منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102870
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102870 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه(١) .

والنصوص الأخرى التي تؤكّد على أنّ معاوية، لمّا ولاه عمر، جاءته رسالة من أبيه وأُخرى من أُمّه؛ قال له أبوه فيها: يا بنيّ! إنّ هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخّرنا فرفعهم سبقهم وقصُر بنا تأخيرنا، فصاروا قادة وسادة، وصرنا أتباعاً، وقد ولّوك جسيماً من أُمورهم فلا تخالفهم، فإنّك تجري إلى أمد، فنافِس فيه فإنْ بلغته أورثته عقبك!

وقالت له أُمّه في رسالتها: والله يا بنيّ؛ إنّه قلّ أنْ تَلِدَ حرّةٌ مثلك، وإنّ هذا الرجل (أي عمر) قد استنهضك في هذا الأمر، فاعمل بطاعته فيما أحببت وكرهت؟(٢) .

وجاء، فيما دار بين معاوية وعمر لمّا قدِم الشامَ، قول معاوية لعمر:

فَمُرْني يا أمير المؤمنين بما شئت، فقال: لا آمرك ولا أنهاك(٣) .

بهذه السياسة: (مُرْني أمتثل) و(علّمني أمتثل) استطاع معاوية أن يستولي على قلب الخليفة عمر بن الخطّاب، وقد كان عمر قد ولّى جمعاً من بني أُميّة ومحبيه على بعض الولايات، فولّى عمرو بن العاص فلسطين والأردن(٤) . وولّى الوليد بن عقبة صدقات بني تغلب، وكان من المقرّبين إليه(٥) .

وولّى يعلى بن أمية على بعض بلاد اليمن(٦) ، وجعل المغيرة بن شعبة أميراً على الكوفة(٧) ، وولّى عبد الله بن أبي سرح - أخا عثمان من الرضاعة - على صعيد مصر(٨) ، وفي عهد عثمان ضمّت إليه مصر(٩) كلّها.

____________________

(١) الاستيعاب ٣: ١٤١٨، ت ٢٤٣٥٠ لمعاوية، تاريخ دمشق ٥٩: ١١٢ والمتن له، البداية والنهاية ٨: ١٢٤.

(٢) تاريخ دمشق ٧٠: ١٨٦، البداية والنهاية ٨: ١١٨.

(٣) الاستيعاب ٣: ١٤١٧، تاريخ دمشق ٥٩: ١١٢، البداية والنهاية ٨: ١٢٥، سير أعلام النبلاء ٣: ١٣٣، وانظر الطبري في تاريخه ٣: ٢٦٥.

(٤) تاريخ خليفة ١: ١٥٥، فتوح البلدان ١: ١٤٥، تاريخ دمشق ٤٦: ١٥٧، ٥٩: ١١١.

(٥) المنتظم ٦: ٥، تهذيب الكمال ٣١: ٥٤، تهذيب التهذيب ١١: ١٢٦، البداية والنهاية ٨: ٢١٤.

(٦) تاريخ الطبري ٢: ٣٨٠، ٢: ٣٦١، الإصابة ٥: ٣٩٠، ٣: ٢٥٦، تهذيب الأسماء ٢: ٤٥٩، ت ٧٠٣ ليعلى بن أمية.

(٧) تاريخ خليفة ١: ١٥٤، فتوح البلدان ١: ٢٩٧، تاريخ الطبري ٢: ٤٩٩، تاريخ الخلفاء ١: ١٣٣، شذرات الذهب ١: ٥٦.

(٨) سير أعلام النبلاء ٣: ٤٣، الإصابة ٤: ١١٠.

(٩) تاريخ خليفة ١: ١٧٨، فتوح البلدان ١: ٢٤٤، تاريخ الطبري ٢: ٥١٦، البداية والنهاية ٥: ٣٥٠ - ٣٥١.

٣٦١

إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد اعتمد على نحو واضح على الأمويّين ومعاضديهم في توليته الولايات والأعمال، وفي الوقت نفسه أعرض عن تولية بني هاشم، وكما صرّح هو نفسه لابن عبّاس - لمّا أراد توليته على حمص بعد موت واليها - فقال له:

يا ابن عبّاس! إنّي خشيت أن يأتي عَلَيّ الذي هو آت (أي الموت) وأنت على عملك فتقول: هلمَّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم(١) .

ونحوه تصريح ابن عوف لعليّ - وفيه تطبيق لسياسة الشيخين -: أُبايعك على شرط أن لا تجعل أحداً من بني هاشم على رقاب الناس(٢) .

ولمّا كثرت الاعتراضات على الخليفة لتوليته معاوية مكان عمير بن سعد على حمص، فقال الناس: عزل عميراً وولى معاوية، فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلاّ بخير، فإنّي سمعت رسول الله يقول: اللّهمّ اهدِه(٣) .

ولا أدري هل كان هذا الحديث قد وضع من قبل الأمويّين لتصحيح ما صدر عن معاوية أيام ولايته وملوكيّته؟ أم أنّ الخليفة عمر بن الخطّاب أراد دفع اعتراض الناس بقوله ذلك؟ وهل إنّ طلب الهداية من ربّ العالمين يتّفق مع ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله في لعنه ولعن أبيه وأخيه؟ وعلى كلّ حال فإنَّ معاوية استفاد من دعم عمر له لتقوية مكانته، ويؤيّد ذلك قوله لصعصعة بن صوحان: والله إنّ لي في الإسلام لقدماً وإن كان غيري أحسن قدماً منّي، لكنّه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه منّي، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيري أقوى منّي لم يكن عند عمر هوادة لي ولا

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٣٠.

(٢) الإمامة والسياسة ١: ٣١ وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد ٣: ٣٤٤ والطبري في تاريخه ٢: ٥٦٠، ومصنف عبد الرزاق ٥: ٤٨١، ح ٩٧٧٦، ومصنف ابن أبي شيبة ٧: ٤٣٩، ح ٣٧٠٧١، والسنن الكبرى للبيهقي ٨: ١٥١ وفي هذه المصادر أنّ هذه المقولة هي لعمر قالها لعلي ولغيره من أصحاب الشورى يوم تعينهم.

(٣) البداية والنهاية ٨: ١٢٢ وفي تاريخ دمشق ٥٩: ٨٥ عن أبي السائب قال: وسمعت أبي فذكر أنّ عمر بن الخطاب ولّى معاوية بن أبي سفيان، فقالوا: ولاّه حدث السن، فقال: تلومونني وأنا سمعت رسول الله يقول: اللّهمّ اجعله هاديا مهدياً واهده واهد به.

٣٦٢

لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب إلَيَّ فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلاّ وهو خير؛ فمهلاً فإنّ دون ما أنتم فيه وما...)(١) .

وقوله لمحمّد بن أبي بكر لمّا كتب إليه برسالة يذكر فيها فضائل عليّ، منها قوله:... فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعليّ، وهو وارث رسول الله ووصيّه وأبو ولده وأوّل الناس اتّباعاً وأقربهم به عهداً... إلى آخره.

فكتب إليه جواباً على رسالته (... فكان احتجاجك عَلَيّ وفخرك بفضل غيرك لا بفضلك، فأَحْمَدُ الله ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك.

قد كنّا وأبوك معنا في حياة نبيّنا نعرف حقّ ابن أبي طالب لازماً لنا وفضله مميّزاً علينا، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده، وأتمّ له وعده، وأظهر دعوته، وأبلج حجّته، وقبضه الله إليه، كان أبوك وفاروقه أوّل مَن ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره على ذلك اتّفقا واتّسقا - إلى أن يقول:

أبوك مهّد له مهاده، وبيّن ملكه وشاده، فإن يك ما نحن فيه صواباً، فأبوك أوّله، وإن يكُ جوراً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه، فبهديه أخذنا، وبفعله اقتدينا، ولولا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب، ولسلّمنا إليه، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فاحتذينا مثاله، واقتدينا بفعاله، فعب أباك بما بدا لك أو دع، والسلام على مَن أناب ورجع من غوايته وتاب)(٢) .

وجاء في رسالة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان إلى ابن عمر، لمّا اعترض عليه في قتله الحسين بن عليّ نحوه. حيث كتب إليه: (أمّا بعدُ يا أحمق، فإنّا جئنا إلى بيوت منجّدة وفُرُشٍ ممهّدة، ووسائد منضّدة، فقاتلنا عنها، فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا

____________________

(١) تاريخ الطبري ٢: ٦٣٨، شرح النهج ٢: ١٣٣، الكامل في التاريخ ٣: ٣٥.

(٢) انساب الأشراف ٣: ١٠٩٢ - ١٠٩٣، وقعة صفين للمنقري: ١١٩، جمهرة رسائل العرب ١: ٤٧٧ عن مروج الذهب ٢: ٦٠٠، شرح النهج ٣: ١٩٠ وهذه الرسالة هي التي قال عنها الطبري في تاريخه ٣: ٦٨ (كرهت ذكرها، لما فيه مما لا يحتمل سماعه العامّة)!!، والكامل في التاريخ ٣: ١٥٧.

٣٦٣

قاتلنا، وإن يكن الحقّ لغيرنا فأبوك أوّل مَن سَنَّ هذا واستأثر بالحقّ على أهله)(١) .

فهذا كلّه يؤكّد دور الخليفة عمر بن الخطّاب في تقوية فقه الأمويّين من خلال فسح المجال لعثمان ومعاوية وأمثالهما من النهج المخالف لنهج التعبّد المحض، لكي يبنوا فقهاً جديداً وأُسساً مستحدثة في التشريع الإسلاميّ وفي المقابل ترى الامويين يسعون لترسيخ فقه أبي بكر وعمر وعثمان.

مع حجّيّة قول الصحابيّ:

قال الإمام الغزّاليّ في (المستصفى)، في معرض حديثه عن حجّيّة قول الصحابيّ، بعد أن أورد الآراء فيها، قال: من الأصول الموهومة قول الصحابي، وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابيّ حجّة مطلقا، وقوم إلى أنّه حجّة وإن خالف القياس، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة، لقوله صلّى الله عليه وآله: (اقتدُوا بالذين من بعدي) وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين، إذا اتّفقوا والكل باطل عندنا، ثمّ عمد الغزّاليّ لتفنيد الأقوال جميعا، فقال:

فإنّ مَن يجوز عليه الغلط والسهو، ولم تثبت عصمته فلا حجّة في قوله، فكيف يُحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟!

وكيف تُدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟! وكيف يُتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟!

وكيف يختلف المعصومان؟! كيف، وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة رأي الصحابة؟! فلم ينكر أبو بكر وعمر على مَن خالفهما بالاجتهاد، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه؛ فانتفاء الأدلّة على العصمة، ووقوع الاختلاف بينهم، وتصريحهم بجواز مخالفتهم، فيه، ثلاثة أدلّة قاطعة(٢) .

____________________

(١) الأنوار النعمانية ١: ٥٣ عن البلاذري وهو في بحار الأنوار ٤٥: ٣٢٨، وكتاب الأربعين للماحوزي: ١٠٤ أيضاً.

(٢) المستصفى: ١٦٨.

٣٦٤

وقال الأستاذ أبو زهرة: والحقّ أنّ قول الصحابيّ ليس بحجّة، فإنّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمّة إلاّ نبيّنا محمّداً صلّى الله عليه وآله، وليس لنا إلاّ رسول واحد. والصحابة من بعده مكلّفون على السواء باتّباع شرعه في الكتاب والسنّة، فمن قال بأنّه تقوم الحجّة في دين الله لغيرهما فقد قال في دين الله ما لا يثبت، وأثبت شرعاً ما لم يأمر الله به(١) .

وللدكتور حسين الحاجّ حسن كلام طريف بهذا الصدد، نصّه:

فصحابة النبيّ بشرٌ مثل غيرهم من الناس، والدنيا ومباهجها تغري بعضهم، وتؤثّر في سلوكهم القيم الاجتماعيّة، والذي قال: إنّهم ملائكة معصومون من الذنوب فهو...، إلى أن يقول:

فمن سوء حظّ أبي جهل أنّه قُتل في معركة بدر في صفّ المشركين، ولو أنّ الصدفة ساعدته - كما ساعدت غيره - فنجا من تلك المعركة، ثمّ بقي إلى يوم الفتح فأسلم، لصار من عداد الصحابة أو القوّاد الذين ادّعوا أنّهم رفعوا راية الإسلام. إنّها مسألة صدفة، والصدفة تلعب بمقدّرات الرجال لعباً هائلاً. وهذا أمر نشاهد مصداقه يجري أمام أعيننا كلّ يوم؛ إذ نرى الكثير من أمثال أبي جهل أوصلتهم الصدف إلى أعلى المراتب، والمحدِّثون والإخباريّون من حولهم يحيطونهم بهالة من العظمة...(٢) .

وقال ابن حزم بعد نقله قوله تعالى:( وَيَقُولُونَ آمنّا باللهِ وبالرسولِ وأطَعْنا ثُمّ يتولّى فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك وما أولئكَ بالمُؤمنين * وإذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضُون * وإن يَكُنْ لَهُمُ الحقُّ يأتُوا إليِه مُذْعِنين * أفي قُلوبِهم مَرَضٌ أم ارتابوا أم يَخافون أن يَحيفَ الله عليهم ورسولهُ، بل أولئك هُمُ الظالمون * إنّما كانَ قولَ المؤمنينَ إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُم أن يَقُولُوا سَمِعْنا وأطَعْنا وأُولئك هُمُ المُفْلِحون * ومَن يُطِع اللهَ ورسولَه ويَخْشَ اللهَ ويَتَّقْهِ فأُولئكَ هُمُ الفائزون * وأقْسَمُوا باللهِ جَهْدَ أيْمانِهمْ لَئن أمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُلْ

____________________

(١) ص ١٠٢.

(٢) نقد الحديث للدكتور حسين الحاجّ حسن ١: ٣٥٠ - ٣٥١ وقد أخذ هذا الكلام من كتاب وعاظ السلاطين: ١١٨ للدكتور علي الوردي.

٣٦٥

لا تُقْسموا طاعةٌ معروفةٌ إنّ الله خبيرٌ بما تعملون * قُلْ أطيعُوا اللهَ وأطيعُوا الرّسُول، فإن تَوَلِّوا فإنّما عليهِ ما حُمِّلَ وعليكم ما حُمِّلْتُم وإنْ تُطيعوه تَهْتَدوا وما على الرّسُولِ إلاّ البلاغُ المُبِينُ ) (١) .

هذه الآيات محكمات لم تَدَع لأحد علقة يشغب بها، قد بيّن الله فيها صفَة فعل أهل زماننا؛ فإنّهم يقولون: نحن المؤمنون بالله وبالرسول، ونحن طائعون لهما، ثمّ يتولّى طائفة منهم بعد هذا الإقرار، فيخالفون ما وردهم عن الله عزّ وجلّ ورسوله‏ صلّى الله عليه وآله! أُولئك بنصّ حُكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين، وإذا دُعُوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول يخالف كلّ ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك، فِمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا متروك، ومن قائل: أبى هذا فلان، ومن قائل: القياس غير هذا. حتّى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئاً يوافق ما قلّدوا فيه طاروا به كلّ مَطار، وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفاً حرفا، فيا ويلهم ما بالهم؟! أفي قلوبهم مرض وريب؟! أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله صلّى الله عليه وآله؟! ألا إنّهم هُمُ الظالمون، كما سمّاهم الله ربّ العالمين، فبعداً للقوم الظالمين!(٢) .

ثمّ عَمَد ابن حزم ليبرّر ما فعله كبار الصحابة في مخالفاتهم لحديث رسول الله، ودفع عنهم شبهة الإدخال في الدين - لمّا رسم في نفسه من هالة لأولئك الرجال - لكنّه في نفس الوقت نفى حجية ما فعله الصحابي وما قاله خلافاً للثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال:

وقد قال بعضهم: قد صحّ ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير ممّا بلغهم من حديث النبيّ صلّى الله عليه وآله، فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مُْسَتْخِفّيِنَ به، وهذا كفر من فاعله، أو يكونوا تركوه لفضلِ علمٍ كان عندهم، فهذا أولى أن يُظنّ بهم.

ثمّ قال: وهذا يبطل من وجوه، أحدها أنّه لو قال قائل: لعلّ الحديث الذي تركه من

____________________

(١) سورة النور: ٤٧ - ٥٤.

(٢) الإحكام في أُصول الأحكام ١: ٩٨ - ٩٩.

٣٦٦

تركه منهم فيه داخلة، قيل له: ولعلّ الرواية التي رويت بأنّ فلاناً الصاحب ترك حديثاً كذا هي المدخولة، وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها، وأيضاً فإنّ قوماً منهم تركوا بعض الحديث، وقوماً منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء.

فلا فرّق بين من قال: لابدّ من أنّه كان عند من تركه علمٌ من أجله تركه، وبين من قال: لابُدّ من أنّه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به. وكلّ دعوى عَرِيتْ من برهان فهي ساقطة. وقد قدّمنا أنّه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحقّ، سواء تركه مخطئاً معذوراً، أو تركه عاصياً موزوراً، ولا يكترث بمن عمل به كائناً مَن كان، وسواء عمل به أو تركه وفرض على كلّ مَن سمعه أن يعمل به على كلّ حال.

وأيضاً فإنّ الأحاديث التي روي أنّه تركها بعض من سلف ليست - في أكثر الأمر - التي ترك هؤلاء المحتجّون بترك من سلف لما تركوا منه. بل ترك هؤلاء ما أخذ به أُولئك، وأخذ هؤلاء بما تركه أُولئك، فلا حجّة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث؛ لأنّهم أوّل مخالف لهم في ذلك، وأوّل مبطل لذلك الترك. ولا أسوأ من احتجاج امرئ بما يبطل على من لا يحقّق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتجّ به له أو أشدّ.

وأيضاً: فلو صحّ ما افترَوه، من أنّه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علمٌ من أجله ترك ما ترك من الحديث - ونعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعيذ كلّ مَن يظنّ به خيراً من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمّة المقدّسة - لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعوناً بلعنة الله عزّ وجلّ. قال الله تعالى:( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلْنا مِنِ البيّناتِ والهُدَى مِن بعدِ ما بَيَّناهُ للنّاسِ في الكِتابِ أُولئِكَ يلْعَنُهُم الله ويَلْعَنُهمُ اللاّعِنُون ) (١) فنحن نقول: لعن الله كلّ مَن كان عنده علم من الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله وكتمه عن الناس كائناً مَن كان. ومَن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الإدخال في

____________________

(١) سورة البقرة: ١٥٩.

٣٦٧

الدين وكيد الشريعة، وهذا أشدّ ما يكون من الكفر.

وقد عارضتُ بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبديّ في مجلس القاضي عبد الرحمان بن أحمد بن بشر رحمه الله وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيّين، فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة، بل صمتوا كلّهم، إلاّ قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي؛ وذلك أنّي قلت له: لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صحّ عنه لكان أفسق الناس؛ وذلك أنّك تصفه بأنّه أبدى إلى الناس المعلولَ والمتروك والمنسوخ من روايته، وكتمهم المستعملَ والسالم والناسخ، حتّى مات ولم يُبْدِه إلى أحد. وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله، وقد أعاذه الله من ذلك. بل كان عندنا أحد الأئمّة الناصحين لهذه الملّة، ولكنّه أصاب وأخطأ، واجتهد فوفّق وحرم، كسائر العلماء ولا فرق - أو كلاماً هذا معناه - وقد افترض الله تعالى التبليغ على كلّ عالم، وقد قال عليه السلام مخبراً:(إنّ مَن كتم علماً عنده فسئل عنه أُلجم يوم القيامة بلِجامٍ من نار) ...(١) إلى آخره.

لكنّ التعدّديّة في الرأي - التي دافع عنها ابن حزم - تخالف وحدويّة العقيدة، وإن كنّا نوافقه في ذهابه إلى عدم حجية قول وفعل الصحابي، بل نزيده أنّ القول بعدالة الصحابة على الإطلاق يخالف ما فعله عمر مع سعد بن عبادة وقوله فيه: اقتلوا سعدا، قتل الله سعداً!(٢) وكذلك ضربُه تميماً الداريّ(٣) ، وتخوينه عمرو بن العاص في سرقته مال(٤) الفيء، وطعنه في دين خالد بن الوليد والمطالبة برجمه(٥) ، كلّ هذا يُفهم منه أنّ القول بعدالة الصحابة لم يكن على عهد عمر وأبي بكر، وحتّى على عهد

____________________

(١) الإحكام لابن حزم ٢: ٢٤١ - ٢٤٣.

(٢) مصنف عبد الرزاق ٥: ٤٤٤، بيعة أبي بكر، ح ٩٧٥٨، مسند أحمد ١: ٥٥، ح ٣٩١، طبقات ابن سعد ٣: ٦١٦، تاريخ الطبري ٢: ٢٣٥.

(٣) المعجم الكبير ٢: ٥٨، ح ١٢٨١، المحلّى لابن حزم ٢: ٢٧٤.

(٤) شرح النهج ٢٠: ٢١.

(٥) انظر تاريخ الطبري ٢: ٢٧٤ وفيه قول عمر لخالد بن الوليد بعد قتله لمالك بن نويرة: قال: قتلت امرأ مسلماً نزوت على امرأته والله لأرجمنّك بأحجارك، وهو في البداية والنهاية ٦: ٣٢٣، ثقات ابن حبان ٢: ١٦٩.

٣٦٨

عثمان. بل إنّه قد حدث لاحقاً، وليس له رصيد، ولم يُدْعَم من السنّة؛ إذ كلّ ما نقل عنه صلّى الله عليه وآله في هذا الشأن هو عرضة للترديد والردّ، ومثله ما رُسم من هالة للصحابة وعدّهم بمنزلة المعصوم والمخصِّصين للقرآن. نعم، إنّه فعل مدرسة الخلفاء - والدعاة إلى الرأي والأخذ بالمصالح! - وأنصارهم!

وللمزيد إليك كلام التفتازاني في شرح المقاصد إذ قال:

... إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ و... يدل بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحد وبلغ حد الظلم والفسق، وكان الباعث له الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسة والميل إلى اللذات والشهوات؛ إذ ليس كل صحابي معصوماً ولا كل مَن لقي النبي بالخير موسوماً، إلاّ أنّ العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله ذكروا محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار والمبشرين بالثواب في دار القرار. وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء؛ إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له مَن في الأرض والسماء، وتنهد منه الجبال، وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور، فلعنة الله على مَن باشر أو رضي، أو سعى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

فإن قيل فمن علماء المذاهب مَن لم يجوّز اللعن على يزيد، مع علمهم بأنّه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد. قلنا: تحامياً عن أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض...(١) .

كلّ هذه المباني المخترعة والأصول الخاطئة كان سببها - بل من أهمّ عوامل بنائها - منع التحديث والتدوين، ذلك المنع الذي فسح المجال لسلطة الرأي أن تتحكّم على النصوص.

____________________

(١) شرح المقاصد (للتفتازاني ٥: ٣١٠).

٣٦٩

جاء عن سليمان بن عبد القويّ الحنبليّ (ت ٧١٦ هـ) قوله في شرح الأربعين:

إنّ أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص، وبعض الناس يزعم أنّ السبب في ذلك عمر بن الخطّاب؛ لأنّ الصحابة استأذنوه في تدوين السنّة فمنعهم مع علمه بقول النبيّ صلّى الله عليه وآله(اكتبوا لأبي شاة) وقوله(قيّدوا العلم بالكتابة) .

فلو ترك الصحابة يدّون كلّ واحد منهم ما سمع من النبيّ لانضبطت السنّة فلم يبق بين آخر الأمّة وبين النبيّ إلاّ الصحابيّ الذي دوّنت روايته؛ لأنّ تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم كما تتواتر عن البخاريّ(١) .

وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: إنَّ امتناع بعض الصحابة عن كتابة الحديث ومنعهم منها لم يكن سببه نهي النبيّ صلّى الله عليه وآله عن كتابة الحديث، بدليل أنَّ الآثار الواردة عنهم في المنع أو الامتناع من كتابة الحديث لم ينقل فيها التعليل بذلك، وإنَّما كانوا يعلّلون بمخافة أن تشتغل الناس بها عن كتاب الله أو غير ذلك من الأغراض(٢) .

وبذلك اندثر الكثير من سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ونُسب إليه أكثر من ذلك، واختلقت مبان وأصول كثيرة في الشريعة، واختلط الأثر النبويّ أيّما اختلاط بالرأي والاجتهاد، حتّى ألزم البخاريّ نفسه أن ينتقي كتابه من بين ستمائة ألف حديث، وقريب منه فعل مسلم والنسائيّ وسواهم.

كان هذا مجمل الحديث عن محنة النصّ النبويّ - ثمّ اختراع حجيّة قول وفعل الصحابي - وما أعقب المنع من آثار على الشريعة، بسطنا القول فيه ليتعرّف القارئ على ملابسات التشريع وبعض أسباب الاختلاف بين المسلمين. ولم نكن نتوخّى فيه إلاّ بيان الحقيقة التي خفيت على المسلمين أحقاباً طويلة، وفُرض عليها الحصار قُرابة أربعة عشر قرناً من الزمان.

____________________

(١) نقل الأستاذ أسد حيدر عنه هذا الكلام في كتابه الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، فراجع.

(٢) الحديث والمحدّثون: ٢٣٤.

٣٧٠

النتيجة

نتج من خلال البحث والتتبّع: أنّ المنع من التدوين مرّ بمراحل ثلاث:

الأُولى: فترة الشيخين.

الثانية: مَن سار على نهجهما، كعثمان ومعاوية.

الثالثة: بعد معاويّة، حتّى عصر التدوين الحكوميّ.

المرحلة الأُولى:

كان المنع في عهد الشيخين نابعاً - مضافاً إلى محاولة إخفاء فضائل أهل البيت المفسَّرة بأحقيتهم في الخلافة، ومضافاً إلى عقليتهم المؤهّلة للرأي والاجتهاد - من عدم حفظهما واستيعابهما لجميع أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولمّا كان مقام الخلافة يستوجب العلم بما حكم به الرسول، والخليفة لم يختصّ به صلّى الله عليه وآله كي يعرف جميع الأحكام الصادرة عنه، ولم يثُبت معرفة الخليفة بوجوه التفسير والتأويل في القرآن... كان من الطبيعيّ أن يحدث التخالف بين فتاواه، وبين أقوال رسول الله وحكم التنزيل. وهذا الأمر لو كان قد فسح المجال ليتّضح للناس مثلما هو عليه اليوم لأحدث مشكلة كبيرة، خاصّة وأنّ الخليفة كان في صدد معارك عسكريّة وفتوح للبلدان المتاخمة لبلاد المسلمين؛ فلذلك رأى من اللازم عليه اعتبار رأيه الحكم الفَصْل، وإن خالف النصّ لكي يكون معذوراً فيما يذهب إليه لمصالح قد ارتضاها! فتراه يقول: (ذلك على ما قَضَينا، وهذا على ما قضينا).

٣٧١

وقد تزايدت القضايا والوقائع التي ينبغي بيان حكمها، على أثر اتّساع رقعة الدولة الفتيّة بالفتوحات ومن خلال التعامل مع أقوام شتّى دخلوا في الإسلام. ولم يكن وضع الخليفة العلميّ بالذي يهيئوه للإِجابة الشرعيّة عن الحاجات المستجدّة؛ لعدم إحاطته بأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله، واستيعابه للموقف الشرعيّ الذي كان النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله قد كشف عنه، ذلك أنّ عمر بن الخطّاب لم يكن متفرّغاً لملازمة الرسول والأخذ عنه، بل كان - كما يقول عن نفسه - يتناوب هو وأخ له من الأنصار للأخذ عنه صلّى الله عليه وآله.

فعن عمر - كما روى البخاري ّ أنّه قال: كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أُميّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنّا نتناوب النزول للأخذ عن رسول الله، ينزل يوماً وأنزل يوما، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك(١) .

وكان البيع والشراء في الأسواق ممّا يشغله ويلهيه عن ملازمة رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله والاستمداد منه، لقوله: (وكان يلهيني الصفق في الأسواق)(٢) ، وقال له أُبيّ: وكان يلهيك الصَّفْق في الأسواق(٣) . فكان هذا أحد أسباب قلّة التلقي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

بَيْدَ أنّ الوقائع المستجدّة تحتاج إلى حلول فوريّة يلزم استقاؤها من القرآن والسنّة، وبما أنّ الخليفة لم يكن عارفاً بجميع السنّة ووجوه التأويل، فإنّه واجَهَ مشكلة في ذلك مستعصية؛ إذ إنّه لو أفتى بشيءٍ يخالف القرآن أو السنّة كان في حرجٍ أمام الصحابة، الذين سيعلنون عن الموقف الشرعيّ السليم في الواقعة، كما سمعوه من رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله.

لذلك تراه يبدأ السؤال عن حكم الرسول - كي لا يُحرَج لاحقاً - أو تراه يخضع لما يذكّره به الصحابة من أقوال النبيّ وأحاديثه دون نقاش.

____________________

(١) صحيح البخاري ١: ٤٦، باب التناوب في العلم، ح ٨٩، و ٢: ٨٧١، باب إماطة الأذى، ح ٢٣٣٥، صحيح مسلم ٢: ١١١٢، باب في الإبلاء واعتزال النساء ويخيرهن، مسند أحمد ١: ٣٣، ح ٢٢٢، سنن الترمذي ٥: ٤٢٠، باب ومن سورة التحريم، ح ٤٢٠.

(٢) انظر صحيح البخاري ٢: ٧٢٧، باب الخروج إلى التجارة، ح ١٩٥٦، ٦: ٢٦٧٦، باب الحجّة على مَن قال إن أحكام النبي‏ صلّى الله عليه وآله كانت ظاهرة، ح ٦٩٢٠، صحيح مسلم ٣: ١٦٩٥، باب الاستئذان.

(٣) السنن الكبرى للبيهقي ٧: ٦٩، باب ما خصّ به من أن أزواجه أمّهات المؤمنين، ح ١٣١٩٧.

٣٧٢

لكنَّ استمرار حالة سؤاله الصحابةَ عن حكم الوقائع والحوادث المتتابعة، وافتراض كون الأحكام مستنبطة من النصوص... من شأنه إيقاع الخليفة في حرج آخر كلّما دعت الحاجة إلى موقف شرعيّ كاشف عن حكم الله جلّ جلاله، ومن شأن استمرار هذه الحالة أيضاً أن تفوّت على الخليفة كثيراً من الفرص. ومن هنا وجد من الضروريّ له خروجاً من الحرج وفوات الفرص أن يصير إلى تشريع الاجتهاد والعمل بالرأي في إطار المنع من الحديث كتابة ورواية وتدوينا؛ لإعذاره وإعذار مَن يسير على نهجه من المسلمين.

ولذلك صار عند المسلمين اتّجاهان:

الأوّل: لا يرتضي الحكم والاستنباط إلاّ على ضوء النصّ الشرعيّ من قرآن وسنّة.

الثاني: يرى الاجتهاد فيما لا نصّ فيه وما فيه نصّ، ويذهب إلى اعتبار ما يراه من المصلحة.

فالمصلحة هي الوسيلة الأقوى التي اتّخذها الحكّام، فهم لا يقولون بشيء إلاّ بادّعاء أنّ المصلحة في فعله، ولا ينهون عن شيء إلاّ بتصوّر أنّ المصلحة في تركه. لكنّ السؤال الذي لا مفرّ منه هو: هل مشروعيّة هذه المصلحة مُنْتَزعة من النصّ أم لا؟

إنّ أصحاب نهج التعبّد المحض لو أخذوا بالأحكام الثانويّة فإنّهم يكونون قد أخذوا بها على ضوء النصوص ولفترة محدودة بمقدار الضرورة، لا اجتهاداً من عند أنفسهم.

وأمّا المصلحة في نهج الخلفاء فإنّها - مضافاً إلى كونها مصلحة متخيّلة - تؤخذ من فعل الخليفة وما رآه مصلحة بحيث تكون حكماً دائميّاً لا وقتيّاً، وهذا فارق عظيم بين الحالتين.

نعم، إنّ الاجتهاد له مطّاطيّة وانسيابيّة، ولا يمكن لأحد الحدّ من سيره، وإنَّ راكبه كما وصفه الإمام عليّ بن أبي طالب في الخطبة الشِّقشقيّة:(كراكِبِ الصَّعْبة...) لا يمكن لأحد أن يلجمه كما لا يمكنه الإمساك بزمامه.

٣٧٣

المرحلة الثانية:

كان عثمان يميل إلى مواصلة سنّة الشيخين، لكنّه في الوقت نفسه يرى لنفسه الأهليّة في الإفتاء والاجتهاد كالشيخين؛ لما يراه من مصلحة ورأي، لأنّ تحديد إفتائه وحديثه (بما عُمِل به في زمن الشيخين) - كما هو المصرّح به في خطبته الأولى(١) - كان يؤذيه من بعد، لسابقته في الإسلام ومصاهرته الرسول!!، ولكونه ليس بأقلّ شأناً من عمر وأبي بكر، فكيف يجوز للناس أن يعترضوا عليه لمخالفته بعض اجتهادات الشيخين، وهو قد شاهدهم بالأمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر المخالفة لسنّة رسول الله؟! بل إنّهم قد ارتضوا تلك الاجتهادات وجعلوها نهجَ حياة، يضاهي ويوازن سنّة رسول الله، بل يعارضها في موارد كثيرة، وهو - أي عمر - في بعضها أجسر فيما شرّعه من عثمان وأجر.

فكان عثمان يردّد هذا السؤال مع نفسه:

كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها - كما في صلاة التراويح ومتعة النساء وغيرها - ولا يحقّ لي ذلك؟!

ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياستهما ولا أكون مجتهداً متبوعاً؟!

وقد جاء هذا الكلام صريحاً في قوله للمعترضين: (ألا فقد - والله - عبتم عَلَيّ بما أقررتم لابن الخطّاب بمثله)، ثمّ يقول: (أما والله لأنا أعزّ نَفَراً وأقربُ ناصراً وأكثر عدداً وأقْمَنُ إن قلت هلمّ، أُتِيَ إليّ، ولقد أعددتُ لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم

____________________

(١) ففي الطبقات الكبرى ٢: ٣٣٦، وتاريخ دمشق ٣٩: ١٨٠، بالإسناد عن محمود بن لبيد. قال: سمعتُ عثمان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد أن يروي حديثاً عن رسول الله‏صلّى الله عليه وآله لم يسمع به في عهد ابي بكر ولا عهد عمر.

وقد مرّ عليك كما في المستدرك على الصحيحين ٤: ٣٧٧ - قول عثمان لعمر لمّا طُعن واستشارهم في الجدّ: إن نتّبع رأيك فهو رشد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنِعْمَ ذو الرأي. وانظر سنن الدارمي ١: ١٥٩، باب اختلاف العلماء، ح ٦٣١، السنن الكبرى للبيهقي ٦: ٢٤٦، باب من لم يورث الأخوة مع الجد، ح ١٢٢٠١.

٣٧٤

فضولاً وكشّرت لكم عن نابي...)(١) .

وقد شاهدتَ ابن عوف وعرفت أنّه لم يقدر أن يُلْزِمَ عثمانَ بما أعطاه من العهد والميثاق للسير على طِبق سيرة أبي بكر وعمر، ومن هنا اعتصم ابن عوف بالصمت في آخر الحوار الذي دار بينه وبين عثمان حول الصلاة في منى، فقال ابن عوف: ألم تصلِّ في هذا المكان مع رسول الله ركعتين؟

قال عثمان: بلى.

فقال ابن عوف: ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين؟

قال: بلى.

فقال ابن عوف: ألم تصل مع عمر ركعتين؟

قال: بلى.

قال ابن عوف: وصدراً من خلافتك ركعتين؟

قال: بلى.

فقال ابن عوف: إذن كيف تصلّي اليوم أربعاً؟!

فقال عثمان: رأيٌ رأيته!(٢) .

فعثمان ما فعل في هذه المفردة إلاّ ما جرّ إليه الاجتهاد.

وتجاوُزُ الحدود جاء تبعاً للاجتهاد قبال النص المنهي عنه في شريعة سيد المرسلين، فلم يمكن لأحد الأخذ بلجامه والاعتراض على اجتهادات الآخرين؛ لأنّ خليفة المسلمين قد فعل ذلك، فإن ورد اعتراض على اجتهادات الآخرين فإنّه يَرِدُ قبله على خليفة المسلمين؛ لأنّه فعل ذلك، فإن كان الاجتهاد شرعيّاً فاجتهاد عثمان وغيره شرعيّ كذلك، وإن لم يكن شرعيّاً، فَلِمَ فعل الشيخان ذلك؟!

ومرّةً أُخرى... فإنّ المنع عن تدوين السنّة الشريفة والذهاب إلى إقلال الحديث

____________________

(١) الإمامة والسياسة ١: ٤٦، تاريخ الطبري ٢: ٦٤٥، البداية والنهاية ٧: ١٦٩.

(٢) الخبر بكامله في تاريخ الطبري ٢: ٦٠٦، أحداث سنة ٢٩ هـ.

٣٧٥

عن رسول الله هو الذي أوجد الاجتهاد عند الشيخين، واجتهاد الشيخين هو الذي حدا بعثمان أن يجتهد كذلك ويُحْدِث الأحكام طبق ما يراه من مصلحة، والخلفاء بعد هؤلاء - إلاّ عليّ بن أبي طالب - قد وجدوا في الاجتهاد والمصلحة بُغيتهم، وأنّه خير غطاء يمكن الاحتماء به لتصحيح آرائهم.

وأمّا عليّ بن أبي طالب فقد عارض فكر هذا الاتّجاه. وكلماتُهُ في نهج البلاغة وغيره توضّح ذلك وتجلّيه بما لا يَدَع مجالاً للشكّ. وإليك نصّين عنه في أيّام خلافته يوضّحان معالم الاختلاف وجذور المسألة.

الأوّل: قوله عليه السلام:(... وإنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تُتَّبع وأحكام تُبَْتدع، يُخالَف فيها كتاب الله، يَتولّى فيها رجالٌ رجالاً، على غير دين الله، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أنّ الحقّ خَلَصَ من لبس الباطل لانقطعت ألسنة المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضِغثٌ ومن هذا ضِغثٌ، فيمزَجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى. إنّي سمعتُ رسولَ الله يقول: كيف أنتم إذا لَبِسَتْكُم فتنة يربو فيها الصغير ويَهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة، فإذا غُيِّرَ منها شيء قيل: قد غُيّرت السنّة وقد أتى الناس منكراً؟! ثمّ تشتدّ البليّة وتسبى الذرّيّة، وتدقّهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب، وكما تدقّ الرحى بثِفالها (١) ،ويتفقّهون لغير الله ويتعلّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة.

ثمّ أقبل بوجهه، وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال:قد عملتِ الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله متعمّدِين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيِّرِين لسنّته، ولو حملتُ الناس على تركها وحوَّلْتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله، لتفرّق عنّي جندي، حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرضَ إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله. أرأيتم لو أمرتُ بمقام إبراهيم

____________________

(١) الثفال بالكسر جلدة تبسط تحت رحا اليد ليقع عليها الدقيق، ويسمّى الحجر الأسفل: ثفالاً به.

٣٧٦

فردَدْتُه إلى الموضع الذي وضعه فيه رسولُ الله، ورددتُ فدك إلى ورثة فاطمة (١) ،ورددتُ صاع رسول الله كما كان (٢) وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلّى الله عليه وآله لأقوام لم تُمْضَ لهم ولم تنفذ، ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد (٣) ،ورددت قضايا من الجور قضي بها (٤) ،ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقّ فرددتُهن إلى أزواجهن (٥) واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام، وسبيت ذراري بني تَغْلِب (٦) ،ورددت ما قسّم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا (٧) ،وأعطيت كما كان رسول الله يعطي بالسويّة، ولم أجعلها دُولة بين الأغنياء، وألقيت المساحة (٨) وسوّيت بين المناكح (٩) ،وأنفذت خُمْس الرسول كما أنزل عزّ وجلّ وفَرَضه (١٠) ،ورددت مسجد رسول الله إلى ما كان عليه (١١) ،وسددت ما فُتح فيه من الأبواب (١٢) ،وفتحت ما سُدّ منه، وحرّمت المسح على الخُفّين (١٣) ،وحَدَدتُ على

____________________

(١) قصّة فدك مشهورة، لا حاجة لبيانها وللأعلام فيها كتب كثيرة.

(٢) انظر الخلاف للشيخ الطوسيّ ١: ١٢٩، مسألة ٧٣ لتعرف حقيقة الأمر.

(٣) كأنّهم غصبوها وأدخلوها في المسجد.

(٤) كقضاء عمر بالعول والتعصيب في الإرث و...

(٥) كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته: ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج... إلخ، وانظر نهج البلاغة ١: ٤٦، خ ١٥، وشرح النهج ١: ٢٦٩.

(٦) لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة، فيحلّ سبيُ ذراريهم، قال البغويفي شرح السنّة: روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض، بعنوان الصدقة. فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين. قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.

(٧) إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من وضعه الخراج على أرباب الزراعة والصناعة والتجارة لأهل العلم والولاة والجند، بمنزلة الزكاة المفروضة، ودوّن دواوين فيها أسماء هؤلاء وأسماء هؤلاء.

(٨) راجع تفصيل هذا الأمر في كتاب الشافي للسيّد المرتضى.

(٩) ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.

(١٠) إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمْسَهم.

(١١) يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصب.

(١٢) إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسد الأبواب إلاّ باب عليّ.

(١٣) إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا.

٣٧٧

النبيذ، وأمرت بإحلال المُتْعَتين (١) ،وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات (٢) ،وألزمتُ الناس الجهرَ ببسم الله الرحمن (٣) الرحيم، وأخرجت مَن أُدخِل بعد رسول الله في مسجده ممّن كان رسولُ الله أخرجه، وأدخلت مَن أُخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله أدخله (٤) ،وحملتُ الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنّة (٥) ،وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها (٦) ،ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها (٧) ،ورددت أهل نجران إلى مواضعهم (٨) ،ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه... إذن لتفرّقوا عنّي.

والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام! غُيِّرت سنّة عمر! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً! ولقد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. ما لقيت من هذه الأمّة من الفُرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار!! وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عزّ وجلّ: ( إنْ كُنتم آمنتم باللهِ وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يومَ الفرقانِ يومَ التقى الجَمْعان ) (٩) ،فنحن والله عنى بذي القربى الذين قَرَننا الله بنفسه وبرسوله صلّى الله عليه وآله فقال تعالى: ( فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ

____________________

(١) يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.

(٢) لِما كبّر النبيّ في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهم.

(٣) لكونهم قد أكّدوا على إخفاته.

(٤) يحتمل أن يكون المراد إشارة إلى الصحابة المخالفين الذين أُخرجوا من المسجد في حيث إنّهم كانوا مقرّبين عند رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله، وإنّه ‏عليه السلام يخرج من أخرجه رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله، كالحكم بن العاص وغيرهم.

(٥) كما مرّت عليك الاجتهادات المخالفة للقرآن وما قالوه في الطلاق ثلاث.

(٦) أي من أجناسها التسعة، وهي: الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر.

(٧) وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام. وقد وضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا (وضوء النبيّ).

(٨) وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.

(٩) الأنفال: ٤١.

٣٧٨

الأغنياءِ مِنكم وما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوه ومَا نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا واتّقوا اللهَ إنّ اللهَ شديدُ العِقاب ) (١) .

الثاني: روى الطوسيّ في (التهذيب) عن الصادق ‏عليه السلام قول أمير المؤمنين‏ عليه السلام لمّا قدِم الكوفة، وأمر الحسنَ بن عليّ‏ عليه السلام أن ينادي في الناس:(لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة)، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ بما أمره به أميرُ المؤمنين، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن عليّ صاحوا: وا عُمَراه! وا عمراه! فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين قال له: ما هذا الصوت؟

فقال: يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون: وا عمراه! وا عمراه! فقال أمير المؤمنين:قل لهم: صلّوا (٢) .

عرفنا من مجمل الخبرين السابقين عدّة أُمور:

١ - أنّ هناك سُنَناً قد شُرّعت من قبل الخلفاء لا يرتضيها عليّ؛ لمخالفتها لسنّة رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله.

٢ - سعى عليّ لرفعها لكنّه لم يقدر على كثير منها؛ لقوّة التيّار المدافع عن عمر، والمتابع لاجتهاداته وآرائه.

٣ - أنّ الخلاف بين عليّ وعمر لم يقتصر على موضوع الخلافة وحده، بل كان على الفقه والشريعة كذلك.

فالقائلون بحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة كانوا يعارضون التحديث عن رسول الله وتدوين سنّته، ويرجّحون اجتهادات الشيخين على كلّ شيء لتصوّرهم بأنّهم يعرفون علل الأحكام وروح التشريع!!

وأمّا أنصار مدرسة التعبّد المحض فكانوا يقفون أمام تهديدات هؤلاء، موضّحين فقه رسول الله صلّى الله عليه وآله، وناقلين حديثه للناس، ولو وضعت الصمصامة على أعناقهم!

____________________

(١) كتاب سليم بن قيس: ٢٦٢ وعن سليم في الكافي ٨: ٥٩، ح ٢١، وانظر نهج البلاغة ١: ٩٩ الخطبة ٥٠ وقد ذكر بعضه وهو أيضاً في احتجاج الطبرسي ١: ٣٩٢ من طريق آخر مختصر.

(٢) تهذيب الأحكام ٣: ٧١، ح ٢٢٧.

٣٧٩

وجاء عن عليّ أنّه قال لمّا طُعِن:أمّا وصيّتي إيّاكم، فالله عزَّ وجلَّ لا تشركوا به شيئاً، ومحمّد لا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين... (١) .

وعن ابن كثير، عن أبيه، قال: أتيت أبا ذرّ، وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثمّ قال: أوَلَمْ تُنهَ عن الفُتيا؟! فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت عَلَيَّ؟! لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثمّ ظننت أنّي أُنِفُذ كلمةً سمعتُها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيَّ، لأنفذتها(٢) .

انظر إلى أبي ذرّ كيف يُصِرّ على تبليغ ما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وآله، وإن وُضِعَت الصمصامة على عنقه! وانظر إلى عدوله عن لفظ السائل (الفيتا) إلى لفظ (سمعتها من رسول الله) لتعلم التفاوت بين الاتّجاهين.

إنّها المسؤوليّة التي يتحسّسها أبو ذرّ وغيره من أتباع نهج التعبّد المحض، فيجدّون في تبليغ سنّة رسول الله حتّى آخر نفس، لقوله: (ثمّ طننتُ أنّي أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله قبل أن تجيزوا عَلَيّ، لأنفذتها)(٣) .

كيف لا يقول ذلك، وهو قد سمع رسول الله في أكثر من مشهد وموقف أنّه يتخوّف على أُمّته من: الضلال والابتعاد عن الصراط، والأخذ بسنن الآخرين بُغضاً لعليّ؟!

فعن حنش الكنانيّ: قال سمعت أبا ذرّ وهو آخِذٌ بباب الكعبة يقول: أيّها الناس، مَن عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذرّ، سمعت رسولَ الله يقول:مَثَلُ أهل بيتي كسفينةِ نوح: مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق (٤) .

____________________

(١) المعجم الكبير لللطبرانيّ ١: ٩٦، ح ١٩٧.

(٢) تاريخ دمشق ٦٦: ١٩٤، سنن الدارمي ١: ١٤٦، سير أعلام النبلاء ٢: ٦٤، طبقات ابن سعد ٢: ٣٥٤، حلية الأولياء ١: ١٦٠ وفيها: وعلى رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ وفي فتح الباري ١: ١٦١، قال ابن حجر: إنّ الذي خاطبه رجل من قريش، والذي نهاه عثمان. وقد روى البخاري في صحيحه ١: ٣٧، في باب العلم هذا الحديث مبتورا، فلم يذكر نهي عثمان ولا الفتى القريشي الرقيب بل اكتفى بذكر قول أبي ذر (لو وضعتم الصمصامة...)... الخ فتأمّل.

(٣) الخبر في سنن الدرامي ١: ١٤٦، ح ٥٤٥، وقد قال ابن حجر في فتح الباري ١: ١٦١ قال: إنّ أبا ذرّ كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنّه كان يرى أنّ ذلك واجب عليه لأمر النبي‏ صلّى الله عليه وآله بالتبليغ عنه.

(٤) المعجم الأوسط ٥: ٣٥٥، ح ٥٥٣٤، المعجم الكبير ٣: ٤٥، ح ٢٦٣٦، مستدرك الحاكم ٢: ٣٧٣، والنص

٣٨٠