منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث0%

منع تدوين الحديث مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 586

منع تدوين الحديث

مؤلف: السيد علي الشهرستاني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

الصفحات: 586
المشاهدات: 102854
تحميل: 7799

توضيحات:

منع تدوين الحديث
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 586 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 102854 / تحميل: 7799
الحجم الحجم الحجم
منع تدوين الحديث

منع تدوين الحديث

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
العربية

البيت لإحياء التراث، قم، هذا مع أنّ هناك رسائل وكتب أُخرى رواها عنه أصحابه.

وقد عارض الإمام الكاظم الأٌصول المستجدّة - كالقياس والأخذ بالرأي - في مثل قوله لسماعة بن مهران(١) ولمحمّد بن حكيم، وإليك نصّ خبر ابن حكيم: قال: قلت لأبي الحسن موسى: جُعلت فداك فَقِهْنا في الدين وأغنانا الله بكم عن الناس حتّى أنّ الجماعة منّا لتكون في المجلس ما يسأل رجل صاحبه إلاّ وتحضره المسألة ويحضر جوابها فيما مَنَّ الله علينا بكم فربّما ورد علينا الشيء لم يأتنا فيه عنك ولا عن آبائك شيء، فنظرنا إلى أحسن ما يحضرنا وأوفق الأشياء لما جاءنا عنكم فنأخذ به.

فقال:هيهات، هيهات، في ذلك - والله - هلك من هلك يا بن حكيم... (٢) .

وفي رواية أُخرى أنًّ أبا يوسف سأل الإمام عن المحرم يظلل؟

قال:لا .

قال: فيستظل بالجدار والمحمل ويدخل البيت والخباء؟

قال:نعم .

قال: [ الراوي ]: فضحك أبو يوسف شبه المستهزئ.

فقال له أبو الحسن:يا أبا يوسف إنّ الدين ليس بالقياس كقياسك وقياس أصحابك، إنّ الله عزّ وجلّ أمر في كتابه بالطلاق وأكّد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلاّ عدلين، وأمر في كتابه بالتزويج، وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله، وأبطلتم الشاهدين فيما أكّد الله عزّ وجلّ وأجزتم طلاق المجنون والسكران. حجّ رسول الله فأحرم ولم يظلل، ودخل البيت والخباء واستظلّ بالمحمل والجدار ففعلنا كما فعل رسول الله. فسكت(٣) .

وقد كان (كتاب عليّ) محفوظاً أيضاً عند الإمام الكاظم، وقد عمل به وأراه

____________________

(١) اختصاص المفيد: ٢٨١، بصائر الدرجات: ٣٢١، الباب ١٥، ح ١، مستدرك وسائل الشيعة ١٧: ٢٥٩، ح ٢١٢٨٢.

(٢) المحاسن ١: ٢١٢، ح ٨٩، الكافي ١: ٥٦، ح ٩، الوسائل ٢٧: ٨٦، ح ٣٣٢٨٠.

(٣) الكافي ٤: ٣٥٣، باب الظلال للمحرم، ح ١٥.

٤٦١

لأصحابه وغيرهم، خصوصاً في المسائل الخلافية كما سلف.

فعن حماد بن عثمان، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل ترك أُمّه وأخاه، فقال:يا شيخ تريد على الكتاب؟

قال: قلت: نعم.

قال:كان عليّ عليه السلام يعطي المال الأقرب فالأقرب.

قال: قلت: فالأخ لا يرث شيئاً؟

قال عليه السلام:قد أخبرتك أنّ عليّاً عليه السلام كان يعطي المال الأقرب فالأقرب (١) .

إنّ جواب الإمام كان ببيان القاعدة دون التفصيل؛ لأنّ السامع كان قد فهم التفصيل والمراد، والإمام عليه السلام لم يصرّح بالحكم خوفاً من الحكّام وأتباعهم الذين يترصّدونه فيما ينقله عن آبائه وأجداده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.

ويلاحظ أنّ الإمام وثّق جوابه بالمبادرة إلى عرض الكتاب على السائل، زيادة في تحقيق الاطمئنان عند السائل وأنّه عليه السلام لا يجيب كما يجيب الآخرون من عنديّاتهم.

و إذا استقرأنا تاريخ (كتاب عليّ) عند الأئمّة وجدناه يتدرّج قليلاً قليلاً حتّى يبرز بشكل ملحوظ في فقه الإمام الباقر عليه السلام والإمام جعفر الصادق، ثمّ ينحسر عند الإمام الكاظم، ثمّ يبدأ يتدرّج قليلاً قليلاً كما كان من بعد عصر الإمام الكاظم‏ عليه السلام؛ وذلك لأنّ الفقه الصحيح والمروّيات النبويّة التي نقلها آل محمّد وأعلموا المسلمين كافّة بوجود كتاب عليّ عندهم وأنّهم ينقلون العلم منه وممّا ضارعه من الكتب، كانت هذه الأُمور قد تكاملت وشكّلت مدرسة واضحة المعالم في فترة هؤلاء الأئمة الثلاثة، فكان إبرازهم المكثّف بالشكل الذي ذكرناه لكتاب عليّ؛ إنّما هو لأجل الترسيخ والنشر للعلوم وقد حصل معظمه في عصر هؤلاء الأئمّة الثلاثة.

____________________

(١) الكافي ٧: ٩١ باب ميراث الأبوين، ح ٢، التهذيب ٩: ٢٧٠، ح ٩٨١.

٤٦٢

بقي شيء

هو أنّ إبراز الأئمّة لكتاب عليّ كان يكثر بشكل ملحوظ في باب الإرث والقضاء والشهادات، فما هو سرّ هذا الاختصاص؟

إنّ تتّبع المسير يدلّنا على حقيقة خطيرة تؤكّد ما ذهبنا إليه - وأصّلناه في كتابنا هذا - من أنّ احتياج الخلفاء للزعامة الدينيّة، مع قصورهم في هذا المجال كان من العوامل الأساسية التي حدت بهم إلى منع التحديث والتدوين، مضافاً إلى أنّ المطّاطيّة الموجودة في الرأي والاجتهاد كانت تخدمهم كثيراً في الأوقات الحرجة، والذي يثبت هذه الحقيقة هو كثافة المنقولات عن كتاب عليّ في باب الإرث وباب القضاء والشهادات.

إذ إنّ أوّل اختلاف فقهيّ حصل بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، كان الاختلاف بين فاطمة الزهراء بنت رسول الله، وبين الخليفة أبي بكر، ذلك الاختلاف الذي أثار ضجّة كبيرة بقيت آثارها حتّى اليوم.

فحين كانت فدك بيد الزهراء وانتزعها أبو بكر من يد وكيلها، جاءت تطلبها منه وادّعت بمشهد من المسلمين أنّها نِحلة من رسول الله صلّى الله عليه وآله لها - على ما هو عليه الأمر في واقع الحال - فطلب أبو بكر منها أن تأتي بالشهود فجاءت بعليّ والحسن والحسين عليهما السلام وأُمّ أيمن أو أُمّ سلمة.

فاضطرّ أبو بكر في ذلك المجلس إلى ردّ شهاداتهم معلّلاً بعلل لم تكن مقبولة عند الزهراء لعدم مطابقتها مع كتاب الله ولا سنّة رسول الله، فكان هذا أوّل خلاف بين المسلمين في القضاء والشهادات. ثمّ لمّا ردّ أبو بكر الشهود وأبطل شهاداتهم، حاججته فاطمة الزهراء - تنزّلاً - بأنّ فدكاً إن لم تكن نحلةً لها فلتكُنْ إرثاً، واستدلّت عليه بعمومات آيات الإرث، فقالت له فيما قالت في خطبتها الشهيرة الرائعة:وأنتم الآن تزعمون أن لا إرثَ لنا ( أفحكم الجاهلية يبغون ومَن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) (١) ... يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرِثُ أبي، لقد

____________________

(١) المائدة: ٥٠.

٤٦٣

جئت شيئاً فريّاً، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؛ إذ يقول: ( وورث سليمانُ داود ) (١) ،وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريّا إذ قال: ( فهب لي من لدنك وليّاً * يرثني ويرثُ من آل يعقوبَ ) ،وقال: ( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ،وقال: ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين ) ،وقال: ( إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتقين ) (٢) وزعمتم أن لا حظوة لي... (٣)

وهنا اضطرّ الخليفة إلى الادّعاء ولوحده أنّه سمع النبّي يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورِّث درهماً ولا ديناراً)، وهذا ثاني اختلاف؛ لأنَّ الزهراء عارضتة بعمومات الإرث في القرآن وأنّ داود ورّث سليمان، و و و... وحسبنا في إثبات بطلان دعواه ما أعطاه هو بنفسه للزبير بن العوّام - صهره على ابنته أسماء أُمّ عبد الله بن الزبير - ومحمّد بن مسلمة وغيرهما من متروكات النبّي‏ صلّى الله عليه وآله(٤) ، ومن هنا يمكننا استنتاج أنّ هذين البابين من الفقه قد مُنيا أكثر من غيرهما بالتبديل تارة، وبالجهل تارة أُخرى.

والذي يؤكّد هذه الحقيقة هو امتداد التغييرات في هذين البابين، فقضيّة قتل خالد بن الوليد لمالك بن النويرة وزناه بامرأته، كانت امتداداً لسياسة التجهيل وفتح باب الرأي في باب القضاء، حتّى أنّ أبا بكر اختلق قضيّة (تأوّل فأخطأ) للخروج من ذلك المأزق القضائيّ، مع أنّ خالداً لم يستطع إنكار الدخول بامرأة مالك لشهادة الجيش بذلك، وفيهم العدول الثقات.

وحصل مثل ذلك في زمن خلافة عمر بن الخطّاب، فقد اختصم عليّ والعبّاس عند عمر - وفي حديث آخر عند أبي بكر - في ميراث رسول الله، فحكم بدابّة

____________________

(١) النمل: ١٦.

(٢) البقرة: ١٨٠.

(٣) الاحتجاج ١: ١٣٨، باب احتجاج فاطمة عليها السلام لما منعوها فدك، وانظر شرح نهج البلاغة ١٦: ٢٠٩ - ٢٥٣.

(٤) انظر ما نشرته مجلّة (الرسالة المصريّة) في عددها ٥١٨ من السنّة ١١ في ص ٤٥٧، وانظر النصّ والاجتهاد: ١٢٤.

٤٦٤

رسول الله وسلاحه وخاتمه لعليّ، فاعتُرض عليه بأنّه كان قد أيّد من قبل مرويّة أبي بكر في عدم توريث الأنبياء، فما باله الآن يورِّث عليّاً والعبّاس من النبّي؟ فلذلك اضطرّ عمر إلى نهرهما وعدم التدّخل في حلّ تلك القضيّة، وهذا هروب من الخليفة في بابي الإرث والقضاء والشهادات حتّى عطّلت الحدود.

وقد حصلت في زمن حكومة عمر أيضاً مسألة زنا المغيرة بن شعبة وشهادة الشهود، ثمّ التواطؤ مع الشاهد الأخير لدرء الحدّ عن المغيرة، مع أنّ شهادة ثلاثة شهود على الزنا وإن لم يثبت بها الزنا إلاّ أنّه يثبت بها التعزير لخلوته بامرأة محصنة رأوه متبطّنها، وسمعوا نخيرهما، ورأوا في فخذيهما تشريم جدري، و و و...، لكنّ شيئاً من ذلك لم يلتزمه الخليفة، بل ضرب به عرض الحائط، وهذا أيضاً اجتهاد في باب القضاء والشهادات وتعطيل لإقامة الحدود.

ومثل ذلك كان في زمن خلافة عثمان بن عفّان، في قضيّة الوليد حين شرب الخمر وصلّى بالناس وهو سكران، وقد تمّ الشهود كُمُلاً، فأراد عثمان درء الحدّ عنه لو لا إصرار عليّ والمسلمين على إقامة ذلك الحدّ، ومَن يطالع أدلّة عثمان بن عفّان لتبرئته و تهديده الشهود يتيقّن ممّا قلنا، حتّى أنّ أُمّ المؤمنين عائشة قالت: (إنّ عثمان قد أبطل الحدود وأخاف الشهود)(١) .

وكذلك استمرّ التحريف في الإرث حتّى أعطى عثمان فدكاً والعوالي لمروان بن الحكم، مخالفاً بفعله ما ادّعته الزهراء - في أنّها نحلة أو إرث لها - وما قاله الخليفة أبو بكر في أنّها للمسلمين.

وهكذا استمرّت الحالة وتأزّمت حتّى وصل الأمر بيزيد أن يفعل ما يشاء من المحرّمات، ويشرب الخمر على رؤوس الأشهاد دون أن يقيم عليه معاوية الحدّ أو ينهاه عن التظاهر بالفسق والفجور على أقلّ تقدير.

هذا مع أنّ الأموييّن، ومعاوية بالخصوص، قاتل عليّاً بحجّة (الإرث) وأنّه وارث

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٣٤، تاريخ الطبري ٤: ٢٧٦.

٤٦٥

عثمان بن عفّان، لمجرّد كونهما مشتركين في النسب الأعلى، مع أنّ ابن عثمان كان حيّاً وهو وليّ الدم دون معاوية، إلاّ أنّ معاوية حرّف حقائق الإرث وانطلت ادّعاءاته على مسلمي الشام، حتّى قاتلوا وقُتِلوا بناءً على هذا التحريف الشنيع في الإرث. وهذا التحريف كان له نظير في السقيفة حين أخذت قريش الخلافة من الأنصار بدعوى الأقربيّة، وتركوا عليّاً بحجّة أنّهم أيضاً عشيرة النبّي وهم أقوى على الإدارة منه، مع أنّهم شيوخ وعليّ أصغر منهم سنّاً!!!

وجاء العبّاسيّون فجاءت الطامّة الكبرى في الإرث والقضاء والشهادات؛ لأنّ المنازعين للعبّاسيّين - وهُم العلويّون - أقرب للنبّي نسباً من العباسيّين، وذلك ما يبطل دعواهم بأنّهم أحقّ بالخلافة وإرث النبيّ من غيرهم؛ فلذلك جدّوا في تحريف قوانين الإرث، وبدّلوا مفاهيم ونصوص كتاب الله والسنّة النبويّة المباركة، حتّى أنّ العبّاسيّين دفعوا مروان بن أبي حفصة لأن يقول:

أنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ

لبني البنات وراثة الأعمامِ

فأجابه شاعر الشيعة تَلقّياً من أئمّته ‏عليهم السلام - وفي بعض المصادر أنّ الإمام الرضا عليه السلام هو الذي أجاب هذا التحريف الإرثيّ - بقوله:

لِمَ لا يكون و إنّ ذاك لكائن

لبني البنات وراثة الأعمامِ

للبنت نصف كامل من إرثه

والعمّ متروك بغير سهامِ

ما للطليق وللتراث؟ وإنّما

سجد الطليق مخافة الصمصامِ(١)

كما ورد أيضاً أنّ هارون الرشيد دخل إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله بالمدينة، فقال: السلام عليك يا ابن العمّ، فقال الإمام موسى الكاظم: السلام عليك يا أبه، فاغتاظ هارون الرشيد من ذلك(٢) .

وفي مجلس آخر سأل الرشيد الإمام الكاظم: بمَ تدّعون أنّكم أولاد رسول الله

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ١: ١٨٩، الباب ٤٣، ح ٢، كما روي الشعر بعبارات مشابهة كما في الاحتجاج ٢: ١٦٧، الصراط المستقيم ١: ٦٧ وقد نسبه ابن جبر في نهج الإيمان: ٣٨٦ لابن أبي العوجاء.

(٢) انظر روضة الواعظين: ٢١٦، الفصول المختارة: ٣٦.

٤٦٦

وورثته دوننا وكلّنا أبناء عمّ؟

فقال الإمام الكاظم للرشيد:أرأيت لو أنّ رسول الله خطب إليك ابنتك أكنت تزوّجه؟

فقال الرشيد: إي والله! وأفتخر بذلك على العرب والعجم.

فقال الإمام الكاظم‏ عليه السلام:ولكنّه لو خطب ابنتي لا يسعني أن أزوّجه لأنّه أبي ، فأُفحم هارون الرشيد(١) . ومثله قضيّة يحيى بن عبد الله بن الحسن مع الرشيد(٢) ، وكان ذلك من الأسباب التي دعت الرشيد للإيقاع بالإمام موسى الكاظم ‏عليه السلام ويحيى وغيرهما من آل البيت‏ عليهم السلام.

فلاحظ هذا التواصل في التحريف في الإرث والقضاء والشهادات، حتّى أنّ الرشيد أرسل إلى أبي يوسف القاضي في أمرٍ أهمّه، وذلك هو أنّ الأمين كان قد شرب الخمر فرآه هارون الرشيد وبعض مَن في قصره، فوقع الرشيد في مأزق ومحذور أخلاقيّ أمام المسلمين، فإن تركَ هذا الحدّ شاع ذلك وفسَدَ ادّعاؤه إمرة المؤمنين، وفي الجانب الآخر فإنّه لا يريد إقامة الحدّ على وليّ عهده والمرشّح لإمرة المؤمنين من بعده؛ فلذلك استعان بأبي يوسف القاضي فأخرج له مخارج ضعيفة تُضحِك ذات الثكل، فسجد هارون الرشيد شكراً، وأعطى لأبي يوسف مالاً جزيلاً(٣) .

وهل بعد هذا التحريف في باب القضاء والشهادات من التحريف؟! من هنا ومن هذا الاستعراض السريع فهمنا سرّ تأكيد الأئمّة على هذين البابين، مع أنّ طبيعة الحكّام المتأخّرين كانت تدعوهم إلى بعض التصرّفات كسلب أموال الناس، ولا يمكن ذلك إلاّ بالتلاعب بالمواريث وقوانين الأموال، وكذلك شرب الخمور ومجالس اللهو والغناء والطرب كان يعوزها أحكام تنصّ على ما يُوجِدُ المبرّر لهم في عدم إقامة الحدود بإبطال الشهود وتغيير القضاء، والفقه الصحيح يفنّد كلّ تلك

____________________

(١) انظر عيون أخبار الرضا ٢: ٨٠، الاحتجاج ٢: ١٦٤، الوسائل ٢٠: ٣٦٣، ح ٢٥٨٣٧.

(٢) مقاتل الطالبيّين: ٣١٠ - ٣١٣.

(٣) انظر القصّة في نشوار المحاضرة ١: ٢٥٢.

٤٦٧

المزاعم والمدَّعيات، كما يفنّد المزاعم القائلة بأنّ خليفة الله في الأرض يغفر الله له كلّ ما يفعله وأنّه غير محاسب!!

الإمام عليّ بن موسى (الرضا) (عليهما السلام)

كانت كتب أهل البيت‏ عليهم السلام محفوظة عندهم إماماً عن إمام. وأهمّ تلك الكتب كتاب عليّ‏ عليه السلام كما عرفت، والجفر والجامعة، وقد وصل هذا الكتاب إلى الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه ‏عليهم السلام.

أمّا عن الجفر فقد روى الكشي في رجاله عن نصر بن قابوس: أنّه كان في دار الإمام الكاظم، فأراه ابنه الإمام الرضا وهو ينظر في الجفر فقال:هذا ابني علي والذي ينظر فيه الجفر (١) .

وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الحسن عليه السلام، وعن أبيه، عن ابن فضال قال: عرضت كتاب علي على أبي الحسن عليه السلام، فقال: هو صحيح، قضى أمير المؤمنين في دية جراحة الأعضاء(٢) .

وعن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي الحسن عليه السلام، وعنه عن أبيه، عن ابن فضال قال: عرضت الكتاب على أبي الحسن(٣) .

وعن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن فضال ومحمد بن عيسى، عن يونس جميعاً قالا: عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين على أبي الحسن الرضا عليه السلام فقال:هو صحيح (٤) .

بلى، قد بدأ في زمن الرضا وما بعده عصر جديد، وهو عصر التصنيف والتأصيل والتوثيق للمدوّنات التي يُدّعى أو يفترض أنّها نقلت مطالب كتاب عليّ وأحكام الدين التي نقلها أهل البيت‏ عليهم السلام، فكان أصحاب الأئمّة يجمعونها ويعرضونها على

____________________

(١) رجال الكشي: ٣٨٢.

(٢) تهذيب الأحكام ١٠: ٢٩٢، ح ١١٣٥.

(٣) الكافي ٧: ٣٢٧، ح ٧.

(٤) الكافي ٧: ٣٣٠، ح ١. و ٧: ٣٢٧ ح ٩ وعنه في وسائل الشيعة ٢٧: ٨٥.

٤٦٨

الأئمّة عليهم السلام لتوثيق المنقولات.

وقد كان ابتداء هذا المسير بشكل ملحوظ في عهد الرضا عليه السلام، فعن ابن فضّال، ومحمد بن عيسى عن يونس بن عبد الرحمان، قالا: عرضنا كتاب الفرائض عن أمير المؤمنين‏ عليه السلام على أبي الحسن الرضا عليه السلام، فقال: هو صحيح.

وعن عبد الله الجعفيّ، قال:

دخلت على الرضا عليه السلام ومعي صحيفة أو قرطاس فيه (عن جعفر: أنّ الدنيا مثّلت لصاحب هذا الأمر في مثل فلقة الجوزة) فقال: يا حمزة ذا والله حقّ فانقلوها إلى أديم(١) . فهنا يُرى أنّ المرويّ عن جعفر الصادق ‏عليه السلام جيء به ليستوثق من صحّته عن طريق الإمام الرضا، إمّا بأن يعرضه عليه السلام على ما في كتاب عليّ المحفوظ عنده كما يظهر في الحديث الأوّل. أو يكون أعمّ من ذلك، بأن يرى مطابقته مع ما أخذه عن آبائه، ومهما كان الأمر فإنّ المقصود والهدف هو توثيق المرويات عن الأئمّة الثلاثة الباقر والصادق والكاظم، والتي تنتهي بطبيعة مسلك أهل البيت إلى عليّ‏ عليه السلام ثمّ إلى النبيّ‏ صلّى الله عليه وآله.

وعن حمزة بن عبد الله الجعفريّ، عن أبي الحسن، قال: كتبت في ظهر قرطاس (أنّ الدنيا متمثّلة للإمام كفلقة الجوزة (فدفعته إلى أبي الحسن [ الرضا ]، وقلت: جعلت فداك؛ إنّ أصحابنا رووا حديثاً ما أنكرته، غير أ نّي أحببت أن أسمعه منك، قال: فنظر فيه ثمّ طواه، حتّى ظننت أنّه قد شَقَّ عليه، ثمّ قال: هو حقّ فحوّله في أديم(٢) .

وقد اهتم الإمام الرضا كثيراً بأمر التدوين حتّى كان يقدِّم الدواة لمن يريد أن يدوّن خدمة للعلم والدين، فعن عليّ بن أسباط، قال: سمعت أبا الحسن الرضاعليه السلام يقول:كان في الكنز الذي قال الله ( وكان تحتَهُ كنزٌ لهما ) (٣) ...

فقلت: جُعلت فداك أُريد أن أكتبه، قال: فضرب والله يده إلى الدواة ليضعها بين

____________________

(١) الكافي ٧: ٣٣٠، كتاب الديات، ح ١، الاستبصار ٤: ٢٩٩، الباب ١٧٩ في دية الجنين، ح ٣.

(٢) بصائر الدرجات: ٤٢٨، الباب ١٤، ح ٤.

(٣) الكهف: ٨٢.

٤٦٩

يدي، فتناولت يده فقبلتها وأخذت الدواة فكتبته(١) .

هذا مع أنّ الرضا كان يُؤكّد أنّ ما يقوله إنّما هو الحقّ الموروث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنّ التراث الصحيح عنده ‏عليه السلام، قال يعقوب بن جعفر: كنت مع أبي الحسن [ الرضا ] بمكّة فقال له رجل: إنّك لتفسّر من كتاب الله ما لم نسمع به!!

فقال أبو الحسن‏ عليه السلام:علينا نزل قبل الناس، ولنا فُسِّر قبل أنْ يُفسّر في الناس، فنحن نعرف حلاله وحرامه... فهذا علم ما قد أنهيته إليك وأدّيته إليك ما لزمني، فإن قبلت فاشكر، و إن تركتَ فإنّ الله على كلّ شيء شهيد (٢) .

وعن عبد السلام بن صالح الهرويّ قال: سمعت الرضا يقول:رحم الله عبداً أحيا أمرنا.

فقلت له: وكيف يُحيي أمركم؟

قال:يتعلَّم علومنا ويعلِّمها الناس، فإنّ الناس لو علِموا محاسن كلامنا لا تَّبعونا (٣) .

وعن ابن أبي نصر، قال، قلت للرضا: جُعلت فداك إنّ بعض أصحابنا يقولون: نسمع الأثر يُحكى عنك وعن آبائك فنقيس عليه ونعمل به؟

فقال: سبحان الله؛ لا والله ما هذا من دين جعفر عليه السلام، هؤلاء قوم لا حاجة بهم إلينا، قد خرجوا من طاعتنا وصاروا في موضعنا، فأين التقليد الذي كانوا يقلّدون جعفراً وأبا جعفر؟! قال جعفر: لا تعملوا على القياس فليس من شيء يعدله القياس إلاّ والقياس يكسره(٤) .

وللإمام كلامٌ عن الذين وقعوا في الشبهة والْتبس عليهم أمر الدين يقول فيه:إنّ هؤلاء القوم سنح لهم الشيطان، اغترّهم بالشبهة، ولبّسَ عليهم أمرَ دينهم، وأرادو الهدى من تلقاء أنفسهم، فقالوا: لِمَ، ومتى، وكيف، فأتاهم الهلك من مأمن احتياطهم،

____________________

(١) الكافي ٢: ٥٩، باب فضل اليقين، ح ٩.

(٢) بصائر الدرجات: ٢١٨، الباب ٨، ح ٤.

(٣) معاني الأخبار: ١٨٠ باب معنى قول الصادق مَن تعلّم علماً ليماري به السفهاء، ح ١، عيون أخبار الرضا ٢: ٢٧٥، الباب ٦٣، ح ٦٩.

(٤) قرب الإسناد: ٣٥٦ - ٣٥٧ ح ١٢٧٥.

٤٧٠

وذلك بما كسبت أيديهم ( وما ربّك بظلام للعبيد ) ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم، بل كان الفرض عليهم، والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه؛ لأنّ الله تعالى يقول في كتابه: ( ولو ردّوه إلى الله و إلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) يعني آل محمّد عليهم السلام، وهم الذين يستنبطونه من القرآن ويعرفون الحلال والحرام، وهم الحجّة لله على خلقه (١) .

وللإمام صحيفة رواها عن آبائه تسمّى بـ (صحيفة الرضا) وقد طُبعت عدّة مرّات.

وله أيضاً الرسالة الذهبيّة التي كتبها للمأمون العبّاسيّ، فأمر المأمون بكتابتها بماء الذهب؛ ولذلك سمّيت بالذهبيّة - وقيل في سبب التسمية شيء آخر - وقد طبعت هذه الرسالة عدّة طبعات.

كلّ هذا، غير ما أملاه ‏عليه السلام على أصحابه وعلى فقهاء ومتفقهي المسلمين آنذاك، إذ كانت للإمام مجالس تدريس وإملاء.

روى عليّ بن عليّ الخزاعيّ - أخو الشاعر دعبل بن عليّ الخزاعيّ - قال: حدّثنا أبو الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام بطوس، إملاءً في رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر(٢) .

وهذا صريح بوجود مجالس كان يملي بها الإمام الرضا العلوم الإسلامية على علماء وحفّاظ المسلمين، وأنّه كان يهتّم بالتدوين والمدوّنات.

الإمام محمّد بن عليّ (الجواد) (عليهما السلام)

واصل الإمام الجواد مسيرة التدوين وحفظ المدوّنات والسعي الحثيث لضبطها وإبقائها، وقد عقد الخلفاء مجالس مناظرة لإفحامه، أو التقليل من شأنه العلميّ باعتبار صغر سنّة، فلم يفلحوا في شيء من ذلك، بل صار العكس حين انبهر به وبعلمه الفقهاء

____________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧: ١٧١ ح ٣٣٥١٩ عن تفسير العيّاشيّ ١: ٢٦٠، ح ٢٠٦، وانظر جامع أحاديث الشيعة ١: ٢٣٢.

(٢) أمالي الطوسيّ ١: ٣٥٩، ٣٦١، وانظر رجال النجاشيّ: ٢٧٧ رقم ٧٢٧.

٤٧١

وعامّة المسلمين، وقد اشتهر عنه ‏عليه السلام اهتمامه بالمسائل العقائديّة بجنب اهتمامه بالفقه والتدوين؛ نظراً للظروف التي كان يعيشها ولم تقتصر جهود الإمام العلميّة على إدارته لمجالس المناظرة والمطارحة، بل راح يواصل مسيرة التوثيق التي ذكرناها، فكان على كامل الاطّلاع بما في كتاب عليّ ‏عليه السلام، وما نقل عنه الباقر والصادق عليهما السلام.

فعن محمّد بن الحسن بن أبي خالد، قال: قلت لأبي جعفر الثاني: جعلت فداك إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله، وكانت التقيّة شديدة فكتموا كتبهم فلم تُروَ عنهم، فلّما ماتوا صارت الكتب إلينا؟

فقال ‏عليه السلام:حدّثوا بها فإنّها حقّ (١) .

فهنا يتجلّى الاضطهاد الفكريّ وبالأخص اضطهاد التدوين من قبل خلفاء بني أُمية وبني العبّاس إلى درجة يصل الأمر معها إلى أنّ واحداً من المقرّبين من الإمام الجواد يشّك، أو يريد أن يتيقّن من صحّة تلك المروّيات التي لم يعدها من قبل نتيجة للاضطهاد الفكريّ والعقائديّ.

وهنا يتجلّى دور الإمام في كونه ميزاناً لمعرفة الصحيح من غيره والحقّ من الباطل من المدوّنات والمروّيات، ويغلب على الظنّ أنّ الإمام كان قد رآها مطابقة لما في كتاب عليّ وكتب آبائه؛ فلذلك قال للسائل(حدّثوا بها فإنّها حقّ) ، فالسائل واحد، والإمام يجيب بلفظ الجمع (حدّثوا)، ممّا يفيد أنّ البليّة كانت عامّة لجميع أصحابه، وأنّ الكثير من المروّيات والمدوّنات ما زالت دون توثيق عندهم نتيجة للكبت والقهر والإرهاب.

فالإمام كان يعرف مدوّنات آبائه - رسماً ومحتوىً - فيبكي ويضع الخطّ على عينيه، ويقسم أنّه خطّ أبيه دَفعاً لاحتمال كونه كتاباً آخر زُوِّر على الإمام الرضا عليه السلام.

قال إبراهيم بن أبي محمود: دخلت على أبي جعفر ومعي كُتُبٌ إليه من أبيه، فجعل

____________________

(١) الكافي ١: ٥٣، باب النوادر، ح ١٥.

٤٧٢

يقرأها و يضع كتاباً كبيراً على عينيه ويقول:خطّ أبي والله . ويبكي حتّى سالت دموعه(١) .

وقد روى الأربلي في كشف الغمة عن الجواد عليه السلام عن علي عليه السلام قال: في كتاب علي بن أبي طالب ‏عليه السلام إن ابن آدم أشبه شيء بالمعيار، إما راجح بعلم - وقال مرة: بعقل - أو ناقص بجهل(٢) .

ثمّ إنّ الإمام كان يؤكّد على أهمّيّة التدوين، وأنّه أَوْقَعُ في النفوس من مجرّد النقل، بل أوثق في نفس المنقول له، خصوصاً وأنّ في القارئين للمدوّنات مَن يعرف خطّ الإمام ‏عليه السلام.

فعن عبد العزيز بن المهتدي أنّه سأل الإمام الجواد عن يونس بن عبد الرحمان؟ فكتب إليه بخطّه(أُحبّه وأترحّم عليه وإن كان يخالف أهل بلدك) (٣) .

ولقد وردت رسائل وكتب عن الإمام إلى أصحابه، فعن أحمد بن محمّد بن عيسى قال: بعث إليَّ أبو جعفر غلامه معه كتابه، فأمرني أن أصير إليه... إلى أن يقول: قال: احمل كتابي إليه ومُرْهُ أن يبعث إليّ بالمال، فحملت كتابه إلى زكريّا بن آدم فوجّه إليه بالمال(٤) .

وعن الحسن بن شمعون قال: قرأت هذه الرسالة على عليّ بن مهزيار، عن أبي جعفر الثاني بخطّه:بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ! أحسن الله جزاك (٥) ... وللإمام‏ عليه السلام كتاب آخر لعلّي بن مهزيار كتبه إليه ببغداد(٦) ، وكتاب آخر كتبه إليه بالمدينة(٧) .

____________________

(١) رجال الكشّيّ: ٤٧٥.

(٢) كشف الغمة ٢: ٣٤٦.

(٣) رجال الكشّيّ: ٤١٣. والظاهر أنّ ‏المقصود بالبلد البصرة كما في شرح أصول الكافي للمازندراني ٧: ٦. وذلك أنّ أهل البصرة كانوا آنذاك من العثمانية أتباع الرأي والاجتهاد. وأعداء التعبّد والتدوين.

(٤) الاختصاص: ٨٧، رجال الكشّيّ: ٤٩٧.

(٥) الغَيبة للشيخ: ٣٤٩.

(٦) رجال الكشّيّ: ٤٦٠ - ٤٦١.

(٧) رجال الكشّيّ: ٤٦٠ - ٤٦١.

٤٧٣

وعنه، قال: كتبت إليه أنّ لك معي شيئاً فمُرني بأمرك فيه إلى من أدفعه؟ فكتب إليَّ: قبضتُ...(١) .

وعن محمّد بن أحمد بن حماد المروزيّ، قال: كتب أبو جعفر إلى أبي...(٢) .

وعن عبد الجبار النهاوندي - في خبر طويل - منه: فخرج إليَّ مع كتبي كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمّد بن عليّ الهاشميّ العلويّ لعبد الله بن المبارك...(٣) .

وقد جمع الشيخ عزيز الله العطارديّ أحاديث الإمام الجواد، وطبعت تحت اسم (مسند الإمام الجواد).

الإمام عليّ بن محمّد (الهاديّ) (عليهما السلام)

كان كتاب عليّ ‏عليه السلام عند هذا الإمام الهمام، ينقل عنه آثار رسول الله وسنّته المباركة للمسلمين، كما كان ذلك دأب أسلافه الأئمّة الصالحين الأبرار، وقد بلغ من عناية هذا الإمام بتبليغ الأحكام والمروّيات التي في كتاب عليّ‏ عليه السلام أنّه حرص على نقل بعض ما في الكتاب وهو في مرض الموت، من علّته التي سُمّ فيها عليه السلام.

فعن أبي دعامة قال: أتيت عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى عائداً في علّته التي كانت وفاته منها في هذه السنة، فلمّا هممت بالانصراف، قال لي:يا أبا دعامة! قد وجب حقّك أفلا أُحدِّثك بحديث تُسَرُّ به؟

قال: فقلت له: ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله.

قال:حدّثني أبي محمّد بن عليّ، قال حدّثني أبي عليّ بن موسى، قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر، قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد، قال: حدّثني أبي محمّد بن عليّ، قال: حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب، قال: حدّثني رسول الله!: اكتب يا عليّ.

____________________

(١) رجال الكشّيّ: ٤٢٧.

(٢) رجال الكشّيّ ٤٦٨.

(٣) رجال الكشّيّ: ٤٧٦.

٤٧٤

قال: قلت: وما أكتب؟

قال لي: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، الإيمان ما وقرته القلوب وصدّقته الأعمال، والإسلام ما جرى به اللسان وحلّت به المناكحة) .

قال أبو دعامة: فقلت: يا بن رسول الله! ما أدري والله أيّها أحسن، الحديث أم الإسناد!!

فقال ‏عليه السلام:إنّها صحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب‏ عليه السلام بإملاء رسول الله! نتوارثها صاغراً عن كابر (١) .

وفي هذه الرواية ما يوحي بأنّ كلّ أو أغلب ما يرويه أئمّة أهل البيت‏ عليهم السلام هو من كتاب عليّ‏ عليه السلام و إن لم يصرّحوا بذلك مفردةً مفردةً، بل صرّحوا بذلك بوجه العموم، وقد خفي هذا على بعض الجهّال فاتّهموا الصادق‏ عليه السلام من قبل بأنّه (صحفيّ) ولم يدروا أنّها صحف متلَقّاة عن رسول الله بخطّ علّي.

وقد واصل الإمام عليّ الهاديّ عمليّة التوثيق للمروّيات والمدوّنات عن آبائه وأجداده؛ لكي تصل الأحاديث خالصة ناصعة إلى الأجيال القادمة.

قال محمّد بن عيسى: أقرأني داود بن فرقد الفارسيّ كتابه إلى أبي الحسن الثالث‏ عليه السلام وجوابه بخطّ يده، فقال: نسألك عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك، وأحاديث قد اختلفوا علينا فيها، كيف العمل بها على اختلافها؛ والردّ إليك وقد اختلفوا فيه؟ فكتب إليه وقرأته(ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا أنّه قولنا فردّوه إلينا) (٢) .

فالإمام هنا يوجب على أصحابه إرجاع المروّيات، أو المختلف فيها والمشكوك في صحّة نسبتها من المدوّنات والمروّيات إلى أئمّة أهل البيت؛ ليوثّقوا الصحيح ويتركوا المفترى منها على الأئمّة عليهم السلام، أو التي أصابها الغلط والاشتباه أو...

____________________

(١) مروج الذهب ٤: ٨٥ - ٨٦.

(٢) مختصر بصائر الدرجات: ٧٥، وانظر بصائر الدرجات: ٥٤٤، ح ٢٦.

٤٧٥

وقد روى بعض أصحاب الإمام الهادي ‏عليه السلام عنه تفسيراً باسم (الأمالي في تفسير القرآن) وهو مطبوع متداول، وإن شكّك بعض الأعلام في نسبة هذا الكتاب إليه.

وذكر السيّد الأمين للإمام الهاديّ كتاباً في (أحكام الدين) ورسالة في الردّ على أهل الجبر والتفويض(١) .

وروى كلٌّ واحدٍ من أبي طاهر(٢) ، وعيسى بن أحمد بن عيسى(٣) ، وعليّ بن الريّان(٤) ، نسخة عن الإمام علي الهادي ‏عليه السلام.

وقد جمع الشيخ عزيز الله العطارديّ أحاديث الإمام عليّ الهاديّ في كتاب وطُبع باسم (مسند الإمام الهاديّ).

الإمام الحسن بن عليّ (العسكريّ) (عليهما السلام)

انصبّت جهود الإمام العسكري ‏عليه السلام في مصبَّين رئيسيين:

أوّلهما: أهمّيّة تبليغ خاصّة أصحابه بما يتعلّق بولده محمّد المهديّ، وأنّه القائم بعده بأمر الإمامة والتبليغ.

والمصبّ الثاني: هو التدوين والتوثيق للمدوّنات، من خلال عرضها على كتاب عليّ‏ عليه السلام أو ما أخذه عن آبائه وأجداده ‏عليهم السلام. والذي يهمّنا هنا هو ثاني المصبّين لمساسه بالموضوع المبحوث عنه.

فعن سعد بن عبد الله الأشعريّ، قال: عرض أحمد بن عبد الله بن خانبه كتاباً على مولانا أبي محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد صاحب العسكر عليه السلام فقرأه، وقال: صحيح فاعملوا به(٥) .

____________________

(١) أعيان الشيعة ١: ٣٨٠ وانظر الذريعة ٥: ٨٠، المورد ٣١٢.

(٢) رجال النجاشيّ: ٤٦٠ رقم ١٢٥٦.

(٣) رجال النجاشيّ: ٢٩٧ رقم ٨٠٦.

(٤) رجال النجاشيّ: ٢٧٨ رقم ٧٣١.

(٥) فلاح السائل: ١٨٣. قال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة ١: ٩: روي أنّه عرض على

=

٤٧٦

وقد أصبح هذا الكتاب الذي قرّر صحّة ما فيه الإمام العسكريّ مصدراً للراغبين في العلم الصحيح، والمروّيات الموثّقة، فصاروا يقابلون على ذلك الكتاب ما عندهم من مدوّنات.

فعن الحسن بن محمّد بن الوجناء أبي محمّد النصيبيّ، قال: كتبنا إلى أبي محمّد عليه السلام نسأله أن يكتب أو يُخْرِج إلينا كتاباً نعمل به؛ فأخرج إلينا كتاب عملٍ، قال الصفوانيّ: نسخته. فقابل به كتاب ابن خانبه زيادة حروف أو نقصان حروف يسيرة. وذكر النجاشي: أن كتاب عبيد الله بن علي الحلبي عرض على الصادق عليه السلام فصحّحه واستحسنه(١) .

فالإمام العسكريّ أخرج إليهم كتاب عمل، يبدو أنّ فيه أُمّهات المسائل ومهمّاتها، وهذا ما يعني كثرة اهتمامه‏ عليه السلام بالتدوين، إذ مع وجوده ‏عليه السلام بينهم، قدّر أهمّيّة التدوين وشموليّته وعموم فائدته، فأخرج لهم كتاب عمل. ويظهر اهتمام أصحاب الإمام بالتدوين وتوثيق المدوّنات من خلال استنساخ الصفوانيّ لذلك الكتاب، ومن ثمّ مقابلته بكتاب ابن خانبه الذي قوبل من قبل ووثّق من قبل الإمام، وبذلك تصبح عمليّة التوثيق مهمّة جدّاً عند أهل البيت ‏عليهم السلام علّموها أصحابهم وأتباعهم لحفظ المدوّنات.

وعن الملقب بتوراء: أنّ الفضل بن شاذان كان وجهه إلى العراق إلى حيث به أبو محمد الحسن بن علي العسكري فذكر أنه دخل على أبي محمد [ العسكري ] فلما أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء له، فتناوله أبو محمد عليه السلام ونظر فيه، وكان الكتاب من تصنيف الفضل، فترجم عليه، وذكر أنّه قال: اغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم(٢) .

وسئل الإمام العسكريّ عن كتب بني فضّال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال‏ عليه السلام:خذوا بما رووا وذروا ما رأوا (٣) .

فأولاد فضّال كانوا قد دوّنوا أحاديث أئمّة أهل البيت‏ عليهم السلام، لكنّهم انحرفوا من بعد انحرافاً عقائديّاً في الإمامة، فكان ذلك مبعث شكّ في مرويّاتهم السالفة التي رووها عن الأئمّة وقد ملأت بيوت مَن استنسخوها، وهذا يدّل على احتفاظ أتباع أهل البيت بالمدوّنات والاستفادة منها، وحرصهم على التحقُّق من صحّتها، فكان جواب الإمام

____________________

= الصادق كتاب عبيد الله بن علي الحلبي فاستحسنه وصححه، وعلى العسكري كتاب يونس بن عبد الرحمان وكتاب الفضل بن شاذان فاثني عليهما.

(١) رجال النجاشيّ: ٢٤٤. وسائل الشيعة ٢٧: ١٠٢.

(٢) رجال الكشي ٢: ٨٢٠/ ١٠٢٧ وعنه في وسائل الشيعة ٢٧: ١٠١.

(٣) الغَيبة، للطوسيّ: ٣٩٠، ح ٣٥٥.

٤٧٧

متلّخص بصحّة مرويّاتهم، فيؤخذ بها، ويترك ما ارتأوه من أُمور مخالفة للمنهج الصحيح الذي يسير عليه أهل البيت‏عليهم السلام.

وعن داود بن القاسم الجعفريّ، قال: عرضت على أبي محمّد - صاحب العسكر - كتاب يوم وليلة، ليونس، فقال لي: تصنيف مَن هذا؟

فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين.

فقال: أعطاه الله بكلّ حرف نوراً يوم القيامة(١) .

هذا وقد ورد عن الإمام العسكريّ تفسيراً للقرآن الكريم، طبع مراراً باسم (تفسير الإمام العسكري).

وعن ابن معاذ الجويميّ نسخة منسوبة للإمام(٢) ، ولأبي طاهر الزراريّ جدّ أبي غالب ومحمّد بن الريّان بن الصلت، ومحمّد بن عيسى القمّيّ مسائل حكوها عنه عليه السلام(٣) .

وكتب إليه أصحابه يسألونه عن مسائل في الأحكام والعقائد، فأجابهم عليها، منها ما كتب إليه محمّد بن الحسن الصفّار(٤) ، وعبد الله بن جعفر(٥) ، وإبراهيم بن مهزيار(٦) ، وعليّ بن محمّد(٧) الحصينيّ، ومحمّد بن الريّان(٨) ، والريّان بن الصلت(٩) ، وعليّ بن بلال(١٠) ، وحمزة بن محمّد(١١) ، ومحمّد بن عبد الجبار(١٢) .

____________________

(١) رجال النجاشيّ: ٤٤٧ رقم ١٢٠٨، وسائل الشيعة ٢٧: ١٠٢، ح ٣٣٣٢٤.

(٢) رجال النجاشي: ٣٠٤، الرقم ٨٣١، الذريعة ٢٤: ١٥٢ رقم ٧٧٧.

(٣) انظر رجال النجاشيّ: ٣٤٧ رقم ٩٣٧، و ٣٧٠ رقم ١٠٠٩، و ٣٧١ رقم ١٠١٠، ٢٨٠ رقم ٧٤٠.

(٤) انظر الفقية ٣: ٤٩٩ و ٥٠٨، التهذيب ٧: ١٥٠.

(٥) الكافي ٦: ٣٥، الفقيه ٣: ٤٨٨، مكارم الأخلاق: ٢٦٣، والكافي ٥: ٤٤٧، والفقيه ٣: ٤٧٦.

(٦) الكافي ٤: ٣١٠، الفقيه ٢: ٤٤٤.

(٧) الكافي ٤: ٣١٠، الفقيه ٢: ٤٤٥.

(٨) الكافي ١: ٤٠٩.

(٩) التهذيب ٤: ١٣٩.

(١٠) الفقيه ٤: ١٧٩.

(١١) الكافي ٤: ١٨١.

(١٢) الكافي ٣: ٣٩٩، الاستبصار ١: ٣٨٥، التهذيب ٢: ٢٠٧.

٤٧٨

الإمام محمّد بن الحسن‏ (عليهما السلام)(المهديّ)

إنّ الإمام المهديّ ورث علوم آبائه وأجداده كما ورث كتاب عليّ وغيره من الكتب التي كانت عندهم، وقد صرّح أئمّة أهل البيت بأنّ ما في كتاب عليّ أو مصحف فاطمة أو غيرهما من مدوّنات عصر الرسالة يكون عند محمّد المهديّ، وأنّه عند حكمه لا يحكم بالقران وبما في تلك الصحف.

فعن حمران بن أعين، عن أبي جعفر، قال: أشار إلى بيت كبير، وقال:يا حمران! إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخطّ عليّ و إملاء رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله، ولو ولّينا الناس لحكمنا بينهم بما أنزل الله، لم نَعْدُ ما في هذه الصحيفة (١) .

وقد صرّح الأئمّة ببقاء كتاب عليّ وصحيفة عليّ عندهم وأنّها لا تبلى، بل يتوارثونها واحداً بعد واحد.

إذ مرَّ عليك خبر أبي بصير، قال: أخرج إليّ أبو جعفر صحيفة فيها الحلال والحرام والفرائض، قلت: ما هذه؟ قال:هذه إملاء رسول الله ‏صلّى الله عليه وآله وخطّ عليّ بيده ، قال: فقلت فما تبلى؟ قال:فما يبليها؟! قلت: وما تدرس؟ قال:وما يدرسها؟! (٢) .

وعن الحسن بن وجناء النصيبيّ، قال في حديث طويل في رؤيته الحجّة، محمّد بن الحسن في سامرّاء: ثمّ دفعَ إليَّ دفتراً فيه دعاء الفرج وصلاة عليه، فقال:بهذا فادعُ، وهكذا صلِّ عَلَيَّ، ولا تعطه إلاّ محقّي أوليائي... (٣) .

وفي حديث آخر أنّ الإمام طلب من أحد أصحابه وأصحاب أبيه أن يريه خاتماً كان قد أعطاهُ الإمام العسكريّ إياه، قال: فأخرجته إليه، فلمّا نظر إليه استعبر وقبّله، ثمّ قرأ كتابته، فكانت (يا الله يا محمّد يا عليّ) ، ثمّ قال:بأبي يداً طالما جُلْتَ فيها (٤) .

____________________

(١) بصائر الدرجات: ١٦٣، باب ١٢، ح ٥. وغيره الكثير ممّا في معناه.

(٢) بصائر الدرجات: ١٦٤، باب ١٢، ح ٩.

(٣) كمال الدين: ٤٤٣ - ٤٤٤، الباب ٤٣، ح ١٧.

(٤) كمال الدين: ٤٤٥ الباب ٤٣، ح ١٩، يعني بأبي فديت يدَ أبي محمد العسكري التي طالمَا جُلْتَ أيّها الخاتم فيها.

٤٧٩

على أنّ الإمام المهديّ بسبب بقائه مستتراً لمدّة تقارب ٧٠ عاماً لم يستطع نشر الأحكام والتدوين بشكل علنيّ، إلاّ أنّه كان يكاتب أصحابه ويكاتبونه ويسألونه عن أُمهات المسائل فيخرج الجواب بتوقيعه؛ لكي لا يختلط أو يزوّر بكتاب غيره؛ ولذلك سمّيت هذه الأجوبة بالتوقيعات، وقد جمعها عدّة من الأعلام قديماً وحديثاً، فقد جمعها من القدماء أبو العبّاس الحميريّ المتوفّى سنّة ٢٩٩ هـ، وهو من أصحاب الإمام المهديّ، كما صدر أخيراً كتاب جمع غالب مدوّنات الإمام المهديّ التي وصلتنا من خلال توقيعاته ومكاتباته، جمعها الشيخ محمّد الغرويّ، وطبعت باسم (المختار من كلمات الإمام المهديّ).

وبهذا عرفت أنّ التواصل التدوينيّ عند أئمّة أهل البيت ابتدأ بكتابة عليّ بن أبي طالب وتدوينه، واستمرّ جيلاً بعد جيل حتّى الإمام محمّد المهديّ، ومن ثمّ جمع المدوّنات أصحاب الأئمّة وعلماؤهم.

وقد عرفت إصرارهم وتأكيدهم - خصوصاً بعد إمامة الإمام الكاظم - على مسألة التوثيق للمدوّنات، وإن كانت عمليّة التوثيق عمليّة أصيلة قديمة، طالما أكّد عليها الأئمّة ومارسوها، ووثّقوا ما عرضه أصحابهم عليهم، لكنّ الثقل الأكبر للتوثيق والذي كان ملحوظاً بنسبة عالية، كان في عصر الإمام الرضا ومَن بعده من الأئمّة.

وقبل ختام هذا المقطع من البحث، يجدر بنا أن ننبّه على سبب مهمّ في تأخّر المدوّنات والتدوين عند أتباع مدرسة الاجتهاد والرأي؛ ذلك السبب هو: أنّ بعض المحيطين بالنبي‏ صلّى الله عليه وآله كانوا يتعاملون معه! كتعاملهم مع سائر البشر بلا فارق بتاتاً؛ ولذلك كانوا ينادونه من وراء الحجرات، وكانوا يثقلون عليه بإطالة الجلوس عنده، وكانوا يعتقدون أنّه يخطئ ويصيب، وقد يتكلّم في الغضب ما لا يتكلّمه في حالة الرضا و و و...

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله! أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله، ورسول الله

٤٨٠