحديث قد رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، ولم يعمل به، بل خالفه، ولا يرفع يديه إلاّ عند افتتاح الصلاة فقط، فقد أخرج بن أبي شيبة، في (المصنف): أن مجاهداً قال: (ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلاّ في أول ما يفتتح)، وأخرجه الطحاوي في (شرح معاني الآثار)، بسند صحيح(٢) .

فهنا: هذا الصحابي - وهو ابن عمر - خالف حديثاً قد رواه، فاختلف العلماء في ذلك:

فذهب أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون بأنّ مخالفة الصحابي لما رواه لا يسقط الاحتجاج به - إلى الأخذ بمقتضى الحديث، وهو: رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وهذا مذهب الجمهور.

أمّا أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون بأنّ مخالفة الصحابي لما رواه يسقط الاحتجاج به، ومن ثمّ نعمل بعمل الصحابي ونترك الحديث - فإنّهم عملوا بفعل عبد الله بن عمر وهو: رفع اليدين عند الافتتاح - فقط - وتركوا العمل بالحديث، وهم أكثر الحنفية.

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ٢٥٧، باب رفع اليدين في التكبيرة الأُولى، ح ٧٠٢، صحيح مسلم ١: ٢٩٢، باب استحباب رفع اليدين، ح ٣٩٠، سنن أبي داود ١: ١٩١، أبواب تفريع استفتاح الصلاة، باب رفع اليدين، ح ٧٢١، سنن الترمذي ٢: ٣٥، باب ما جاء في رفع اليدين ثم الركوع، ح ٢٥٥، سنن النسائي ٢: ١٨٢، باب رفع اليدين للركوع حذاء المنكبين، ح ١٠٢٥، سنن ابن ماجة ١: ٢٧٩، باب رفع اليدين إذا ركع، ح ٨٥٨، الموطأ ١: ٧٥، باب افتتاح الصلاة، ح ١٦٣مسند أحمد ٢: ٨، ح ٤٥٤٠.

(٢) مصنف ابن أبي شيبة ١: ٢١٤، ح ٢٤٥٢، شرح معاني الآثار ١: ٢٢٧، الدراية في تخريج أحاديث الهداية ١: ١٤٩.

٣٢٧

قال الجصاص في (الفصول): (فدل تركه الرفع بعد روايته عن النبي‏ صلّى الله عليه وآله على أنّه عرف نسخ الحديث؛ إذ لولا ذلك لما تركه؛ لأنّه غير جائز أن يُظَن بصحابي مثله مخالفة سنّةٍ للنبي‏ صلّى الله عليه وآله رواها عنه مما لا احتمال فيه للتأويل).

وجزم أكثر الحنفية بمثل ما قاله أبو بكر الجصاص، وهو: أنه بمخالفة ابن عمر له عُلم أن الحديث الذي تركه - وهو من روايته - قد ثبت نسخه؛ من هؤلاء: أبو زيد الدبوسي في (الأسرار في الأصول والفروع)، والسجستاني في (الغنية في الأصول)، والسرخسي في (أصوله)، والكمال بن الهمام في (التحرير)، وعبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار)، وأمير بادشاه في (تيسير التحرير)، وابن أمير الحاج في (التقرير والتحبير)، والنسفي في (كشف الأسرار)، وملاّ جيون في (نور الأنوار شرح المنار).

وبعض الحنفية قالوا بأن الحديث الذي رواه ابن عمر قد سقط الاحتجاج به لمّا خالفه راويه، ولم يذكروا أنّه منسوخ كالبزدوي في (أصوله)، والخبازي في (المغني).

ثم قال الدكتور عبد الكريم بن نملة: الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه؛ وذلك لأمور:

الأمر الأول: إنّ الحجة فيما فعله النبي‏ صلّى الله عليه وآله، وليست في فعل واحد من الصحابة؛ ابن عمر أو غيره، كما قلنا أثناء تقريرنا للقاعدة الأصولية هناك.

الأمر الثاني: إنّ الحديث قد عمل بمقتضاه أصحاب النبي‏ صلّى الله عليه وآله؛ قال الحسن: (رأيت أصحاب النبي‏ صلّى الله عليه وآله يرفعون أيديهم إذا كبّروا، و إذا ركعوا، و إذا رفعوا رؤوسهم كأنها المراوح)(١) .

وقال البخاري: قال ابن المديني - وكان أعلم أهل زمانه -: (حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم لهذا الحديث)(٢) .

____________________

(١) التمهيد لابن عبد البر ٩: ٢١٧، المغني ١: ٢٩٥، الدراية في تخريج أحاديث الهداية ١: ١٥٥، نصب الراية ١: ٤١٦.

(٢) التحقيق في أحاديث الخلاف ١: ٣٣١، ح ٤١٩، المغني ١: ٢٩٥، تحفة الأحوذي ٢: ٨٨، الباب ٧٧ رفع اليدين ثم الركوع.

٣٢٨

الأمر الثالث: إنّ قول مجاهد - وهو: أنّه لم ير ابن عمر يرفع يديه إلاّ في أوّل ما يفتتح - معارض بما ذكره طاووس من أنّه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روي عنه عن النبي‏ صلّى الله عليه وآله.

ومعارض بما قاله الإمام أحمد - و قد سئل عن الرفع -: (إي لعمري، ومن يشك في هذا؟! كان ابن عمر إذا رأى مَن لم يرفع حصبه، وأمره أن يرفع)(١) .

ونرجح رواية طاووس والإمام أحمد على رواية مجاهد؛ لأنّه يوافق الحديث الذي رواه ابن عمر، وكون الراوي يوافق ما رواه هو الذي يؤيده العقل والنظر والله أعلم.

ولا تلتفت إلى ما قاله عبد العزيز البخاري في (كشف الأسرار) من أنّ ابن عمر كان يرفع يديه في الافتتاح والركوع والرفع منه، قبل العلم بنسخ الحديث الذي رواه، فلما علم به ترك الحديث، وفعل ما ذكر عنه من أنّه لا يرفع إلاّ في الافتتاح؛ وذلك لأنّ هذا الكلام - أعني كلام عبد العزيز البخاري - مجرد احتمال يحتاج إلى دليل وبرهان، وما دام أنّه لا دليل على احتماله فنتوقف فيه، ونعمل بما لا يحتمل شيئاً وهو ما ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وعمل به جلّ الصحابة - رضوان الله عليهم - وهو رفع اليدين في الجميع، والله أعلم.

هذه بعض الأمثلة التطبيقية على تلك القاعدة الأصولية، ومَن أراد الاستزادة والتفصيل في تلك الأمثلة السابقة، أو أمثلة أخرى فليراجع كتب الفقه إن شاء(٢) .

انتهى موضع الحاجة من كلام الدكتور عبد الكريم بن علي النملة.

استخلاص واستنتاج

جئنا بهذه النماذج للتأكيد على أنّ الحكّام يهمّهم في الغالب منح رأيهم الشرعيّة، أكثر من التقيّد بما قاله الله والتعبّد بنصوص الوحي. ولو تبصّر الباحث في فقه عثمان

____________________

(١) التمهيد لابن عبد البر ٩: ٢٢٤، تلخيص الحبير ١: ٢٢٠.

(٢) انظر مخالفة الصحابي للحديث النبوي: ١٢٤ - ١٤٥.

٣٢٩

ومعاوية ومَن سار على نهجهما لوجده - في آرائه المستجدّة - امتداداً لنهج الخليفة عمر بن الخطّاب. وإذا حَدَث أن شذّوا في بعض الأحيان عن سنّة الشيخين - كما في إتمام الصلاة بمنى وتقديم الخطبة عند عثمان، وإحداث الأذان وتقديم الخطبة في العيدين، عند معاوية - فلا يعني هذا تخالف رأيهم مع رأي عمر وأبي بكر في كلّ شي، بل يدلّ على تبنّيهم رأياً جديداً مبتنياً على قاعدة أنّ للخليفة حقّ التشريع بما يراه مصلحة ورجحاناً، ومن الطبيعيّ أن تكون قناعتهم هي الراجحة على نظر مَن سبقهم. فالخليفة عثمان بن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان يسيران - بنحو عامّ - على نهج مَن سبقهما، وأنّ أخذهما بالرأي والاجتهاد جاء امتداداً لرأي الشيخين اللذين سنّا هذا في الشريعة.

وبذلك تبلور عند المسلمين اتّجاهان: أحدهما يأخذ بالنصوص الشرعيّة ولا يرتضي رأيَ أحدٍ بديلاً عن حكم الله ورسوله؛ إذ إنّ الرسول كان لا يقول في الأحكام برأي ولا قياس ولكنّه يحكم( بِمَا أراك الله ) (١) و( ما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٢) . ومعنى هذا أنّه كان متعبّداً بما ينزل عليه من الوحي ولا يفتي برأيه. وهذا المفهوم التعبّديّ قد ورد في كلمات الأئمّة من ولده؛ إذ كلّهم يؤكّدون أنّ قولهم لم يكن عن رأي، وإنّما هو حكمٌ توارَثوه كابراً عن كابر، عن رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله.

وفي مقابل هذا الاتّجاه برز اتّجاه آخر، هو ما سمّيناه: اتّجاه الاجتهاد والرأي، أو المصلحة، وقد استحكم بآخره وفي العهود اللاحقة.

وقد تبنّى هذا الاتّجاه في جذوره الأساسيّة بعض الصحابة على عهد رسول الله؛ إذ اتّضح لك موقف أبي بكر وعمر في قضيّة المتنسّك، وأنّهما لم يقتلاه لصلاته وخشوعه، وغيرهم من الصحابة الذين صاموا الدهر مع وجود النهي عن رسول الله فيه و... فهؤلاء قد دعوا إلى مشروعيّة الرأي، والخليفة عمر بن الخطّاب حكَّم فكرتهم

____________________

(١) النساء: ١٠٥.

(٢) النجم: ٣ - ٤.

٣٣٠

لما أحسّه من العوز إلى النصوص، فالسماح بالقياس والاجتهاد ثمّ صعود عمر المنبر واعتراضه على الصحابة لاختلافهم في الآراء، يعني: أنّه وأبا بكر كانا يريدان حصر الرأي وحجّيّته بهما، دون غيرهما، ويُلزمان الصحابة بالتعبّد بما يقولانه، بيد أنّهما لم يوفَّقا في ذلك؛ لأنّ القول بمشروعيّة الرأي والاجتهاد له اتّساع ومطّاطيّة وانسياب، ولا يمكن لأحد حكره على نفسه.

إنّ القول بمشروعيّة تعدّديّة الرأي هو ما أوقع الأُمّة في الاختلاف. وقد وضّح أبو بكر هذه الحقيقة بقوله: (والناس أشدّ اختلافاً من بعدكم)، ومثله ما قاله أبو بكر لعمر - كما في رواية البيهقيّ آنفة الذكر - حيث (شكا إليه الحكم بين الناس...).

أمّا الإمام عليّ بن أبي طالب فقد وضّح الأمر بأجلى صوره في الخطبة الشِّقشقيّة حيث قال:

(... يَكْثُرُ العثارُ فيها والاعتذار منها، فصاحِبُها كراكبِ الصَّعْبة: إنْ أشْنَقَ لها خَرَم، وإن أسْلَسَ لها تَقَحّم، فَمُنِيَ الناس لعمرُ الله بخبطٍ وشماس...) .

ولو تدبّرنا كلام رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله يوم الخميس:(ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً) وقوله‏ صلّى الله عليه وآله في حديث الثقلين:(ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) مع الأحاديث الواردة عن أهل البيت ونهيهم عن الأخذ بالرأي، وكون الرأي بنظرهم ابتعاداً عن السنّة؛ لعرفنا أنّ إباحة التدوين ومنعه كانا أمرين مرتبطينِ بالشريعة، لكنّ الخلفاء سخّراهما لخدمة مصالحهم وآرائهم، فمنعوا التدوين والتحديث حينما رأوا ضرورة في ذلك، وفتحوه أيضاً عندما أرادوا ذلك.

فالأمّة الممتحنة كلّما ابتعدت عن أهل البيت زادت بُعداً عن الحقّ وتيهاً عن جادّة الصواب، وهذا ما كان يتخوّف منه رسول الله على أُمّته؛ لأنّ الابتعاد عنهم سياسيّاً وعدم إطاعتهم في أمر الولاية والخلافة سيبعد الأمّة عن سنّة رسول الله، وهو ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن الجادّة؛ لأنّ عدم ترشيحهم للخلافة وتنصيبهم لها لا يُسقط أمر الرسول وإخباره:(إنّي مخلّف فيكم الثقلين) ؛ لأنّ المأمور به هو الأخذ منهم، أي أنّكم لو لم تأخذوا بأقوال هؤلاء الأئمّة في الشريعة لضللتم عن الدرب وابتعدتم عن السنّة.

٣٣١

وقد أكّد رسول الله على هذا الأمر، موضّحاً كونهم هُداة الأمّة والمبيّنين لما اختلف فيه الناس من بعده؛ وذلك في مثل قوله صلّى الله عليه وآله:(أنا المنذر وعليّ الهادي وبك يا عليّ يهتدي المهتدون من بعدي) (١) .

وقوله:(مَن أراد أن يحيا حياتي، ويموت ميتتي، ويسكن جنّة الخُلد التي وعدني ربّي؛ فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب فإنّه لن يُخرجكم من هدى، ولن يُدخلكم في ضلالة) (٢) .

وفي نصوص أُخرى عنه صلّى الله عليه وآله يتأكّد لزوم أخذ الأحكام عنهم لا غير، فجاء عنه‏ صلّى الله عليه وآله قوله:إنَّما هلك مَن كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنَّما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً فلا تكّذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه (٣) .

وفي آخر:مهلاً يا قوم! بهذا أُهلكت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إنَّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضاً، بل يصدّق بعضه بعضاً، فما عرفتم فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه (٤) .

وعن أُبيّ بن كعب أنّه قال لمّا سئل ما المخرج من هذا؟ - حينما وقع الناس في عثمان - قال: كتاب الله وسنّة نبيّه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه(٥) .

____________________

(١) تاريخ دمشق ٤٢: ٣٥٩، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٤٠، ح ٤٦٤٦، قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، تفسير الطبري ١٣: ١٠٨، تفسير ابن كثير ٢: ٥٠٣، الدر المنثور ٤: ٦٠٨، فتح القدير ٣: ٧٠، فتح الباري ٨: ٣٧٦.

(٢) الكافي ١: ٢٠٩، باب ما فرض الله عز وجل رسوله ‏صلّى الله عليه وآله، ح ٥، المعجم الكبير ٥: ١٩٤، ح ٥٠٦٧ وفيه زيادة، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٣٩، ح ٤٦٤٢.

(٣) مسند أحمد ٢: ١٨٥، ح ٦٧٤١ واللفظ له، المعجم الأوسط ٣: ٢٢٧، ح ٢٩٩٥، المدخل للبيهقي ١: ٤٢٩، باب التوقي عن الفتيا والتثبّت فيها، ح ٧٩٠، المستدرك على الصحيحين ٣: ٣٤٣، ح ٥٣٢١، نحوه.

(٤) مسند أحمد ٢: ١٨١، ح ٦٧٠٢، وانظر ٢: ٣٠٠، ح ٧٩٧٦، وصحيح ابن حبان ١: ٢٧٥، وقريباً منه في المعجم الأوسط ٨: ٣٠٧، ح ٨٧١٥، واعتقاد أهل السنّة ١: ١١٧، ح ١٨٣.

(٥) خلق أفعال العباد للبخاري: ٦٣، المستدرك على الصحيحين ٣: ٣٤٣، ح ٥٣٢١، اللفظ له، مفتاح الجنّة

=

٣٣٢

وقد مرّ عليك ما في ذيل حديث الصادق عليه السلام - المنقول عن تفسير العيّاشيّ قوله ‏عليه السلام:فلو أنّهم إذا سئلوا عن الشيء من دين الله، فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله، ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم؛ لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمد صلّى الله عليه وآله (١) .

إنّ المنع من الإتيان بالدواة إلى رسول الله، ثمّ المنع من تدوين السنّة والتحديث بأحاديث النبيّ صلّى الله عليه وآله، والقول بـ (حسبنا كتاب الله) وأخيراً الذهاب إلى مشروعيّة الرأي والقياس، وجواز تعدّد الآراء في الشريعة، وكون كلام الصحابيّ يخصّص القرآن والسنّة... كلّها مراحل مرّت بها الأمّة فابتعدت بها عن الجادّة، وعمّا رسمه الوحي في شريعته.

كان هذا مجمل محنة النصّ النبويّ وسلطة الرأي على الشريعة. ولو أردنا التوسّع في مثله لخرجنا عمّا نريد الإشارة إليه.

إنّ الحكومة كانت تصحّح جميع الآراء، وتأخذ بأقوال جميع الصحابة... إلاّ فقه عليّ بن أبي طالب وأتباعه المتعبّدين والمدوّنين؛ فإنّه بزعمها أجنبيّ عن الإسلام ومنفيّ من فقه المسلمين!

ولو تطلّعنا إلى تراثنا الفقهيّ الحديثيّ لرأينا غلبة روح العصبيّة عليه، فأحاديث عليّ لا تتجاوز العشرات في المجاميع الحديثيّة، ولم يبنوا عليها الأحكام إلاّ عند اضطرارهم لذلك، بل إنّهم ليخافون ويقصرون في نقل جميع مرويّات عليّ عليه السلام، وأحكامه التي استلمها فَمَاً لِفَمٍ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأمّا أحاديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة فتدور عليها رحى الشريعة عندهم، وهي بالألوف!

ترى... لِمَ أُريد لهذا الاختلال أن يكون؟! أَلأَِِنَّ أبا هريرة وابن عمر وعائشة كانوا أقدم إسلاماً وأكثر علماً، وأقرب إلى رسول الله من عليّ؟! أم أنّ هناك شيئاً آخر؟!

ولِمَ لا يروي مالك في موطّئه عن عليّ الأحاديث بقدر ما روى عن أبي هريرة؟!(٢) .

____________________

=

للسيوطي: ٧٠، حجّيّة السُنّة: ٣٥٨.

(١) تفسير العيّاشي ٢: ٣٣١ - ٣٣٢.

(٢) عدد الأحاديث التي رواها مالك عن علي بن أبي طالب في موطّئه هي ثمانية أحاديث فقط بينما نراه

=

٣٣٣

ولماذا لا نرى في فقه المسلمين ما يشير إلى أحكام أهل البيت، في حين نرى هؤلاء الفقهاء يذكرون شواذّ آراء المذاهب الفقهيّة البائدة.

فما يعني كلّ هذا؟! ولماذا نجد بقايا فكر العصبيّة موجوداً في تراثنا، ومن أجله يُمنع الباحثون من التعرّف على أُمور فيها إيضاح للحقائق، ولو أقدم أحد على أمر كهذا لرمي ببثّ الفرقة بين المسلمين؟!

إنّا لنعجب كلّ العجب ويحقّ لنا أن نتساءل: متى كان تبيين الحقائق وتوضيح المجهولات يعني الفرقة والفتنة؟!

مفردات مُهمّة

و إليك هذا النصّ كي تقف على منهج الحكّام في الأحكام، فقد جاء في مقدّمة تذكرة الحفّاظ للذهبي، عن شعيب بن جرير أنّه طلب من سفيان الثوريّ أن يحدّثه بحديث السنّة، فقال:

اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق - إلى أن يقول -: يا شعيب! لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى المسح على الخفّين، وحتّى ترى أنّ إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر به، وحتّى تؤمن بالقَدَر، وحتّى ترى الصلاة وراء كلّ بَرّ وفاجر، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جائر أو عادل.

فقلت: يا أبا عبد الله! الصلاة كلّها؟

قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف مَن أدركت، أمّا سائر ذلك فأنت مخيّر، لا تصلّي إلاّ خلفَ مَن تثق به وتعلم أنّه من أهل السنّة(١) .

وها أنت ترى أنّ إخفاء( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، والمسح على الخفّين والصلاة خلف كلّ بَرّ وفاجر... كلّها ممّا وضعته السياسة الحكوميّة، وأنت تعرف أنّ مدرسة أهل

____________________

=

قد روى عن أبي هريرة ما يقارب ١٧٠ حديثاً.

(١) انظر اعتقاد أهل السنّة ١: ١٥٢ - ١٥٤ وقد ذكر الخبر بكامله وفيه: أنّ القرآن كلام مخلوق بدل غير مخلوق، تذكرة الحافظ ١: ٢٠٦ واللفظ له، تحفة الأحوذي ٢: ٤٨ مختصراً.

٣٣٤

البيت ترى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من علامات المؤمن، وقد أيّد موقفهم هذا عدد كبير من الصحابة، ولو لا الخروج عن صُلب البحث لأشرنا إلى أسمائهم ونصوصهم، لكنّ المهمّ هو أنْ تعرف أنّ كلّ المفردات المذكورة مخالفة لفقه عليّ وابن عبّاس وأعيان الصحابة، وموافقة لفقهاء السلطة والحكومة، وكفى بهذا دليلاً ومؤشّراً.

كانت هذه بعض أُصول السياسة، والآن لنوضّح سرّ التأكيد على سيرة الخليفة عمر بن الخطّاب، وكونه قد أخاف الناس في الحديث عن النبيّ!

جاء في بعض النصوص المنسوبة إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله: (اقتدوا بالذين من بعدي: أبا بكر وعمر)(١) . وفي هذا النصّ مؤشّرات تدلّ على أنّه قد جُعِل في أوائل خلافة عثمان؛ لأنّا قد عرفنا أنّ عمر بن الخطّاب وعبد الرحمن بن عوف كانا يتخوّفان من أمرين.

الأوّل: تصدّر مَن لا يرتضي اجتهاد الشيخين.

الثاني: سريان الاجتهاد بحيث لا يمكن حدّه؛ إذ إنّ تعدّد مراكز الإفتاء والقول بحجّيّة رأي الجميع لو أُطلق له العنان، وخصوصاً في تلك البرهة من تاريخ الإسلام، لما أمكن لأحد الوقوف بوجهه؛ ومن أجله نرى ابن عوف يعترض على عثمان لإتيانه بأُمور لم تكن على عهد الشيخين، ويطلب منه أن يقف عند اجتهاداتهما ولا يتعدّاها إلى غيرها!!

لكنّ عثمان لم يستجب لطلبه ولم يرتضِ قوله؛ لأنّه كان لا يرى نفسه أقلّ شأناً منهما ليكون متّبعاً لهما مقتفياً أثرهما في الاجتهاد، ولم يكن هناك ما يرجّح رأيهما على رأيه، فإذا كان كلّ من أبي بكر وعمر قد ارتبط برسول الله صلّى الله عليه وآله عن طريق المصاهرة، فزوّج كلّ منهما ابنته لرسول الله... فإنّ عثمان قد ارتبط برسول الله برباطين، وتزوّج ابنتيه، كما نقلت ذلك بعض الأخبار!!!

بلى، إنّ عثمان كان يتساءل مع نفسه: لو كان الاجتهاد مشروعاً فلمَ لا أجتهد أنا في

____________________

(١) مسند أحمد ٥: ٣٨٢، ح ٢٣٢٩٣، سنن ابن ماجة ١: ٣٧، ح ٩٧، سنن الترمذي ٥: ٦٠٩، ٦١٠، باب مناقب أبي بكر وعمر، ح ٣٦٦٣، ٣٦٦٢، المستدرك على الصحيحين ٣: ٨٠، ح ٤٤٥٥.

٣٣٥

الأحكام كذلك؟ وكيف يحقّ لهم أن يلزموني بأن اتّبع رأي الشيخين وأقتفي آثارهما وأراهما لم يتعبّدا بقول الرسول ويجتهدان أمامه؟! وإذا لم يكن الاجتهاد جائزاً فلم يُبيحون لأولئك الاجتهاد ويحضرونه عليّ؟

وهذه الموازنة أيضاً كانت محلّ اختلاف الأنظار، فابن عوف ومَن على طرازه الفكريّ، كانوا يتصوّرون إمكان حصر دائرة الاجتهاد والرأي بسيرة الشيخين، فألزموا عثمان بها وطالبوه بالوفاء بما التزم به، في حين كان موقف علي بن أبي طالب عليه السلام خلاف ذلك، فإنّه أدرك خطأ الموازنة المتوخّاة، وأنّ الاجتهاد باب مفتوح لا ينحصر بواحد دون آخر؛ ولذلك قال لابن عوف (دقّ الله بينكما عطر منشم)(١) ، فقد أخبر باختلافهما. وأخرجه مخرج الدعاء، لعلمه بثاقب بصيرته لما سيؤول إليه الأمر، وقد حدث ذلك بالفعل.

غير أنّ الأمويّين أضافوا اسم عثمان إلى قائمة مَن يجب طاعته واتّباع سيرته من الخلفاء؛ لما رأيت من النصوص الكثيرة التي فيها أسماء الخلفاء الثلاثة: (أبي بكر، وعمر، وعثمان) دون عليّ بن أبي طالب، ولم يدرج اسم علي عليه السلام رابعاً إلاّ في أواخر العهد العبّاسيّ الأوّل، فقد أدرجوا اسمه ضمن قائمة الخلفاء؛ لأنّهم رأوا أنّه لا محيص عن إدراج اسمه ضمن مَن سبق خصوصاً في أوائل الحكومة العبّاسيّة(٢) وحاجتها إلى معارضة كلّ ما يمتّ للأمويّين بصلة، وعليّ من بني هاشم، فاتّخذوه ذريعة لهم. وكذلك صدور روايات (الخلفاء الراشدين من بعدي) كانت من آثار هذه الفترة من تاريخ الإسلام. فالاختصاص بالثلاثة (أبي بكر، وعمر، وعثمان) كان من إبداعات العهد الأمويّ! وأمّا: (اقتدوا بالذين من بعدي) وأمثاله فقد صدرت بعد الشورى، وأيّام التأكيد على سيرة الشيخين!

____________________

(١) شرح النهج ٩: ٥٥، ١: ١٨٨.

(٢) تربيع الخلافة كان في زمن أحمد بن حنبل والمتوكّل العبّاسي حسبما أعلم.

٣٣٦

ما رجّحه ابن عبد العزيز في التدوين

نعم، إنّ السياسة كان لها الأثر الأكبر في هذه النصوص وفي غيرها، من أمثال (العشرة المبشّرة) أو (عدالة الصحابة). كلّ هذه النصوص توضّح مسلك تعدّديّة الرأي الذي بذر بذرته الخليفتان (أبو بكر وعمر) عند منعهما للحديث والتدوين.

إنّ شيوع ظاهرة الأخذ بالأحاديث عند بعض الصحابة، والرأي عند الآخر واختلاطهما عند فريق ثالث... كلّ ذلك جعل سنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله تختلط بالأثر عن للصحابة، فتداخلت الأمور، واختلط الحابل بالنابل، والصحيح بالسقيم، والسنّة بالسيرة العامّة. ثمّ جاء عمر بن عبد العزيز ليحكّم سيرة الشيخين لتكون شريعة ماضية للمسلمين.

جاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنّة أو حديث عَمْرَة. فاكتبه؛ فإنّي خشيت دروس العلم وذهاب العلماء(١) .

وفي حديث آخر: وحديث عمر(٢) .

وفي ثالث: أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمان والقاسم بن محمّد فكتبه له(٣) .

وجاء في حلية الأولياء عن حاطب بن خليف البُرْجُميّ: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يخطُب وهو خليفة، فقال في خُطبته: ألا إنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دِين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه)؟!(٤) .

وفي (تقييد العلم): كتب عمر بن عبد العزيز إلى المدينة انظروا. وفي حديث

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ٤٩، باب كيف يقبض العلم، طبقات ابن سعد ٨: ٤٨٠، سنن الدارمي ١: ١٣٧، ح ٤٨٨، التمهيد لابن عبد البر ١٧: ٢٥١، تقييد العلم: ١٠٥، ١٠٦ واللفظ له.

(٢) سنن الدارميّ ١: ١٣٧، ح ٤٨٧.

(٣) الطبقات الكبرى ٢: ٣٨٧، الجرح والتعديل ٩: ٣٣٧، ١: ٢١ واللفظ له، تهذيب الكمال ٣٣: ١٤٠.

(٤) حلية الأولياء ٥: ٢٩٨، تاريخ دمشق ١١: ٣٨٥، تاريخ الخلفاء ١: ٢٤١ وفيه حاطب بن خليفة البرجمي بدل: خليف.

٣٣٧

عفّان إلى أهل المدينة: أن انظروا ما كان في حديث رسول الله فاكتبوه فإنّي خفت. وفي حديث عفّان: فإنّي قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء(١) .

وجاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز لبعض ولاته: (... فإنَّ السنّة إنَّما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمّق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنَّهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وتفضيل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولأن قلتم (إنّما حدث بعدهم) ما أحدثه إلاّ من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنَّهم هم السابقون، فقد تكلّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصّر وما فوقهم من محسر، وقد قصّر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم قوم فغلوا، و إنَّهم بين ذلك لعلى هدى مستقم...)(٢) .

وفي كلام آخر له: سنّ رسول الله وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله، وقوّة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها، مَن اهتدى بها فهو مهتد، ومَن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين...(٣) .

ثمّ إنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز جعل ما دوّنه ابن حزم سنّة للأمصار، وقد علمت أنّ ما دوّنه كان يضمّ في مطاويه اجتهادات الخلفاء، وما روته عمرة والقاسم بن محمّد عن عائشة وغيرهما، وهو ما أرادته السلطة من تثبيت فقه هؤلاء!

وفي هذا الصدد ورد عن ابن شهاب الزهريّ قولُه: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنَن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً(٤) .

____________________

(١) تقييد العلم: ١٠٦.

(٢) سنن ابي داود ٤: ٢٠٣، باب لزوم السنّة، ح ٤٦١٢، وعنه في حقيقة البدعة وأحكامها للغامديّ ١: ٧٤، ونحوه في البدع لابن وضاح: ٣٠.

(٣) السنّة لعبد الله بن أحمد ١: ٣٥٧، اعتقاد أهل السنّة ١: ٩٤، حلية الأولياء ٦: ٣٢٤ واللفظ له، جامع العلوم والحكم: ٢٦٤.

(٤) جامع بيان العلم وفضله ١: ٧٦.

٣٣٨

وقد مرّت عليك نصوص عنه بأنّ تدوين العلم كان من أجل طلب الأمراء. مع الوقوف على دور السلطة في العهد العبّاسيّ في تأصيل المذاهب الأربعة، ننتهي من ذلك إلى أنّ عمل عمر بن عبد العزيز في السنّة لم يكن لجمع سنّة رسول الله فقط، بل لتأصيل ما صدر عن الخلفاء من اجتهادات وآراء كذلك، أي أنّه قد أصّل مدرسة الخلفاء (الاجتهاد والرأي) بعد أن انفصل فقههم عن منابعه وأُصوله وضاع العلم عن الأمّة مدّة قرن أو أزيد!

والمعلوم أنّ التدوين في ظروف تغلب عليها العصبيّة والقَبَليّة - خصوصاً بعدما شاع الوضع على لسان رسول الله - ليس ممّا يمكن الاطمئنان إليه.

هذا، ولا يخفى أنّ وجود بعض الأحاديث ممّا لا يرتضيه الاتّجاه الحكوميّ العامّ، لا يعني خلوص نيّة من تصدّى لأمر التدوين وطموحهم إلى حفظ الشريعة، بل هو مؤشّر على امتداد النهجين في عهدهم، ووجود من يدافع عن سنّة رسول الله؛ لأنّ التحريف الحكوميّ لا يُمكنه الصمود أمام التيّار الفكريّ الضخم الأصيل، ذلك أنّ تعثّر النهج الحاكم، وخلطه بين الأوراق هو ما تكشفه الروايات الأخرى والقرآن الكريم، ويقف أمامه أتقياء الصحابة والمنطق السليم.

ولذلك نرى أصالة نهج التعبّد في الصحاح والمسانيد التي دوّنها أتباع الرأي والاجتهاد، وقد اتّخذت تلك المرويّات طريقها في فقه المسلمين على رغم كلّ الظروف والملابسات. وأنّ شمولها واتّساعها لأغلب أبواب الفقه ينبئ عن وجود نهجين فكريّين: أحدهما يدعو إلى الرأي ويفتي طبق اجتهاد الصحابة، والآخر: يعمل بالنصوص وما جاء في كتاب الله وسنّة نبيّه لا غير.

جاء في (تقييد العلم): أخبرنا صالح بن كيسان، قال: اجتمعت أنا والزهريّ، ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله. ثمّ قال: نكتب ما جاء عن أصحابه، فإنّه سنّة.

فقلت أنا: ليس بسنّة فلا نكتبه.

٣٣٩

قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيّعت(١) .

قال أبو زهرة: وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم كما أنّها من السنّة(٢) .

وقال موسى جار الله: ونحن فقهاء أهل السنّة والجماعة، نعتبر سيرة الشيخين: الصدّيق والفاروق أُصولاً تعادل سنن النبيّ الشارع في إثبات الأحكام الشرعيّة في حياة الأمّة وإدارة الدولة. ونقول إنَّ الخلافة الراشدة معصومة عصمة الرسالة المعصومة(٣) .

كيف لا يكون ذلك والحكومة وراء نهج الخلفاء، تثبّت ما يريدون، وتترك جانباً ما لا يرغبون فيه؟! وإليك هذا النصّ:

نقل أبو بكر الصنعانيّ: أتينا مالك بن أنس، فحدّثَنا عن ربيعة الرأي - وهو أُستاذ مالك ومعلّمه - فكنّا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟

فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف حظى بك مالك ولم تُحِظ أنت بنفسك؟!

فقال: أما علمتم أنّ مثقالاً من دولة خير من حِمل علم(٤) .

وهذا يكشف عن مواقف النهجين وامتدادهما في العصر الأمويّ والعبّاسيّ، ويكشف عن اختلاط النصوص بحيث يعسر تمييز صحيح الحديث من سقيمه، وهو ما أراده هؤلاء الخلفاء للعصور اللاحقة!

تساؤلات وموازنة

إنّ التصريح بأسماء عشرة من الصحابة على أ نّهم من أهل الجنّة(٥) يخالف الواقع العمليّ لسيرتهم، إذ كيف يمكننا أن نصحّح الخبر مع أنّ طلحة والزبير يقاتلان عليّاً

____________________

(١) الطبقات الكبرى ٢: ٣٨٩، حلية الأولياء ٣: ٣٦٠ - ٣٦١، تقييد العلم: ١٠٦ - ١٠٧ والمتن عنه.

(٢) كتاب ابن حنبل لابن زهرة: ٢٥١ - ٢٥٥، وكتاب مالك لابن زهرة أيضاً: ٩٠.

(٣) الوشيعة: ٧٧.

(٤) تاريخ بغداد ٨: ٤٢٤، طبقات الفقهاء لأبي إسحاق: ٥٤، صفوة الصفوة ٢: ١٥١.

(٥) مسند أحمد ١: ١٨٧، ح ١٦٢٩، سنن ابن ماجة ١: ٤٨، باب فضائل العشرة، ح ١٣٣، سنن الترمذي ٥: ٦٤٧، باب مناقب عبد الرحمان بن عوف، ح ٣٧٤٧.

٣٤٠